فصل: تفسير الآيات رقم (20- 26)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 26‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏21‏)‏ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏22‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ‏(‏23‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏25‏)‏ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

شرع سبحانه في تحقيق كون الأصنام التي أشار إليها بقوله‏:‏ ‏{‏كَمَن لاَّ يَخْلُقُ‏}‏ عاجزة على أن يصدر منها خلق شيء فلا تستحق عبادة فقال‏:‏ ‏{‏والذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ أي‏:‏ الآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله سبحانه صفتهم هذه الصفات المذكورة، وهي أنهم ‏{‏لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا‏}‏ من المخلوقات أصلاً، لا كبيراً ولا صغيراً، ولا جليلاً ولا حقيراً‏.‏

‏{‏وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏}‏ أي‏:‏ وصفتهم أنهم يخلقون، فكيف يتمكن المخلوق من أن يخلق غيره‏؟‏ ففي هذه الآية زيادة بيان، لأنه أثبت لهم صفة النقصان بعد أن سلب عنهم صفة الكمال، بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ‏}‏ فإنه اقتصر على مجرد سلب صفة الكمال‏.‏ وقراءة الجمهور «والذين تدعون» بالمثناة الفوقية على الخطاب مطابقة لما قبله‏.‏ وروى أبو بكر عن عاصم، وروى هبيرة عن حفص ‏{‏يدعون‏}‏ بالتحتية، وهي قراءة يعقوب‏.‏

ثم ذكر صفة أخرى من صفاتهم فقال‏:‏ ‏{‏أموات غَيْرُ أَحْيَاء‏}‏ يعني‏:‏ أن هذه الأصنام أجسادها ميتة، لا حياة بها أصلاً، فزيادة ‏{‏غير أحياء‏}‏ لبيان أنها ليست كبعض الأجساد التي تموت بعد ثبوت الحياة لها، بل لا حياة لهذه أصلاً، فكيف يعبدونها وهم أفضل منها‏؟‏ لأنهم أحياء ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ الضمير في ‏{‏يشعرون‏}‏ للآلهة، وفي يبعثون للكفار الذين يعبدون الأصنام، والمعنى‏:‏ ما تشعر هذه الجمادات من الأصنام أيان يبعث عبدتهم من الكفار، ويكون هذا على طريقة التهكم بهم، لأن شعور الجماد مستحيل بما هو من الأمور الظاهرة فضلاً عن الأمور التي لا يعلمها إلاّ الله سبحانه، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون الضمير في ‏{‏يبعثون‏}‏ للآلهة، أي‏:‏ وما تشعر هذه لأصنام أيان تبعث، ويؤيد ذلك ما روي أن الله يبعث الأصنام ويخلق لها أرواحاً معها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار، ويدل على هذا قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ قد تمّ الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏}‏ ثم ابتدأ فوصف المشركين بأنهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون، فيكون الضميران على هذا للكفار، وعلى القول بأن الضميرين أو أحدهما للأصنام يكون التعبير عنها مع كونها لا تعقل بما هو للعقلاء جرياً على اعتقاد من يعبدها بأنها تعقل‏.‏ وقرأ السلمي «إيان» بكسر الهمزة، وهما لغتان، وهو في محل نصب بالفعل الذي قبله‏.‏

‏{‏إلهكم إله واحد‏}‏ لما زيف سبحانه طريقة عبدة الأوثان، صرح بما هو الحق في نفس الأمر، وهو وحدانيته سبحانه، ثم ذكر ما لأجله أصرّ الكفار على شركهم فقال‏:‏ ‏{‏فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ‏}‏ للوحدانية، لا يؤثر فيها وعظ، ولا ينجع فيها تذكير ‏{‏وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ‏}‏ عن قبول الحق، متعظمون عن الإذعان للصواب، مستمرون على الجحد ‏{‏لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ قال الخليل‏:‏ ‏{‏لا جرم‏}‏ كلمة تحقيق، ولا تكون إلاّ جواباً، أي‏:‏ حقاً أن الله يعلم ما يسرّون من أقوالهم وأفعالهم وما يعلنون من ذلك، وقد مرّ تحقيق الكلام في ‏{‏لا جرم‏}‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين‏}‏ أي‏:‏ لا يحبّ هؤلاء الذين يستكبرون عن توحيد الله والاستجابة لأنبيائه، والجملة تعليل لما تضمنه الكلام المتقدّم‏.‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ وإذا قال لهؤلاء الكفار المنكرين المستكبرين قائل‏:‏ ماذا أنزل ربكم‏؟‏ أي‏:‏ أيّ شيء أنزل ربكم‏؟‏ أو ماذا الذي أنزل‏؟‏ قيل‏:‏ القائل النضر بن الحارث والآية نزلت فيه؛ فيكون هذا القول منه على طريق التهكم؛ وقيل‏:‏ القائل هو من يفد عليه؛ وقيل‏:‏ القائل المسلمون، فأجاب المشركون المنكرون المستكبرون فقالوا ‏{‏أساطير الأولين‏}‏ بالرفع أي‏:‏ ما تدّعون أيها المسلمون نزوله أساطير الأوّلين، أو أن المشركين أرادوا السخرية بالمسلمين فقالوا‏:‏ المنزل عليكم أساطير الأوّلين‏.‏ وعلى هذا فلا يرد ما قيل من أن هذا لا يصلح أن يكون جواباً من المشركين، وإلاّ لكان المعنى الذي أنزله ربنا أساطير الأوّلين والكفار لا يقرّون بالإنزال، ووجه عدم وروده هو ما ذكرناه؛ وقيل‏:‏ هو كلام مستأنف، أي‏:‏ ليس ما تدّعون إنزاله أيها المسلمون منزلاً بل هو أساطير الأوّلين؛ وقد جوّز على مقتضى علم النحو نصب «أساطير» وإن لم تقع القراءة به، ولا بدّ في النصب من التأويل الذي ذكرنا، أي‏:‏ أنزل على دعواكم أساطير الأوّلين، أو يقولون ذلك من أنفسهم على طريق السخرية‏.‏ والأساطير‏:‏ الأباطيل والترّهات التي يتحدّث الناس بها عن القرون الأولى‏.‏ وليس من كلام الله في شيء، ولا مما أنزله الله أصلاً في زعمهم‏.‏

‏{‏لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً‏}‏ أي قالوا‏:‏ هذه المقالة لكي يحملوا أوزارهم كاملة‏.‏ لم يكفر منها شيء لعدم إسلامهم الذي هو سبب لتكفير الذنوب‏.‏ وقيل‏:‏ إن اللام هي لام العاقبة، لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير لأجل يحملون الأوزار، ولكن لما كان عاقبتهم ذلك حسن التعليل به كقوله‏:‏ ‏{‏لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ هي لام الأمر ‏{‏وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ويحملون بعض أوزار الذين أضلوهم، لأن من سنّ سنّة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها‏.‏ وقيل‏:‏ «من» للجنس، لا للتبعيض أي‏:‏ يحملون كل أوزار الذين يضلونهم، ومحلّ ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ النصب على الحال من فاعل ‏{‏يضلونهم‏}‏ أي‏:‏ يضلون الناس جاهلين غير عالمين بما يدعونهم إليه‏.‏ ولا عارفين بما يلزمهم من الآثام‏.‏ وقيل‏:‏ إنه حال من المفعول أي‏:‏ يضلون من لا علم له، ومثل هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ‏}‏

‏[‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وقد تقدّم في الأنعام الكلام على قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏ ‏{‏أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ بئس شيئاً يزرونه ذلك‏.‏

ثم حكى سبحانه حال أضرابهم من المتقدّمين فقال‏:‏ ‏{‏قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به نمروذ بن كنعان حيث بنى بناءً عظيماً ببابل، ورام الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها، فأهبّ الله الريح، فخرّ ذلك البناء عليه وعلى قومه فهلكوا، والأولى أن الآية عامة في جميع المبطلين من المتقدّمين الذين يحاولون إلحاق الضرّ بالمحقين‏.‏ ومعنى المكر هنا الكيد والتدبير الذي لا يطابق الحق، وفي هذا وعيد للكفار المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأن مكرهم سيعود عليهم كما عاد مكر من قبلهم على أنفسهم ‏{‏فَأَتَى الله بنيانهم‏}‏ أي‏:‏ أتى أمر الله، وهو الريح التي أخربت بنيانهم‏.‏ قال المفسرون‏:‏ أرسل الله ريحاً، فألقت رأس الصرح في البحر، وخرّ عليهم الباقي ‏{‏مّنَ القواعد‏}‏ قال الزجاج‏:‏ من الأساطين، والمعنى‏:‏ أنه أتاها أمر الله من جهة قواعدها فزعزعها ‏{‏فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فوقهم‏}‏ قرأ ابن أبي هريرة، وابن محيصن «السقف» بضم السين والقاف جميعاً‏.‏ وقرأ مجاهد بضم السين وسكون القاف، وقرأ الباقون ‏{‏السقف‏}‏ بفتح السين وسكون القاف، والمعنى‏:‏ أنه سقط عليهم السقف، لأنه بعد سقوط قواعد البناء يسقط جميع ما هو معتمد عليها‏.‏ قال ابن الأعرابي، وإنما قال ‏{‏من فوقهم‏}‏ ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته، والعرب تقول خرّ علينا سقف، ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه، فجاء بقوله‏:‏ ‏{‏مّن فَوْقِهِمْ‏}‏ ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب، فقال‏:‏ ‏{‏مّن فَوْقِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ عليهم وقع، وكانوا تحته فهلكوا، وما أفلتوا‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد بالسقف‏:‏ السماء، أي‏:‏ أتاهم العذاب من السماء التي فوقهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذه الآية تمثيل لهلاكهم؛ والمعنى‏:‏ أهلكهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه عليه‏.‏

وقد اختلف في هؤلاء الذين خرّ عليهم السقف، فقيل‏:‏ هو نمروذ كما تقدّم، وقيل‏:‏ إنه بختنصر وأصحابه، وقيل هم المُقسمون الذين تقدّم ذكرهم في سورة الحجر ‏{‏وأتاهم العذاب‏}‏ أي‏:‏ الهلاك ‏{‏مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ به، بل من حيث أنهم في أمان‏.‏

ثم بين سبحانه أن عذابهم غير مقصور على عذاب الدنيا‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ‏}‏ بإدخالهم النار، ويفضحهم بذلك ويهينهم، وهو معطوف على مقدّر، أي هذا عذابهم في الدنيا، ‏{‏ثم يوم القيامة يخزيهموَيَقُولُ‏}‏ لهم مع ذلك توبيخاً وتقريعاً ‏{‏أَيْنَ شُرَكَائِىَ‏}‏ كما تزعمون وتدّعون، قرأ ابن كثير من رواية البزي «شركاي» من دون همز، وقرأ الباقون بالهمز، ثم وصف هؤلاء الشركاء بقوله‏:‏ ‏{‏الذين كُنتُمْ تشاقون فِيهِمْ‏}‏ قرأ نافع بكسر النون على الإضافة، وقرأ الباقون بفتحها، أي‏:‏ تخاصمون الأنبياء والمؤمنين فيهم، وعلى قراءة نافع تخاصمونني فيهم وتعادونني، ادعوهم فليدفعوا عنكم هذا العذاب النازل بكم‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ جَرَمَ‏}‏ يقول‏:‏ بلى‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك ‏{‏لاَ جَرَمَ‏}‏ قال‏:‏ يعني الحق‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال‏:‏ لا كذب‏.‏ وأخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه وغيرهم عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان»، فقال رجل‏:‏ يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال‏:‏ «إن الله جميل يحبّ الجمال، الكبر بطر الحق وغمص الناس» وفي ذمّ الكبر، ومدح التواضع أحاديث كثيرة، وكذلك في إخراج محبة حسن الثوب وحسن النعل، ونحو ذلك من الكبر أحاديث كثيرة‏.‏ والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن ماهية الكبر أنه بطر الحق وغمص الناس، فهذا هو الكبر المذموم‏.‏ وقد ساق صاحب الدرّ المنثور عند تفسيره لهذه الآية‏:‏ أعني قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين‏}‏ أحاديث كثيرة ليس هذا مقام إيرادها، بل المقام مقام ذكر ماله علاقة بتفسير الكتاب العزيز‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ أساطير الأولين‏}‏ أن ناساً من مشركي العرب كانوا يقعدون بطريق من أتى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فإذا مرّوا سألوهم فأخبروهم بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إنما هو أساطير الأوّلين‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ‏}‏ الآية يقول يحملون مع ذنوبهم ذنوب الذين يضلونهم بغير علم‏.‏ وذلك مثل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه، وزاد‏:‏ ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئاً‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن زيد بن أسلم أنه النمروذ أيضاً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَتَى الله بنيانهم مّنَ القواعد‏}‏ قال‏:‏ أتاها أمر الله من أصلها ‏{‏فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ‏}‏ والسقف‏:‏ أعالي البيوت فائتكفت بهم بيوتهم، فأهلكم الله ودمرهم ‏{‏وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ‏{‏تشاقون فِيهِمْ‏}‏ قال‏:‏ تخالفوني‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 32‏]‏

‏{‏ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏27‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏29‏)‏ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏30‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏31‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ الذين أُوتُواْ العلم‏}‏ قيل‏:‏ هم العلماء، قالوه لأممهم الذين كانوا يعظونهم، ولا يلتفتون إلى وعظهم، وكان هذا القول منهم على طريق الشماتة‏.‏ وقيل‏:‏ هم الأنبياء، وقيل‏:‏ الملائكة، والظاهر‏:‏ الأوّل، لأن ذكرهم بوصف العلم يفيد ذلك وإن كان الأنبياء والملائكة هم من أهل العلم، بل هم أعرق فيه لكن لهم وصف يذكرون به هو أشرف من هذا الوصف، وهو كونهم أنبياء أو كونهم ملائكة، ولا يقدح في هذا جواز الإطلاق، لأن المراد الاستدلال على الظهور فقط ‏{‏إِنَّ الخزى اليوم‏}‏ أي‏:‏ الذلّ والهوان والفضيحة يوم القيامة ‏{‏والسوء‏}‏ أي‏:‏ العذاب ‏{‏عَلَى الكافرين‏}‏ مختص بهم‏.‏

‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ قد تقدّم تفسيره‏.‏ والموصول في محل الجر على أنه نعت للكافرين، أو بدل منه، أو في محل نصب على الاختصاص، أو في محل رفع على تقدير مبتدأ، أي‏:‏ هم الذين تتوفاهم‏.‏ وانتصاب ‏{‏ظالمي أنفسهم‏}‏ على الحال ‏{‏فَأَلْقَوُاْ السلم‏}‏ معطوف على ‏{‏فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ‏}‏ وما بينهما اعتراض أي‏:‏ أقرّوا بالربوبية، وانقادوا عند الموت، ومعناه الاستسلام قاله قطرب، وقيل‏:‏ معناه المسالمة، أي‏:‏ سالموا وتركوا المشاقة قاله الأخفش؛ وقيل‏:‏ معناه الإسلام، أي‏:‏ أقرّوا بالإسلام وتركوا ما كانوا فيه من الكفر، وجملة ‏{‏مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء‏}‏ يجوز أن تكون تفسيراً للسلم على أن يكون المراد بالسلم الكلام الدال عليه، ويجوز أن يكون المراد بالسوء هنا الشرك، ويكون هذا القول منهم على وجه الجحود والكذب، ومن لم يجوّز الكذب على أهل القيامة حمله على أنهم أرادوا أنهم لم يعملوا سوءاً في اعتقادهم وعلى حسب ظنونهم، ومثله قولهم‏:‏ ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ فلما قالوا هذا، أجاب عليهم أهل العلم بقولهم‏:‏ ‏{‏بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ بلى كنتم تعملون السوء‏.‏ إن الله عليم بالذي كنتم تعملونه، فمجازيكم عليه، ولا ينفعكم هذا الكذب شيئاً‏.‏

‏{‏فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ‏}‏ أي‏:‏ يقال لهم ذلك عند الموت‏.‏ وقد تقدّم ذكر أبواب جهنم، وأن جهنم درجات بعضها فوق بعض، و‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ حال مقدرة، لأن خلودهم مستقبل ‏{‏فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين‏}‏ المخصوص بالذم محذوف، والتقدير، لبئس مثوى المتكبرين جهنم، والمراد بتكبرهم هنا‏:‏ هو تكبرهم عن الإيمان والعبادة كما في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 35‏]‏‏.‏

ثم أتبع أوصاف الأشقياء بأوصاف السعداء، فقال‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا‏}‏ وهم المؤمنون ‏{‏مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا‏}‏ أي‏:‏ أنزل خيراً‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ فإن قيل‏:‏ لم ارتفع الجواب في قوله‏:‏ ‏{‏أساطير الأوّلين‏}‏ وانتصب في قوله‏:‏ ‏{‏خيراً‏}‏‏؟‏ فالجواب أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل، فكأنهم قالوا‏:‏ الذي يقوله محمد هو أساطير الأوّلين، والمؤمنون آمنوا بالنزول‏.‏

فقال‏:‏ أنزل خيراً ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ‏}‏ قيل‏:‏ هذا من كلام الله عزّ وجلّ، وقيل‏:‏ هو حكاية لكلام الذين اتقوا، فيكون على هذا بدلاً من ‏{‏خيراً‏}‏، وعلى الأوّل يكون كلاماً مستأنفاً مسوقاً للمدح للمتقين، والمعنى‏:‏ للذين أحسنوا أعمالهم في الدنيا حسنة أي‏:‏ مثوبة حسنة ‏{‏وَلَدَارُ الآخرة‏}‏ أي‏:‏ مثوبتها ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ مما أوتوا في الدنيا ‏{‏وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين‏}‏ دار الآخرة، فحذف المخصوص بالمدح لدلالة ما قبله عليه‏.‏

وارتفاع ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ على أنها مبتدأ خبرها ما بعدها، أو خبر مبتدأ محذوف، وقيل‏:‏ يجوز أن تكون هي المخصوص بالمدح ‏{‏يَدْخُلُونَهَا‏}‏ هو إما خبر المبتدأ، أو خبر بعد خبر، وعلى تقدير تنكير ‏{‏عدن‏}‏ تكون صفة لجنات، وكذلك ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار‏}‏ وقيل‏:‏ يجوز أن تكون الجملتان في محل نصب على الحال على تقدير أن لفظ ‏{‏عدن‏}‏ علم، وقد تقدّم معنى جري الأنهار من تحت الجنات ‏{‏لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ‏}‏ أي‏:‏ لهم في الجنات ما تقع عليه مشيئتهم صفوا عفوا يحصل لهم بمجرّد ذلك ‏{‏كَذَلِكَ يَجْزِى الله المتقين‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الجزاء يجزيهم، والمراد بالمتقين‏.‏ كل من يتقي الشرك وما يوجب النار من المعاصي‏.‏

والموصول في قوله‏:‏ ‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة طَيّبِينَ‏}‏ في محل نصب نعت للمتقين المذكور قبله، قرأ الأعمش وحمزة ‏{‏تتوفاهم‏}‏ في هذا الموضع، وفي الموضع الأوّل بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية‏.‏ واختار القراءة الأولى أبو عبيد مستدلاً بما روي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ إن قريشاً زعموا أن الملائكة إناث فذكروهم أنتم‏.‏ و‏{‏طيبين‏}‏ فيه أقوال‏:‏ طاهرين من الشرك، أو الصالحين، أو زاكية أفعالهم وأقوالهم، أو طيبي الأنفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله، أو طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله، أو طيبين الوفاة، أي‏:‏ هي عليهم سهلة، لا صعوبة فيها، وجملة ‏{‏يَقُولُونَ سلام عَلَيْكُمُ‏}‏ في محل نصب على الحال من الملائكة أي‏:‏ قائلين سلام عليكم‏.‏ ومعناه يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما أن يكون السلام إنذاراً لهم بالوفاة‏.‏ الثاني أن يكون تبشيراً لهم بالجنة لأن السلام أمان‏.‏ وقيل‏:‏ إن الملائكة يقولون‏:‏ السلام عليك وليّ الله إن الله يقرأ عليك السلام ‏{‏ادخلوا الجنة بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ بسبب عملكم‏.‏ قيل‏:‏ يحتمل هذا وجهين‏:‏ الأوّل أن يكون تبشيراً بدخول الجنة عند الموت‏.‏ الثاني‏:‏ أن يقولوا ذلك لهم في الآخرة‏.‏ ولا ينافي هذا دخول الجنة بالتفضل كما في الحديث الصحيح‏:‏ «سدّدوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله» قيل‏:‏ ولا أنت يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمته» وقد قدّمنا البحث عن هذا‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا‏}‏ قال‏:‏ هؤلاء المؤمنون، يقال لهم‏:‏ ‏{‏مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ‏}‏ فيقولون‏:‏ ‏{‏خَيْرًا‏}‏ ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ‏}‏ أي‏:‏ آمنوا بالله وكتبه، وأمروا بطاعته، وحثوا عباد الله على الخير، ودعوهم إليه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة طَيّبِينَ‏}‏ قال‏:‏ أحياء وأمواتاً قدّر الله لهم ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 40‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏33‏)‏ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏34‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏35‏)‏ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏36‏)‏ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏37‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ الآية هذا جواب شبهة أخرى لمنكري النبوّة، فإنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم ملكاً من السماء يشهد على صدقه في ادّعاء النبوّة فقال‏:‏ ‏{‏هل ينظرون‏}‏ في تصديق نبوّتك ‏{‏إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة‏}‏ شاهدين بذلك‏.‏ ويحتمل أن يقال‏:‏ إنهم لما طعنوا في القرآن بأنه أساطير الأوّلين أو عدهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة‏}‏ لقبض أرواحهم ‏{‏أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ‏}‏ أي‏:‏ عذابه في الدنيا المستأصل لهم، أو المراد بأمر الله القيامة‏.‏ وقرأ الأعمش، وابن وثاب، وحمزة، والكسائي، وخلف «إلا أن يأتيهم الملائكة» بالياء التحتية وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية‏.‏ والمراد بكونهم ‏{‏ينظرون‏}‏ أي‏:‏ ينتظرون إتيان الملائكة أو إتيان أمر الله على التفسير الآخر أنهم قد فعلوا فعل من وجب عليه العذاب، وصار منتظراً له، وليس المراد أنهم ينتظرون ذلك حقيقة، فإنهم لا يؤمنون بذلك ولا يصدّقونه ‏{‏كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ مثل فعل هؤلاء من الإصرار على الكفر والتكذيب والاستهزاء فعل الذين خلوا من قبلهم من طوائف الكفار، فأتاهم أمر الله فهلكوا ‏{‏وَمَا ظَلَمَهُمُ الله‏}‏ بتدميرهم بالعذاب، فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ بما ارتكبوه من القبائح‏.‏ وفيه أن ظلمهم مقصور عليهم باعتبار ما إليه يئول‏.‏

وجملة ‏{‏فَأَصَابَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ‏}‏ معطوفة على ‏{‏فعل الذين من قبلهم‏}‏، وما بينهما اعتراض‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير‏:‏ كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم سيئات ما عملوا وما ظلمهم الله، والمعنى‏:‏ فأصابهم جزاء سيئات أعمالهم، أو جزاء أعمالهم السيئة ‏{‏وَحَاقَ بِهِم‏}‏ أي‏:‏ نزل بهم على وجه الإحاطة ‏{‏مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏ أي‏:‏ العذاب الذي كانوا به يستهزئون، أو عقاب استهزائهم‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ‏}‏ هذا نوع آخر من كفرهم الذي حكاه الله عنهم‏.‏ والمراد بالذين أشركوا هنا‏.‏ أهل مكة ‏{‏لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَئ‏}‏ أي‏:‏ لو شاء عدم عبادتنا لشيء غيره ما عبدنا ذلك ‏{‏نَّحْنُ وَلا ءابَاؤُنَا‏}‏ الذين كانوا على ما نحن عليه الآن من دين الكفر والشرك بالله‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إنهم قالوا هذا على جهة الاستهزاء، ولو قالوه عن اعتقاد لكانوا مؤمنين‏.‏ وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة الأنعام ‏{‏وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْء‏}‏ من السوائب والبحائر ونحوهما، ومقصودهم بهذا القول المعلق بالمشيئة‏:‏ الطعن في الرسالة، أي‏:‏ لو كان ما قاله الرسول حقاً من المنع من عبادة غير الله، والمنع من تحريم ما لم يحرّمه الله حاكياً ذلك عن الله لم يقع منا ما يخالف ما أراده منا فإنه قد شاء ذلك، وما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن، فلما وقع منا العبادة لغيره وتحريم ما لم يحرمه كان ذلك دليلاً على أن ذلك هو المطابق لمراده والموافق لمشيئته، مع أنهم في الحقيقة لا يعترفون بذلك ولا يقرّون به لكنهم قصدوا ما ذكرنا من الطعن على الرسل ‏{‏كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ من طوائف الكفر، فإنهم أشركوا بالله وحرّموا ما لم يحرّمه، وجادلوا رسله بالباطل واستهزءوا بهم، ثم قال‏:‏ ‏{‏فَهَلْ عَلَى الرسل‏}‏ الذين يرسلهم الله إلى عباده بما شرعه لهم من شرائعه التي رأسها توحيده، وترك الشرك به ‏{‏إِلاَّ البلاغ‏}‏ إلى من أرسلوا إليهم بما أمروا بتبليغه بلاغاً واضحاً يفهمه المرسل إليهم ولا يلتبس عليهم‏.‏

ثم إنه سبحانه أكد هذا، وزاده إيضاحاً فقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً‏}‏ كما بعثنا في هؤلاء لإقامة الحجة عليهم ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ و«أن» في قوله‏:‏ ‏{‏أَنِ اعبدوا الله‏}‏ إما مصدرية أي‏:‏ بعثنا بأن اعبدوا الله، أو مفسرة؛ لأن في البعث معنى القول‏:‏ ‏{‏واجتنبوا الطاغوت‏}‏ أي‏:‏ اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان، والكاهن، والصنم، وكل من دعا إلى الضلال‏.‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ من هذه الأمم التي بعث الله إليها رسله ‏{‏مَّنْ هَدَى الله‏}‏ أي‏:‏ أرشده إلى دينه وتوحيده وعبادته واجتناب الطاغوت ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة‏}‏ أي‏:‏ وجبت وثبتت، لإصراره على الكفر والعناد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أعلم الله أنه بعث الرسل بالأمر بالعبادة، وهو من وراء الإضلال والهداية‏.‏ ومثل هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَرِيقًا هدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وفي هذه الآية التصريح بأن الله أمر جميع عباده بعبادته، واجتناب الشيطان، وكل ما يدعو إلى الضلال، وأنهم بعد ذلك فريقان‏:‏ فمنهم من هدى، ومنهم من حقت عليه الضلالة، فكان في ذلك دليل على أن أمر الله سبحانه لا يستلزم موافقة إرادته فإنه يأمر الكل بالإيمان، ولا يريد الهداية إلاّ للبعض، إذ لو أرادها للكل لم يكفر أحد، وهذا معنى ما حكيناه عن الزجاج هنا‏.‏ ‏{‏فَسِيرُواْ فِى الأرض‏}‏ سير معتبرين ‏{‏فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين‏}‏ من الأمم السابقة عند مشاهدتكم لآثارهم كعاد وثمود، أي‏:‏ كيف صار آخر أمرهم إلى خراب الديار بعد هلاك الأبدان‏.‏

بالعذاب ثم خصص الخطاب برسوله صلى الله عليه وسلم مؤكداً لما تقدّم فقال‏:‏ ‏{‏إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ‏}‏ أي‏:‏ تطلب بجهدك ذلك ‏{‏فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ‏}‏ قرأ ابن مسعود وأهل الكوفة‏:‏ ‏{‏لا يهدي‏}‏ بفتح حرف المضارعة على أنه فعل مستقبل مسند إلى الله سبحانه، أي‏:‏ فإن الله لا يرشد من أضله، و‏{‏من‏}‏ في موضع نصب على المفعولية‏.‏

وقرأ الباقون «لا يهدي» بضم حرف المضارعة على أنه مبني للمجهول، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم على معنى أنه لا يهديه هادٍ كائناً من كان‏.‏ و‏{‏من‏}‏ في موضع رفع على أنها نائب الفاعل المحذوف، فتكون هذه الآية على هذه القراءة كقوله في الآية الأخرى ‏{‏مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 186‏]‏‏.‏ والعائد على القراءتين محذوف، أي‏:‏ من يضله‏.‏ وروى أبو عبيد عن الفراء على القراءة الأولى أن معنى ‏{‏لاَّ يَهِدِّى‏}‏ لا يهتدي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يهدى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 35‏]‏‏.‏ بمعنى يهتدي‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ ولا نعلم أحداً روى هذا غير الفراء، وليس بمتهم فيما يحكيه‏.‏ قال النحاس‏:‏ حكي عن محمد بن يزيد المبرد، كأن معنى ‏{‏لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ‏}‏ من علم ذلك منه، وسبق له عنده ‏{‏وَمَا لَهُم مّن ناصرين‏}‏ ينصرونهم على الهداية لمن أضله الله، أو ينصرونهم بدفع العذاب عنهم‏.‏

ثم ذكر عناد قريش وإنكارهم للبعث فقال‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم‏}‏ مصدر في موضع الحال أي‏:‏ جاهدين ‏{‏لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ‏}‏ من عباده، زعموا أن الله سبحانه عاجز عن بعث الأموات، فردّ الله عليهم ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏بلى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا‏}‏ هذا إثبات لما بعد النفي، أي‏:‏ بلى يبعثهم، و‏{‏وعدا‏}‏ مصدر مؤكد لما دلّ عليه «بلى» وهو يبعثهم لأن البعث وعد من الله وعد عباده به‏.‏ والتقدير‏:‏ وعد البعث وعداً عليه حقاً لا خلف فيه، و‏{‏حقاً‏}‏ صفة ل ‏{‏وعد‏}‏، وكذا ‏{‏عليه‏}‏ فإنه صفة ل ‏{‏وعدا‏}‏ أي‏:‏ كائناً عليه، أو نصب حقاً على المصدرية‏:‏ أي حق حقاً ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن ذلك يسير عليه سبحانه غير عسير‏.‏

وقوله ‏{‏لِيُبَيّنَ لَهُمُ‏}‏ أي‏:‏ ليظهر لهم، وهو غاية لما دلّ عليه «بلى» من البعث، والضمير في ‏{‏لَهُمْ‏}‏ راجع إلى من يموت، والموصول في قوله‏:‏ ‏{‏الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ‏}‏ في محل نصب على أنه مفعول ليبين، أي‏:‏ الأمر الذي وقع الخلاف بينهم فيه، وبيانه إذ ذاك يكون بما جاءتهم به الرسل، ونزلت عليهم فيه كتب الله‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏ليبين‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا‏}‏ أي‏:‏ بعثنا في كل أمة رسولاً ليبين وهو بعيد ‏{‏وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ بالله سبحانه، وأنكروا البعث ‏{‏أَنَّهُمْ كَانُواْ كاذبين‏}‏ في جدالهم وإنكارهم البعث بقولهم‏:‏ ‏{‏لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَئ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ مستأنفة لبيان كيفية الإبداء والإعادة بعد بيان سهولة البعث عليه سبحانه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أعلمهم بسهولة خلق الأشياء عليه فأخبر أنه متى أراد الشيء كان، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏

‏[‏البقرة‏:‏ 117‏]‏‏.‏ وقرأ ابن عامر، والكسائي ‏{‏فيكون‏}‏ بالنصب عطفاً على ‏{‏أن نقول‏}‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون نصباً غلى جواب ‏{‏كن‏}‏‏.‏ وقرأ الباقون بالرفع على معنى‏:‏ فهو يكون‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ أوقع لفظ الشيء على المعلوم عند الله تعالى قبل الخلق، لأنه بمنزلة ما قد وجد وشوهد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إن معنى «لشيء» لأجل شيء فجعل اللام سببية‏.‏ وقيل‏:‏ هي لام التبليع، كما في قولك‏:‏ قلت له قم فقام، و‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا‏}‏ مبتدأ و‏{‏أَنْ نَّقُولَ لَهُ كُنْ‏}‏ خبره، وهذا الكلام من باب التمثيل على معنى‏:‏ أنه لا يمتنع عليه شيء، وأن وجوده عند إرادته كوجود المأمورية عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع، وليس هناك قول ولا مقول له، ولا أمر، ولا مأمور حتى يقال‏:‏ إنه يلزم منه أحد محالين، إما خطاب المعدوم، أو تحصيل لحاصل‏.‏ وقد مضى تفسير ذلك في سورة البقرة مستوفى‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة‏}‏ قال‏:‏ بالموت، وقال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملئكة‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 50‏]‏، وهو ملك الموت، وله رسل ‏{‏أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ‏}‏ وذاكم يوم القيامة‏.‏ وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ‏}‏ قال‏:‏ من يضله الله لا يهديه أحد‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال‏:‏ كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به‏:‏ والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا وكذا، فقال له المشرك‏:‏ إنك لتزعم أنك تبعث من بعد الموت، فأقسم بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت، فأنزل الله ‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن العقيلي، وابن مردويه عن عليّ في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ‏}‏ قال‏:‏ نزلت فيّ‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر عن أبي هريرة، قال‏:‏ «قال الله تعالى‏:‏ سبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يسبني، وكذبني ولم يكن ينبغي له أن يكذبني، أما تكذيبه إياي، فقال‏:‏ ‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت‏}‏، وقلت‏:‏ ‏{‏بلى وعداً عليه حقاً‏}‏ وأما سبه إياي، فقال‏:‏ ‏{‏إن الله ثالث ثلاثة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 73‏]‏، وقلت‏:‏ ‏{‏‏[‏قل‏]‏ هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد‏}‏ ‏[‏سورة الإخلاص 1- 4‏]‏، هكذا ذكره أبو هريرة موقوفاً وهو في الصحيحين مرفوعاً بلفظ آخر‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏لِيُبَيّنَ لَهُمُ الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ‏}‏ يقول‏:‏ للناس عامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 50‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏42‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏43‏)‏ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏44‏)‏ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏45‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏46‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏47‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏49‏)‏ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قد تقدّم تحقيق معنى الهجرة في سورة النساء، وهي ترك الأهل والأوطان، ومعنى ‏{‏هاجروا فِى الله‏}‏ في شأن الله سبحانه وفي رضاه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏فِى الله‏}‏ في دين الله‏.‏ وقيل‏:‏ في بمعنى اللام أي‏:‏ لله ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ‏}‏ أي‏:‏ عذبوا وأهينوا، فإن أهل مكة عذبوا جماعة من المسلمين حتى قالوا ما أرادوا منهم، فلما تركوهم هاجروا‏.‏

وقد اختلف في سبب نزول الآية، فقيل‏:‏ نزلت في صهيب وبلال وخباب وعمار‏.‏ واعترض بأن السورة مكية، وذلك يخالف قوله‏:‏ ‏{‏والذين هاجروا‏}‏‏.‏ وأجيب بأنه يمكن أن تكون هذه الآية من جملة الآيات المدنية في هذه السورة كما قدّمنا في عنوانها، وقيل‏:‏ نزلت في أبي جندل بن سهيل، وقيل‏:‏ نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لما ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة‏.‏

‏{‏لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدنيا حَسَنَة‏}‏ اختلف في معنى هذا على أقوال‏.‏ فقيل‏:‏ المراد‏:‏ نزولهم المدينة، قاله ابن عباس، والحسن، والشعبي، وقتادة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ الرزق الحسن، قاله مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ النصر على عدّوهم قاله الضحاك‏.‏ وقيل‏:‏ ما استولوا عليه من فتوح البلاد، وصار لهم فيها من الولايات‏.‏ وقيل‏:‏ ما بقي لهم فيها من الثناء، وصار لأولادهم من الشرف‏.‏ ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور‏.‏ ومعنى ‏{‏لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدنيا حَسَنَة‏}‏ لنبوئنهم مباءة حسنة، أو تبوئة حسنة، فحسنة صفة مصدر محذوف ‏{‏وَلأَجْرُ الآخرة‏}‏ أي‏:‏ جزاء أعمالهم في الآخرة ‏{‏أَكْبَرَ‏}‏ من أن يعلمه أحد من خلق الله قبل أن يشاهده، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لو كان هؤلاء الظلمة يعلمون ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إن الضمير في ‏{‏يعلمون‏}‏ راجع إلى المؤمنين، أي‏:‏ لو رأوا ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه أكبر من حسنة الدنيا‏.‏

‏{‏الذين صَبَرُواْ‏}‏ الموصول في محل نصب على المدح، أو الرفع على تقدير مبتدأ، أو هو بدل من الموصول الأوّل، أو من الضمير في ‏{‏لنبؤئنهم‏}‏، ‏{‏وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ أي‏:‏ على ربهم خاصة يتوكلون في جميع أمورهم معرضين عما سواه، والجملة معطوفة على الصلة أو في محل نصب على الحال‏.‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ‏}‏‏.‏ قرأ حفص عن عاصم ‏{‏نوحي‏}‏ بالنون، وقرأ الباقون «يوحي» بالياء التحتية، وهذه الآية ردّ على قريش حيث زعموا أن الله سبحانه أجلّ من أن يرسل رسولاً من البشر، فردّ الله عليهم بأن هذه عادته وسنّته أن لا يرسل إلاّ رجالاً من البشر يوحي إليهم‏.‏ وزعم أبو عليّ الجبائي أن معنى الآية أن الله سبحانه لم يرسل إلى الأنبياء بوحيه إلاّ من هو على صورة الرجال من الملائكة‏.‏

ويردّ عليه بأن جبريل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صور مختلفة‏.‏ ولما كان كفار مكة مقرّين بأن اليهود والنصارى هم أهل لعلم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل، صرف الخطاب إليهم، وأمرهم أن يرجعوا إلى أهل الكتاب، فقال‏:‏ ‏{‏فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ فاسألوا أيها المشركون مؤمن أهل الكتاب إن كنتم لا تعلمون، فإنهم سيخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشراً، أو اسألوا أهل الكتاب من غير تقييد بمؤمنيهم كما يفيده الظاهر، فإنهم كانوا يعترفون بذلك ولا يكتمونه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ فاسألوا أهل القرآن‏.‏

و ‏{‏بالبينات والزبر‏}‏ يتعلق ب ‏{‏أرسلنا‏}‏، فيكون داخلاً في حكم الاستثناء مع ‏{‏رجالاً‏}‏، وأنكر الفراء ذلك، وقال‏:‏ إن صفة ما قبل «إلاّ» لا تتأخر إلا ما بعدها، لأن المستثنى عنه هو مجموع ما قبل‏:‏ «إلاّ» مع صلته، كما لو قيل ‏[‏ما‏]‏ أرسلنا إلاّ رجالاً بالبينات، فلما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه، امتنع إدخال الاستثناء عليه‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير‏:‏ وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلاّ رجالاً‏.‏ وقيل‏:‏ يتعلق بمحذوف دلّ عليه المذكور، أي‏:‏ أرسلناهم بالبينات والزبر، ويكون جواباً عن سؤال مقدّر كأنه قيل‏:‏ لماذا أرسلهم‏؟‏ فقال‏:‏ أرسلناهم بالبينات والزبر‏.‏ وقيل‏:‏ متعلق ب ‏{‏تعلمون‏}‏ على أنه مفعوله‏.‏ والباء زائدة، أي‏:‏ إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر؛ وقيل‏:‏ متعلق ب ‏{‏رجالاً‏}‏ أي‏:‏ رجالاً متلبسين بالبينات والزبر‏.‏ وقيل‏:‏ ب ‏{‏نوحى‏}‏ أي‏:‏ نوحي إليهم بالبينات والزبر‏.‏ وقيل‏:‏ منصوب بتقدير أعني، والباء زائدة، وأهل الذكر هم أهل الكتاب كما تقدّم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ اسألوا كل من يذكر بعلم، والبينات‏:‏ الحجج والبراهين، والزبر‏:‏ الكتب‏.‏ وقد تقدّم الكلام على هذا في «آل عمران» ‏{‏وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر‏}‏ أي القرآن‏.‏ ثم بين الغاية المطلوبة من الإنزال، فقال‏:‏ ‏{‏لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ‏}‏ جميعاً ‏{‏مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ في هذا الذكر من الأحكام الشرعية، والوعد والوعيد ‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ إرادة أن يتأملوا ويعملوا أفكارهم فيتعظوا‏.‏

‏{‏أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات‏}‏ يحتمل أن تكون ‏{‏السيئات‏}‏ صفة مصدر محذوف أي‏:‏ مكروا المكرات السيئات، وأن تكون مفعولة للفعل المذكور على تضمينه معنى العمل، أي‏:‏ عملوا السيئات، أو صفة لمفعول مقدّر، أي‏:‏ أفأمن الماكرون العقوبات السيئات‏.‏ أو على حذف حرف الجرّ، أي‏:‏ مكروا بالسيئات ‏{‏أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض‏}‏ هو مفعول «أمن»، أو بدل من مفعوله على القول بأن مفعوله محذوف، وأن السيئات صفة للمحذوف، والاستفهام للتقريع والتوبيخ‏.‏ ومكر السيئات وسعيهم في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاء أصحابه على وجه الخفية، واحتيالهم في إبطال الإسلام، وكيد أهله ‏{‏أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ‏}‏ كما خسف بقارون‏.‏

يقال‏:‏ خسف المكان يخسف خسوفاً، ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسوفاً أي‏:‏ غاب به فيها، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 81‏]‏ وخسف هو في الأرض، وخسف به ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ به في حال غفلتهم عنه كما فعل بقوم لوط وغيرهم‏.‏ وقيل‏:‏ يريد يوم بدر، فإنهم أهلكوا ذلك اليوم، ولم يكن في حسبانهم‏.‏

‏{‏أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ‏}‏‏.‏

ذكر المفسرون فيه وجوهاً، فقيل‏:‏ المراد‏:‏ في أسفارهم ومتاجرهم، فإنه سبحانه قادر على أن يهلكهم في السفر كما يهلكهم في الحضر، وهم لا يفوتونه بسبب ضربهم في الأرض، وبعدهم عن الأوطان‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ في حال تقلبهم في قضاء أوطارهم بوجود الحيل‏.‏ فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم‏.‏ وقيل‏:‏ في حال تقلبهم في الليل على فرشهم‏.‏ وقيل‏:‏ في حال إقبالهم وإدبارهم، وذهابهم ومجيئهم بالليل والنهار‏.‏ والقلب بالمعنى الأوّل مأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِى البلاد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 196‏]‏‏.‏ وبالمعنى الثاني مأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 48‏]‏‏.‏ ‏{‏فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ‏}‏ أي‏:‏ بفائتين ولا ممتنعين‏.‏

‏{‏أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ‏}‏ أي‏:‏ حال تخوّف وتوقع للبلايا بأن يكونوا متوقعين للعذاب، حذرين منه غير غافلين عنه، فهو خلاف ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏على تَخَوُّفٍ‏}‏ على تنقص‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ أي على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى أهلكهم‏.‏ قال الواحدي‏:‏ قال عامة المفسرين‏:‏ ‏{‏على تخوّف‏}‏ قال‏:‏ تنقص، إما بقتل أو بموت، يعني‏:‏ بنقص من أطرافهم ونواحيهم يأخذهم الأول فالأوّل حتى يأتي الأخذ على جميعهم‏.‏ قال‏:‏ والتخوّف‏:‏ التنقص، يقال‏:‏ هو يتخوف المال، أي‏:‏ يتنقصه، ويأخذ من أطرافه، انتهى‏.‏ يقال‏:‏ تخوّفه الدهر وتخونه بالفاء والنون‏:‏ تنقصه، قال ذو الرّمة‏:‏

لا بل هو الشوق من دار تخوّفها *** مرا سحاب ومرا بارح ترب

وقال لبيد‏:‏

تخوّفها نزولي وارتحالي *** أي‏:‏ تنقص لحمها وشحمها

قال الهيثم بن عديّ‏:‏ التخوّف بالفاء‏:‏ التنقص‏.‏ لغة لأزد شنودة‏.‏ وأنشد‏:‏

تخوف عدوهم مالي وأهدي *** سلاسل في الحلوق لها صليل

وقيل‏:‏ ‏{‏على تخوّف‏}‏ على عجل، قاله الليث بن سعد، وقيل‏:‏ على تقريع بما قدّموه من ذنوبهم، روي ذلك عن ابن عباس، وقيل‏:‏ ‏{‏على تخوّف‏}‏ أن يعاقب ويتجاوز، قاله قتادة‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ لا يعاجل، بل يمهل رأفة بكم ورحمة لكم مع استحقاقهم للعقوبة‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَئ‏}‏ لما خوّف سبحانه الماكرين بما خوّف، أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي ومكانهما، والاستفهام في ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ‏}‏ للإنكار، و«ما» مبهمة مفسرة بقوله‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏، قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويحيى بن وثاب، والأعمش «تروا» بالمثناة الفوقية، على أنه خطاب لجميع الناس، وقرأ الباقون بالتحتية بإرجاع الضمير إلى ‏{‏الذين مكروا السيئات‏}‏، وقرأ أبو عمرو ويعقوب ‏(‏تتفيؤا ظلاله‏)‏ بالمثناة الفوقية‏.‏

وقرأ الباقون بالتحتية، واختارها أبو عبيد، أي يميل من جانب إلى جانب، ويكون أوّل النهار على حال ويتقلص، ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى‏.‏ قال الأزهري‏:‏ تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، فالتفيؤ لا يكون إلاّ بالعشيّ، وما انصرف عنه الشمس والقمر، والذي يكون بالغداة هو الظلّ‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال‏:‏ كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظلّ‏.‏ ومعنى ‏{‏مِن شَئ‏}‏ من شيء له ظلّ، وهي الأجسام، فهو عام أريد به الخاص‏.‏ و‏{‏ظلاله‏}‏ جمع ظلّ، وهو مضاف إلى مفرد لأنه واحد يراد به الكثرة‏.‏

‏{‏عَنِ اليمين والشمآئل‏}‏ أي‏:‏ عن جهة أيمانها وشمائلها، أي‏:‏ عن جانبي كل واحد منها‏.‏ قال الفراء‏:‏ وحد اليمين؛ لأنه أراد واحداً من ذوات الأظلال، وجمع الشمائل؛ لأنه أراد كلها، لأن ما خلق الله لفظه مفرد ومعناه جمع‏.‏ وقال الواحدي‏:‏ وحد اليمين والمراد به الجميع إيجازاً في اللفظ كقوله‏:‏ ‏{‏وَيُوَلُّونَ الدبر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 45‏]‏، ودلت الشمائل على أن المراد به الجمع‏.‏ وقيل‏:‏ إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع، عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ الظلمات والنور‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏، و‏{‏خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 7‏]‏، وقيل‏:‏ المراد باليمين‏:‏ النقطة التي هي مشرق الشمس، وأنها واحدة‏.‏ والشمائل‏:‏ عبارة عن الانحراف في فلك الإظلال بعد وقوعها على الأرض، وهي كثيرة‏.‏ وإنما عبر عن المشرق باليمين؛ لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه، ومنه تظهر الحركة القوية‏.‏

‏{‏سُجَّدًا لِلَّهِ‏}‏ منتصب على الحال، أي‏:‏ حال كون الظلال سجداً لله‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يعني‏:‏ أن هذه الأشياء مجبولة على الطاعة، وقال أيضاً‏:‏ سجود الجسم‏:‏ انقياده وما يرى من أثر الصنعة ‏{‏وَهُمْ داخرون‏}‏ في محل نصب على الحال، أي‏:‏ خاضعون صاغرون، والدخور‏:‏ الصغار والذلّ، يقال‏:‏ دخر الرجل، فهو داخر، وأدخره الله‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فلم يبق إلا داخر في مخيس *** ومنجحر في غير أرضك في حجر

ومخيس‏:‏ اسم سجن كان بالعراق ‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض مَن دَابَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ له وحده يخضع وينقاد، لا لغيره ما في السموات جميعاً، ‏{‏وما في الأرض من دابة‏}‏ تدبّ على الأرض‏.‏ والمراد به كل دابة‏.‏ قال الأخفش‏:‏ هو كقولك ما أتاني من رجل مثله، وما أتاني من الرجال مثله‏.‏ وقد دخل في عموم ما في السموات وما في الأرض جميع الأشياء الموجودة فيهما، وإنما خصّ الدابة بالذكر، لأنه قد علم من قوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَئ‏}‏ انقياد الجمادات، وعطف الملائكة على ما قبلهم، تشريفاً لهم، وتعظيماً لدخولهم في المعطوف عليه ‏{‏وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ والحال أنهم لا يستكبرون عن عبادة ربهم، والمراد‏:‏ الملائكة‏.‏

ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة‏.‏ وفي هذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله‏.‏ ويجوز أن تكون حالاً من فاعل ‏{‏يسجد‏}‏، و«ما» عطف عليه، أي‏:‏ يسجد لله ما في السموات وما في الأرض، والملائكة، وهم جميعاً لا يستكبرون عن السجود‏.‏

‏{‏يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ‏}‏ هذه الجملة في محل نصب على الحال، أي‏:‏ حال كونهم يخافون ربهم من فوقهم‏.‏ أو جملة مستأنفة لبيان نفي استكبارهم، ومن آثار الخوف عدم الاستكبار، و‏{‏من فوقهم‏}‏ متعلق ب ‏{‏يخافون‏}‏ على حذف مضاف، أي‏:‏ يخافون عذاب ربهم من فوقهم، أو يكون حالاً من الربّ، أي‏:‏ يخافون ربهم حال كونه من فوقهم‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ‏}‏ يخافون الملائكة، فيكون على حذف المضاف، أي يخافون ملائكة ربهم كائنين من فوقهم‏.‏ وهو تكلف لا حاجة إليه، وإنما اقتضى مثل هذه التأويلات البعيدة المحاماة على مذاهب قد رسخت في الأذهان، وتقرّرت في القلوب‏.‏ قيل‏:‏ وهذه المخافة هي مخافة الإجلال، واختاره الزجاج فقال‏:‏ ‏{‏يخافون رَبَّهُمْ‏}‏ خوف مجلين‏.‏ ويدلّ على صحة هذا المعنى قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقوله إخباراً عن فرعون ‏{‏وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 127‏]‏‏.‏ ‏{‏وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ما يؤمرون به من طاعة الله يعني‏:‏ الملائكة، أو جميع من تقدّم ذكره، وحمل هذه الجمل على الملائكة أولى؛ لأن في مخلوقات الله من يستكبر عن عبادته، ولا يخافه ولا يفعل ما يؤمر به، كالكفار والعصاة الذين لا يتصفون بهذه الصفات وإبليس وجنوده‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏والذين هاجروا فِى الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ‏}‏ قال‏:‏ هم قوم من أهل مكة هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ظلمهم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن داود بن أبي هند قال‏:‏ نزلت هذه الآية في أبي جندل بن سهيل‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏والذين هاجروا فِى الله‏}‏ الآية قال‏:‏ هؤلاء أصحاب محمد، ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم، حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة، ثم بوّأهم الله المدينة بعد ذلك، فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين ‏{‏وَلأَجْرُ الأخرة أَكْبَرُ‏}‏ قال‏:‏ أي والله لما يصيبهم الله من جنته ونعمته أكبر ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن الشعبي في قوله‏:‏ ‏{‏فِى الدنيا حَسَنَةً‏}‏ قال‏:‏ المدينة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال‏:‏ لنرزقنهم في الدنيا رزقاً حسناً‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ «لما بعث الله محمداً رسولاً أنكرت العرب ذلك، فأنزل الله ‏{‏مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ‏}‏»‏.‏ وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه في قوله‏:‏ ‏{‏فاسألوا أَهْلَ الذكر‏}‏ الآية، يعني‏:‏ مشركي قريش، أن محمداً رسول الله في التوراة والإنجيل‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال‏:‏ نزلت في عبد الله بن سلام ونفر من أهل التوراة‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏بالبينات‏}‏ قال‏:‏ الآيات‏.‏ ‏{‏والزبر‏}‏ قال‏:‏ الكتب‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات‏}‏ قال‏:‏ نمروذ بن كنعان وقومه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال‏:‏ أي الشرك‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك، قال‏:‏ تكذيبهم الرسل، وإعمالهم بالمعاصي‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ في اختلافهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه ‏{‏فِى تَقَلُّبِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ إن شئت أخذته في سفره ‏{‏أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ‏}‏ يقول‏:‏ على أثر موت صاحبه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً ‏{‏على تَخَوُّفٍ‏}‏ قال‏:‏ تنقص من أعمالهم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن عمر أنه سألهم عن هذه الآية ‏{‏أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ‏}‏ فقالوا‏:‏ ما نرى إلاّ أنه عند تنقص ما يردّده من الآيات‏.‏ فقال‏:‏ عمر ما أرى إلا أنه على ما ينقصون من معاصي الله، فخرج رجل ممن كان عند عمر فلقي أعرابياً، فقال يا فلان‏:‏ ما فعل ربك‏؟‏ قال‏:‏ قد تخيفته، يعني انتقصته، فرجع إلى عمر فأخبره، فقال‏:‏ قد رأيته ذلك‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ‏}‏ قال‏:‏ يأخذهم بنقص بعضهم بعضاً‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يتفيؤ‏}‏ قال‏:‏ يتميل‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ داخرون‏}‏ قال‏:‏ صاغرون‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ‏}‏ الآية قال‏:‏ لم يدع شيئاً من خلقه إلاّ عبده له طائعاً أو كارهاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية، قال‏:‏ يسجد من في السموات طوعاً، ومن في الأرض طوعاً وكرهاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 62‏]‏

‏{‏وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏51‏)‏ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ‏(‏53‏)‏ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ‏(‏56‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏58‏)‏ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏59‏)‏ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏60‏)‏ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

لما بين سبحانه أن مخلوقاته السماوية والأرضية منقادة له، خاضعة لجلاله، أتبع ذلك بالنهي عن الشرك بقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ‏}‏ فنهى سبحانه عن اتخاذ إلهين، ثم أثبت أن الإلهية منحصرة في إله واحد وهو الله سبحانه‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن التثنية في إلهين قد دلت على الاثنينية، والإفراد في إله قد دلّ على الوحدة، فما وجه وصف إلهين باثنين، ووصف إله واحد‏؟‏ فقيل في الجواب‏:‏ إن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والتقدير‏:‏ لا تتخذوا اثنين إلهين إنما هو واحد إله، وقيل‏:‏ إن التكرير لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك‏.‏ وقيل‏:‏ إن فائدة زيادة اثنين هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدّد لا إلى الجنسية، وفائدة زيادة واحد دفع توهم أن المراد إثبات الإلهية دون الواحدية، مع أن الإلهية له سبحانه مسلمة في نفسها، وإنما خلاف المشركين في الواحدية‏.‏ ثم نقل الكلام سبحانه من الغيبة إلى التكلم على طريقة الالتفات لزيادة الترهيب، فقال‏:‏ ‏{‏فإياي فارهبون‏}‏ أي‏:‏ إن كنتم راهبين شيئاً، فإياي فارهبون لا غيري‏.‏ وقد مرّ مثل هذا في أول البقرة‏.‏

ثم لما قرّر سبحانه وحدانيته، وأنه الذي يجب أن يخصّ بالرهبة منه والرغبة إليه، ذكر أن الكلّ في ملكه وتحت تصرّفه فقال‏:‏ ‏{‏وَلَهُ مَا فِى السموات والأرض‏}‏ وهذه الجملة مقررة لمن تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى * السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ إلى آخره، وتقديم الخبر لإفادة الاختصاص ‏{‏وَلَهُ الدين وَاصِبًا‏}‏ أي‏:‏ ثابتاً واجباً دائماً لا يزول، والدين هو الطاعة والإخلاص‏.‏ قال الفراء ‏{‏وَاصِبًا‏}‏ معناه دائماً، ومنه قول الدؤلي‏:‏

لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه *** بذمّ يكون الدهر أجمع واصبا

أي‏:‏ دائماً‏.‏ وروي عن الفراء أيضاً أنه قال‏:‏ الواصب‏:‏ الخالص، والأوّل أولى، ومنه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 9‏]‏ أي دائم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أي طاعته واجبة أبداً‏.‏ ففسر الواصب بالواجب‏.‏ وقال ابن قتيبة في تفسير الواصب‏:‏ أي ليس أحد يطاع إلاّ انقطع ذلك بزوال أو بهلكة غير الله تعالى، فإن الطاعة تدوم له‏.‏ ففسر الواصب بالدائم‏.‏ وإذا دام الشيء دواماً لا ينقطع فقد وجب وثبت‏.‏

يقال‏:‏ وصب الشيء يصب وصوباً، فهو واصب‏:‏ إذا دام، ووصب الرجل على الأمر‏:‏ إذا واظب عليه‏.‏ وقيل‏:‏ الوصب التعب والإعياء، أي‏:‏ يجب طاعة الله سبحانه وإن تعب العبد فيها وهو غير مناسب لما في الآية، والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ‏}‏ للتقريع والتوبيخ، وهو معطوف على مقدّر، كما في نظائره‏.‏ والمعنى‏:‏ إذا كان الدين‏:‏ أي الطاعة واجباً له دائماً لا ينقطع كان المناسب لذلك تخصيص التقوى به وعدم إيقاعها لغيره‏.‏

ثم امتنّ سبحانه عليهم بأن جميع ما هم متقلبون فيه من النعم هو منه لا من غيره، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ‏}‏ أي‏:‏ ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فمن الله، أي‏:‏ فهي منه، فتكون ما شرطية، ويجوز أن تكون موصولة متضمنة معنى الشرط، و‏{‏بكم‏}‏ صلتها، و‏{‏من نعمة‏}‏ حال من الضمير في الجار والمجرور، أو بيان ل «ما»‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَمِنَ الله‏}‏ الخبر، وعلى كون «ما» شرطية يكون فعل الشرط محذوفاً، أي‏:‏ ما يكن، والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته، ومعرفة الخير لأجل العمل به‏.‏ وإما دنيوية نفسانية، أو بدنية، أو خارجية، كالسعادات المالية وغيرها، وكل واحدة من هذه جنس تحته أنواع لا حصر لها، والكل من الله سبحانه، فعلى العاقل أن لا يشكر إلاّ إياه، ثم بين تلوّن الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ إذا مسكم الضرّ أيّ مس، فإلى الله سبحانه لا إلى غيره تتضرّعون في كشفه، فلا كاشف له إلاّ هو‏.‏ يقال‏:‏ جأر يجأر في لسان العرب جؤاراً‏:‏ إذا رفع صوته في تضرع‏.‏ قال الأعشى يصف بقرة‏:‏

فطافت ثلاثاً بين يوم وليلة *** وكان النكير أن تطيف وتجأرا

والضرّ‏:‏ المرض والبلاء والحاجة والقحط وكل ما يتضرر به الإنسان‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ‏}‏ أي‏:‏ إذا رفع عنكم ما نزل بكم من الضرّ ‏{‏إذا فريق‏}‏ أي‏:‏ جماعة منكم بربهم الذي رفع الضر عنهم يشركون، فيجعلون معه إلهاً آخر من صنم أو نحوه، والآية مسوقة للتعجيب من فعل هؤلاء، حيث يضعون الإشراك بالله الذي أنعم عليهم بكشف ما نزل بهم من الضرّ مكان الشكر له، وهذا المعنى قد تقدّم في الأنعام ويونس، ويأتي في سبحان‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هذا خاص بمكر من كفر، وقابل كشف الضرّ عنه بالجحود والكفر، وعلى هذا فتكون «من» في ‏{‏منكم‏}‏ للتبعيض، حيث كان الخطاب للناس جميعاً‏.‏ والفريق هم الكفرة وإن كان الخطاب موجهاً إلى الكفار، ف «من» للبيان، واللام في ‏{‏لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم‏}‏ لام كي، أي‏:‏ لكي يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضرّ، حتى كأن هذا الكفر منهم الواقع في موضع الشكر الواجب عليهم غرض لهم ومقصد من مقاصدهم‏.‏ وهذا غاية في العتوّ والعناد ليس وراءها غاية‏.‏ وقيل‏:‏ اللام للعاقبة، يعني‏:‏ ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلاّ هذا الكفر‏.‏ ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والترهيب ملتفتاً من الغيبة إلى الخطاب ‏{‏فَتَمَتَّعُواْ‏}‏ بما أنتم فيه من ذلك ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ عاقبة أمركم، وما يحل بكم في هذه الدار، وما تصيرون إليه في الدار الآخرة‏.‏

ثم حكى سبحانه نوعاً آخر من قبائح أعمالهم فقال‏:‏ ‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مّمّا رزقناهم‏}‏ أي‏:‏ يقع منهم هذا الجعل بعد ما وقع منهم الجؤار إلى الله سبحانه في كشف الضر عنهم، وما يعقب كشفه عنهم من الكفر منهم بالله والإشراك به، ومع ذلك يجعلون لما لا يعلمون حقيقته من الجمادات والشياطين نصيباً مما رزقناهم من أموالهم يتقربون به إليه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنهم، أي الكفار يجعلون للأصنام، وهم لا يعلمون شيئاً لكونهم جمادات، ففاعل ‏{‏يعلمون‏}‏ على هذا هي الأصنام وأجراها مجرى العقلاء في جمعها بالواو والنون، جرياً على اعتقاد الكفار فيها، وحاصل المعنى‏:‏ ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام‏.‏ التي لا تعقل شيئاً نصيباً من أموالهم التي رزقهم الله إياها ‏{‏تالله لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ‏}‏ هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب‏.‏ وهذا السؤال سؤال تقريع وتوبيخ ‏{‏عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ‏}‏ تختلقونه من الكذب على الله سبحانه في الدنيا‏.‏

‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات‏}‏ هذا نوع آخر من فضائحهم وقبائحهم، وقد كانت خزاعة وكنانة تقول‏:‏ الملائكة بنات الله ‏{‏سبحانه‏}‏ نزّه سبحانه نفسه عما نسبه إليه هؤلاء الجفاة الذين لا عقول لهم صحيحة ولا أفهام مستقيمة‏.‏ ‏{‏إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 44‏]‏ وفي هذا التنزيه تعجيب من حالهم ‏{‏وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ‏}‏ أي‏:‏ ويجعلون لأنفسهم ما يشتهوونه من البنين على أن «ما» في محل نصب بالفعل المقدّر، ويجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء‏.‏ وأنكر النصب الزجاج‏.‏ قال‏:‏ لأن العرب لا يقولون‏:‏ جعل له كذا، وهو يعني نفسه، وإنما يقولون‏:‏ جعل لنفسه كذا، فلو كان منصوباً، لقال‏:‏ ولأنفسهم ما يشتهون‏.‏ وقد أجاز النصب الفراء‏.‏

ثم ذكر سبحانه كراهتهم للإناث التي جعلوها لله سبحانه فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى‏}‏ أي‏:‏ إذا أخبر أحدهم بولادة بنت له ‏{‏ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا‏}‏ أي‏:‏ متغيراً، وليس المراد السواد الذي هو ضدّ البياض، بل المراد الكناية بالسواد عن الانكسار والتغير بما يحصل من الغمّ، والعرب تقول لكل من لقي مكروهاً‏:‏ قد اسود وجهه غماً وحزناً‏.‏ قاله الزجاج‏.‏ وقال المارودي‏:‏ بل المراد سواد اللون حقيقة، قال‏:‏ وهو قول الجمهور، والأوّل أولى، فإن المعلوم بالوجدان أن من غضب وحزن واغتمّ لا يحصل في لونه إلاّ مجرد التغير وظهور الكآبة والانكسار لا السواد الحقيقي‏.‏ وجملة ‏{‏وَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ في محل نصب على الحال، أي‏:‏ ممتلئ من الغمّ غيظاً وحنقاً‏.‏ قال الأخفش‏:‏ هو الذي يكظم غيظه ولا يظهره‏.‏ وقيل‏:‏ إنه المغموم الذي يطبق فاه من الغمّ‏.‏ مأخوذ من الكظامة، وهو سدّ فم البئر قاله عليّ بن عيسى، وقد تقدّم في سورة يوسف‏.‏

‏{‏يتوارى مِنَ القوم‏}‏ أي‏:‏ يتغيب ويختفي ‏{‏مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ من سوء الحزن والعار والحياء الذي يلحقه بسبب حدوث البنت له ‏{‏أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ‏}‏ أي‏:‏ لا يزال متردّداً بين الأمرين، وهو إمساك البنت التي بشر بها، أو دفنها في التراب ‏{‏على هُونٍ‏}‏ أي‏:‏ هوان‏.‏

وكذا قرأ عيسى الثقفي‏.‏ قال اليزيدي‏:‏ والهون‏:‏ الهوان بلغة قريش‏.‏ وكذا حكاه أبو عبيد عن الكسائي، وحكي عن الكسائي أنه البلاء والمشقة، قالت الخنساء‏:‏

نهين النفوس وهون النفو *** س يوم الكريهة أبقى لها

وقال الفراء‏:‏ الهون‏:‏ القليل بلغة تميم‏.‏ وحكى النحاس عن الأعمش أنه قرأ «أيمسكه على سوء» ‏{‏أم يدسه في التراب‏}‏ أي‏:‏ يخفيه في التراب بالوأد كما كانت تفعله العرب، فلا يزال الذي بشر بحدوث الأنثى متردّداً بين هذين الأمرين‏.‏ والتذكير في ‏{‏يمسكه‏}‏ و‏{‏يدسه‏}‏ مع كونه عبارة عن الأنثى لرعاية اللفظ‏.‏ وقرأ الجحدري «أم يدسها في التراب» ويلزمه أن يقرأ «أيمسكها»، وقيل‏:‏ دسها‏:‏ إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف كالمدسوس لإخفائه عن الأبصار ‏{‏أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ حيث أضافوا البنات التي يكرهونها إلى الله سبحانه وأضافوا البنين المحبوبين عندهم إلى أنفسهم‏.‏ ومثل هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 21 22‏]‏‏.‏

‏{‏لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء‏}‏ أي‏:‏ لهؤلاء الذين وصفهم الله سبحانه بهذه القبائح الفظيعة ‏{‏مثل السوء‏}‏ أي‏:‏ صفة السوء من الجهل والكفر بالله‏.‏ وقيل‏:‏ هو وصفهم لله سبحانه بالصاحبة والولد‏.‏ وقيل‏:‏ هو حاجتهم إلى الولد ليقوم مقامهم‏.‏ ووأد البنات لدفع العار وخشية الإملاق‏.‏ وقيل‏:‏ العذاب والنار ‏{‏وَلِلَّهِ المثل الأعلى‏}‏ وهو أضداد صفة المخلوقين من الغنى الكامل، والجود الشامل، والعلم الواسع، أو التوحيد وإخلاص العبادة، أو أنه خالق رازق قادر مجاز؛ وقيل‏:‏ شهادة أن لا إله إلاّ الله وقيل ‏{‏الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏‏.‏ ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ الذي لا يغالب، فلا يضرّه نسبتهم إليه ما لا يليق به ‏{‏الحكيم‏}‏ في أفعاله وأقواله‏.‏

ثم لما حكى سبحانه عن القوم عظيم كفرهم، بيّن سعة كرمه وحلمه حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، ولم يؤاخذهم بظلمهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ‏}‏ والمراد بالناس هنا‏:‏ الكفار، أو جميع العصاة ‏{‏مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا‏}‏ أي‏:‏ على الأرض، وإن لم يذكر فقد دلّ عليها ذكر الناس وذكر الدابة‏.‏ فإن الجميع مستقرّون على الأرض، والمراد بالدابة الكافر، وقيل‏:‏ كل ما دبّ‏.‏ وقد قيل على هذا‏:‏ كيف يعمّ بالهلاك مع أن فيهم من لا ذنب له‏؟‏ وأجيب بإهلاك الظالم انتقاماً منه، وإهلاك غيره إن كان من أهل التكليف فلأجل توفير أجره، وإن كان من غيرهم، فبشؤم ظلم الظالمين، ولله الحكمة البالغة ‏{‏لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏، ومثل هذا قوله‏:‏

‏{‏واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وفي معنى هذا أحاديث منها ما عند مسلم وغيره من حديث ابن عمر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إذا أراد الله بقوم عذاباً، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على نياتهم» وكذلك حديث الجيش الذين يخسف بهم في البيداء، وفي آخره‏:‏ أنهم يبعثون على نياتهم وقد قدّمنا عند تفسير قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واتقوا فِتْنَةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏ الآية تحقيقاً حقيقاً بالمراجعة له ‏{‏ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى‏}‏ معلوم عنده، وهو منتهى حياتهم وانقضاء أعمارهم، أو أجل عذابهم‏.‏ وفي هذا التأخير حكمة بالغة منها الإعذار إليهم وإرخاء العنان معهم، ومنها حصول من سبق في علمه من أولادهم ‏{‏فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ‏}‏ الذي سماه لهم، حقت عليهم كلمة الله سبحانه في ذلك الوقت من دون تقدّم عليه ولا تأخر عنه، والساعة المدة القليلة، وقد تقدّم تفسيرها هذا وتحقيقه‏.‏

ثم ذكر نوعاً آخر من جهلهم وحمقهم فقال‏:‏ ‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ‏}‏ أي‏:‏ ينسبون إليه سبحانه ما يكرهون نسبته إلى أنفسهم من البنات، وهو تكرير لما قد تقدّم لقصد التأكيد والتقرير، ولزيادة التوبيخ والتقريع ‏{‏وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب‏}‏ هذا من النوع الآخر الذي ذكره سبحانه من قبائحهم، وهو، أي‏:‏ هذا الذي تصفه ألسنتهم من الكذب، هو قولهم‏:‏ ‏{‏أَنَّ لَهُمُ الحسنى‏}‏ أي‏:‏ الخصلة الحسنى، أو العاقبة الحسنى‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يصفون أن لهم مع قبح قولهم من الله الجزاء الحسن‏.‏ قال الزجاج أيضاً والفراء‏:‏ أبدل من قوله ‏{‏وتصف ألسنتهم الكذب‏}‏ قوله ‏{‏أن لهم الحسنى‏}‏، و‏{‏الكذب‏}‏ منصوب على أنه مفعول ‏{‏تصف‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، وابن محيصن «الكذب» برفع الكاف والذال والباء على أنه صفة للألسن‏.‏ وهو جمع كذب، فيكون المفعول على هذا هو ‏{‏أن لهم الحسنى‏}‏‏.‏

ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار‏}‏ أي‏:‏ حقاً أن لهم مكان ما جعلوه لأنفسهم من الحسنى النار، وقد تقدّم تحقيق هذا ‏{‏وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ‏}‏ قال ابن الأعرابي وأبو عبيدة‏:‏ أي متروكون منسيون في النار‏.‏ وبه قال الكسائي والفراء، فيكون مشتقاً من أفرطت فلاناً خلفي‏:‏ إذا خلفته ونسيته‏.‏ وقال قتادة والحسن‏:‏ معجلون إليها، مقدّمون في دخولها، من أفرطته، أي‏:‏ قدّمته في طلب الماء، والفارط‏:‏ هو الذي يتقدّم إلى الماء‏.‏ والفراط‏:‏ المتقدّمون في طلب الماء، والورّاد‏:‏ المتأخرون، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنا فرطكم على الحوض»، أي‏:‏ متقدّمكم، قال القطامي‏:‏

فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا *** كما تعجل فرّاط لورّاد

وقرأ نافع في رواية ورش «مفرطون» بكسر الراء وتخفيفها‏.‏ وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس‏.‏ ومعناه‏:‏ مسرفون في الذنوب والمعاصي‏.‏ يقال‏:‏ أفرط فلان على فلان‏:‏ إذا أربى عليه، وقال له أكثر مما قال من الشرّ‏.‏

وقرأ أبو جعفر القاري «مفرطون» بكسر الراء وتشديدها، أي‏:‏ مضيعون أمر الله، فهو من التفريط في الواجب‏.‏ وقرأ الباقون «مفرطون» بفتح الراء مخففاً‏.‏ ومعناه‏:‏ مقدمون إلى النار‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الدين وَاصِبًا‏}‏ قال‏:‏ ‏{‏الدين‏}‏ الإخلاص، و‏{‏واصباً‏}‏ دائماً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح ‏{‏وَلَهُ الدين وَاصِبًا‏}‏ قال‏:‏ لا إله إلاّ الله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏وَاصِبًا‏}‏ قال‏:‏ دائماً‏.‏ وأخرج الفريابي، وابن جرير عنه‏:‏ قال واجباً‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد ‏{‏تَجْئَرُونَ‏}‏ قال‏:‏ تتضرعون دعاء‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال‏:‏ تصيحون بالدعاء‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ قال‏:‏ وعيد‏.‏ وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ الآية، قال‏:‏ يعلمون أن الله خلقهم ويضرّهم وينفعهم، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرهم ولا ينفعهم ‏{‏نَصِيبًا مّمّا رزقناهم‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية، قال‏:‏ هم مشركو العرب، جعلوا لأوثانهم وشياطينهم مما رزقهم الله، وجزءوا من أموالهم جزءاً فجعلوه لأوثانهم وشياطينهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في الآية، قال‏:‏ هو قولهم ‏{‏هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 136‏]‏‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات‏}‏ الآية، يقول‏:‏ يجعلون لي البنات يرتضونهنّ لي، ولا يرتضونهنّ لأنفسهم‏.‏ وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا ولد للرجل منهم جارية أمسكها على هوان أو دسها في التراب وهي حية‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك ‏{‏وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ‏}‏ قال‏:‏ يعني به‏:‏ البنين‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج ‏{‏أَمْ يَدُسُّهُ فِى التراب‏}‏ قال‏:‏ يئد ابنته‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله‏:‏ ‏{‏أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ قال‏:‏ بئس ما حكموا، يقول‏:‏ شيء لا يرضونه لأنفسهم، فكيف يرضونه لي‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ المثل الأعلى‏}‏ قال‏:‏ شهادة أن لا إله إلاّ الله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس ‏{‏وَلِلَّهِ المثل الاعلى‏}‏ قال‏:‏ يقول ليس كمثله شيء‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ‏}‏ قال‏:‏ ما سقاهم المطر‏.‏ وأخرج أيضاً عن السدّي نحوه‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في الآية، قال‏:‏ قد فعل ذلك في زمن نوح، أهلك الله ما على ظهر الأرض من دابة إلاّ ما حمل في سفينته‏.‏

وأخرج أحمد في الزهد عن ابن مسعود قال‏:‏ ذنوب ابن آدم قتلت الجعل في جحره، ثم قال‏:‏ أي والله زمن غرق قوم نوح‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عنه قال‏:‏ كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم‏.‏ ثم قرأ ‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا عن أنس نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة، أنه سمع رجلاً يقول‏:‏ إن الظالم لا يضرّ إلاّ نفسه‏.‏ قال أبو هريرة‏:‏ بلى، والله إن الحبارى لتموت هزالاً في وكرها من ظلم الظالم‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك ‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ‏}‏ قال‏:‏ يجعلون لي البنات، ويكرهون ذلك لأنفسهم‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى‏}‏ قال‏:‏ قول كفار قريش‏:‏ لنا البنون، وله البنات‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد ‏{‏وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ‏}‏ قال‏:‏ منسبون‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة قال‏:‏ معجلون‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه‏.‏