فصل: تفسير الآيات رقم (63- 69)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 69‏]‏

‏{‏تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏64‏)‏ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏65‏)‏ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ‏(‏66‏)‏ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ‏(‏68‏)‏ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

بيّن سبحانه أن مثل صنيع قريش قد وقع من سائر الأمم، فقال‏:‏ مسلياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ‏}‏ أي‏:‏ رسلاً ‏{‏فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطن أَعْمَالَهُمْ‏}‏ الخبيثة ‏{‏فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم‏}‏ يحتمل أن يكون ليوم عبارة عن زمان الدنيا، فيكون المعنى‏:‏ فهو قرينهم في الدنيا، ويحتمل أن يكون اليوم عبارة عن يوم القيامة وما بعده، فيكون للحال الآتية، ويكون الوليّ بمعنى الناصر‏.‏ والمراد‏:‏ نفي الناصر عنهم على أبلغ الوجوه، لأن الشيطان لا يتصوّر منه النصرة أصلاً في الدار الآخرة، وإذا كان الناصر منحصراً فيه، لزم أن لا نصرة من غيره‏.‏ ويحتمل أن يراد باليوم بعض زمان الدنيا، وهو على وجهين‏:‏ الأوّل‏:‏ أن يراد البعض الذي قد مضى، وهو الذي وقع فيه التزيين من الشيطان للأمم الماضية، فيكون على طريق الحكاية للحال الماضية‏.‏ الثاني‏:‏ أن يراد البعض الحاضر، وهو وقت نزول الآية‏.‏ والمراد‏:‏ تزيين الشيطان لكفار قريش، فيكون الضمير في ‏{‏وليهم‏}‏ لكفار قريش‏:‏ أي فهو وليّ هؤلاء اليوم‏.‏ أو على حذف مضاف، أي‏:‏ فهو وليّ أمثال أولئك الأمم اليوم ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ في الآخرة، وهو عذاب النار‏.‏

ثم ذكر سبحانه أنه ما هلك من هلك إلاّ بعد إقامة الحجة عليهم وإزاحة العلة منهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ الذى اختلفوا فِيهِ‏}‏ وهذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بالكتاب‏:‏ القرآن، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال أي‏:‏ ما أنزلناه عليك لحال من الأحوال، ولا لعلة من العلل إلاّ لعلة التبيين لهم، أي‏:‏ للناس الذي اختلفوا فيه من التوحيد، وأحوال البعث، وسائر الأحكام الشرعية، وانتصاب ‏{‏هُدًى وَرَحْمَةً‏}‏ على أنهما مفعول لهما معطوفان على محل لتبين‏.‏ ولا حاجة إلى اللام، لأنهما فعلاً فاعل الفعل المعلل، بخلاف التبيين، فإنه فعل المخاطب، لا فعل المنزل ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ بالله سبحانه، ويصدّقون ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب‏.‏

ثم عاد سبحانه إلى تقرير وجوده وتفرّده بالإلهية بذكر آياته العظام فقال‏:‏ ‏{‏والله أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء‏}‏ أي‏:‏ من السحاب، أو من جهة العلو كما مرّ، أي‏:‏ نوعاً من أنواع الماء ‏{‏فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ أي‏:‏ أحياها بالنبات بعد أن كانت يابسة لا حياة بها ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ الإنزال والإحياء ‏{‏لآيَةً‏}‏ أي‏:‏ علامة دالة على وحدانيته، وعلى بعثه للخلق ومجازاتهم ‏{‏لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ‏}‏ كلام الله ويفهمون ما يتضمنه من العبر، ويتفكرون في خلق السموات والأرض‏.‏

‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام لَعِبْرَةً‏}‏ الأنعام هي‏:‏ الإبل والبقر والغنم ويدخل في الغنم المعز‏.‏

والعبرة أصلها‏:‏ تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة‏.‏ ومنه ‏{‏فاعتبروا ياأولى الأبصار‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وقال أبو بكر الوارق‏:‏ العبرة في الأنعام‏:‏ تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، والظاهر أن العبرة هي قوله‏:‏ ‏{‏نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ‏}‏ فتكون الجملة مستأنفة لبيان العبرة‏.‏ قرأ أهل المدينة، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر «نسقيكم» بفتح النون، من سقى يسقي‏.‏ وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي، قيل‏:‏ هما لغتان‏.‏ قال لبيد‏:‏

سقى قومي بني مجد وأسقى *** نميراً والقبائل من هلال

وقرئ بالتاء الفوقية، على أن الضمير راجع إلى الأنعام‏.‏ وقرئ بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الله سبحانه، وهما ضعيفتان‏.‏ وجميع القراء على القراءتين الأوليين، والفتح لغة قريش، والضم لغة حمير‏.‏ وقيل‏:‏ إن بين سقى وأسقى فرقاً، فإذا كان الشراب من يد الساقي إلى فم المسقى فيقال‏:‏ سقيته، وإن كان بمجرّد عرضه عليه وتهيئته له، قيل‏:‏ أسقاه‏.‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏مّمَّا فِى بُطُونِهِ‏}‏ راجع إلى الأنعام‏.‏ قال سيبويه‏:‏ العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لما كان لفظ الجمع يذكر ويؤنث، فيقال‏:‏ هو الأنعام، وهي الأنعام جاز عود الضمير بالتذكير‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ معناه‏:‏ مما في بطون ما ذكرنا، فهو على هذا عائد إلى المذكور‏.‏ قال الفراء‏:‏ وهو صواب‏.‏ وقال المبرد‏:‏ هذا فاش في القرآن كثير، مثل قوله للشمس ‏{‏هذا رَبّى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 78‏]‏ يعني‏:‏ هذا الشيء الطالع‏.‏ وكذلك‏:‏ ‏{‏وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 35‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 36‏]‏، ولم يقل‏:‏ جاءت؛ لأن المعنى جاء الشيء الذي ذكرنا‏.‏ انتهى، ومن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّه تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 54، 55‏]‏ ومثله قول الشاعر‏:‏

مثل الفراخ نتفت حواصله *** ولم يقل‏:‏ حواصلها‏.‏ وقول الآخر‏:‏

وطاب ألبان اللقاح وبرد *** ولم يقل‏:‏ وبردت‏.‏ وحكي عن الكسائي أن المعنى مما في بطون بعضه وهي الإناث؛ لأن الذكور لا ألبان لها، وبه قال أبو عبيدة‏:‏ وحكي عن الفراء أنه قال‏:‏ النعم والأنعام واحد، يذكر ويؤنث، ولهذا تقول العرب‏:‏ هذه نعم وارد، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام‏.‏ وهو كقول الزجاج‏.‏ ورجحه ابن العربي فقال‏:‏ إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة‏.‏ فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة ‏{‏مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ‏}‏ الفرث‏:‏ الزبل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً‏.‏ يقال‏:‏ أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الشيء الذي تأكله يكون منه ما في الكرش، وهو الفرث، ويكون منه الدم، فيكون أسفله فرثاً، وأعلاه دماً وأوسطه لبنا فيجري الدم في العروق، واللبن في الضروع، ويبقى الفرث كما هو ‏{‏خَالِصًا‏}‏ يعني‏:‏ من حمرة الدم، وقذارة الفرث بعد أن جمعهما وعاء واحد ‏{‏سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ‏}‏ أي‏:‏ لذيذاً هنيئاً، لا يغصّ به من شربه‏:‏ يقال‏:‏ ساغ الشراب، يسوغ سوغاً، أي‏:‏ سهل مدخله في الحلق‏.‏

‏{‏وَمِن ثمرات النخيل والأعناب‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ التقدير‏:‏ ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون، فحذف «ما» ودلّ على حذفه قوله‏:‏ ‏{‏منه‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو معطوف على الأنعام، والتقدير‏:‏ وإن لكم من ثمرات النخيل والأعناب لعبرة‏.‏ ويجوز أن يكون معطوفاً على ‏{‏مما في بطونه‏}‏ أي‏:‏ نسقيكم مما في بطونه ومن ثمرات النخيل‏.‏ ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلّ عليه ما قبله، تقديره‏:‏ ونسقيكم من ثمرات النخيل، ويكون على هذا ‏{‏تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا‏}‏ بياناً للإسقاء وكشفاً عن حقيقته، ويجوز أن يتعلق ب ‏{‏تتخذون‏}‏، تقديره‏:‏ ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكراً، ويكون تكرير الظرف، وهو قوله منه للتأكيد كقولك زيد في الدار فيها، وإنما ذكر الضمير في ‏{‏منه‏}‏ لأنه يعود إلى المذكور، أو إلى المضاف المحذوف، وهو العصير، كأنه قيل‏:‏ ومن عصير ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه، والسكر‏:‏ ما يسكر من الخمر، والرزق الحسن‏:‏ جميع ما يؤكل من هاتين الشجرتين كالثمر والدبس والزبيب والخل‏.‏ وكان نزول هذه الآية قبل تحريم الخمر‏.‏ وقيل‏:‏ إن السكر الخلّ بلغة الحبشة، والرزق الحسن الطعام من الشجرتين‏.‏ وقيل‏:‏ السكر‏:‏ العصير الحلو الحلال، وسمي سكراً؛ لأنه قد يصير مسكراً إذا بقي، فإذا بلغ الإسكار حرم‏.‏ والقول الأوّل أولى وعليه الجمهور، وقد صرّح أهل اللغة بأن السكر اسم للخمر، ولم يخالف في ذلك إلاّ أبو عبيدة، فإنه قال‏:‏ السكر‏:‏ الطعم، ومما يدل على ما قاله جمهور أهل اللغة قول الشاعر‏:‏

بئس الصحاب وبئس الشرب شربهم *** إذا جرى فيهم الهذي والسكر

ومما يدل على ما قاله أبو عبيدة ما أنشده‏:‏

جعلت عيب الأكرمين سكرا *** أي‏:‏ جعلت ذمهم طعماً، ورجح هذا ابن جرير فقال‏:‏ إن السكر ما يطعم من الطعام ويحل شربه من ثمار النخيل والأعناب، وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف‏.‏ والمعنى واحد، مثل ‏{‏إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 86‏]‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ قول أبي عبيدة هذا لا يعرف، وأهل التفسير على خلافه‏.‏ ولا حجة في البيت الذي أنشده لأن معناه عند غيره أنه يصف أنها تتخمر بعيوب الناس، وقد حمل السكر جماعة من الحنفية على ما لا يسكر من الأنبذة وعلى ما ذهب ثلثاه بالطبخ‏.‏ قالوا‏:‏ وإنما يمتنّ الله على عباده بما أحله لهم، لا بما حرّمه عليهم، وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة المتواترة على فرض تأخره عن آية تحريم الخمر‏.‏ ا ه‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ أي لدلالة لمن يستعمل العقل، ويعمل بما يقتضيه عند النظر في الآيات التكوينية‏.‏

‏{‏وأوحى رَبُّكَ إلى النحل‏}‏ قد تقدّم الكلام في الوحي، وأنه يكون بمعنى الإلهام، وهو ما يخلقه في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر، ومنه قوله سبحانه‏:‏

‏{‏وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 7- 8‏]‏‏.‏ ومن ذلك إلهام البهائم لفعل ما ينفعها وترك ما يضرها، وقرأ يحيى بن وثاب ‏"‏ إلى النحل ‏"‏ بفتح الحاء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وسمي نحلاً، لأن الله سبحانه نحله العسل الذي يخرج منه‏.‏ قال الجوهري‏:‏ والنحل والنحلة‏:‏ الدبر، يقع على الذكر والأنثى ‏{‏أَنِ اتخذى مِنَ الجبال بُيُوتًا‏}‏ أي‏:‏ بأن اتخذي على أن «أن» هي المصدرية، ويجوز أن تكون تفسيرية؛ لأن في الإيحاء معنى القول، وأنث الضمير في اتخذي لكونه أحد الجائزين كما تقدّم، أو للحمل على المعنى، أو لكون النحل جمعاً‏.‏ وأهل الحجاز يؤنثون النحل «ومن» في ‏{‏من الجبال بيوتاً‏}‏ وكذا في ‏{‏مّنَ الشجر‏}‏ وكذا في ‏{‏مّمَّا يَعْرِشُونَ‏}‏ للتبعيض، أي‏:‏ مساكن توافقها وتليق بها في كوى الجبال، وتجويف الشجر، وفي العروش التي يعرشها بنو آدم من الأجناح والحيطان وغيرها‏.‏ وأكثر ما يستعمل فيما يكون من الخشب، يقال‏:‏ عرش يعرش بكسر الراء وضمها‏.‏ وبالضم قرأ ابن عامر وشعبة، وقرأ الباقون بالكسر‏.‏ وقرئ أيضاً ‏"‏ بيوتاً ‏"‏ بكسر الباء وضمها‏.‏

‏{‏ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثمرات‏}‏ ‏"‏ من ‏"‏ للتبغيض، لأنها تأكل النور من الأشجار، فإذا أكلتها ‏{‏فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ‏}‏ أي‏:‏ الطرق التي فهمك الله وعلمك، وأضافها إلى الربّ لأنه خالقها وملهم النحل أن تسلكها، أي‏:‏ ادخلي طرق ربك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر، أو اسلكي ما أكلت في سبل ربك، أي‏:‏ في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور عسلاً، أو إذا أكلت الثمار في الأمكنة البعيدة، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك، لا تضلين فيها، وا نتصاب ‏{‏ذُلُلاً‏}‏ على الحال من السبل، وهي جمع ذلول، أي‏:‏ مذللة، غير متوعرة، واختار هذا‏:‏ الزجاج وابن جرير‏.‏ وقيل‏:‏ حال من النحل، يعني‏:‏ مطيعة للتسخير، وإخراج العسل من بطونها، واختار هذا ابن قتيبة‏.‏

وجملة ‏{‏يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا‏}‏ مستأنفة عدل به عن خطاب النحل، تعديداً للنعم، وتعجيباً لكل سامع، وتنبيهاً على الغير، وإرشاداً إلى الآيات العظيمة الحاصلة من هذا الحيوان الشبيه بالذباب‏.‏ والمراد‏:‏ بالشراب هو العسل، ومعنى ‏{‏مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ‏}‏ أن بعضه أبيض، وبعضه أحمر، وبعضه أزرق، وبعضه أصفر باختلاف ذوات النحل وألونها ومأكولاتها‏.‏ وجمهور المفسرين على أن العسل يخرج من أفواه النحل‏.‏ وقيل‏:‏ من أسفلها‏.‏ وقيل‏:‏ لا يدري من أين يخرج منها، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ‏}‏ راجع إلى الشراب الخارج من بطون النحل، وهو العسل، وإلى هذا ذهب الجمهور‏.‏ وقال الفراء، وابن كيسان، وجماعة من السلف‏:‏ إن الضمير راجع إلى القرآن، ويكون التقدير‏:‏ فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس، ولا وجه للعدول عن الظاهر ومخالفة المرجع الواضح والسياق البين‏.‏

وقد اختلف أهل العلم هل هذا الشفاء الذي جعله الله في العسل عام لكل داء، أو خاص ببعض الأمراض‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ هو على العموم، وقالت طائفة‏:‏ إن ذلك خاص ببعض الأمراض‏.‏ ويدل على هذا أن العسل نكرة في سياق الإثبات فلا يكون عاماً، وتنكيره إن أريد به التعظيم لا يدل إلاّ على أن فيه شفاءً عظيماً لمرض أو أمراض، لا لكل مرض، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم، والظاهر المستفاد من التجربة ومن قوانين علم الطب، أنه إذا استعمل منفرداً، كان دواء لأمراض خاصة وإن خلط مع غيره كالمعاجين ونحوها، كان مع ما خلط به دواء لكثير من الأمراض‏.‏ وبالجملة فهو من أعظم الأغذية وأنفع الأدوية، وقليلاً ما يجتمع هذان الأمران في غيره ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ المذكور من أمر النحل ‏{‏لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يعملون أفكارهم عند النظر في صنع الله سبحانه وعجائب مخلوقاته‏.‏ فإن أمر النحل من أعجبها وأغربها وأدقها وأحكمها‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، وابن مردويه عن ابن عباس أنه سئل عن قوله‏:‏ ‏{‏تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا‏}‏ قال‏:‏ السكر ما حرم من ثمرتهما، والرزق الحسن ما حلّ‏.‏ وأخرج الفريابي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه قال‏:‏ السكر‏:‏ الحرام، والرزق الحسن‏:‏ زبيبه وخله وعنبه ومنافعه‏.‏ وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ السكر‏:‏ النبيذ، والرزق الحسن‏:‏ الزبيب‏.‏ فنسختها هذه الآية ‏{‏إِنَّمَا الخمر والميسر‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ فحرّم الله بعد ذلك السكر منع تحريم الخمر لأنه منه، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَرِزْقًا حَسَنًا‏}‏ فهو الحلال من الخلّ والزبيب والنبيذ وأشباه ذلك، فأقرّه الله وجعله حلالاً للمسلمين‏.‏ وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه سئل عن السكر، فقال‏:‏ الخمر بعينها‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن مسعود قال‏:‏ السكر‏:‏ خمر‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس ‏{‏وأوحى رَبُّكَ إلى النحل‏}‏ قال‏:‏ ألهمها‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله ‏{‏فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً‏}‏ قال‏:‏ طرقاً لا يتوعر عليها مكان سلكته‏.‏ وأخرج عبد الرازق، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن قتادة ‏{‏ذللاً‏}‏ قال‏:‏ مطيعة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال‏:‏ ذليلة‏.‏

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ‏}‏ قال‏:‏ العسل‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال‏:‏ هو العسل فيه الشفاء، وفي القرآن‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير عن ابن مسعود قال‏:‏ إن العسل شفاء من كل داء‏.‏ والقرآن شفاء لما في الصدور‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن ابن مسعود قال‏:‏ عليكم بالشفاءين‏:‏ العسل والقرآن‏.‏ وأخرج ابن ماجه، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، وابن السني، وأبو نعيم، والخطيب عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ عليكم بالشفاءين‏:‏ العسل والقرآن ‏"‏

وقد وردت أحاديث في كون العسل شفاء‏:‏ منها ما أخرجه البخاري من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ الشفاء في ثلاثة‏:‏ في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنا أنهي أمتي عن الكيّ ‏"‏ وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد‏:‏ «أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ إن أخي استطلق بطنه، فقال‏:‏ ‏"‏ اسقه عسلاً ‏"‏ فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال‏:‏ سقيته عسلاً، فما زاده إلاّ استطلاقاً، قال ‏"‏ إذهب فاسقه عسلاً ‏"‏ فذهب فسقاه، ثم جاء فقال‏:‏ ما زاده إلاّ استطلاقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلاً ‏"‏، فذهب فسقاه عسلاً فبرأ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 74‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ‏(‏70‏)‏ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏71‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏73‏)‏ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه بعض أحوال الحيوان، وما فيها من عجائب الصنعة الباهرة، وخصائص القدرة القاهرة، أتبعه بعجائب خلق الإنسان، وما فيه من العبر فقال‏:‏ ‏{‏والله خَلَقَكُمْ‏}‏ ولم تكونوا شيئاً ‏{‏ثُمَّ يتوفاكم‏}‏ عند انقضاء آجالكم ‏{‏وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر‏}‏ يقال‏:‏ رذل يرذل رذالة، والأرذل والرذالة‏:‏ أردأ الشيء وأوضعه‏.‏ قال النيسابوري‏:‏ واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع‏:‏ أولاها سنّ النشوّ، وثانيها‏:‏ سنّ الوقوف، وهو سنّ الشباب، وثالثها‏:‏ سنّ الانحطاط اليسير، وهو سنّ الكهولة، ورابعها‏:‏ سنّ الانحطاط الظاهر، وهو سنّ الشيخوخة‏.‏ قيل‏:‏ وأرذل العمر هو عند أن يصير الإنسان إلى الخرف، وهو أن يصير بمنزلة الصبيّ الذي لا عقل له؛ وقيل‏:‏ خمس وسبعون سنة، وقيل‏:‏ تسعون سنة، ومثل هذه الآية قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4- 5‏]‏ ثم علل سبحانه ردّ من يرده إلى أرذل العمر بقوله‏:‏ ‏{‏لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ‏}‏ كان قد حصل له ‏{‏شَيْئاً‏}‏ من العلم، لا كثيراً ولا قليلاً، أو شيئاً من المعلومات إذا كان العلم هنا بمعنى المعلوم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ بالعلم هنا العقل، وقيل‏:‏ المراد لئلا يعلم زيادة على علمه الذي قد حصل له قبل ذلك‏.‏

ثم لما بين سبحانه خلق الإنسان وتقلبه في أطوار العمر، ذكر طرفاً من أحواله، لعله يتذكر عند ذلك، فقال‏:‏ ‏{‏والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِى الرزق‏}‏ فجعلكم متفاوتين فيه، فوسع على بعض عباده حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفاً مؤلفة من بني آدم، وضيقه على بعض عباده حتى صار لا يجد القوت إلاّ بسؤال الناس والتكفف لهم، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها، وكما جعل التفاوت بين عباده في المال، جعله بينهم في العقل والعلم والفهم وقوّة البدن وضعفه، والحسن والقبح، والصحة والسقم، وغير ذلك من الأحوال، وقيل‏:‏ معنى الآية‏:‏ أن الله سبحانه أعطى الموالي أفضل مما أعطى مماليكهم، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا الذين فُضّلُواْ بِرَآدّى رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أيمانهم‏}‏ أي‏:‏ فما الذين فضلهم الله بسعة الرزق على غيرهم برادّي رزقهم الذي رزقهم الله إياه على ما ملكت أيمانهم من المماليك ‏{‏فَهُمُ‏}‏ أي‏:‏ المالكون والمماليك ‏{‏فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ في الرزق ‏{‏سَوَآء‏}‏ أي‏:‏ لا يردّونه عليهم بحيث يساوونهم، فالفاء على هذا للدلالة على أن التساوي مترتب على الترادّ، أي‏:‏ لا يردّونه عليهم رداً مستتبعاً للتساوي، وإنما يردّون عليهم منه شيئاً يسيراً، وهذا مثل ضربه الله سبحانه بعبدة الأصنام، أي‏:‏ إذا لم يكونوا عبيدكم معكم سواء، ولا ترضون بذلك، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء‏.‏

والحال أن عبيدكم مساوون لكم في البشرية والمخلوقية، فلما لم تجعلوا عبيدكم مشاركين لكم في أموالكم، فكيف تجعلون بعض عباد الله سبحانه شركاء له فتعبدونهم معه‏؟‏ أو كيف تجعلون بعض مخلوقاته كالأصنام شركاء له في العبادة‏؟‏ ذكر معنى هذا ابن جرير، ومثل هذه الآية قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء فِيمَا رزقناكم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 28‏]‏ وقيل‏:‏ إن الفاء في ‏{‏فهم فيه سواء‏}‏ بمعنى حتى ‏{‏أَفَبِنِعْمَةِ الله تجحدون‏}‏ حيث تفعلون ما تفعلون من الشرك، والنعمة هي كونه سبحانه جعل المالكين مفضلين على المماليك‏.‏ وقد قرئ ‏{‏يجحدون‏}‏ بالتحتية والفوقية‏.‏ قال أبو عبيدة، وأبو حاتم‏:‏ وقراءة الغيبة أولى، لقرب المخبر عنه، ولأنه لو كان خطاباً، لكان ظاهره للمسلمين، والاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر، أي‏:‏ يشركون به، فيجحدون نعمته، ويكون المعنى على قراءة الخطاب أن المالكين ليسوا برادّي رزقهم على مماليكم، بل أنا الذي أرزقهم وإياهم، فلا يظنوا أنهم يعطونهم شيئاً، وإنما هو رزقي أجريه على أيديهم، وهم جميعاً في ذلك سواء، لا مزية لهم على مماليكهم، فيكون المعطوف عليه المقدّر فعلاً يناسب هذا المعنى، كأن يقال‏:‏ لا يفهمون ذلك فيجحدون نعمة الله‏.‏ ثم ذكر سبحانه الحالة الأخرى من أحوال الإنسان فقال‏:‏ ‏{‏والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا‏}‏ قال المفسرون‏:‏ يعني النساء فإنه خلق حوّاء من ضلع آدم‏.‏ أو المعنى‏:‏ خلق لكم من جنسكم أزواجاً لتستأنسوا بها، لأن الجنس يأنس إلى جنسه، ويستوحش من غير جنسه، وبسبب هذه الأنسة يقع بين الرجال والنساء ما هو سبب للنسل الذي هو المقصود بالزواج، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم بَنِينَ وَحَفَدَةً‏}‏ الحفدة‏:‏ جمع حافد، يقال‏:‏ حفد يحفد حفداً وحفوداً‏:‏ إذا أسرع، فكل من أسرع في الخدمة، فهو حافد، قال أبو عبيد‏:‏ الحفد‏:‏ العمل والخدمة‏.‏ قال الخليل بن أحمد‏:‏ الحفدة عند العرب‏:‏ الخدم، ومن ذلك قول الشاعر، وهو الأعشى‏:‏

كلفت مجهولنا نوقا يمانية *** إذ الحداة على أكتافها حفدوا

أي‏:‏ الخدم والأعوان‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ قيل‏:‏ الحفدة أولاد الأولاد‏.‏ وروي عن ابن عباس، وقيل‏:‏ الأختان‏.‏ قاله ابن مسعود، وعلقمة، وأبو الضحى، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، ومنه قول الشاعر‏:‏

فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت *** لها حفد مما تعدّ كثير

ولكنها نفس عليّ أبية *** عيوف لأصهار اللئام قذور

وقيل‏:‏ الحفدة الأصهار‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ الختن‏:‏ من كان من قبل المرأة، كابنها، وأخيها وما أشبههما‏.‏ والأصهار منهما جميعاً‏.‏ يقال‏:‏ أصهر فلان إلى بني فلان وصاهر‏.‏ وقيل‏:‏ هم أولاد امرأة الرجل من غيره‏.‏ وقيل‏:‏ الأولاد الذين يخدمونه‏.‏ وقيل‏:‏ البنات الخادمات لأبيهنّ‏.‏ ورجح كثير من العلماء أنهم أولاد الأولاد، لأنه سبحانه امتنّ على عباده بأن جعل لهم من الأزواج بنين وحفدة‏.‏

فالحفدة في الظاهر معطوفون على البنين، وإن كان يجوز أن يكون المعنى‏:‏ جعل لكم من أزواجكم بنين، وجعل لكم حفدة‏.‏ ولكن لا يمتنع على هذا المعنى الظاهر أن يراد بالبنين من لا يخدم، وبالحفدة من يخدم الأب منهم، أو يراد بالحفدة البنات فقط‏.‏ ولا يفيد أنهم أولاد الأولاد إلاّ إذا كان تقدير الآية‏:‏ وجعل لكم من أزواجكم بنين، ومن البنين حفدة‏.‏

‏{‏وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات‏}‏ التي تستطيبونها وتستلذونها، و«من» للتعبيض؛ لأن الطيبات لا تكون مجتمعة إلاّ في الجنة، ثم ختم سبحانه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏أفبالباطل يُؤْمِنُونَ‏}‏ والاستفهام للإنكار التوبيخي، والفاء للعطف على مقدّر، أي‏:‏ يكفرون بالله، فيؤمنون بالباطل، وفي تقدّم ‏{‏بالباطل‏}‏ على الفعل دلالة على أنه ليس لهم إيمان إلا به‏.‏ والباطل‏:‏ هو اعتقادهم في أصنامهم أنها تضر وتنفع‏.‏ وقيل‏:‏ الباطل ما زيّن لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة ونحوهما‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏يؤمنون‏}‏ بالتحتية، وقرأ أبو بكر بالفوقية على الخطاب ‏{‏وبنعمة الله هم يكفرون‏}‏ أي‏:‏ ما أنعم به عليهم مما لا يحيط به حصر‏.‏ وفي تقديم النعمة، وتوسيط ضمير الفصل دليل على أن كفرهم مختص بذلك، لا يتجاوزه لقصد المبالغة والتأكيد‏.‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ هو معطوف على ‏{‏يكفرون‏}‏ داخل تحت الإنكار التوبيخي، إنكاراً منه سبحانه عليهم حيث يعبدون الأصنام، وهي لا تنفع ولا تضرّ، ولهذا قال ‏{‏مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السموات والأرض شَيْئاً‏}‏ قال الأخفش‏:‏ إن ‏{‏شيئاً‏}‏ بدل من الرزق‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو منصوب بإيقاع الرزق عليه، فجعل ‏{‏رزقاً‏}‏ مصدراً عاملاً في ‏{‏شيئاً‏}‏، والأخفش جعله اسماً للرزق‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز أن يكون تأكيداً لقوله‏:‏ ‏{‏لا يملك‏}‏ أي‏:‏ لا يملك شيئاً من الملك، والمعنى‏:‏ أن هؤلاء الكفار يعبدون معبودات لا تملك لهم رزقاً، أيّ رزق، و‏{‏من السموات والأرض‏}‏ صفة لرزق، أي‏:‏ كائناً منهما، والضمير في ‏{‏وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ راجع إلى «ما»، وجمع جمع العقلاء بناءً على زعمهم الباطل، والفائدة في نفي الاستطاعة عنهم أن من لا يملك شيئاً قد يكون موصوفاً باستطاعة التملك بطريق من الطرق‏.‏ فبين سبحانه أنها لا تملك ولا تستطيع‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز أن يكون الضمير في ‏{‏يستطيعون‏}‏ للكفار، أي‏:‏ لا يستطيع هؤلاء الكفار، مع كونهم أحياء متصرّفين، فكيف بالجمادات التي لا حياة لها ولا تستطيع التصرّف‏؟‏

ثم نهاهم سبحانه عن أن يشبهوه بخلقه، فقال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال‏}‏ فإن ضارب المثل يشبه حالاً بحال وقصة بقصة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ لا تجعلوا لله مثلاً لأنه واحد لا مثل له، وكانوا يقولون‏:‏ إن إله العالم أجلّ من أن يعبده الواحد منا، فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فنهوا عن ذلك، وعلل النهي بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله‏}‏ عليم ‏{‏يَعْلَمْ‏}‏ ما عليكم من العبادة ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ما في عبادتها من سوء العاقبة، والتعرّض لعذاب الله سبحانه، أو أنتم لا تعلمون بشيء من ذلك، وفعلكم هذا هو عن توهم فاسد وخاطر باطل وخيال مختلّ، ويجوز أن يراد فلا تضربوا الله الأمثال إن الله يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك‏.‏

وقد أخرج ابن جرير عن عليّ في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر‏}‏ قال‏:‏ خمس وسبعون سنة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال‏:‏ هو الخرف‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال‏:‏ من قرأ القرآن، لم يرد إلى أرذل العمر، ثم قرأ ‏{‏لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس، قال‏:‏ العالم لا يخرف‏.‏ وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح وغيره أنه كان يتعوّذ بالله أن يردّ إلى أرذل العمر‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِى الرزق‏}‏ قال‏:‏ لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني‏؟‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال‏:‏ هذا مثل لآلهة الباطل مع الله‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا‏}‏ قال‏:‏ خلق آدم، ثم خلق زوجته منه‏.‏ وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، والبخاري في تاريخه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏بَنِينَ وَحَفَدَةً‏}‏ قال‏:‏ الحفدة‏:‏ الأختان‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال‏:‏ الحفدة‏:‏ الأصهار، وأخرجا عنه، قال‏:‏ الحفدة‏:‏ الولد وولد الولد‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ الحفدة بنو البنين‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي جمرة قال‏:‏ سئل ابن عباس عن قوله‏:‏ ‏{‏بَنِينَ وَحَفَدَةً‏}‏ قال‏:‏ من أعابك فقد حفدك، أما سمعت الشاعر يقول‏:‏

حفد الولائد حولهنّ وأسلمت *** بأكفهن أزمة الأجمال

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه أيضاً، قال‏:‏ الحفدة‏:‏ بنو امرأة الرجل، ليسوا منه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة ‏{‏أفبالباطل يُؤْمِنُونَ‏}‏ قال‏:‏ الشرك‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال‏:‏ هو الشيطان ‏{‏وبنعمة الله‏}‏ قال‏:‏ محمد‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ الآية، قال‏:‏ هذه الأوثان التي تعبد من دون الله لا تملك لمن يعبدها ‏{‏رِزْقًا مّنَ السموات والأرض‏}‏ ولا خيراً ولا حياة ولا نشوراً ‏{‏فَلاَ تَضْرِبُواْ لله الامثال‏}‏ فإنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال‏}‏ يعني‏:‏ اتخاذهم الأصنام‏.‏ يقول‏:‏ لا تجعلوا معي إلهاً غيري، فإنه لا إله غيري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 79‏]‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏76‏)‏ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏77‏)‏ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ الله مَثَلاً‏}‏ لما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إن الله يعلم‏}‏ أي‏:‏ بالمعلومات التي من جملتها كيف يضرب الأمثال، وأنتم لا تعلمون‏؟‏ علمهم سبحانه كيف تضرب الأمثال، فقال‏:‏ ‏{‏ضرب الله مثلاً‏}‏ أي‏:‏ ذكر شيئاً يستدلّ به على تباين الحال بين جناب الخالق سبحانه، وبين ما جعلوه شريكاً له من الأصنام‏.‏ ثم ذكر ذلك فقال‏:‏ ‏{‏عَبْدًا مَّمْلُوكًا‏}‏ والمثل في الحقيقة هي حالة للعبد عارضة له، وهي المملوكية والعجز عن التصرف، فقوله‏:‏ ‏{‏عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَئ‏}‏ تفسير للمثل وبدل منه، ووصفه بكونه مملوكاً؛ لأن العبد والحرّ مشتركان في كون كل واحد منهما عبد الله سبحانه‏.‏ ووصفه بكونه لا يقدر على شيء؛ لأن المكاتب والمأذون يقدران على بعض التصرفات‏.‏ فهذا الوصف لتمييزه عنهما ‏{‏وَمَن رَّزَقْنَاهُ‏}‏ ‏"‏ من ‏"‏ هي الموصولة، وهي معطوفة على ‏{‏عبداً‏}‏ أي‏:‏ والذي رزقناه ‏{‏مِنَّا‏}‏ أي‏:‏ من جهتنا ‏{‏رِزْقًا حَسَنًا‏}‏ من الأحرار الذين يملكون الأموال ويتصرفون بها كيف شاءوا، والمراد بكون الرزق حسناً‏:‏ أنه مما يحسن في عيون الناس، لكونه رزقاً كثيراً مشتملاً على أشياء مستحسنة نفيسة تروق الناظرين إليها‏.‏ والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ‏}‏ لترتيب الإنفاق على الرزق، أي‏:‏ ينفق منه في وجوه الخير ويصرف منه إلى أنواع البرّ والمعروف، وانتصاب ‏{‏سِرّا وَجَهْرًا‏}‏ على الحال، أي‏:‏ ينفق منه في حال السرّ وحال الجهر‏.‏ والمراد‏:‏ بيان عموم الإنفاق للأوقات، وتقديم السرّ على الجهر مشعر بفضيلته عليه، وأن الثواب فيه أكثر‏.‏ وقيل‏:‏ إن «من» في ‏{‏وَمَن رَّزَقْنَاهُ‏}‏ موصوفة، كأنه قيل‏:‏ وحرّاً رزقناه، ليطابق عبداً‏.‏

‏{‏هَلْ يَسْتَوُونَ‏}‏ أي‏:‏ الحرّ والعبد الموصوفان بالصفات المتقدّمة، وجمع الضمير لمكان من، لأنه اسم مبهم يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث‏.‏ وقيل‏:‏ إنه أريد بالعبد والموصول الذي هو عبارة عن الحرّ الجنس؛ أي من اتصف بتلك الأوصاف من الجنسين، والاستفهام للإنكار، أي‏:‏ هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بتلك الصفات مع كون كلا الفريقين مخلوقين لله سبحانه من جملة البشر، ومن المعلوم أنهم لا يستوون عندهم، فكيف يجعلون لله سبحانه شركاء لا يملكون لهم ضرّاً ولا نفعاً، ويجعلونهم مستحقين للعبادة مع الله سبحانه‏؟‏ وحاصل المعنى‏:‏ أنه كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجل حرّ قد رزقه الله رزقاً حسناً، فهو ينفق منه، كذلك لا يستوي الربّ الخالق الرازق، والجمادات من الأصنام التي تعبدونها، وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضرّ ولا تنفع‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالعبد المملوك في الآية‏:‏ هو الكافر المحروم من طاعة الله وعبوديته، والآخر‏:‏ هو المؤمن‏.‏ والغرض‏:‏ أنهما لا يستويان في الرتبة والشرف، وقيل‏:‏ العبد‏:‏ هو الصنم، والثاني‏:‏ عابد الصنم، والمراد‏:‏ أنهما لا يستويان في القدرة والتصرّف؛ لأن الأوّل جماد، والثاني إنسان‏.‏

‏{‏الحمد للَّهِ‏}‏ أي‏:‏ الحمد لله كله، لأنه المنعم، لا يستحق غيره من العباد شيئاً منه، فكيف تستحق الأصنام منه شيئاً ولا نعمة منها أصلاً لا بالأصالة ولا بالتوسط؛ وقيل‏:‏ أراد الحمد لله على ما أنعم به على أوليائه من نعمة التوحيد؛ وقيل‏:‏ أراد قل الحمد لله، والخطاب إما لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لمن رزقه الله رزقاً حسناً، وقيل‏:‏ إنه لما ذكر مثلاً مطابقاً للغرض كاشفاً عن المقصود، قال‏:‏ الحمد لله أي‏:‏ على قوّة هذه الحجة ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك حتى يعبدوا من تحقّ له العبادة، ويعرفوا المنعم عليهم بالنعم الجليلة، ونفي العلم عنهم إما لكونهم من الجهل بمنزلة لا يفهمون بسببها ما يجب عليهم، أو هم يتركون الحق عناداً مع علمهم به، فكانوا كمن لا علم له، وخصّ الأكثر بنفي العلم‏:‏ إما لكونه يريد الخلق جميعاً، وأكثرهم المشركون، أو ذكر الأكثر، وهو يريد الكلّ، أو المراد أكثر المشركين؛ لأن فيهم من يعلم ولا يعمل بموجب العلم‏.‏

ثم ذكر سبحانه مثلاً ثانياً ضربه لنفسه، ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية، وللأصنام التي هي أموات لا تضرّ ولا تنفع فقال‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ الله مَثَلاً‏}‏ أي‏:‏ مثلاً آخر أوضح مما قبله وأظهر منه، و‏{‏رَّجُلَيْنِ‏}‏ بدل من مثل وتفسير له، والأبكم العييّ المفحم‏.‏ وقيل‏:‏ هو الأقطع اللسان الذي لا يحسن الكلام، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه الذي لا يسمع ولا يبصر، ثمّ وصف الأبكم فقال‏:‏ ‏{‏لاَّ يَقْدِرُ على شَئ‏}‏ من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره لعدم فهمه، وعدم قدرته على النطق، ومعنى ‏{‏كَلٌّ على مَوْلاهُ‏}‏ ثقيل على وليه وقرابته وعيال على من يلي أمره ويعوله، ووبال على إخوانه، وقد يسمى اليتيم‏:‏ كلا؛ لثقله على من يكفله، ومنه قول الشاعر‏:‏

أكول لمال الكلّ قبل شبابه *** إذا كان عظم الكلّ غير شديد

وفي هذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته على شيء مطلقاً، ثم وصفه بصفة رابعة فقال‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا يُوَجّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ‏}‏ أي‏:‏ إذا وجهه إلى أيّ جهة لا يأت بخير قط؛ لأنه لا يفهم ولا يعقل ما يقال له ولا يمكنه أن يقول‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب «أينما يوجه» على البناء للمجهول، وقرأ ابن مسعود «أينما توجه» على صيغة الماضي ‏{‏هَلْ يَسْتَوِى هُوَ‏}‏ في نفسه مع هذه الأوصاف التي اتصف بها ‏{‏وَمَن يَأْمُرُ بالعدل‏}‏ أي‏:‏ يأمر الناس بالعدل مع كونه في نفسه ينطق بما يريد النطق به ويفهم‏.‏

ويقدر على التصرّف في الأشياء‏.‏ ‏{‏وَهُوَ‏}‏ في نفسه ‏{‏على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ على دين قويم، وسيرة صالحة ليس فيه ميل إلى أحد جانبي الإفراط والتفريط، قابل أوصاف الأوّل بهذين الوصفين المذكورين للآخر، لأن حاصل أوصاف الأوّل عدم استحقاقه لشيء، وحاصل وصفي هذا أنه مستحق أكمل استحقاق، والمقصود الاستدلال بعدم تساوي هذين المذكورين على امتناع التساوي بينه سبحانه وبين ما يجعلونه شريكاً له‏.‏ ولما فرغ سبحانه من ذكر المثلين، مدح نفسه بقوله‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض‏}‏ أي‏:‏ يختصّ ذلك به، لا يشاركه فيه غيره، ولا يستقل به، والمراد‏:‏ علم ما غاب عن العباد فيهما، أو أراد بغيبهما يوم القيامة، لأن علمه غائب عن العباد، ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما‏.‏ والمعنى‏:‏ التوبيخ للمشركين والتقريع لهم، أي‏:‏ أن العبادة إنما يستحقها من كانت هذه صفته لا من كان جاهلاً عاجزاً لا يضرّ ولا ينفع ولا يعلم بشيء من أنواع العلم ‏{‏وَمَا أَمْرُ الساعة‏}‏ التي هي أعظم ما وقعت فيه المماراة من الغيوب المختصة به سبحانه ‏{‏إِلاَّ كَلَمْحِ البصر‏}‏ اللمح‏:‏ النظر بسرعة، ولا بدّ فيه من زمان تتقلب فيه الحدقة نحو المرئي، وكل زمان قابل للتجزئة، ولذا قال‏:‏ ‏{‏أَوْ هُوَ‏}‏ أي‏:‏ أمرهما ‏{‏أَقْرَبُ‏}‏ وليس هذا من قبيل المبالغة، بل هو كلام في غاية الصدق، لأن مدّة ما بين الخطاب وقيام الساعة متناهية، ومنها إلى الأبد غير متناه، ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي‏.‏ أو يقال‏:‏ إن الساعة لما كانت آتية ولا بدّ جعلت من القرب كلمح البصر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها، لأنه يقول للشيء كن فيكون، وقيل‏:‏ المعنى هي عند الله كذلك وإن لم تكن عند المخلوقين بهذه الصفة‏.‏ ومثله قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 6- 7‏]‏‏.‏ ولفظ «أو» في ‏{‏أو هو أقرب‏}‏ ليس للشك، بل للتمثيل‏.‏ وقيل‏:‏ دخلت لشك المخاطب، وقيل‏:‏ هي بمنزلة بل ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ ومجيء الساعة بسرعة من جملة مقدوراته‏.‏

ثم إنه سبحانه ذكر حالة أخرى للإنسان دالة على غاية قدرته، ونهاية رأفته، فقال‏:‏ ‏{‏والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا‏}‏ وهذا معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا‏}‏ منتظم معه في سلك أدلة التوحيد، أي‏:‏ أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالاً لا علم لكم بشيء، وجملة ‏{‏لا تعلمون شيئاً‏}‏ في محل نصب على الحال، وقيل‏:‏ المراد‏:‏ لا تعلمون شيئاً مما أخذ عليكم من الميثاق‏.‏ وقيل‏:‏ لا تعلمون شيئاً مما قضي به عليكم من السعادة والشقاوة‏.‏ وقيل‏:‏ لا تعلمون شيئاً من منافعكم‏.‏ والأولى التعميم لتشمل الآية هذه الأمور وغيرها اعتباراً بعموم اللفظ، فإن ‏{‏شيئاً‏}‏ نكرة واقعة في سياق النفي‏.‏

وقرأ الأعمش، وابن وثاب، وحمزة «إمهاتكم» بكسر الهمزة والميم هنا، وفي النور، والزمر، والنجم‏.‏ وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم‏.‏ وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة‏}‏ أي‏:‏ ركب فيكم هذه الأشياء، وهو معطوف على ‏{‏أخرجكم‏}‏ وليس فيه دلالة على تأخير هذا الجعل عن الإخراج لما أن مدلول الواو هو مطلق الجمع‏.‏ والمعنى‏:‏ جعل لكم هذه الأشياء لتحصلوا بها العلم الذي كان مسلوباً عنكم عند إخراجكم من بطون أمهاتكم، وتعملوا بموجب ذلك العلم من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه، والأفئدة‏:‏ جمع فؤاد، وهو وسط القلب، منزل منه بمنزلة القلب من الصدر، وقد قدّمنا الوجه في إفراد السمع، وجمع الأبصار والأفئدة، وهو أن إفراد السمع لكونه مصدراً في الأصل يتناول القليل والكثير ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لكي تصرفوا كل آلة فيما خلقت له، فعند ذلك تعرفون مقدار ما أنعم الله به عليكم فتشكرونه، أو أن هذا الصرف هو نفس الشكر‏.‏

ثم ذكر سبحانه دليلاً آخر على كمال قدرته، فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مسخرات‏}‏ أي‏:‏ ألم ينظروا إليها حال كونها مسخرات أي‏:‏ مذللات للطيران بما خلق الله لها من الأجنحة، وسائر الأسباب المواتية لذلك، كرقة قوام الهواء وإلهامها بسط الجناح وقبضه، كما يفعل السابح في الماء ‏{‏فِى جَوّ السمآء‏}‏ أي‏:‏ في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو، وإضافته إلى السماء لكونه في جانبها ‏{‏مَا يُمْسِكُهُنَّ‏}‏ في الجوّ ‏{‏إِلاَّ الله‏}‏ سبحانه بقدرته الباهرة، فإن ثقل أجسامها، ورقة قوام الهواء يقتضيان سقوطها، لأنها لم تتعلق بشيء من فوقها، ولا اعتمدت على شيء تحتها‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش، وابن عامر، وحمزة، ويعقوب «ألم تروا» بالفوقية على الخطاب‏.‏ واختار هذه القراءة أبو عبيد‏.‏ وقرأ الباقون بالتحتية ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ إن في ذلك التسخير على تلك الصفة لآيات ظاهرات تدلّ على وحدانية الله سبحانه وقدرته الباهرة ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ بالله سبحانه، وبما جاءت به رسله من الشرائع التي شرعها الله‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا‏}‏ الآية قال‏:‏ يعني الكافر أنه لا يستطيع أن ينفق نفقة في سبيل الله ‏{‏وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا‏}‏ الآية، قال‏:‏ يعني‏:‏ المؤمن وهذا المثل في النفقة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم نحوه بأطول منه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية، وفي قوله‏:‏ ‏{‏مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ‏}‏ قال‏:‏ كل هذا مثل إله الحق وما تدعون من دونه الباطل‏.‏

وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال‏:‏ في المثل الأوّل، يعني بذلك‏:‏ الآلهة التي لا تملك ضرّاً ولا نفعاً، ولا تقدر على شيء ينفعها ‏{‏وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّا وَجَهْرًا‏}‏ قال‏:‏ علانية الذي ينفق سرّاً وجهراً لله‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وابن مردويه، وابن عساكر عنه، قال‏:‏ نزلت هذه الآية ‏{‏ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا‏}‏ في رجل من قريش، وعبدة بن هشام بن عمرو، وهو الذي ينفق سرّاً وجهراً، وفي عبدة أبي الجوزاء الذي كان ينهاه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ‏}‏ الآية قال‏:‏ يعني بالأبكم‏:‏ الذي هو كلّ على مولاه الكافر ‏{‏وَمَن يَأْمُرُ بالعدل‏}‏ المؤمن، وهذا المثل في الأعمال‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر عنه أيضاً قال‏:‏ نزلت هذه الآية ‏{‏وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ‏}‏ الآية في عثمان بن عفان ومولى له كافر، وهو أسيد بن أبي العيص كان يكره الإسلام، وكان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤنة، وكان الآخر ينهاه عن الصدقة والمعروف، فنزلت فيهما‏.‏ وأخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة، والبخاري في تاريخه، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والضياء في المختارة عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَأْمُرُ بالعدل‏}‏ قال‏:‏ عثمان بن عفان‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏كُلٌّ‏}‏ قال‏:‏ الكلّ‏:‏ العيال، كانوا إذا ارتحلوا حملوه على بعير ذلول، وجعلوا معه نفراً يمسكونه خشية أن يسقط عليهم، فهو عناء وعذاب وعيال عليهم ‏{‏هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل وَهُوَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ نفسه‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر‏}‏ هو أن يقول‏:‏ كن فهو كلمح البصر ‏{‏أَوْ هُوَ أَقْرَبُ‏}‏ فالساعة كلمح البصر أو هي أقرب‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله‏:‏ ‏{‏والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم‏}‏ قال‏:‏ من الرحم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏فِى جَوّ السمآء‏}‏ أي‏:‏ في كبد السماء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 83‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ‏(‏80‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏82‏)‏ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏والله جعل لكم‏}‏ معطوف على ما قبله‏.‏ وهذا المذكور من جملة أحوال الإنسان، ومن تعديد نعم الله عليه، والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع‏.‏ وهو بمعنى‏:‏ مسكون، أي‏:‏ تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة‏.‏ وهذه نعمة، فإن الله سبحانه لو شاء لخلق العبد مضطرباً دائماً كالأفلاك، ولو شاء لخلقه ساكناً أبداً كالأرض ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا‏}‏ لما ذكر سبحانه بيوت المدن، وهي التي للإقامة الطويلة، عقبها بذكر بيوت البادية والرحلة، أي‏:‏ جعل لكم من جلود الأنعام، وهي الأنطاع والأدم بيوتاً كالخيام والقباب ‏{‏تَسْتَخِفُّونَهَا‏}‏ أي‏:‏ يخفّ عليكم حملها في الأسفار وغيرها، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ ظَعْنِكُمْ‏}‏ والظعن بفتح العين وسكونها، وقرئ بهما‏:‏ سير أهل البادية للانتجاع والتحوّل من موضع إلى موضع، ومنه قول عنترة‏:‏

ظعن الذين فراقهم أتوقع *** وجرى ببيتهم الغراب الأبقع

والظعن الهودج أيضاً ‏{‏وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أثاثا‏}‏ معطوف على ‏{‏جعل‏}‏ أي‏:‏ وجعل لكم من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها‏.‏ والأنعام‏:‏ تعمّ الإبل والبقر والغنم كما تقدّم‏.‏ والأصواف‏:‏ للغنم، والأوبار‏:‏ للإبل، والأشعار‏:‏ للمعز، وهي من جملة الغنم، فيكون ذكر هذه الثلاثة على وجه التنويع كل واحد منها لواحد من الثلاثة، أعني‏:‏ الإبل، ونوعي الغنم، والأثاث متاع البيت، وأصله الكثرة والاجتماع، ومنه شعر أثيث، أي‏:‏ كثير مجتمع، قال الشاعر‏:‏

وفرع يزين المتن أسود فاحم *** أثيث كقنو النخلة المتعثكل

قال الخليل أثاثاً، أي‏:‏ منضماً بعضه إلى بعض، من أثّ إذا أكثر، قال الفراء‏:‏ لا واحد له، والمتاع‏:‏ ما يتمتع به بأنواع التمتع، وعلى قول أبي زيد الأنصاري‏:‏ إن الأثاث المال أجمع‏:‏ الإبل والغنم والعبيد والمتاع، يكون عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام، وقيل‏:‏ إن الأثاث ما يكتسي به الإنسان ويستعمله من الغطاء والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به، ومعنى ‏{‏إلى حِينٍ‏}‏ إلى أن تقضوا أوطاركم منه، أو إلى أن يبلى ويفنى، أو إلى الموت، أو إلى القيامة‏.‏

ثم لما كان الإنسان قد لا يكون له خيام، أو أبنية يستظل بها لفقر، أو لعارض آخر، فيحتاج إلى أن يستظلّ بشجر أو جدار أو غمام أو نحو ذلك، نبه سبحانه على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمُ مّمَّا خَلَقَ ظلالا‏}‏ أي‏:‏ أشياء تستظلون بها كالأشياء المذكورة، والحاصل‏:‏ أن الظلال تعم الأشياء التي تظلّ‏.‏ ثم لما كان المسافر قد يحتاج إلى ركن يأوي إليه في نزوله، وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحرّ والبرد، نبه سبحانه على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا‏}‏ وهي جمع كنّ‏:‏ وهو ما يستكنّ به من المطر، وهي هنا الغيران في الجبال، جعلها الله سبحانه عدّة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها، ويعتزلون عن الخلق فيها ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ‏}‏ جمع سربال، وهي‏:‏ القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها‏.‏

قال الزجاج‏:‏ كل ما لبسته فهو سربال‏.‏ ومعنى ‏{‏تَقِيكُمُ الحر‏}‏ تدفع عنكم ضرر الحرّ، وخصّ الحرّ ولم يذكر البرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر، لأن ما وقى من الحرّ وقى من البرد‏.‏ ووجه تخصيص الحرّ بالذكر أن الوقاية منه كانت أهمّ عندهم من الوقاية من البرد لغلبة الحرّ في بلادهم ‏{‏وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ‏}‏ وهي الدروع والجواشن، يتقون بها الطعن والضرب والرمي‏.‏ والمعنى‏:‏ أنها تقيهم البأس الذي يصل من بعضهم إلى بعض في الحرب‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الإتمام البالغ يتمّ نعمته عليكم، فإنه سبحانه قد منّ على عباده بصنوف النعم المذكورة ها هنا وبغيرها، وهو بفضله وإحسانه سيتمّ لهم نعمة الدين والدنيا‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ‏}‏ إرادة أن تسلموا، فإن من أمعن النظر في هذه النعم لم يسعه إلاّ الإسلام والانقياد للحق‏.‏ وقرأ ابن محيصن، وحميد «تتم نعمته» بتاءين فوقيتين، على أن فاعله نعمته، وقرأ الباقون بالتحتية على أن الفاعل هو الله سبحانه‏.‏ وقرأ ابن عباس، وعكرمة «تسلمون» بفتح التاء واللام من السلامة من الجراح، وقرأ الباقون بضم التاء وكسر اللام من الإسلام‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ والاختيار قراءة العامة، لأن ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب لأهل مكة أي‏:‏ لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية، والأولى الحمل على العموم، وإفراد النعمة هنا لأن المراد بها المصدر‏.‏

‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين‏}‏ أي‏:‏ إن تولوا عنك ولم يقبلوا ما جئت به، فقد تمهد عذرك، فإنما عليك البلاغ لما أرسلت به إليهم ‏{‏المبين‏}‏ أي‏:‏ الواضح، وليس عليك غير ذلك، وصرف الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له‏.‏

وجملة ‏{‏يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا‏}‏ استئناف لبيان توليهم، أي‏:‏ هم يعرفون نعمة الله التي عدّدها، ويعترفون بأنها من عند الله سبحانه، ثم ينكرونها بما يقع من أفعالهم القبيحة من عبادة غير الله وبأقوالهم الباطلة، حيث يقولون‏:‏ هي من الله ولكنها بشفاعة الأصنام‏.‏ وحيث يقولون‏:‏ إنهم ورثوا تلك النعم من آبائهم، وأيضاً كونهم لا يستعملون هذه النعم في مرضاة الربّ سبحانه، وفي وجوه الخير التي أمرهم الله بصرفها فيها‏.‏ وقيل‏:‏ نعمة الله نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونه، ثم ينكرون نبوّته ‏{‏وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون‏}‏ أي‏:‏ الجاحدون لنعم الله، أو الكافرون بالله‏.‏ وعبر هنا بالأكثر عن الكلّ، أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم، أو أراد كفر الجحود، ولم يكن كفر كلهم كذلك، بل كان كفر بعضهم كفر جهل، وكفر بعضهم بسبب تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم مع اعترافهم بالله وعدم الجحد لربوبيته، ومثل هذه الآية قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد ‏{‏سكنا‏}‏ قال‏:‏ تسكنون فيها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي نحوه قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا‏}‏ وهي خيام العرب ‏{‏تَسْتَخِفُّونَهَا‏}‏ يقول‏:‏ في الحمل ‏{‏ومتاعا‏}‏ يقول بلاغاً ‏{‏إلى حِينٍ‏}‏ قال‏:‏ إلى الموت‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ بعض بيوت السيارة بنيانه في ساعة، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْبَارِهَا‏}‏ قال‏:‏ الإبل ‏{‏وَأَشْعَارِهَا‏}‏ قال‏:‏ الغنم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏أَثَاثاً‏}‏ قال‏:‏ الأثاث المتاع‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال‏:‏ الأثاث المال ‏{‏ومتاعا إلى حِينٍ‏}‏ يقول‏:‏ تنتفعون به إلى حين‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏والله جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظلالا‏}‏ قال‏:‏ من الشجر ومن غيرها ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا‏}‏ قال‏:‏ غارات يسكن فيها ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر‏}‏ قال‏:‏ من القطن والكتان والصوف ‏{‏وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ‏}‏ من الحديد ‏{‏كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ‏}‏ ولذلك هذه السورة تسمى سورة النعم‏.‏ وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر‏}‏ قال‏:‏ يعني‏:‏ الثياب، ‏{‏وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ‏}‏ قال‏:‏ يعني‏:‏ الدروع والسلاح ‏{‏كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ من الجراحات، وكان ابن عباس يقرؤها «تسلمون» كما قدّمنا، وإسناده ضعيف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 90‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏84‏)‏ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏86‏)‏ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏87‏)‏ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ‏(‏88‏)‏ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏89‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

لما بين سبحانه من حال هؤلاء أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها، وأن أكثرهم كافرون، أتبعه بأصناف وعيد يوم القيامة، فقال‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا‏}‏ أي‏:‏ واذكر يوم نبعث، أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه، وشهيد كل أمة نبيها، يشهد لهم بالإيمان والتصديق، وعليهم بالكفر والجحود والتكذيب ‏{‏ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ أي‏:‏ في الاعتذار، إذ لا حجة لهم ولا عذر، كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 36‏]‏ أو في كثرة الكلام، أو في الرجوع إلى دار الدنيا، وإيراد «ثم» ها هنا للدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع عن الاعتذار المنبيء عن الإقناط الكلي أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء ‏{‏وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ‏}‏ لأن العتاب إنما يطلب لأجل العود إلى الرضا، فإذا كان على عزم السخط، فلا فائدة في العتاب‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم لا يسترضون أي‏:‏ لا يكلفون أن يرضوا ربهم، لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون، وأصل الكلمة من العتب وهو الموجد، يقال‏:‏ عتب عليه يعتب إذا وجد عليه، فإذا أفاض عليه ما عتب فيه عليه قيل‏:‏ عاتبه، فإذا رجع إلى مسرّته قيل‏:‏ أعتبه، والاسم العتبى، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب قاله الهروي، ومنه قول النابغة‏:‏

فإن كنت مظلوماً فعبداً ظلمته *** وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب

‏{‏وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب‏}‏ أي‏:‏ وإذا رأى الذين أشركوا العذاب الذي يستحقونه بشركهم، وهو عذاب جهنم ‏{‏فَلاَ يُخَفَّفُ‏}‏ ذلك العذاب ‏{‏عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ولا هم يمهلون ليتوبوا، إذ لا توبة هنالك ‏{‏وَإِذَا رَءا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها، لما تقرّر من أنهم يبعثون مع المشركين ليقال لهم «من كان يعبد شيئاً فليتبعه»، كما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ‏}‏ أي‏:‏ الذين كنا نعبدهم من دونك‏.‏ قال أبو مسلم الأصفهاني‏:‏ مقصود المشركين بهذا القول إحالة الذنب على تلك الأصنام تعللاً بذلك، واسترواحاً، مع كونهم يعلمون أن العذاب واقع بهم لا محالة، ولكن الغريق يتعلق بكل ما تقع يده عليه‏.‏ ‏{‏فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول‏}‏ أي‏:‏ ألقى أولئك الأصنام والأوثان والشياطين ونحوهم إلى المشركين القول ‏{‏إِنَّكُمْ لكاذبون‏}‏ أي قالوا لهم‏:‏ إنكم أيها المشركون لكاذبون فيما تزعمون من إحالة الذنب علينا الذي هو مقصودكم من هذا القول‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن المشركين أشاروا إلى الأصنام ونحوها أن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك، وقد كانوا صادقين في ذلك، فكيف كذبتهم الأصنام ونحوها‏؟‏ فالجواب بأن مرادهم من قولهم ‏{‏هؤلاء شركاؤنا‏}‏ هؤلاء شركاء الله في المعبودية، فكذبتهم الأصنام في دعوى هذه الشركة‏.‏

والأصنام والأوثان وإن كانت لا تقدر على النطق، فإن الله سبحانه ينطقها في تلك الحال، لتخجيل المشركين وتوبيخهم، وهذا كما قالت الملائكة ‏{‏بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 41‏]‏‏.‏ يعنون‏:‏ أن الجنّ هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لهم‏.‏

‏{‏وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم‏}‏ أي‏:‏ ألقى المشركون يوم القيامة الاستسلام والانقياد لعذابه، والخضوع لعزته‏.‏ وقيل‏:‏ استسلم العابد والمعبود وانقادوا لحكمه فيهم ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ضاع وبطل ما كانوا يفترونه من أن لله سبحانه شركاء وما كانوا يزعمون من شفاعتهم لهم، وأن عبادتهم لهم تقرّبهم إلى الله سبحانه‏.‏

‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ في أنفسهم ‏{‏وَصُدُّواْ‏}‏ غيرهم ‏{‏عَن سَبِيلِ الله‏}‏ أي‏:‏ عن طريق الحق، وهي‏:‏ طريق الإسلام والإيمان بأن منعوهم من سلوكها وحملوهم على الكفر‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالصدّ عن سبيل الله‏:‏ الصدّ عن المسجد الحرام‏.‏ والأولى العموم‏.‏ ثم أخبر عن هؤلاء الذين صنعوا هذا الصنع بقوله‏:‏ ‏{‏زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب‏}‏ أي‏:‏ زادهم الله عذاباً لأجل الإضلال لغيرهم فوق العذاب الذي استحقوه لأجل ضلالهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ زدنا القادة عذاباً فوق عذاب أتباعهم، أي‏:‏ أشد منه‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذه الزيادة هي إخراجهم من النار إلى الزمهرير، وقيل غير ذلك‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ نبياً يشهد عليهم ‏{‏مّنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ من جنسهم، إتماماً للحجة وقطعاً للمعذرة، وهذا تكرير لما سبق لقصد التأكيد والتهديد ‏{‏وَجِئْنَا بِكَ‏}‏ يا محمد ‏{‏شَهِيدًا على هَؤُلآء‏}‏ أي‏:‏ تشهد على هذه الأمم وتشهد لهم‏.‏ وقيل‏:‏ على أمتك، وقد تقدّم مثل هذا في البقرة والنساء ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب‏}‏ أي‏:‏ القرآن‏.‏ والجملة مستأنفة أو في محل نصب على الحال بتقدير قد ‏{‏تِبْيَانًا لّكُلّ شَئ‏}‏ أي‏:‏ بياناً له، والتاء‏:‏ للمبالغة، ونظيره من المصادر التلقاء، ولم يأت غيرهما‏.‏ ومثل هذه الآية قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَئ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏‏.‏ ومعنى كونه ‏{‏تبياناً لكلّ شيء‏}‏ أن فيه البيان لكثير من الأحكام، والإحالة فيما بقي منها على السنة، وأمرهم باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يأتي به من الأحكام، وطاعته كما في الآيات القرآنية الدالة على ذلك‏.‏ وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إني أوتيت القرآن ومثله معه» ‏{‏وهدى‏}‏ للعباد ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ لهم ‏{‏وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ‏}‏ خاصة دون غيرهم، أو يكون الهدى والرحمة والبشرى خاصة بهم؛ لأنهم المنتفعون بذلك‏.‏

ثم لما ذكر سبحانه أن في القرآن تبيان كل شيء ذكر عقبة آية جامعة لأصول التكليف كلها تصديقاً لذلك، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان‏}‏‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في تفسير العدل والإحسان؛ فقيل‏:‏ العدل لا إله إلاّ الله، والإحسان‏:‏ أداء الفرائض‏.‏ وقيل‏:‏ العدل الفرض‏.‏ والإحسان‏:‏ النافلة‏.‏ وقيل‏:‏ العدل‏:‏ استواء العلانية والسريرة، والإحسان‏.‏ أن تكون السريرة أفضل من العلانية‏.‏ وقيل‏:‏ العدل‏:‏ الإنصاف، والإحسان‏:‏ التفضل، والأولى‏:‏ تفسير العدل بالمعنى اللغوي، وهو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط‏.‏ فمعنى أمره سبحانه بالعدل‏:‏ أن يكون عباده في الدين على حالة متوسطة، ليست بمائلة إلى جانب الإفراط، وهو الغلوّ المذموم في الدين، ولا إلى جانب التفريط، وهو الإخلال بشيء مما هو من الدين‏.‏ وأما الإحسان فمعناه اللغوي يرشد إلى أنه التفضل بما لم يجب، كصدقة التطوّع، ومن الإحسان فعل ما يثاب عليه العبد مما لم يوجبه الله عليه في العبادات وغيرها‏.‏ وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فسر الإحسان بأن يعبد الله العبد حتى كأنه يراه، فقال في حديث ابن عمر الثابت في الصحيحين‏:‏ «والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وهذا هو معنى الإحسان شرعاً‏.‏

‏{‏وَإِيتَآء ذِى القربى‏}‏ أي‏:‏ إعطاء القرابة ما تدعو إليه حاجتهم‏.‏ وفي الآية إرشاد إلى صلة الأقارب وترغيب في التصدق عليهم‏.‏ وهو من باب عطف الخاص على العام، إن كان إعطاء الأقارب قد دخل تحت العدل والإحسان‏.‏ وقيل‏:‏ من باب عطف المندوب على الواجب‏.‏ ومثل هذه الآية قوله‏:‏ ‏{‏وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وإنما خصّ ذوي القربى لأن حقهم آكد، فإن الرحم قد اشتق الله اسمها من اسمه، وجعل صلتها من صلته، وقطيعتها من قطيعته‏.‏

‏{‏وينهى عَنِ الفحشاء‏}‏ هي الخصلة المتزايدة في القبح من قول أو فعل‏.‏ وقيل‏:‏ هي الزنا‏.‏ وقيل‏:‏ البخل ‏{‏والمنكر‏}‏ ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعمّ جميع المعاصي على اختلاف أنواعها‏.‏ وقيل‏:‏ هو الشرك وأما ‏{‏البغى‏}‏ فقيل‏:‏ هو الكبر، وقيل‏:‏ الظلم‏.‏ وقيل‏:‏ الحقد، وقيل‏:‏ التعدّي، وحقيقته تجاوز الحدّ فيشمل هذه المذكورة، ويندرج بجميع أقسامه تحت المنكر‏.‏ وإنما خصّ بالذكر اهتماماً به لشدّة ضرره ووبال عاقبته‏.‏ وهو من الذنوب التي ترجع على فاعلها لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 23‏]‏، وهذه الآية هي من الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر‏.‏ ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يعظكم بما ذكره في هذه الآية مما أمركم به ونهاكم عنه‏.‏ فإنها كافية في باب الوعظ والتذكير، ‏{‏لعلكم تذكرون‏}‏ إرادة أن تتذكروا ما ينبغي تذكره، فتتعظوا بما وعظكم الله به‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا‏}‏ قال‏:‏ شهيدها نبيّها على أنه قد بلغ رسالات ربه، قال الله ‏{‏وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا على هَؤُلآء‏}‏ قال‏:‏ ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية، فاضت عيناه‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول‏}‏ قال‏:‏ حدّثوهم‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج ‏{‏وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم‏}‏ قال‏:‏ استسلموا‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وهناد بن السرّي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث والنشور، عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب‏}‏ قال‏:‏ زيدوا عقارب لها أنياب كالنخل الطوال‏.‏ وأخرج ابن مردويه والخطيب عن البراء‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب‏}‏، فقال‏:‏ ‏"‏ عقارب أمثال النخل الطوال ينهشونهم في جهنم ‏"‏ وأخرج أبو يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب‏}‏ أنهار من نار صبها الله عليهم يعذبون ببعضها بالليل، وببعضها بالنهار، وقد روى ابن مردويه من حديث جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ الزيادة خمسة أنهار تجري من تحت العرش على رءوس أهل النار، ثلاثة أنهار على مقدار الليل، ونهران على مقدار النهار فذلك قوله‏:‏ ‏{‏زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب‏}‏ ‏"‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود، قال‏:‏ إن الله أنزل في هذا الكتاب تبياناً لكل شيء، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن، ثم قرأ ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَئ‏}‏‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن الضريس في فضائل القرآن، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة، والطبراني، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود، قال‏:‏ من أراد العلم، فليثور القرآن، فإن فيه علم الأوّلين والآخرين‏.‏

وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص، قال‏:‏ «كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، إذ شخص بصره فقال‏:‏ ‏"‏ أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان‏}‏ الآية ‏"‏ وفي إسناده شهر بن حوشب‏.‏ وقال ابن كثير في تفسيره‏:‏ إسناده لا بأس به‏.‏ وقد أخرجه مطوّلاً أحمد، والبخاري في الأدب، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه من حديث ابن عباس‏.‏ وحسن ابن كثير إسناده‏.‏ وأخرج الماوردي، وابن السكن، وابن منده، وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير، أن هذه الآية لما بلغت أكثم بن صيفي، حكيم العرب قال‏:‏ إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، ثم قال لقومه‏:‏ كونوا في هذا الأمر رؤوساً، ولا تكونوا فيه أذناباً، وكونوا فيه أوّلاً ولا تكونوا فيه آخراً‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل‏}‏ قال‏:‏ شهادة أن لا إله إلاّ الله‏.‏ ‏{‏والإحسان‏}‏ أداء الفرائض ‏{‏وَإِيتَآء ذِى القربى‏}‏ قال‏:‏ إعطاء ذوي الأرحام الحق الذي أوجبه الله عليك بسبب القرابة والرحم‏.‏ ‏{‏وينهى عَنِ الفحشاء‏}‏ قال‏:‏ الزنا ‏{‏والمنكر‏}‏ قال‏:‏ الشرك ‏{‏والبغى‏}‏ قال‏:‏ الكبر والظلم ‏{‏يَعِظُكُمُ‏}‏ قال‏:‏ يوصيكم ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب، ومحمد بن نصر في الصلاة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب قال‏:‏ أعظم آية في كتاب الله ‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏ وأكثر آية في كتاب الله تفويضاً ‏{‏وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2- 3‏]‏‏.‏ وأشدّ آية في كتاب الله رجاء‏:‏ ‏{‏ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ الآية‏.‏ وأخرج البيهقي في الشعب عن الحسن أنه قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى آخرها، ثم قال‏:‏ إن الله عزّ وجلّ جمع لكم الخير كله، والشرّ كله، في آية واحدة، فوالله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئاً إلاّ جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئاً إلاّ جمعه‏.‏ وأخرج البخاري في تاريخه من طريق الكلبي عن أبيه قال‏:‏ مرّ عليّ بن أبي طالب بقوم يتحدثون، فقال‏:‏ فيم أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ نتذاكر المروءة‏.‏ فقال‏:‏ أو ما كفاكم الله عزّ وجلّ ذلك في كتابه، إذ يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان‏}‏ فالعدل‏:‏ الإنصاف، والإحسان‏:‏ التفضل، فما بقي بعد هذا‏!‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 96‏]‏

‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏91‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏92‏)‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏ وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏94‏)‏ وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏95‏)‏ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

خصّ سبحانه من جملة المأمورات التي تضمنها قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل‏}‏ الوفاء بالعهد، فقال‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عاهدتم‏}‏ وظاهره العموم في كل عهد يقع من الإنسان من غير فرق بين عهد البيعة وغيره‏.‏ وخصّ هذا العهد المذكور في هذه الآية بعض المفسرين بالعهد الكائن في بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وهو خلاف ما يفيده العهد المضاف إلى اسم الله سبحانه من العموم الشامل لجميع عهود الله‏.‏ ولو فرض أن السبب خاص بعهد من العهود، لم يكن ذلك موجباً لقصره على السبب، فالاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، وفسره بعضهم باليمين، وهو مدفوع بذكر الوفاء بالأَيمان بعده حيث قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا‏}‏ أي‏:‏ بعد تشديدها وتغليظها وتوثيقها، وليس المراد اختصاص النهي عن النقض بالأَيمان المؤكدة، لا بغيرها مما لا تأكيد فيه‏.‏ فإن تحريم النقض يتناول الجميع، ولكن في نقض اليمين المؤكدة من الإثم فوق الإثم الذي في نقض ما لم يوكد منها‏.‏ يقال‏:‏ وكد وأكد توكيداً وتأكيداً، وهما لغتان‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الأصل الواو، والهمزة بدل منها، وهذا العموم مخصوص بما ثبت في الأحاديث الصحيحة من قوله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه»، حتى بالغ في ذلك صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها، إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني وهذه الألفاظ ثابتة في الصحيحين وغيرهما، ويخصّ أيضاً من هذا العموم يمين اللغو، لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 225‏]‏ ويمكن أن يكون التقييد بالتوكيد هنا لإخراج أيمان اللغو‏.‏ وقد تقدّم بسط الكلام على الأَيمان في البقرة‏.‏ ‏{‏وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً‏}‏ أي‏:‏ شهيداً‏.‏ وقيل‏:‏ حافظاً‏.‏ وقيل‏:‏ ضامناً‏.‏ وقيل‏:‏ رقيباً؛ لأن الكفيل يراعي حال المكفول به‏.‏ وقيل‏:‏ إن توكيد اليمين هو حلف الإنسان على الشيء الواحد مراراً‏.‏ وحكى القرطبي عن ابن عمر‏:‏ أن التوكيد هو أن يحلف مرتين، فإن حلف واحدة فلا كفارة عليه ‏{‏إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ فيجازيكم بحسب ذلك، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ، وفيه ترغيب وترهيب‏.‏

ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض، فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا‏}‏ أي لا تكونوا فيما تصنعون من النقض، بعد التوكيد كالتي نقضت غزلها، أي‏:‏ ما غزلته ‏{‏مِن بَعْدِ قُوَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ من بعد إبرام الغزل وإحكامه، وهو متعلق ب ‏{‏نقضت‏}‏ ‏{‏أنكاثا‏}‏ جمع نكث بكسر النون، ما ينكث فتله‏.‏ قال الزجاج‏:‏ انتصب ‏{‏أنكاثاً‏}‏ على المصدر؛ لأن معنى نقضت‏:‏ نكثت‏.‏

وردّ بأن ‏{‏أنكاثاً‏}‏ ليس بمصدر، وإنما هو جمع كما ذكرنا‏.‏ وقال الواحدي‏:‏ هو منصوب على أنه مفعول ثانٍ كما تقول كسرته أقطاعاً وأجزاء، أي‏:‏ جعلته أقطاعاً وأجزاء‏.‏ ويحتمل أن يكون حالاً‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ هذه الآية متعلقة بما قبلها، والتقدير‏:‏ وأوفوا بعهد الله ولا تنقضوا الأَيمان، فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته ثم جعلته أنكاثاً‏.‏

وجملة ‏{‏تَتَّخِذُونَ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ‏}‏ في محل نصب على الحال‏.‏ قال الجوهري‏:‏ والدخل‏:‏ المكر والخديعة، وقال أبو عبيدة‏:‏ كلّ أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل، وقيل‏:‏ الدخل ما أدخل في الشيء على فساده‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ غشاً وغلاً ‏{‏أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ بأن تكون جماعة هي أربى من جماعة، أي‏:‏ أكثر عدداً منها وأوفر مالاً‏.‏ يقال‏:‏ ربا الشيء يربو إذا كثر، قال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم، أو لقلتكم وكثرتهم، وقد عزرتموهم بالأَيمان‏.‏ قيل‏:‏ وقد كانت قريش إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم، نقضوا عهدهم وحالفوا أعداءهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو تحذير للمؤمنين أن يغترّوا بكثرة قريش وسعة أموالهم فينقضوا بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ‏}‏ أي‏:‏ يختبركم بكونكم أكثر وأوفر، لينظر هل تتمسكون بحبل الوفاء، أم تنقضون اغتراراً بالكثرة‏؟‏ فالضمير في ‏{‏به‏}‏ راجع إلى مضمون جملة‏:‏ ‏{‏أن تكون أمة هي أربى من أمة‏}‏ أي‏:‏ إنما يبلوكم الله بتلك الكثرة، ليعلم ما تصنعون، أو إنما يبلوكم الله بما يأمركم وينهاكم‏.‏ ‏{‏وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏ فيوضح الحق والمحقين، ويرفع درجاتهم، ويبين الباطل والمبطلين، فينزل بهم من العذاب ما يستحقونه‏.‏ وفي هذا إنذار وتحذير من مخالفة الحق والركون إلى الباطل‏.‏ أو يبين لكم ما كنتم تختلفون فيه من البعث والجنة والنار‏.‏ ثم بيّن سبحانه أنه قادر على أن يجمع المؤمنين والكافرين على الوفاء أو على الإيمان فقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة‏}‏ متفقة على الحق ‏{‏ولكن‏}‏ بحكم الإلهية ‏{‏يُضِلُّ مَن يَشَاء‏}‏ بخذلانه إياهم عدلاً منه فيهم ‏{‏وَيَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ بتوفيقه إياهم فضلاً منه عليهم ‏{‏لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولتسألن عما كنتم تعملون‏}‏ من الأعمال في الدنيا، واللام في ‏{‏وليبيننّ لكم‏}‏ وفي ‏{‏ولتسألنّ‏}‏ هما الموطئتان للقسم‏.‏

ثم لما نهاهم سبحانه عن نقض مطلق الأيمان، نهاهم عن نقض أيمان مخصوصة، فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّخِذُواْ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ‏}‏ وهي أيمان البيعة‏.‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقض العهد على الإسلام ونصرة الدين‏.‏ واستدلوا على هذا التخصيص بما في قوله‏:‏ ‏{‏فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا‏}‏ من المبالغة، وبما في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَذُوقُواْ السوء بِمَا صَدَدتُّمْ‏}‏ لأنهم إذا نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صدّوا غيرهم عن الدخول في الإسلام‏.‏

وعلى تسليم أن هذه الأيمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هي سبب نزول هذه الآية، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب‏.‏ وقال جماعة من المفسرين‏:‏ إن هذا تكرير لما قبله، لقصد التأكيد والتقرير‏.‏ ومعنى ‏{‏فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا‏}‏ فتزلّ قدم من اتخذ يمينه دخلاً عن محجة الحق ‏{‏بعد ثبوتها‏}‏ عليها ورسوخها فيها‏.‏ قيل‏:‏ وأفرد القدم للإيذان بأن زلل قدم واحد، أيّ قدم كانت عزّت أو هانت محذور عظيم، فكيف بأقدام كثيرة‏؟‏ وهذا استعارة للمستقيم الحال، يقع في شرّ عظيم ويسقط فيه، لأن القدم إذا زلت، نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شرّ‏.‏ ويقال لمن أخطأ في شيء‏:‏ زلت به قدمه، ومنه قول الشاعر‏:‏

تداركتما عبساً وقد ثلّ عرشها *** وذبيان قد زلت بأقدامها النعل

‏{‏وَتَذُوقُواْ السوء بِمَا صَدَدتُّمْ‏}‏ أي‏:‏ تذوقوا العذاب السيء في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما بما صددتم ‏{‏عَن سَبِيلِ الله‏}‏ أي‏:‏ بسبب صدودكم أنتم عن سبيل الله، وهو الإسلام، أو بسبب صدّكم لغيركم عن الإسلام، فإن من نقض البيعة وارتدّ، اقتدى به غيره في ذلك، فكان فعله سنّة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ متبالغ في العظم، وهو عذاب الآخرة إن كان المراد بما قبله عذاب الدنيا‏.‏

ثم نهاهم سبحانه عن الميل إلى عرض الدنيا والرجوع عن العهد لأجله فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ أي‏:‏ لا تأخذوا في مقابلة عهدكم عوضاً يسيراً حقيراً‏.‏ وكل عرض دنيوي وإن كان في الصورة كثيراً، فهو لكونه ذاهباً زائلاً يسير، ولهذا ذكر سبحانه بعد تقليل عرض الدنيا خيرية ما عند الله فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا عِنْدَ الله هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما عنده من النصر في الدنيا والغنائم والرزق الواسع، وما عنده في الآخرية من نعيم الجنة الذي لا يزول ولا ينقطع هو خير لهم‏.‏ ثم علل النهي عن أن يشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً، وأن ما عند الله هو خير لهم بقوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ إن كنتم من أهل العلم والتمييز بين الأشياء‏.‏

ثم ذكر دليلاً قاطعاً على حقارة عرض الدنيا وخيرية ما عند الله فقال‏:‏ ‏{‏مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ‏}‏ ومعلوم لكل عاقل أن ما ينفد ويزول وإن بلغ في الكثرة إلى أي مبلغ فهو حقير يسير، وما كان يبقى ولا يزول فهو كثير جليل‏.‏ أما نعيم الآخرة فظاهر، وأما نعيم الدنيا الذي أنعم الله به على المؤمنين فهو وإن كان زائلاً، لكنه لما كان متصلاً بنعيم الآخرة، كان من هذه الحيثية في حكم الباقي الذي لا ينقطع، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ اللام هي الموطئة، أي‏:‏ لنجزينهم بسبب صبرهم على ما نالهم من مشاقّ التكليف وجهاد الكافرين والصبر على ما ينالهم منهم من الإيذاء بأحسن ما كانوا يعملون من الطاعات‏.‏

قيل‏:‏ وإنما خصّ أحسن أعمالهم؛ لأن ما عداه وهو الحسن مباح، والجزاء إنما يكون على الطاعة، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ولنجزينهم بجزاء أشرف وأوفر من عملهم، كقوله‏:‏ ‏{‏مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏، أو لنجزينهم بحسب أحسن أفراد أعمالهم على معنى لنعطينهم بمقابلة الفرد الأعلى من أعمالهم المذكورة ما نعطيهم بمقابلة الفرد الأعلى منها من الجزاء الجزيل، لا أنا نعطي الأجر بحسب أفرادها المتفاوتة في مراتب الحسن بأن نجزي الحسن منها بالأجر الحسن، والأحسن بالأحسن، كذا قيل‏.‏ قرأ عاصم وابن كثير ‏{‏لنجزين‏}‏ بالنون‏.‏ وقرأ الباقون بالياء التحتية‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن مزيدة بن جابر في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عاهدتم‏}‏ قال‏:‏ أنزلت هذه الآية في بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنّ من أسلم بايع على الإسلام، فقال‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، فلا يحملنكم قلة محمد وأصحابه، وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا‏}‏ يقول‏:‏ بعد تغليظها‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه‏.‏

وأخرج ابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، أن سعيدة الأسدية كانت تجمع الشعر والليف، فنزلت فيها هذه الآية ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص مثله‏.‏ وفي الروايتين جميعاً أنها كانت مجنونة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدّي في سبب نزول الآية، قال‏:‏ كانت امرأة بمكة تسمى خرقاء مكة كانت تغزل فإذا أبرمت غزلها نقضته‏.‏ وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن كثير معناه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ‏}‏ قال‏:‏ ناس أكثر من ناس‏.‏ وأخرجوا عن مجاهد في الآية قال‏:‏ كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعزّ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ، فنهوا عن ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 105‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏97‏)‏ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏98‏)‏ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏99‏)‏ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ‏(‏100‏)‏ وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏102‏)‏ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏103‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏104‏)‏ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

هذا شروع في ترغيب كل مؤمن في كل عمل صالح، وتعميم للوعد‏.‏ ومعنى ‏{‏مَّنْ عَمِلَ صالحا‏}‏ من عمل عملاً صالحاً أي‏:‏ عمل كان‏.‏ وزيادة التمييز بذكر أو أنثى مع كون لفظ ‏{‏من‏}‏ شاملاً لهما لقصد التأكيد والمبالغة في تقرير الوعد‏.‏ وقيل‏:‏ إن لفظ ‏{‏من‏}‏ ظاهر في الذكور، فكان في التنصيص على الذكر والأنثى بيان لشموله للنوعين، وجملة ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ في محل نصب على الحال، جعل سبحانه الإيمان قيداً في الجزاء المذكور؛ لأن عمل الكافر لا اعتداد به، لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏‏.‏

ثم ذكر سبحانه الجزاء لمن عمل ذلك العمل الصالح فقال‏:‏ ‏{‏فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً‏}‏ وقد وقع الخلاف في الحياة الطيبة بماذا تكون‏؟‏ فقيل‏:‏ بالرزق الحلال، روي ذلك عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك‏.‏ وقيل‏:‏ بالقناعة، قاله الحسن البصري، وزيد بن وهب، ووهب بن منبه‏.‏ وروي أيضاً عن عليّ وابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ بالتوفيق إلى الطاعة، قاله الضحاك‏.‏ وقيل‏:‏ الحياة الطيبة‏:‏ هي حياة الجنة‏.‏ روي عن مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏ وحكي عن الحسن أنه قال‏:‏ لا تطيب الحياة لأحد إلاّ في الجنة، وقيل‏:‏ الحياة الطيبة‏.‏ هي السعادة‏.‏ روي ذلك عن ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ هي المعرفة بالله، حكي ذلك عن جعفر الصادق‏.‏ وقال أبو بكر الوراق‏:‏ هي حلاوة الطاعة‏.‏ وقال سهل بن عبد الله التستري‏:‏ هي أن ينزع عن العبد تدبير نفسه، ويردّ تدبيره إلى الحق‏.‏ وقيل‏:‏ هي الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق‏.‏ وأكثر المفسرين على أن هذه الحياة الطيبة هي في الدنيا، لا في الآخرة؛ لأن حياة الآخرة قد ذكرت بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ وقد قدّمنا قريباً تفسير الجزاء بالأحسن‏.‏ ووحد الضمير في «لنحيينه» وجمعه في ‏{‏ولنجزينهم‏}‏ حملاً على لفظ ‏{‏من‏}‏ وعلى معناه‏.‏

ثم لما ذكر سبحانه العمل الصالح والجزاء عليه أتبعه بذكر الاستعاذة التي تخلص بها الأعمال الصالحة عن الوساوس الشيطانية، فقال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم‏}‏ والفاء لترتيب الاستعاذة على العمل الصالح، وقيل‏:‏ هذه الآية متصلة بقوله‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَئ‏}‏ والتقدير‏:‏ فإذا أخذت في قراءته، فاستعذ‏.‏ قال الزجاج وغيره من أئمة اللغة‏:‏ معناه‏:‏ إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ‏:‏ وليس معناه‏:‏ أستعذ بعد أن تقرأ القرآن، ومثله‏:‏ إذا أكلت فقل‏:‏ بسم الله‏.‏ قال الواحدي‏:‏ وهذا إجماع الفقهاء أن الاستعاذة قبل القراءة، إلاّ ما روي عن أبي هريرة، وابن سيرين، وداود، ومالك، وحمزة من القراء، فإنهم قالوا‏:‏ الاستعاذة بعد القراءة، ذهبوا إلى ظاهر الآية، ومعنى ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ اسأله سبحانه أن يعيذك من الشيطان الرجيم، أي‏:‏ من وساوسه‏.‏

وتخصيص قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لسائر الأعمال الصالحة عند إرادتها أهمّ؛ لأنه إذا وقع الأمر بها عند قراءة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كانت عند إرادة غيره أولى، كذا قيل‏.‏ وتوجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للإشعار بأن غيره أولى منه بفعل الاستعاذة؛ لأنه إذا أمر بها لدفع وساوس الشيطان مع عصمته، فكيف بسائر أمته‏؟‏ وقد ذهب الجمهور إلى أن الأمر في الآية للندب‏.‏ وروي عن عطاء الوجوب أخذاً بظاهر الأمر‏.‏ وقد تقدّم الكلام في الاستعاذة مستوفى في أوّل هذا التفسير‏.‏

والضمير في ‏{‏إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ‏}‏ للشأن أو للشيطان، أي‏:‏ ليس له تسلط «على» إغواء ‏{‏الذين ءامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ وحكى الواحدي عن جميع المفسرين أنهم فسروا السلطان بالحجة‏.‏ وقالوا‏:‏ المعنى‏:‏ ليس له حجة على المؤمنين في إغوائهم ودعائهم إلى الضلالة‏.‏ ومعنى ‏{‏وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ يفوّضون أمورهم إليه في كل قول وفعل‏.‏ فإن الإيمان بالله والتوكل عليه يمنعان الشيطان من وسوسته لهم، وإن وسوس لأحد منهم، لا تؤثر فيه وسوسته‏.‏ وهذه الجملة تعليل للأمر بالاستعاذة، وهؤلاء الجامعون بين الإيمان والتوكل هم الذين قال فيهم إبليس‏:‏ ‏{‏إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 40‏]‏ وقال الله فيهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏‏.‏

ثم حصر سبحانه سلطان الشيطان، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا سلطانه‏}‏ أي‏:‏ تسلطه على الإغواء ‏{‏على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ‏}‏ أي‏:‏ يتخذونه ولياً ويطيعونه في وساوسه ‏{‏والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ‏}‏ الضمير في ‏{‏به‏}‏ يرجع إلى الله تعالى، أي‏:‏ الذين هم بالله مشركون‏.‏ وقيل‏:‏ يرجع إلى الشيطان‏.‏ والمعنى‏:‏ والذين هم من أجله وبسبب وسوسته مشركون بالله‏.‏

‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ‏}‏ هذا شروع منه سبحانه في حكاية شبه كفرية ودفعها‏.‏ ومعنى التبديل‏:‏ رفع الشيء مع وضع غيره مكانه‏.‏ وتبديل الآية رفعها بأخرى غيرها، وهو نسخها بآية سواها‏.‏ وقد تقدّم الكلام في النسخ في البقرة ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي‏:‏ كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ‏}‏ يا محمد ‏{‏مُفْتَرٍ‏}‏ أي‏:‏ كاذب مختلق على الله، متقوّل عليه بما لم يقل، حيث تزعم أنه أمرك بشيء‏.‏ ثم تزعم أنه أمرك بخلافه، فردّ الله سبحانه عليهم بما يفيد جهلهم، فقال‏:‏ ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ شيئاً من العلم أصلاً، أو لا يعلمون بالحكمة في النسخ، فإنه مبنيّ على المصالح التي يعلمها الله سبحانه، فقد يكون في شرع هذا الشيء مصلحة مؤقتة بوقت، ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره، ولو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة، لعرفوا أن ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق واللطف‏.‏

ثم بين سبحانه لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ، الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله، وأن رسوله افتراه فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ‏}‏ أي‏:‏ القرآن المدلول عليه بذكر الآية‏.‏ ‏{‏رُوحُ القدس‏}‏ أي‏:‏ جبريل، والقدس‏:‏ التطهير‏.‏ والمعنى‏:‏ نزله الروح المطهر من أدناس البشرية، فهو من إضافة موصوف إلى الصفة ‏{‏مِن رَبّكَ‏}‏ أي‏:‏ ابتداء تنزيله من عنده سبحانه، و‏{‏بالحق‏}‏ في محل نصب على الحال، أي‏:‏ متلبساً بكونه حقاً ثابتاً لحكمة بالغة ‏{‏لِيُثَبّتَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ على الإيمان، فيقولون‏:‏ كلّ من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا؛ ولأنهم أيضاً إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتت أقدامهم على الإيمان ورسخت عقائدهم‏.‏ وقرئ ‏{‏ليثبت‏}‏ من الإثبات ‏{‏وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ‏}‏ وهما معطوفان على محل ‏{‏ليثبت‏}‏ أي‏:‏ تثبيتاً لهم وهداية وبشارة، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم‏.‏

ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبههم فقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ‏}‏ اللام هي الموطئة، أي‏:‏ ولقد نعلم أن هؤلاء الكفار يقولون‏:‏ إنما يعلم محمداً القرآن بشر من بني آدم غير ملك‏.‏ وقد اختلف أهل العلم في تعيين هذا البشر الذي زعموا عليه ما زعموا، فقيل‏:‏ هو غلام الفاكه بن المغيرة، واسمه جبر، وكان نصرانياً فأسلم، وكان كفار قريش إذا سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم أخبار القرون الأولى مع كونه أمياً، قالوا‏:‏ إنما يعلمه جبر، وقيل‏:‏ اسمه يعيش، عبد لبني الحضرميّ، وكان يقرأ الكتب الأعجمية‏.‏ وقيل‏:‏ غلام لبني عامر بن لؤيّ، وقيل‏:‏ هما غلامان‏:‏ اسم أحدهما يسار، واسم الآخر جبر، وكانا صيقليين يعملان السيوف، وكانا يقرآن كتاباً لهم‏.‏ وقيل‏:‏ كانا يقرآن التوراة والإنجيل‏.‏ وقيل‏:‏ هو سلمان الفارسي‏.‏ وقيل‏:‏ عنوا نصرانياً بمكة اسمه بلعام، وكان يقرأ التوراة‏.‏ وقيل‏:‏ عنوا رجلاً نصرانياً كان اسمه أبا ميسرة يتكلم بالرومية، وفي رواية اسمه عداس‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذه الأقوال غير متناقضة، لأنه يجوز أنهم زعموا أنهم جميعاً يعلمونه، ولكن لا يمكن الجمع باعتبار قول من قال‏:‏ إنه سلمان، لأن هذه الآية مكية، وهو إنما أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة‏.‏

ثم أجاب سبحانه عن قولهم هذا فقال‏:‏ ‏{‏لّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ‏}‏ الإلحاد‏:‏ الميل، يقال‏:‏ لحد وألحد أي‏:‏ مال عن القصد‏.‏ وقد تقدّم في الأعراف‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «يلحدون» بفتح الياء والحاء‏.‏ وقرأ من عداهما بضم الياء وكسر الحاء، أي‏:‏ لسان الذين يميلون إليه ويزعمون أنه يعلمك أعجميّ، يقال‏:‏ رجل أعجم وإمرأة عجماء، أي‏:‏ لا يفصحان، والعجمة‏:‏ الإخفاء، وهي ضدّ البيان‏.‏ والعرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بها أعجمياً‏.‏ قال الفراء‏:‏ الأعجم‏:‏ الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب، والأعجميّ‏:‏ هو العجمي الذي أصله من العجم‏.‏

وقال أبو علي الفارسي‏:‏ العجمي المنسوب إلى العجم الذي لا يفصح، سواء كان من العرب أو من العجم، وكذلك الأعجم‏.‏ والأعجمي‏:‏ المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً‏.‏ ‏{‏وهذا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ‏}‏ الإشارة إلى القرآن، وسماه لساناً لأن العرب تقول للقصيدة والبيت‏:‏ لساناً، ومنه قول الشاعر‏:‏

لسان الشر تهديها إلينا *** وخنت وما حسبتك أن تخونا

أو أراد باللسان‏:‏ البلاغة، فكأنه قال‏:‏ وهذا القرآن ذو بلاغة عربية وبيان واضح، فكيف تزعمون أن بشراً يعلمه من العجم‏؟‏ وقد عجزتم أنتم عن معارضة سورة منه، وأنتم أهل اللسان العربي ورجال الفصاحة، وقادة البلاغة، وهاتان الجملتان مستأنفتان سيقتا لإبطال طعنهم ودفع كذبهم‏.‏

ولما ذكر سبحانه جوابهم، وبخهم وهددّهم فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله‏}‏ أي‏:‏ لا يصدّقون بها ‏{‏لاَ يَهْدِيهِمُ الله‏}‏ إلى الحق الذي هو سبيل النجاة، هداية موصلة إلى المطلوب لما علم من شقاوتهم ‏{‏وَلَهُمْ فِى الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ بسبب ما هم عليه من الكفر والتكذيب بآيات الله‏.‏

ثم لما وقع منهم نسبة الافتراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَفْتَرِى الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله‏}‏ فكيف يقع الافتراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رأس المؤمنين بها، والداعين إلى الإيمان بها‏.‏ وهؤلاء الكفار هم الذين لا يؤمنون بها، فهم المفترون للكذب‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ إنما يفتري الكذب الذين إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلاّ الله كذبوا بها هؤلاء أكذب الكذبة، ثم سماهم الكاذبين‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَأُوْلئِكَ‏}‏ أي‏:‏ المتصفون بذلك ‏{‏هُمُ الكاذبون‏}‏ أي‏:‏ إن الكذب نعت لازم لهم وعادة من عادتهم فهم الكاملون في الكذب، إذ لا كذب أعظم من تكذيبهم بآيات الله‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد ابن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، أنه سئل عن الحياة الطيبة‏:‏ المذكورة في الآية فقال‏:‏ الحياة الطيبة الرزق الحلال في هذه الحياة الدنيا، وإذا صار إلى ربه، جازاه بأحسن ما كان يعمل‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ الكسب الطيب، والعمل الصالح‏.‏ وأخرج العسكري في الأمثال عن عليّ في الآية قال‏:‏ القناعة‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس قال‏:‏ القنوع، قال‏:‏ «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الّلهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه، واخلف عليّ كل غائبة لي بخير»‏.‏ وأخرج أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه عن ابن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه ‏"‏

وأخرج الترمذي، والنسائي من حديث فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «قد أفلح من هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافاً وقنع به» وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر عن عطاء قال‏:‏ الاستعاذة واجبة لكل قراءة في الصلاة وغيرها من أجل قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم‏}‏‏.‏ وقد ورد في مشروعية الاستعاذة عند التلاوة ما لعلنا قد قدّمنا ذكره‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ‏}‏ يقول‏:‏ سلطان الشيطان على من تولى الشيطان وعمل بمعصية الله‏.‏

وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن مردويه، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ‏}‏ قال‏:‏ عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله أن يقتل يوم الفتح، فاستجار له عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاره‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ‏}‏ قال‏:‏ هو كقوله‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه قال السيوطي‏:‏ بسندٍ ضعيف عن ابن عباس، قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم بمكة قينا اسمه بلعام، وكان أعجمياً، فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا‏:‏ إنما يعلمه بلعام، فأنزل الله ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان عنه في الآية، قال‏:‏ قالوا إنما يعلم محمداً عبد بن الحضرمي وهو صاحب الكتب، فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وأخرج آدم بن أبي إياس، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن عبد الله ابن مسلم الحضرمي قال‏:‏ كان لنا عبدان من أهل عين التمر، يقال لأحدهما‏:‏ يسار‏.‏ والآخر‏:‏ جبر، وكان يصنعان السيوف بمكة، وكانا يقرآن الإنجيل، فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن فيقف ويستمع، فقال المشركون‏:‏ إنما يتعلم منهما، فنزلت هذه الآية‏.‏