فصل: تفسير الآيات رقم (94- 100)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 100‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏94‏)‏ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ‏(‏95‏)‏ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏96‏)‏ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ‏(‏97‏)‏ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏98‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏99‏)‏ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ‏(‏100‏)‏‏}‏

حكى سبحانه عنهم شبهة أخرى قد تكرر في الكتاب العزيز التعرّض لإيرادها وردّها في غير موضع فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ‏}‏ المراد‏:‏ الناس على العموم، وقيل‏:‏ المراد‏:‏ أهل مكة على الخصوص أي‏:‏ ما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وهو المفعول الثاني لمنع، ومعنى ‏{‏إِذْ جَاءهُمُ الهدى‏}‏‏:‏ أنه جاءهم الوحي من الله سبحانه على رسوله، وبيّن ذلك لهم وأرشدهم إليه، وهو ظرف ل ‏{‏منع‏}‏ أو ‏{‏يؤمنوا‏}‏ أي‏:‏ ما منعهم وقت مجيء الهدى أن يؤمنوا بالقرآن والنبوّة ‏{‏إِلاَّ أَن قَالُواْ‏}‏ أي‏:‏ ما منعهم إلاّ قولهم، فهو في محل رفع على أنه فاعل منع، والهمزة في ‏{‏أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً‏}‏ للإنكار منهم أن يكون الرسول بشراً، والمعنى‏:‏ أن هذا الاعتقاد الشامل لهم، وهو إنكار أن يكون الرسول من جنس البشر، هو الذي منعهم عن الإيمان بالكتاب وبالرسول، وعبّر عنه بالقول للإشعار بأنه ليس إلاّ مجرد قول قالوه بأفواههم‏.‏ ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن شبهتهم هذه فقال‏:‏ ‏{‏قُل لَوْ كَانَ فِى الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ‏}‏ أي‏:‏ لو وجد وثبت أن في الأرض بدل من فيها من البشر، ملائكة يمشون على الأقدام كما يمشي الإنس مطمئنين مستقرين فيها ساكنين بها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ‏{‏مطمئنين‏}‏‏:‏ مستوطنين في الأرض، ومعنى الطمأنينة‏:‏ السكون، فالمراد ها هنا‏:‏ المقام والاستيطان، فإنه يقال‏:‏ سكن البلد فلان‏:‏ إذا أقام فيها وإن كان ماشياً متقلباً في حاجاته ‏{‏لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً‏}‏ حتى يكون من جنسهم، وفيه إعلام من الله سبحانه بأن الرسل ينبغي أن تكون من جنس المرسل إليهم، فكأنه سبحانه اعتبر في تنزيل الرسول من جنس الملائكة أمرين‏:‏ الأوّل‏:‏ كون سكان الأرض ملائكة، والثاني‏:‏ كونهم ماشين على الأقدام غير قادرين على الطيران بأجنحتهم إلى السماء، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لطاروا إليها، وسمعوا من أهلها ما يجب معرفته وسماعه فلا يكون في بعثة الملائكة إليهم فائدة‏.‏ وانتصاب ‏{‏بشراً‏}‏ و‏{‏ملكاً‏}‏ على أنهما مفعولان للفعلين، و‏{‏رسولاً‏}‏ في الموضعين وصف لهما‏.‏ وجوّز صاحب الكشاف أن يكونا حالين في الموضعين من ‏{‏رسولاً‏}‏ فيهما وقوّاه صاحب الكشاف، ولعل وجه ذلك أن الإنكار يتوجه إلى الرسول المتصف بالبشرية في الموضع الأوّل، فيلزم بحكم التقابل أن يكون الآخر كذلك‏.‏ ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ أي قل لهم يا محمد من جهتك‏:‏ كفى بالله وحده شهيداً على إبلاغي إليكم ما أمرني به من أمور الرسالة، وقال‏:‏ ‏{‏بيني وبينكم‏}‏ ولم يقل‏:‏ بيننا؛ تحقيقاً للمفارقة الكلية، وقيل‏:‏ إن إظهار المعجزة على وفق دعوى النبيّ شهادة من الله له على الصدق، ثم علّل كونه سبحانه شهيداً كافياً بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ عالماً بجميع أحوالهم محيطاً بظواهرها وبواطنها بصيراً بما كان منها وما يكون‏.‏

ثم بيّن سبحانه أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته فقال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى‏}‏ أي‏:‏ من يرد الله هدايته فهو المهتدي إلى الحق أو إلى كل مطلوب ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ‏}‏ أي‏:‏ يرد إضلاله ‏{‏فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء‏}‏ ينصرونهم ‏{‏مِن دُونِهِ‏}‏ يعني‏:‏ الله سبحانه، ويهدونهم إلى الحق الذي أضلهم الله عنه أو إلى طريق النجاة، وقوله‏:‏ ‏{‏فَهُوَ المهتدى‏}‏ حملاً على لفظ «من»، وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَن تَجِدَ لَهُمْ‏}‏ حملاً على المعنى، والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَن تَجِدَ‏}‏ إما للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له ‏{‏وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ‏}‏ هذا الحشر على الوجوه فيه وجهان للمفسرين‏:‏ الأوّل‏:‏ أنه عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم، من قول العرب‏:‏ قد مرّ القوم على وجوههم‏:‏ إذا أسرعوا‏.‏ الثاني‏:‏ أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم حقيقة كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في إهانته وتعذيبه، وهذا هو الصحيح، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 48‏]‏‏.‏ ولما صح في السنة كما سيأتي، ومحل ‏{‏على وجوههم‏}‏ النصب على الحال من ضمير المفعول‏.‏ و‏{‏عُمْيًا‏}‏ منتصب على الحال ‏{‏وَبُكْمًا وَصُمّا‏}‏ معطوفان عليه، والأبكم‏:‏ الذي لا ينطق، والأصمّ‏:‏ الذي لا يسمع، وهذه هيئة يبعثون عليها في أقبح صورة، وأشنع منظر، قد جمع الله لهم بين عمى البصر وعدم النطق وعدم السمع مع كونهم مسحوبين على وجوههم، ثم من وراء ذلك ‏{‏مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ‏}‏ أي‏:‏ المكان الذي يأوون إليه، والجملة في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة لا محل لها ‏{‏كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا‏}‏ أي‏:‏ كلما سكن لهبها، يقال‏:‏ خبت النار تخبو خبواً‏:‏ إذا خمدت وسكن لهبها‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ومعنى ‏{‏زدناهم سعيراً‏}‏‏:‏ تسعراً، وهو التلهب‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن في خبوّ النار تخفيفاً لعذاب أهلها، فكيف يجمع بينه وبين قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 162‏]‏‏؟‏ وأجيب بأن المراد بعدم التخفيف‏:‏ أنه لا يتخلل زمان محسوس بين الخبوّ والتسعر، وقيل‏:‏ إنها تخبو من غير تخفيف عنهم من عذابها‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ العذاب ‏{‏جَزَآؤُهُمْ‏}‏ الذي أوجبه الله لهم واستحقوه عنده، والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بأنهم كفروا بآياتنا‏}‏ للسببية أي‏:‏ بسبب كفرهم بها فلم يصدّقوا بالآيات التنزيلية، ولا تفكّروا في الآيات التكوينية، واسم الإشارة مبتدأ وخبره ‏{‏جزاؤهم‏}‏، و‏{‏بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ‏}‏ خبر آخر، ويجوز أن يكون ‏{‏جزاؤهم‏}‏ مبتدأً ثانياً، وخبره ما بعده، والجملة خبر المبتدأ الأوّل‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا‏}‏ الهمزة للإنكار، وقد تقدم تفسير الآية في هذه السورة، و‏{‏خلقاً‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً‏}‏ مصدر من غير لفظه أو حال أي‏:‏ مخلوقين، فجاء سبحانه بحجة تدفعهم عن الإنكار وتردّهم عن الجحود‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذى خَلَقَ السموات والأرض *قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ من هو قادر على خلق هذا، فهو على إعادة ما هو أدون منه أقدر، وقيل‏:‏ المراد أنه قادر على إفنائهم وإيجاد غيرهم، وعلى القول الأوّل يكون الخلق بمعنى الإعادة، وعلى هذا القول هو على حقيقته، وجملة‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ عطف على ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ‏}‏، والمعنى‏:‏ قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السموات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم، لأنهم ليسوا بأشدّ خلقاً منهنّ كما قال‏:‏ ‏{‏أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 27‏]‏‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ وهو الموت أو القيامة، ويحتمل أن تكون الواو للاستئناف، وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، أي‏:‏ أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم ‏{‏فأبى الظالمون إَلاَّ كُفُورًا‏}‏ أي‏:‏ أبى المشركون إلاّ جحوداً، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر للحكم عليهم بالظلم ومجاوزة الحدّ‏.‏ ثم لما وقع من هؤلاء الكفار طلب إجراء الأنهار والعيون في أراضيهم لتتسع معايشهم، بيّن الله سبحانه أنهم لا يقنعون، بل يبقون على بخلهم وشحهم فقال‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى‏}‏‏:‏ ‏{‏أنتم‏}‏ مرتفع على أنه فاعل فعل محذوف يفسره ما بعده، أي‏:‏ لو تملكون أنتم تملكون على أن الضمير المنفصل مبدل من الضمير المتصل وهو الواو، وخزائن رحمته سبحانه‏:‏ هي خزائن الأرزاق‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أعلمهم الله أنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لأمسكوا شحاً وبخلاً، وهو خشية الإنفاق، أي‏:‏ خشية أن ينفقوا فيفتقروا، وفي حذف الفعل الذي ارتفع به أنتم، وإيراد الكلام في صورة المبتدأ والخبر دلالة على أنهم هم المختصون بالشحّ‏.‏ قال أهل اللغة‏:‏ أنفق وأصرم وأعدم وأقتر بمعنى‏:‏ قلّ ماله، فيكون المعنى‏:‏ لأمسكتم خشية قلّ المال ‏{‏وَكَانَ الإنسان قَتُورًا‏}‏ أي‏:‏ بخيلاً مضيقاً عليه‏.‏ يقال‏:‏ قتر على عياله يقتر ويقتر قتراً وقتوراً‏:‏ ضيق عليهم في النفقة، ويجوز أن يراد‏:‏ وكان الإنسان قتوراً أي‏:‏ قليل المال، والظاهر‏:‏ أن المراد‏:‏ المبالغة في وصفه بالشح، لأن الإنسان ليس بقليل المال على العموم‏.‏ بل بعضهم كثير المال، إلاّ أن يراد أن جميع النوع الإنساني قليل المال بالنسبة إلى خزائن الله وما عنده‏.‏ وقداختلف في هذه الآية على قولين‏:‏ أحدهما أنها نزلت في المشركين خاصة، وبه قال الحسن، والثاني‏:‏ أنها عامة وهو قول الجمهور، حكاه الماوردي‏.‏

وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال؛ قيل يا رسول الله‏:‏ كيف يحشر الناس على وجوههم قال‏:‏

«الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم» وأخرج أبو داود، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي هريرة‏.‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف‏:‏ صنف مشاة، وصنف ركباناً، وصنف على وجوههم»، ثم ذكر نحو حديث أنس‏.‏ وفي الباب أحاديث‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ‏}‏ قال‏:‏ يعني‏:‏ أنهم وقودها‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عنه في قوله‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا خَبَتْ‏}‏ قال‏:‏ سكنت‏.‏ وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ كلما أحرقهم سعرتهم حطباً، فإذا أحرقتهم فلم يبق منهم شيء صارت جمراً تتوهج فذلك خبوها، فإذا بدّلوا خلقاً جديداً عاودتهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله‏:‏ ‏{‏خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى‏}‏ قال‏:‏ الرزق‏.‏ وأخرج أيضاً عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق‏}‏ قال‏:‏ إذا ما أطعمتم أحداً شيئاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏خَشْيَةَ الإنفاق‏}‏ قال‏:‏ الفقر ‏{‏وَكَانَ الإنسان قَتُورًا‏}‏ قال‏:‏ بخيلاً‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة ‏{‏خَشْيَةَ الإنفاق‏}‏ قال‏:‏ خشية الفاقة ‏{‏وَكَانَ الإنسان قَتُورًا‏}‏ قال‏:‏ بخيلاً ممسكاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 109‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ‏(‏101‏)‏ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ‏(‏102‏)‏ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ‏(‏103‏)‏ وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ‏(‏104‏)‏ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏105‏)‏ وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ‏(‏106‏)‏ قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ‏(‏107‏)‏ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ‏(‏108‏)‏ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات‏}‏ أي‏:‏ علامات دالة على نبوّته، قيل‏:‏ ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن المعجزات المذكورة كأنها مساوية لتلك الأمور التي اقترحها كفار قريش، بل أقوى منها، فليس عدم الاستجابة لما طلبوه من الآيات إلاّ لعدم المصلحة في استئصالهم إن لم يؤمنوا بها‏.‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ الآيات التسع‏:‏ هي الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، والسنين، ونقص الثمرات‏.‏ وجعل الحسن مكان السنين ونقص الثمرات البحر والجبل‏.‏ وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ هي الخمس التي في الأعراف، والبحر، والعصا، والحجر، والطمس على أموالهم‏.‏ وقد تقدم الكلام على هذه الآيات مستوفى، وسيأتي حديث صفوان بن عسال في تعداد هذه الآيات التسع‏.‏ ‏{‏فاسأل بَنِى إسراءيل‏}‏ قرأ ابن عباس وابن نهيك ‏(‏فسأل‏)‏ على الخبر، أي‏:‏ سأل موسى فرعون أن يخلي بني إسرائيل ويطلق سبيلهم ويرسلهم معه، وقرأ الآخرون ‏{‏فاسأل‏}‏ على الأمر أي‏:‏ سلهم يا محمد حين ‏{‏جَاءهُمُ‏}‏ موسى، والسؤال سؤال استشهاد لمزيد الطمأنينية والإيقان، لأن الأدلة إذا تظافرت كان ذلك أقوى، والمسئولون‏:‏ مؤمنو بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه ‏{‏فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنّى لأظُنُّكَ ياموسى مَّسْحُورًا‏}‏ الفاء هي الفصيحة، أي‏:‏ فأظهر موسى عند فرعون ما آتيناه من الآيات البينات وبلغه ما أرسل به فقال له فرعون‏.‏ المسحور‏:‏ الذي سحر فخولط عقله‏.‏ وقال أبو عبيدة والفراء‏:‏ هو بمعنى الساحر، فوضع المفعول موضع الفاعل، ف ‏{‏قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء‏}‏ يعني‏:‏ الآيات التي أظهرها، وأنزل بمعنى‏:‏ أوجد ‏{‏إِلاَّ رَبُّ السموات والارض بَصَائِرَ‏}‏ أي‏:‏ دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته، وانتصاب ‏{‏بصائر‏}‏ على الحال‏.‏ قرأ الكسائي بضمّ التاء من «علمت» على أنها لموسى، وروي ذلك عن عليّ، وقرأ الباقون بفتحها على الخطاب لفرعون‏.‏ ووجه القراءة الأولى أن فرعون لم يعلم ذلك، وإنما علمه موسى‏.‏ ووجه قراءة الجمهور أن فرعون كان عالماً بذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ المأخوذ به عندنا فتح التاء، وهو الأصح للمعنى، لأن موسى لا يقول‏:‏ علمت أنا وهو الداعي، وروي نحو هذا عن الزجاج‏.‏ ‏{‏وَإِنّى لاظُنُّكَ يافرعون مَثْبُورًا‏}‏ الظنّ هنا بمعنى اليقين، والثبور‏:‏ الهلاك والخسران‏.‏ قال الكميت‏:‏

ورأت قضاعة في الأيا *** من رأى مثبور وثابر

أي‏:‏ مخسور وخاسر، وقيل‏:‏ المثبور‏:‏ الملعون، ومنه قول الشاعر‏:‏

يا قومنا لا تروموا حربنا سفها *** إن السفاه وإن البغي مثبور

أي‏:‏ ملعون، وقيل‏:‏ المثبور‏:‏ ناقص العقل، وقيل‏:‏ هو الممنوع من الخير، يقال‏:‏ ما ثبرك عن كذا‏:‏ ما منعك منه، حكاه أهل اللغة، وقيل‏:‏ المسحور‏.‏

‏{‏فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مّنَ الارض‏}‏ أي أراد فرعون أن يخرج بني إسرائيل وموسى ويزعجهم من الأرض، يعني‏:‏ أرض مصر بإبعادهم عنها، وقيل‏:‏ أراد أن يقتلهم، وعلى هذا يراد بالأرض مطلق الأرض، وقد تقدم قريباً معنى الاستفزاز ‏{‏فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا‏}‏ فوقع عليه وعليهم الهلاك بالغرق، ولم يبق منهم أحداً ‏{‏وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إسراءيل اسكنوا الأرض‏}‏ أي‏:‏ من بعد إغراقه ومن معه، والمراد بالأرض هنا‏:‏ أرض مصر التي أراد أن يستفزّهم منها ‏{‏فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخرة‏}‏ أي الدار الآخرة وهو القيامة، أو الكرّة الآخرة، أو الساعة الآخرة ‏{‏جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا‏}‏ قال الجوهري‏:‏ اللفيف‏:‏ ما اجتمع من الناس من قبائل شتى، يقال‏:‏ جاء القوم بلفهم ولفيفهم أي‏:‏ بأخلاطهم، فالمراد هنا جئنا بكم من قبوركم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن بالكافر‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ اللفيف جمع وليس له واحد، وهو مثل الجمع‏.‏ ‏{‏وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ‏}‏ الضمير يرجع إلى القرآن، ومعنى ‏{‏بالحق أنزلناه‏}‏‏:‏ أوحيناه متلبساً بالحق، ومعنى ‏{‏وبالحق نَزَلَ‏}‏‏:‏ أنه نزل وفيه الحق، وقيل‏:‏ الباقي، وبالحق الأول بمعنى‏:‏ مع، أي‏:‏ مع الحق أنزلناه كقولهم‏:‏ ركب الأمير بسيفه أي‏:‏ مع سيفه، و‏{‏بالحق نزل‏}‏ أي‏:‏ بمحمد كما تقول‏:‏ نزلت يزيد‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ الباء في الموضعين بمعنى‏:‏ مع، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون المعنى‏:‏ وبالحق قدرنا أن ينزل وكذلك نزل، أو‏:‏ ما أنزلناه من السماء إلاّ محفوظاً، وما نزل على الرسول إلاّ محفوظاً من تخليط الشياطين، والتقديم في الموضعين للتخصص‏.‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا‏}‏ أي‏:‏ مبشراً لمن أطاع بالجنة ونذيراً مخوّفاً لمن عصى بالنار‏.‏ ‏{‏وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ‏}‏ انتصاب ‏{‏قرآناً‏}‏ بفعل مضمر يفسره ما بعده، قرأ عليّ، وابن عباس، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وقتادة، وأبو رجاء، والشعبي ‏(‏فرقناه‏)‏ بالتشديد، أي‏:‏ أنزلناه شيئاً بعد شيء لا جملة واحدة‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏فرقناه‏}‏ بالتخفيف، أي‏:‏ بيناه وأوضحناه، وفرقنا فيه بين الحق والباطل‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ فرقه في التنزيل ليفهمه الناس‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ التخفيف أعجب إليّ، لأن تفسيره بيناه، وليس للتشديد معنى إلاّ أنه نزل متفرقاً‏.‏ ويؤيده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال‏:‏ فرقت مخففاً بين الكلام، وفرقت مشدداً بين الأجسام، ثم ذكر سبحانه العلة لقوله‏:‏ فَرَقْنَاهُ، فقال‏:‏ ‏{‏لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ‏}‏ أي‏:‏ على تطاول في المدّة شيئاً بعد شيء على القراءة الأولى، أو أنزلناه آية آية، وسورة سورة‏.‏ ومعناه على القراءة الثانية ‏{‏على مكث‏}‏ أي‏:‏ على ترسل وتمهل في التلاوة، فإن ذلك أقرب إلى الفهم وأسهل للحفظ‏.‏ وقد اتفق القراء على ضم الميم في‏:‏ ‏{‏مكث‏}‏ إلاّ ابن محيصن فإنه قرأ بفتح الميم ‏{‏ونزلناه تَنْزِيلاً‏}‏ التأكيد بالمصدر للمبالغة، والمعنى‏:‏ أنزلناه منجماً مفرّقاً لما في ذلك من المصلحة، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا ولم يطيقوا‏.‏

‏{‏قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ‏}‏ أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للكافرين المقترحين للآيات‏:‏ آمنوا به أو لا تؤمنوا، فسواء إيمانكم به وامتناعكم عنه لا يزيده ذلك ولا ينقصه‏.‏ وفي هذا وعيد شديد لأمره بالإعراض عنهم واحتقارهم، ثم علّل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ‏}‏ أي‏:‏ أن العلماء الذين قرؤوا الكتب السابقة قبل إنزال القرآن وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوّة كزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعبد الله بن سلام ‏{‏إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ القرآن ‏{‏يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا‏}‏ أي‏:‏ يسقطون على وجوههم ساجدين لله سبحانه، وإنما قيد الخرور، وهو السقوط، بكونه للأذقان، أي‏:‏ عليها، لأن الذقن، وهو مجتمع اللحيين أوّل ما يحاذي الأرض‏.‏ قال الزجاج‏:‏ لأن الذقن مجتمع اللحيين، وكما يبتدئ الإنسان بالخرور للسجود، فأوّل ما يحاذي الأرض به من وجهه الذقن، وقيل‏:‏ المراد تعفير اللحية في التراب، فإن ذلك غاية الخضوع، وإيثار اللام في الأذقان على «على» للدلالة على الاختصاص، فكأنهم خصوا أذقانهم بالخرور، أو خصوا الخرور بأذقانهم، وقيل‏:‏ الضمير في قوله ‏{‏مِن قَبْلِهِ‏}‏ راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والأولى ما ذكرناه من رجوعه إلى القرآن لدلالة السياق على ذلك، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وحاصلها‏:‏ أنه إن لم يؤمن به هؤلاء الجهال الذين لا علم عندهم ولا معرفة بكتب الله ولا بأنبيائه، فلا تبال بذلك، فقد آمن به أهل العلم وخشعوا له وخضعوا عند تلاوته عليهم خضوعاً ظهر أثره البالغ بكونهم يخرّون على أذقانهم سجداً لله‏.‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا‏}‏ أي‏:‏ يقولون في سجودهم تنزيهاً لربنا عما يقوله الجاهلون من التكذيب، أو تنزيهاً له عن خلف وعده ‏{‏إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً‏}‏ «إن» هذه هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة‏.‏ ثم ذكر أنهم خروا لأذقانهم باكين فقال‏:‏ ‏{‏وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ‏}‏ وكرّر ذكر الخرور للأذقان، لاختلاف السيب، فإن الأول لتعظيم الله سبحانه وتنزيهه، والثاني‏:‏ للبكاء بتأثير مواعظ القرآن في قلوبهم ومزيد خشوعهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَيَزِيدُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ سماع القرآن، أو القرآن بسماعهم له ‏{‏خُشُوعًا‏}‏ أي‏:‏ لين قلب ورطوبة عين‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏تِسْع ءايات‏}‏ فذكر ما ذكرناه عن أكثر المفسرين‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ يده، وعصاه ولسانه، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم‏.‏ وأخرج الطيالسي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن قانع، والحاكم وصححه، وأبو نعيم، والبيهقي، وابن مردويه عن صفوان بن عسال‏:‏ أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه‏:‏ انطلق بنا إلى هذا النبيّ نسأله، فأتياه فسألاه عن قول الله ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات بَيّنَاتٍ‏}‏ فقال‏:‏

‏"‏ لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرفوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببرئ إلى سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة- أو قال‏:‏ لا تفروا من الزحف- شكّ شعبة- وعليكم يا يهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت ‏"‏، فقبلا يديه ورجليه وقالا‏:‏ نشهد أنك نبيّ الله، قال‏:‏ فما يمنعكما أن تسلما‏؟‏ قالا‏:‏ إن داود دعا الله أن يزال في ذريته نبيّ، وإنا نخاف إن أسلمنا أن يقتلنا اليهود‏.‏ وأخرج ابن أبي الدينا في ذمّ الغضب عن أنس بن مالك أنه سئل عن قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنّى لأظُنُّكَ يافرعون مَثْبُورًا‏}‏ قال‏:‏ مخالفاً، وقال‏:‏ الأنبياء أكرم من أن تلعن أو تسبّ‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس «مثبوراً» قال‏:‏ ملعوناً‏.‏ وأخرج الشيرازي في الألقاب، وابن مردويه عنه قال‏:‏ قليل العقل‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً ‏{‏لفيفاً‏}‏ قال‏:‏ جميعاً‏.‏ وأخرج النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس أنه قرأ‏:‏ ‏(‏وقرآناً فرقناه‏)‏ مثقلاً قال‏:‏ نزل القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر من رمضان جملة واحدة، فكان المشركون إذا أحدثوا شيئاً أحدث لهم جواباً، ففرقه الله في عشرين سنة‏.‏ وقد روي نحو هذا عنه من طرق‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً ‏{‏فَرَقْنَاهُ‏}‏ قال‏:‏ فصلناه على مكث بأمد ‏{‏يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ‏}‏ يقول‏:‏ للوجوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد ‏{‏إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ‏}‏ قال‏:‏ كتابهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 111‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏110‏)‏ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ‏(‏111‏)‏‏}‏

أراد سبحانه أن يعلم عباده كيفية الدعاء والخشوع فقال‏:‏ ‏{‏قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن‏}‏ ومعناه‏:‏ أنهما مستويان في جواز الإطلاق وحسن الدعاء بهما، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَيَّا ما تَدْعُواْ فَلَهُ الاسماء الحسنى‏}‏ التنوين في «أيا» عوض عن المضاف إليه، و«ما» مزيدة لتوكيد الإبهام في‏:‏ «أيا» والضمير في «له» راجع إلى المسمى، وكان أصل الكلام‏:‏ أيا ما تدعوا فهو حسن، فوضع موضعه فله الأسماء الحسنى للمبالغة، وللدلالة على أنها إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الإسمان، ومعنى حسن الأسماء‏:‏ استقلالها بنعوت الجلال والإكرام، ذكر معنى هذا النيسابوري وتبعه أبو السعود‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أعلمهم الله أن دعاءهم الله ودعاءهم الرحمن يرجعان إلى قول واحد، وسيأتي ذكر سبب نزول الآية، وبه يتضح المراد منها، ثم ذكر كيفية أخرى للدعاء فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا‏}‏ أي‏:‏ بقراءة صلاتك على حذف المضاف للعلم بأن الجهر والمخافتة من نعوت الصوت، لا من نعوت أفعال الصلاة، فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء، يقال‏:‏ خفت صوته خفوتاً‏:‏ إذا انقطع كلامه وضعف وسكن، وخفت الزرع إذا ذبل، وخافت الرجل بقراءته‏:‏ إذا لم يرفع بها صوته، وقيل معناه‏:‏ لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها، والأوّل أولى ‏{‏وابتغ بَيْنَ ذلك‏}‏ أي‏:‏ الجهر والمخافتة المدلول عليها بالفعلين ‏{‏سَبِيلاً‏}‏ أي‏:‏ طريقاً متوسطاً بين الأمرين فلا تكن مجهورة ولا مخافتاً بها، وعلى التفسير الثاني يكون معنى ذلك‏:‏ النهي عن الجهر بقراءة الصلوات كلها، والنهي عن المخافتة بقراءة الصلوات كلها، والأمر بجعل البعض منها مجهوراً به، وهو صلاة الليل والمخافتة بصلاة النهار، وذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 55‏]‏‏.‏ ولما أمر أن لا يذكر ولا ينادى إلاّ بأسمائه الحسنى نبه على كيفية الحمد له فقال‏:‏ ‏{‏وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا‏}‏ كما تقوله اليهود والنصارى، ومن قال من المشركين‏:‏ إن الملائكة بنات الله، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ‏{‏وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الملك‏}‏ أي‏:‏ مشارك له في ملكه وربوبيته كما تزعمه الثنوية ونحوهم من الفرق القائلين بتعدد الآلهة ‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذل‏}‏ أي‏:‏ لم يحتج إلى موالاة أحد لذل يلحقه فهو مستغنٍ عن الوليّ والنصير‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي لم يحتج أن ينتصر بغيره، وفي التعرّض في أثناء الحمد لهذه الصفات الجليلة إيذان بأن المستحق للحمد من له هذه الصفات، لأنه القادر على الإيجاد وإفاضة النعم لكون الولد مجبنة ومبخلة، ولأنه أيضاً يستلزم حدوث الأب لأنه متولد من جزء من أجزائه، والمحدث غير قادر على كمال الإنعام، والشركة في الملك إنما تتصور لمن لا يقدر على الاستقلال به، ومن لا يقدر على الاستقلال عاجز فضلاً عن تمام ما هو له، فضلاً عن نظام ما هو عليه، وأيضاً الشركة موجبة للتنازع بين الشريكين، فقد يمنعه الشريك من إفاضة الخير إلى أوليائه ومؤدية إلى الفساد‏:‏

‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏‏.‏ والمحتاج إلى وليّ يمنعه من الذلّ وينصره على من أراد إذلاله، ضعيف لا يقدر على ما يقدر عليه من هو مستغني بنفسه ‏{‏وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا‏}‏ أي‏:‏ عظمه تعظيماً وصفه بأنه أعظم من كل شيء‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ذات يوم فقال في دعائه‏:‏ ‏"‏ يا ألله يا رحمن ‏"‏ فقال المشركون‏:‏ انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين، وهو يدعو إلهين، فأنزل الله ‏{‏قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي قال‏:‏ إن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرحمن، وكان لهم كاهن باليمامة يسمونه الرحمن، فنزلت الآية‏.‏ وهو مرسل‏.‏ وأخرج ابن جرير عن مكحول‏:‏ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتهجد بمكة ذات ليلة يقول في سجوده‏:‏ ‏"‏ يا رحمن يا رحيم ‏"‏ فسمعه رجل من المشركين، فلما أصبح قال لأصحابه‏:‏ إن ابن أبي كبشة يدعو الليلة الرحمن الذي باليمن، وكان رجل باليمن يقال له‏:‏ رحمن، فنزلت‏.‏ وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق نهشل بن سعيد عن الضحاك، عن ابن عباس قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله‏:‏ ‏{‏قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيَّا ما تَدْعُواْ‏}‏ إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ هو أمان من السرق ‏"‏ وإن رجلاً من المهاجرين من أصحاب رسول الله تلاها حيث أخذ مضجعه، فدخل عليه سارق فجمع ما في البيت وحمله والرجل ليس بنائم حتى انتهى إلى الباب فوجد الباب مردوداً، فوضع الكارة، ففعل ذلك ثلاث مرات، فضحك صاحب الدار ثم قال‏:‏ إني حصنت بيتي‏.‏ وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ‏}‏ الآية قال‏:‏ نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوارٍ، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله لنبيه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ‏}‏ أي‏:‏ بقراءتك، فيسمع المشركون، فيسبوا القرآن ‏{‏وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا‏}‏ عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك ‏{‏وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً‏}‏ يقول‏:‏ بين الجهر والمخافتة‏.‏ وأخرج ابن مردويه عنه قال‏:‏ كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة بمكة فيؤذى، فأنزل الله ‏{‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ‏}‏‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة عنه أيضاً نحوه‏.‏ وأخرج أبو داود في ناسخه عنه نحوه‏.‏ وأخرج الطبراني، وابن مردويه عنه أيضاً قال‏:‏ كان مسيلمة الكذاب قد سمي الرحمن، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلى فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قال المشركون‏:‏ يذكر إله اليمامة، فأنزل الله ‏{‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ‏}‏‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الشعب عن محمد بن سيرين قال‏:‏ نبئت أن أبا بكر كان إذا قرأ خفض، وكان عمر إذا قرأ جهر، فقيل لأبي بكر‏:‏ لم تصنع هذا‏؟‏ قال‏:‏ أنا أناجي ربي، وقد عرف حاجتي، وقيل لعمر‏:‏ لم تصنع هذا‏؟‏ قال‏:‏ أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، فلما نزل ‏{‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا‏}‏ قيل لأبي بكر‏:‏ ارفع شيئاً، وقيل لعمر اخفض شيئاً‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبخاري، ومسلم وغيرهم عن عائشة قالت‏:‏ إنما نزلت هذه الآية ‏{‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا‏}‏ في الدعاء‏.‏ وأخرج ابن جرير، والحاكم عنها قالت‏:‏ نزلت في التشهد‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن منيع، وابن جرير، ومحمد بن نصر، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس مثل حديث عائشة الأوّل‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ إن اليهود والنصارى قالوا‏:‏ اتخذ الله ولداً، وقالت العرب‏:‏ لبيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك، وقال الصابئون والمجوس‏:‏ لولا أولياء الله لذلّ‏.‏ فأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏وقل الحمد لِلَّهِ‏}‏ إلى آخرها‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذل‏}‏ قال‏:‏ لم يحالف أحداً ولم يبتغ نصر أحد‏.‏ وأخرج أحمد، والطبراني عن معاذ بن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «آية العزّ ‏{‏الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا‏}‏» الآية كلها‏.‏ وأخرج أبو يعلى وابن السني عن أبي هريرة قال‏:‏ «خرجت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ويده في يدي، فأتى عليّ رجل رثّ الهيئة فقال‏:‏ ‏"‏ أي فلان ما بلغ بك ما أرى ‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ السقم والضرّ، قال‏:‏ ‏"‏ ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضرّ‏؟‏ توكلت على الحي الذي لا يموت، الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ‏"‏ إلى آخر الآية، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حسنت حاله فقال‏:‏ ‏"‏ ممّ ‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ لم أزل أقول الكلمات التي علمتني‏.‏ وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك أبا هريرة‏.‏

قال ابن كثير‏:‏ وإسناده ضعيف وفي متنه نكارة‏.‏ وأخرج ابن جرير عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم أهله هذه الآية‏:‏ ‏{‏الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا‏}‏ إلى آخرها الصغير من أهله والكبير‏.‏ وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن عبد الكريم بن أبي أمية قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الغلام من بني هاشم إذا أفصح سبع مرات‏:‏ ‏{‏الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف من طريق عبد الكريم، عن عمرو بن شعيب فذكره‏.‏ وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه‏.‏

سورة الكهف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ‏(‏1‏)‏ قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ‏(‏2‏)‏ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ‏(‏3‏)‏ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ‏(‏4‏)‏ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ‏(‏5‏)‏ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ‏(‏7‏)‏ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

علّم عباده كيف يحمدونه على إفاضة نعمه عليهم، ووصفه بالموصول يشعر بعليّة ما في حيز الصلة لما قبله ووجه كون إنزال الكتاب، وهو القرآن نعمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كونه اطلع بواسطته على أسرار التوحيد، وأحوال الملائكة والأنبياء، وعلى كيفية الأحكام الشرعية التي تعبده الله وتعبد أمته بها، وكذلك العباد كان إنزال الكتاب على نبيهم نعمة لهم لمثل ما ذكرناه في النبيّ‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا‏}‏ أي‏:‏ شيئاً من العوج بنوع من أنواع الاختلال في اللفظ والمعنى، والعوج بالكسر في المعاني، وبالفتح في الأعيان كذا قيل، ويرد عليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 107‏]‏، يعني‏:‏ الجبال، وهي من الأعيان‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى في الآية‏:‏ لم يجعل فيها اختلافاً كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏‏.‏ والقيم‏:‏ المستقيم الذي لا ميل فيه، أو القيم بمصالح العباد الدينية والدنيوية، أو القيم على ما قبله من الكتب السماوية مهيمناً عليها، وعلى الأوّل يكون تأكيداً لما دل عليه نفي العوج، فربّ مستقيم في الظاهر لا يخلو عن أدنى عوج في الحقيقة، وانتصاب ‏{‏قيماً‏}‏ بمضمر، أي جعله قيماً، ومنع صاحب الكشاف أن يكون حالاً من الكتاب، لأن قوله ‏{‏ولم يجعل‏}‏ معطوف على ‏{‏أنزل‏}‏ فهو داخل في حيز الصلة، فجاعله حالاً من الكتاب فاصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة‏.‏ وقال الأصفهاني‏:‏ هما حالان متواليان إلا أن الأوّل جملة والثاني مفرد، وهذا صواب لأن قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَجْعَل‏}‏ لم يكن معطوفاً على ما قبله بل الواو للحال، فلا فصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة، وقيل‏:‏ إن ‏{‏قيماً‏}‏ حال من ضمير ‏{‏لم يجعل له‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير‏:‏ أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً، ثم أراد سبحانه أن يفصل ما أجمله في قوله قيماً فقال‏:‏ ‏{‏لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا‏}‏ وحذف المنذر للعلم به مع قصد التعميم، والمعنى‏:‏ لينذر الكافرين، والبأس‏:‏ العذاب، ومعنى ‏{‏مِن لَّدُنْهُ‏}‏‏:‏ صادراً من لدنه نازلاً من عنده‏.‏ روى أبو بكر، عن عاصم‏:‏ أنه «قرأ من لدنه» بإشمام الدال الضمة، وبكسر النون والهاء، وهي لغة الكلابيين‏.‏ وروى أبو زيد عن جميع القراء فتح اللام وضم الدال وسكون النون ‏{‏وَيُبَشّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات‏}‏، قرئ «يبشر» بالتشديد والتخفيف، وأجرى الموصول على موصوفه المذكور، لأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان ‏{‏أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا‏}‏ وهو الجنة حال كونهم ‏{‏مَّاكِثِينَ فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ في ذلك الأجر ‏{‏أَبَدًا‏}‏ أي‏:‏ مكثاً دائماً لا انقطاع له، وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار‏.‏

ثم كرر الإنذار وذكر المنذر لخصوصه وحذف المنذر به، وهو البأس الشديد، لتقدّم ذكره فقال‏:‏ ‏{‏وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا‏}‏ وهم‏:‏ اليهود والنصارى وبعض كفار قريش، القائلون بأن الملائكة بنات الله، فذكر سبحانه أوّلاً قضية كلية، وهي إنذار عموم الكفار، ثم عطف عليها قضية خاصة هي بعض جزئيات تلك الكلية، تنبيهاً على كونها أعظم جزئيات تلك الكلية‏.‏ فأفاد ذلك أن نسبة الولد إلى الله سبحانه أقبح أنواع الكفر‏.‏ ‏{‏مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ أي‏:‏ بالولد، أو اتخاذ الله إياه، و«من» مزيدة لتأكيد النفي، والجملة في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة، والمعنى‏:‏ ما لهم بذلك علم أصلاً ‏{‏وَلاَ لآبَائِهِمْ‏}‏ علم، بل كانوا في زعمهم هذا على ضلالة، وقلدهم أبناؤهم فضلوا جميعاً ‏{‏كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ‏}‏ انتصاب ‏{‏كلمة‏}‏ على التمييز، وقرئ بالرفع على الفاعلية‏.‏ قال الفراء‏:‏ كبرت تلك الكلمة كلمة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ كبرت مقالتهم كلمة، والمراد بهذه الكلمة هي‏:‏ قولهم اتخذ الله ولداً‏.‏ ثم وصف الكلمة بقوله‏:‏ ‏{‏تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ‏}‏ وفائدة هذا الوصف استعظام اجترائهم على التفوّه بها، والخارج من الفم وإن كان هو مجرد الهوى، لكن لما كانت الحروف والأصوات كيفيات قائمة بالهوى أسند إلى الحال ما هو من شأن المحل‏.‏ ثم زاد في تقبيح ما وقع منهم فقال‏:‏ ‏{‏إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا‏}‏ أي‏:‏ ما يقولون إلا كذباً لا مجال للصدق فيه بحال‏.‏ ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏{‏فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم‏}‏ قال الأخفش والفراء‏:‏ البخع‏:‏ الجهد‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ بخعت الأرض بالزراعة‏:‏ إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة، وبخع الرجل نفسه إذا نهكها‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ معناه‏:‏ مهلك نفسك، ومنه قول ذي الرمة‏:‏

ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه *** فيكون المعنى على هذه الأقوال‏:‏ لعلك مجهد نفسك أو مضعفها أو مهلكها ‏{‏على ءاثارهم‏}‏ على فراقهم ومن بعد توليهم وإعراضهم ‏{‏إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث‏}‏ أي‏:‏ القرآن وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله‏.‏ وقرئ بفتح «أن»‏.‏ أي‏:‏ لأن لم يؤمنوا ‏{‏أَسَفاً‏}‏ أي‏:‏ غيظاً وحزناً وهو مفعول له أو مصدر في موضع الحال، كذا قال الزجاج‏.‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا‏}‏ هذه الجملة استئناف‏.‏ والمعنى‏:‏ إنا جعلنا ما على الأرض مما يصلح أن يكون زينة لها من الحيوانات والنبات والجماد، كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏، وانتصاب ‏{‏زينة‏}‏ على أنها مفعول ثانٍ ل ‏{‏جعل‏}‏، واللام في ‏{‏لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ متعلقة ب ‏{‏جعلنا‏}‏، وهي إما للغرض أو للعاقبة، والمراد بالابتلاء‏:‏ أنه سبحانه يعاملهم معاملة لو كانت تلك المعاملة من غيره لكانت من قبيل الابتلاء والامتحان‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏أيهم‏}‏ رفع بالابتداء إلا أن لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى‏:‏ لنمتحن أهذا أحسن عملاً أم ذاك‏؟‏ قال الحسن‏:‏ أيهم أزهد، وقال مقاتل‏:‏ أيهم أصلح فيما أوتي من المال‏.‏ ثم أعلم سبحانه أنه مبيد لذلك كله ومفنيه فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً‏}‏ أي‏:‏ لجاعلون ما عليها من هذه الزينة عند تناهي عمر الدنيا ‏{‏صعيداً‏}‏‏:‏ تراباً‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الصعيد‏:‏ المستوي من الأرض‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو الطريق الذي لا نبات فيه‏.‏ قال الفراء‏:‏ الجرز‏:‏ الأرض التي لا نبات فيها، ومن قولهم‏:‏ امرأة جرزاً‏:‏ إذا كانت أكولاً‏.‏ وسيفاً جرازاً‏:‏ إذا كان مستأصلاً، وجرز الجراد والشاة والإبل‏:‏ الأرض إذا أكلت ما عليها‏.‏ قال ذو الرمة‏:‏

طوى النحز والإجراز ما في بطونها *** ومعنى النظم‏:‏ لا تحزن يا محمد مما وقع من هؤلاء من التكذيب، فإنا قد جعلنا ما على الأرض زينة لاختبار أعمالهم، وإنا لمذهبون ذلك عند انقضاء عمر الدنيا فمجازوهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب‏}‏ الآية قال‏:‏ أنزل الكتاب عدلاً قيماً ‏{‏وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا‏}‏ ملتبساً‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن الضحاك ‏{‏قَيِّماً‏}‏ قال‏:‏ مستقيماً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة ‏{‏مِن لَّدُنْهُ‏}‏ أي‏:‏ من عنده‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي ‏{‏حَسَنًا‏}‏ يعني‏:‏ الجنة ‏{‏وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا‏}‏ قال‏:‏ هم اليهود والنصارى‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبوجهل والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأبو البحتري في نفر من قريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه، وإنكارهم ما جاء به من النصيحة، فأحزنه حزناً شديداً، فأنزل الله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه ‏{‏باخع نَّفْسَكَ‏}‏ يقول‏:‏ قاتل نفسك، وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي مثله‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد ‏{‏أَسَفاً‏}‏ قال‏:‏ جزعاً‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة ‏{‏أَسَفاً‏}‏ قال‏:‏ حزناً‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا‏}‏ قال‏:‏ الرجال‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير من قوله مثله‏.‏ وأخرج أبو نصر السجزي في الإبانة من طريق مجاهد عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ العلماء زينة الأرض‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال‏:‏ هم الرجال العباد العمال لله بالطاعة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ، وابن مردويه عن ابن عمر قال‏:‏ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية‏:‏ ‏{‏لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ فقلت‏:‏ ما معنى ذلك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «ليبلوكم أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرعكم في طاعة الله» وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال‏:‏ ليختبرهم ‏{‏أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ قال‏:‏ أيهم أتمّ عقلاً‏.‏ وأخرج عن الحسن ‏{‏أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ قال‏:‏ أشدهم للدنيا تركاً، وأخرج أيضاً عن الثوري قال‏:‏ أزهدهم في الدنيا‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً‏}‏ قال‏:‏ يهلك كل شيء ويبيد‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة قال‏:‏ الصعيد‏:‏ التراب والجبال التي ليس فيها زرع‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال‏:‏ يعني بالجرز‏:‏ الخراب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 16‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ‏(‏9‏)‏ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ‏(‏10‏)‏ فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ‏(‏11‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ‏(‏12‏)‏ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ‏(‏13‏)‏ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ‏(‏14‏)‏ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏15‏)‏ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتَ‏}‏ «أم»‏:‏ هي المنقطعة المقدّرة ببل والهمزة عند الجمهور، وببل وحدها عند بعضهم والتقدير‏:‏ بل أحسبت، أو بل حسبت، ومعناها‏:‏ الانتقال من حديث إلى حديث آخر، لا لإبطال الأول والإضراب عنه كما هو معنى بل في الأصل‏.‏ والمعنى‏:‏ أن القوم لما تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنها الرسول على سبيل الامتحان، قال سبحانه‏:‏ بل أظننت يا محمد أنهم كانوا عجباً من آياتنا فقط‏؟‏ لا تحسب ذلك فإن آياتنا كلها عجب، فإن من كان قادراً على جعل ما على الأرض زينة لها للابتلاء، ثم جعل ما عليها صعيداً جرزاً كأن لم تغن بالأمس، لا تستبعد قدرته وحفظه ورحمته بالنسبة إلى طائفة مخصوصة، وإن كانت قصتهم خارقة للعادة، فإن آيات الله سبحانه كذلك وفوق ذلك‏.‏ و‏{‏عَجَبًا‏}‏ منتصبة على أنه خبر كان أي‏:‏ ذات عجب، أو موصوفة بالعجب مبالغة، و‏{‏من آياتنا‏}‏ في محل نصب على الحال، و‏{‏إِذْ أَوَى الفتية‏}‏ ظرف لحسبت أو لفعل مقدّر، وهو أذكر، أي‏:‏ صاروا إليه وجعلوه مأواهم، والفتية‏:‏ هم أصحاب الكهف، والكهف‏:‏ هو الغار الواسع في الجبل، فإن كان صغيراً سمي غاراً، والرقيم قال كعب والسدّي‏:‏ إنه اسم القرية التي خرج منها أصحاب الكهف‏.‏ وقال سعيد بن جبير ومجاهد‏:‏ إنه لوح من حجارة أو رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف‏.‏ قال الفراء‏:‏ ويروى أنه إنما سمي رقيماً لأن أسماءهم كانت مرقومة فيه‏.‏ والرقم‏:‏ الكتابة‏.‏ وروي مثل ذلك عن ابن عباس‏.‏ ومنه قول العجاج في أرجوزة له‏:‏

ومستقرى المصحف الرقيم *** وقيل‏:‏ إن الرقيم‏:‏ اسم كلبهم، وقيل‏:‏ هو اسم الوادي الذي كانوا فيه، وقيل‏:‏ اسم الجبل الذي فيه الغار‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أعلم الله سبحانه أن قصة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله، لأن خلق السموات والأرض وما بينهما أعجب من قصة أصحاب الكهف ‏{‏فَقَالُواْ رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً‏}‏ أي‏:‏ من عندك، و«من» ابتدائية متعلقة ب ‏{‏آياتنا‏}‏، أو لمحذوف وقع حالاً، والتنوين في ‏{‏رحمة‏}‏‏:‏ إما للتعظيم أو للتنويع، وتقديم ‏{‏من لدنك‏}‏ للاختصاص أي‏:‏ رحمة مختصة بأنها من خزائن رحمتك، وهي‏:‏ المغفرة في الآخرة والأمن من الأعداء، والرزق في الدنيا ‏{‏وَهَيّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا‏}‏ أي‏:‏ أصلح لنا، من قولك هيأت الأمر فتهيأ، والمراد بأمرهم‏:‏ الأمر الذي هم عليه وهو مفارقتهم للكفار، والرشد‏:‏ نقيض الضلال، و«من» للابتداء‏.‏ ويجوز أن تكون للتجريد كما في قولك‏:‏ رأيت منك رشداً‏.‏ وتقدم المجرورين للاهتمام بهما‏.‏ ‏{‏فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ أنمناهم‏.‏ والمعنى‏:‏ سددنا آذانهم بالنوم الغالب عن سماع الأصوات، والمفعول محذوف أي‏:‏ ضربنا على آذانهم الحجاب تشبيهاً للإنامة الثقيلة المانعة من وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها، و‏{‏فِى الكهف‏}‏ ظرف لضربنا، وانتصاب ‏{‏سِنِينَ‏}‏ على الظرفية، و‏{‏عَدَدًا‏}‏ صفة لسنين، أي‏:‏ ذوات عدد على أنه مصدر، أو بمعنى‏:‏ معدودة على أنه لمعنى المفعول، ويستفاد من وصف السنين بالعدد الكثرة‏.‏

قال الزجاج‏:‏ إن الشيء إذا قلّ فهم مقدار عدده فلم يحتج إلى العدد، وإن كثر احتاج إلى أن يعدّ‏.‏ وقيل‏:‏ يستفاد منه التقليل لأن الكثير قليل عند الله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 47‏]‏‏.‏ ‏{‏ثُمَّ بعثناهم‏}‏ أي‏:‏ أيقظناهم من تلك النومة ‏{‏لنعلم‏}‏ أي‏:‏ ليظهر معلومنا، وقرئ بالتحتية مبنياً للفاعل على طريقة الالتفات، و‏{‏أَيُّ الحِزْبَيْنِ‏}‏ مبتدأ معلق عنه العلم لما في أيّ من الاستفهام، وخبره ‏{‏أحصى‏}‏ وهو فعل ماض، قيل‏:‏ والمراد بالعلم الذي جعل علة للبعث هو‏:‏ الاختبار مجازاً فيكون المعنى‏:‏ بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم، والأولى ما ذكرناه من أن المراد به ظهور معلوم الله سبحانه لعباده، والمراد بالحزبين‏:‏ الفريقان من المؤمنين والكافرين من أصحاب الكهف المختلفين في مدة لبثهم‏.‏ ومعنى أحصى‏:‏ أضبط‏.‏ وكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف، فبعثهم الله ليتبين لهم ذلك، ويظهر من ضبط الحساب ممن لم يضبطه، و«ما» في ‏{‏لِمَا لَبِثُواْ‏}‏ مصدرية، أي‏:‏ أحصى للبثهم، وقيل‏:‏ اللام زائدة، و«ما» بمعنى‏:‏ الذي، و‏{‏أَمَدًا‏}‏ تمييز، والأمد‏:‏ الغاية، وقيل‏:‏ إن ‏{‏أحصى‏}‏ أفعل تفضيل‏.‏ وردّ بأنه خلاف ما تقرر في علم الإعراب، وما ورد من الشاذ لا يقاس عليه كقولهم‏:‏ أفلس من ابن المذلق، وأعدى من الجرب‏.‏ وأجيب بأن أفعل التفضيل من المزيد قياس مطرد عند سيبويه وابن عصفور، وقيل‏:‏ إنهم الحزبين هم أصحاب الكهف اختلفوا بعد انتباههم كم لبثوا، وقيل‏:‏ إن أصحاب الكهف حزب وأصحابهم حزب‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم ‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق‏}‏ هذا شروع في تفصيل ما أجمل في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ أَوَى الفتية‏}‏ أي‏:‏ نحن نخبرك بخبرهم بالحق، أي‏:‏ قصصناه بالحق، أو متلبساً بالحق ‏{‏إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ‏}‏ أي‏:‏ أحداث شبان، و‏{‏آمنوا بربهم‏}‏ صفة ل ‏{‏فتية‏}‏‏.‏ والجملة مستأنفة بتقدير سؤال‏.‏ والفتية جمع قلة، و‏{‏زِدْنَاهُمْ هُدًى‏}‏ بالتثبيت والتوفيق، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب‏.‏ ‏{‏وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ قويناها بالصبر على هجر الأهل والأوطان، وفراق الخلان والأخدان ‏{‏إِذْ قَامُواْ‏}‏ الظرف منصوب بربطنا‏.‏ واختلف أهل التفسير في هذا القيام على أقوال فقيل‏:‏ إنهم اجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد، فقال رجل منهم هو أكبر القوم‏:‏ إني لأجد في نفسي شيئاً، إن ربي ربّ السموات والأرض، فقالوا‏:‏ ونحن أيضاً كذلك نجد في أنفسنا، فقاموا جميعاً ‏{‏فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ * السموات والارض‏}‏ قاله مجاهد‏.‏

وقال أكثر المفسرين‏:‏ إنه كان لهم ملك جبار يقال له‏:‏ دقيانوس، وكان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت، فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى قاموا بين يديه ‏{‏فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ * السموات والارض‏}‏ وقال عطاء ومقاتل‏:‏ إنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم ‏{‏لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها‏}‏ أي‏:‏ لن نعبد معبوداً آخر غير الله لا اشتراكاً ولا استقلالاً ‏{‏لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا‏}‏ أي‏:‏ قولاً ذا شطط، أو قولاً هو نفس الشطط لقصد المبالغة بالوصف بالمصدر، واللام هي‏:‏ الموطئة للقسم، والشطط‏:‏ الغلو ومجاوزة الحد‏.‏ قال أعشى بن قيس‏:‏

أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط *** كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

‏{‏هَؤُلاء قَوْمُنَا اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً‏}‏ هؤلاء مبتدأ، وخبره ‏{‏اتخذوا‏}‏، و‏{‏قومنا‏}‏ عطف بيان، وفي هذا الإخبار معنى للإنكار، وفي الإشارة إليهم تحقير لهم ‏{‏لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بسلطان بَيّنٍ‏}‏ أي‏:‏ هلا يأتون بحجة ظاهرة تصلح للتمسك بها ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ فزعم أن له شريكاً في العبادة أي‏:‏ لا أحد أظلم منه‏.‏

‏{‏وَإِذِ اعتزلتموهم‏}‏ أي‏:‏ فارقتموهم وتنحيتم عنهم جانباً، أي‏:‏ عن العابدين للأصنام، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ الله‏}‏ معطوف على الضمير المنصوب، و«ما» موصولة أو مصدرية أي‏:‏ وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم معبودهم أو الذي يعبدونه، وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الله‏}‏ استثناء منقطع على تقدير‏:‏ أنهم لم يعبدوا إلا الأصنام، أو متصل على تقدير‏:‏ أنهم شركوها في العبادة مع الله سبحانه وقيل‏:‏ هو كلام معترض إخبار من الله سبحانه عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله فتكون ما على هذا نافية ‏{‏فَأْوُواْ إِلَى الكهف‏}‏ أي‏:‏ صيروا إليه واجعلوه مأواكم‏.‏ قال الفراء‏:‏ هو جواب إذ، ومعناه‏:‏ اذهبوا إليه واجعلوه مأواكم، وقيل‏:‏ هو دليل على جوابه، أي إذ اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقادياً، فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانياً، وإذا أردتم اعتزالهم فافعلوا ذلك بالالتجاء إلى الكهف ‏{‏يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ‏}‏ أي‏:‏ يبسط ويوسع ‏{‏وَيُهَيّئ لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا‏}‏ أي يسهل وييسر لكم من أمركم الذي أنتم بصدده ‏{‏مّرْفَقًا‏}‏ المرفق بفتح الميم وكسرها لغتان قرئ بهما، مأخوذ من الارتفاق وهو الانتفاع، وقيل‏:‏ فتح الميم أقيس، وكسرها أكثر‏.‏ قال الفراء‏:‏ وأكثر العرب على كسر الميم من الأمر ومن مرفق الإنسان، وقد تفتح العرب الميم فيهما فهما لغتان، وكأن الذين فتحوا أرادوا أن يفرقوا بين المرفق من الأمر، والمرفق من الإنسان‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ الكسر في مرفق اليد، وقيل‏:‏ المرفق بالكسر‏:‏ ما ارتفقت به، والمرفق بالفتح‏:‏ الأمر الرافق، والمراد هنا‏:‏ ما يرتفقون به وينتفعون بحصوله، والتقديم في الموضعين يفيد الاختصاص‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ الرقيم‏:‏ الكتاب‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفيّ عنه قال‏:‏ الرقيم‏:‏ وادٍ دون فلسطين قريب من أيلة‏.‏ والراويان عن ابن عباس ضعيفان‏.‏ وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عنه أيضاً قال‏:‏ هو الجبل الذي فيه الكهف‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه، قال‏:‏ والله ما أدري ما الرقيم الكتاب أم بنيان‏؟‏ وفي رواية عنه من طريق أخرى قال‏:‏ وسألت كعباً فقال‏:‏ اسم القرية التي خرجوا منها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال‏:‏ الرقيم‏:‏ الكلب‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كَانُواْ مِنْ ءاياتنا عَجَبًا‏}‏ يقول‏:‏ الذي آتيتك من العلم والسنّة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ‏}‏ يقول‏:‏ أرقدناهم ‏{‏ثُمَّ بعثناهم لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ‏}‏ من قوم الفتية، أهل الهدى، وأهل الضلالة ‏{‏أحصى لِمَا لَبِثُواْ‏}‏، وذلك أنهم كتبوا اليوم الذي خرجوا فيه والشهر والسنة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله‏:‏ ‏{‏وزدناهم هُدًى‏}‏ قال‏:‏ إخلاصاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ بالإيمان وفي قوله‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا‏}‏ قال‏:‏ كذباً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال‏:‏ جوراً‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ الله‏}‏ قال‏:‏ كان قوم الفتية يعبدون الله ويعبدون معه آلهة شتى، فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال‏:‏ هي في مصحف ابن مسعود، وما يعبدون من دون الله، فهذا تفسيرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 20‏]‏

‏{‏وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ‏(‏17‏)‏ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ‏(‏18‏)‏ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ‏(‏19‏)‏ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت‏}‏ شرع سبحانه في بيان حالهم، بعد ما أووا إلى الكهف‏.‏ ‏{‏تَّزَاوَرُ‏}‏ قرأ أهل الكوفة بحذف تاء التفاعل، وقرأ ابن عامر ‏(‏تزور‏)‏ قال الأخفش‏:‏ لا يوضع الازورار في هذا المعنى، إنما يقال هو مزورّ عني، أي‏:‏ منقبض‏.‏ وقرأ الباقون بتشديد الزاي وإدغام تاء التفاعل فيه بعد تسكينها، وتزاور مأخوذ من الزور بفتح الواو، وهو الميل، ومنه زاره إذا مال إليه، والزور‏:‏ الميل، فمعنى الآية‏:‏ أن الشمس إذا طلعت تميل وتتنحى ‏{‏عَن كَهْفِهِمْ‏}‏ قال الراجز الكلبي‏:‏

جاب المندّا عن هوانا أزور *** أي‏:‏ مائل ‏{‏ذَاتَ اليمين‏}‏ أي‏:‏ ناحية اليمين، وهي الجهة المسماة باليمين، وانتصاب ‏{‏ذات‏}‏ على الظرف، ‏{‏وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ‏}‏ القرض‏:‏ القطع‏.‏ قال الكسائي والأخفش والزجاج وأبو عبيدة‏:‏ تعدل عنهم وتتركهم، قرضت المكان‏:‏ عدلت عنه، تقول لصاحبك‏:‏ هل وردت مكان كذا‏؟‏ فيقول‏:‏ إنما قرضته‏:‏ إذا مرّ به وتجاوز عنه، والمعنى‏:‏ أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين، أي‏:‏ يمين الكهف، وإذا غربت تمرّ ‏{‏ذَاتَ الشمال‏}‏ أي شمال الكهف لا تصيبه‏.‏ بل تعدل عن سمته إلى الجهتين، والفجوة‏:‏ المكان المتسع، وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ‏}‏ في محل نصب على الحال، وللمفسرين في تفسير هذه الجملة قولان‏:‏ الأوّل‏:‏ أنهم مع كونهم في مكان منفتح انفتاحاً واسعاً في ظلّ جميع نهارهم لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا في غروبها، لأن الله سبحانه حجبها عنهم‏.‏ والثاني‏:‏ أن باب ذلك الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال، فإذا طلعت الشمس كانت عن يمين الكهف، وإذا غربت كانت عن يساره، ويؤيد القول الأوّل قوله‏:‏ ‏{‏ذلك مِنْ آيات الله‏}‏ فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة أنسب بمعنى كونها آية، ويؤيده أيضاً إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا، ومما يدلّ على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر‏:‏

ألبست قومك مخزاة ومنقصة *** حتى أبيحوا وخلوا فجوة الدار

ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏مَن يَهْدِ الله‏}‏ أي‏:‏ إلى الحق ‏{‏فَهُوَ المهتد‏}‏ الذي ظفر بالهدى وأصاب الرشد والفلاح ‏{‏وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا‏}‏ أي‏:‏ ناصراً يهديه إلى الحق كدقيانوس وأصحابه‏.‏ ثم حكى سبحانه طرفاً آخر من غرائب أحوالهم فقال‏:‏ ‏{‏وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا‏}‏ جمع يقظ بكسر القاف وفتحها ‏{‏وَهُمْ رُقُودٌ‏}‏ أي‏:‏ نيام، وهو جمع راقد كقعود في قاعد‏.‏ قيل‏:‏ وسبب هذا الحسبان أن عيونهم كانت مفتحة وهم نيام‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لكثرة تقلبهم ‏{‏وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال‏}‏ أي‏:‏ نقلبهم في رقدتهم إلى الجهتين لئلا تأكل الأرض أجسادهم ‏{‏وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ‏}‏ حكاية حال ماضية، لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى المضيّ كما تقرر في علم النحو‏.‏

قال أكثر المفسرين‏:‏ هربوا من ملكهم ليلاً، فمرّوا براع معه كلب فتبعهم‏.‏ والوصيد، قال أبو عبيد وأبو عبيدة هو فناء الباب، وكذا قال المفسرون، وقيل‏:‏ العتبة، وردّ بأن الكهف لا يكون له عتبة ولا باب، وإنما أراد أن الكلب موضع العتبة من البيت ‏{‏لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ فراراً منصوب على المصدرية بمعنى‏:‏ التولية، والفرار‏:‏ الهرب ‏{‏وَلَمُلِئْتَ‏}‏ قرئ بتشديد اللام وتخفيفها ‏{‏مِنْهُمْ رُعْبًا‏}‏ قرئ بسكون العين وضمها أي‏:‏ خوفاً يملأ الصدر، وانتصاب ‏{‏رعباً‏}‏ على التمييز، أو على أنه مفعول ثانٍ، وسبب الرّعب الهيبة التي ألبسهم الله إياها، وقيل‏:‏ طول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم ووحشة مكانهم، ويدفعه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ فإن ذلك يدل على أنهم لم ينكروا من حالهم شيئاً، ولا وجدوا من أظفارهم وشعورهم ما يدل على طول المدّة‏.‏ ‏{‏وكذلك بعثناهم لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ‏}‏ الإشارة إلى المذكور قبله أي‏:‏ وكما فعلنا بهم ما فعلنا من الكرامات بعثناهم من نومهم، وفيه تذكير لقدرته على الإماتة والبعث جميعاً، ثم ذكر الأمر الذي لأجله بعثهم فقال‏:‏ ليتساءلوا بينهم أي‏:‏ ليقع التساؤل بينهم والاختلاف والتنازع في مدة اللبث لما يترتب على ذلك من انكشاف الحال وظهور القدرة الباهرة، والاقتصار على علة التساؤل لا ينفي غيرها، وإنما أفرده لاستتباعه لسائر الآثار، وجملة ‏{‏قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ‏}‏ مبينة لما قبلها من التساؤل أي‏:‏ كم مدّة لبثكم في النوم‏؟‏ قالوا ذلك لأنهم رأوا في أنفسهم غير ما يعهدونه في العادة ‏{‏قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ أي‏:‏ قال بعضهم جواباً عن سؤال من سأل منهم، قال المفسرون‏:‏ إنهم دخلوا الكهف غدوة، وبعثهم الله سبحانه آخر النهار، فلذلك قالوا يوماً، فلما رأوا الشمس قالوا أو بعض يوم، وكان قد بقيت بقية من النهار، وقد مرّ مثل هذا الجواب في قصة عزير في البقرة‏.‏ ‏{‏قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ قال البعض الآخر هذا القول، إما على طريق الاستدلال، أو كان ذلك إلهاماً لهم من الله سبحانه، أي‏:‏ أنكم لا تعلمون مدّة لبثكم، وإنما يعلمها الله سبحانه ‏{‏فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة‏}‏ أعرضوا عن التحاور في مدّة اللبث، وأخذوا في شيء آخر، كأنه قال القائل منهم‏:‏ اتركوا ما أنتم فيه من المحاورة، وخذوا في شيء آخر مما يهمكم، والفاء‏:‏ للسببية، والورق‏:‏ الفضة مضروبة أو غير مضروبة‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم بكسر الراء، وقرأ أبو عمرو وحمزة، وأبو بكر عن عاصم بسكونها، وقرئ بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف‏.‏

وقرأ ابن محيصن بكسر الواو وسكون الراء‏.‏ وفي حملهم لهذه الورق معهم دليل على أن إمساك بعض ما يحتاج إليه الإنسان لا ينافي التوكل على الله، والمدينة‏:‏ دقسوس، وهي مدينتهم التي كانوا فيها، ويقال لها اليوم‏:‏ طرسوس، كذا قال الواحدي‏:‏ ‏{‏فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أزكى طَعَامًا‏}‏ أي‏:‏ ينظر أيّ أهلها أطيب طعاماً، وأحلّ مكسباً، أو أرخص سعراً، وقيل‏:‏ يجوز أن يعود الضمير إلى الأطعمة المدلول عليها في المقام كما يقال‏:‏ زيد طبت أبا، على أن الأب هو زيد، وفيه بعد‏.‏ واستدل بالآية على حلّ ذبائح أهل الكتاب لأن عامة أهل المدينة كانوا كفاراً، وفيهم قوم يخفون إيمانهم، ووجه الاستدلال أن الطعام يتناول اللحم كما يتناول غيره مما يطلق عليه اسم الطعام ‏{‏وَلْيَتَلَطَّفْ‏}‏ أي‏:‏ يدقق النظر حتى لا يعرف أو لا يغبن، والأوّل أولى، ويؤيده ‏{‏وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا‏}‏ أي‏:‏ لا يفعلنّ ما يؤدي إلى الشعور ويتسبب له، فهذا النهي يتضمن التأكيد للأمر بالتلطف‏.‏ ثم علل ما سبق من الأمر والنهي فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم، يعني‏:‏ أهل المدينة ‏{‏يَرْجُمُوكُمْ‏}‏ يقتلوكم بالرجم، وهذه القتلة هي أخبث قتلة‏.‏ وكان ذلك عادة لهم، ولهذا خصه من بين أنواع ما يقع به القتل ‏{‏أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ يردّوكم إلى ملتهم التي كنتم عليها قبل أن يهديكم الله، أو المراد بالعود هنا‏:‏ الصيرورة على تقدير أنهم لم يكونوا على ملتهم، وإيثار كلمة «في» على كلمة «إلى» للدلالة على الاستقرار ‏{‏وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا‏}‏ في إذاً معنى الشرط‏.‏ كأنه قال‏:‏ إن رجعتم إلى دينهم فلن تفلحوا إذاً أبداً، لا في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏تَّزَاوَرُ‏}‏ قال‏:‏ تميل، وفي قوله‏:‏ ‏{‏تَّقْرِضُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ تذرهم‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏تَّقْرِضُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ تتركهم، ‏{‏وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ‏}‏ قال‏:‏ المكان الداخل‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال‏:‏ الفجوة‏:‏ الخلوة من الأرض، ويعني بالخلوة‏:‏ الناحية من الأرض‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَنُقَلّبُهُمْ‏}‏ الآية قال‏:‏ ستة أشهر على ذي الجنب اليمين، وستة أشهر على ذي الجنب الشمال‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن سعيد بن جبير في الآية قال‏:‏ كي لا تأكل الأرض لحومهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أن اسم كلبهم‏:‏ قطمورا‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال‏:‏ اسمه قطمير‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏بالوصيد‏}‏ قال‏:‏ بالفناء‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه قال‏:‏ بالباب‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏أزكى طَعَامًا‏}‏ قال‏:‏ أحلّ ذبيحة، وكانوا يذبحون للطواغيت‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه ‏{‏أزكى طَعَامًا‏}‏ يعني‏:‏ أطهر، لأنهم كانوا يذبحون للطواغيت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 26‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ‏(‏21‏)‏ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏22‏)‏ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ‏(‏23‏)‏ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ‏(‏24‏)‏ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ وكما أنمناهم وبعثناهم، أعثرنا عليهم، أي‏:‏ أطلعنا الناس عليهم وسمي الإعلام‏:‏ إعثاراً، لأن من كان غافلاً عن شيء فعثر به نظر إليه وعرفه، فكان الإعثار سبباً لحصول العلم‏.‏ ‏{‏لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ أي‏:‏ ليعلم الذين أعثرهم الله عليهم أن وعد الله بالبعث حق‏.‏ قيل‏:‏ وكان ملك ذلك العصر ممن ينكر البعث، فأراه الله هذه الآية‏.‏ قيل‏:‏ وسبب الإعثار عليهم أن ذلك الرجل الذي بعثوه بالورق، وكانت من ضربة دقيانوس إلى السوق، لما اطلع عليها أهل السوق اتهموه بأنه وجد كنزاً، فذهبوا به إلى الملك، فقال له‏:‏ من أين وجدت هذه الدراهم‏؟‏ قال‏:‏ بعت بها أمس شيئاً من التمر، فعرف الملك صدقه، ثم قصّ عليه القصة فركب الملك وركب أصحابه معه حتى وصلوا إلى الكهف ‏{‏وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ وليعلموا أن القيامة لا شكّ في حصولها، فإن من شاهد حال أهل الكهف علم صحة ما وعد الله به من البعث ‏{‏إِذْ يتنازعون بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ‏}‏ الظرف متعلق بأعثرنا أي‏:‏ أعثرنا عليهم وقت التنازع والاختلاف بين أولئك الذين أعثرهم الله في أمر البعث، وقيل‏:‏ في أمر أصحاب الكهف في قدر مكثهم، وفي عددهم، وفيما يفعلونه بعد أن اطلعوا عليهم ‏{‏فَقَالُواْ ابنوا عَلَيْهِمْ بنيانا‏}‏ لئلا يتطرق الناس إليهم، وذلك أن الملك وأصحابه لما وقفوا عليهم وهم أحياء أمات الله الفتية، فقال بعضهم‏:‏ ابنوا عليهم بنياناً يسترهم عن أعين الناس‏.‏ ثم قال سبحانه حاكياً لقول المتنازعين فيهم وفي عددهم، وفي مدّة لبثهم، وفي نحو ذلك مما يتعلق بهم ‏{‏رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ‏}‏ من هؤلاء المتنازعين فيهم، قالوا ذلك تفويضاً للعلم إلى الله سبحانه، وقيل‏:‏ هو من كلام الله سبحانه، ردّاً لقول المتنازعين فيهم، أي‏:‏ دعوا ما أنتم فيه من التنازع، فإني أعلم بهم منكم، وقيل‏:‏ إن الظرف في ‏{‏إِذْ يتنازعون‏}‏ متعلق بمحذوف هو أذكر، ويؤيده أن الإعثار ليس في زمن التنازع بل قبله، ويمكن أن يقال‏:‏ إن أولئك القوم ما زالوا متنازعين فيما بينهم قرناً بعد قرن، منذ أووا إلى الكهف إلى وقت الإعثار، ويؤيد ذلك أن خبرهم كان مكتوباً على باب الغار، كتبه بعض المعاصرين لهم من المؤمنين الذين كانوا يخفون إيمانهم كما قاله المفسرون ‏{‏قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا‏}‏ ذكر اتخاذ المسجد يشعر بأن هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وقيل‏:‏ هم أهل السلطان، والملك من القوم المذكورين فإنهم الذين يغلبون على أمر من عداهم، والأوّل أولى‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هذا يدل على أنه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور‏.‏

لأن المساجد للمؤمنين‏.‏ ‏{‏سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏ هؤلاء القائلون بأنهم ثلاثة أو خمسة أو سبعة، هم المتنازعون في عددهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمسلمين، وقيل‏:‏ هم أهل الكتاب خاصة، وعلى كل تقدير فليس المراد أنهم جميعاً قالوا جميع ذلك، بل قال بعضهم بكذا، وبعضهم بكذا، وبعضهم بكذا‏}‏ ثلاثة رابعهم كلبهم‏}‏ أي‏:‏ هم ثلاثة أشخاص، وجملة ‏{‏رابعهم كلبهم‏}‏ في محل نصب على الحال أي‏:‏ حال كون كلبهم جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم ‏{‏وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏ الكلام فيه كالكلام فيما قبله، وانتصاب ‏{‏رَجْماً بالغيب‏}‏ على الحال، أي‏:‏ راجمين أو على المصدر، أي‏:‏ يرجمون رجماً، والرجم بالغيب هو القول بالظن والحدس من غير يقين، والموصوفون بالرجم بالغيب هم كلا الفريقين القائلين بأنهم ثلاثة، والقائلين بأنهم خمسة ‏{‏وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏ كأن قول هذه الفرقة أقرب إلى الصواب بدلالة عدم إدخالهم في سلك الراجمين بالغيب‏.‏ قيل‏:‏ وإظهار الواو في هذه الجملة يدل على أنها مرادة في الجملتين الأوليين‏.‏ قال أبو عليّ الفارسي‏:‏ قوله ‏{‏رابعهم كلبهم‏}‏، و‏{‏سادسهم كلبهم‏}‏ جملتان استغني عن حرف العطف فيهما بما تضمنتا من ذكر الجملة الأولى وهي قوله‏:‏ ‏{‏ثلاثة‏}‏، والتقدير‏:‏ هم ثلاثة، هكذا حكاه الواحدي عن أبي علي، ثم قال‏:‏ وهذا معنى قول الزجاج في دخول الواو في‏:‏ ‏{‏وثامنهم‏}‏ وإخراجها من الأوّل، وقيل‏:‏ هي مزيدة للتوكيد، وقيل‏:‏ إنها واو الثمانية، وإن ذكره متداول على ألسن العرب إذا وصلوا إلى الثمانية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفُتِحَتْ أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثيبات وَأَبْكَاراً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر المختلفين في عددهم بما يقطع التنازع بينهم فقال‏:‏ ‏{‏قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم‏}‏ منكم أيها المختلفون، ثم أثبت علم ذلك لقليل من الناس فقال‏:‏ ‏{‏مَّا يَعْلَمُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يعلم ذواتهم فضلاً عن عددهم، أو ما يعلم عددهم على حذف المضاف ‏{‏إِلاَّ قَلِيلٌ‏}‏ من الناس، ثم نهى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عن الجدال مع أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف فقال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ‏}‏ المراء في اللغة‏:‏ الجدال يقال‏:‏ مارى يماري مماراة ومراءً أي‏:‏ جادل، ثم استثنى سبحانه من المراء ما كان ظاهراً واضحاً فقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مِرَآء ظاهرا‏}‏ أي‏:‏ غير متعمق فيه وهو أن يقصّ عليهم ما أوحى الله إليه فحسب‏.‏ وقال الرازي‏:‏ هو أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد، بل يقول‏:‏ هذا التعيين لا دليل عليه، فوجب التوقف، ثم نهاه سبحانه عن الاستفتاء في شأنهم فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً‏}‏ أي‏:‏ لا تستفت في شأنهم من الخائفيين فيهم أحداً منهم، لأن المفتي يجب أن يكون أعلم من المستفتي، وها هنا الأمر بالعكس، ولا سيما في واقعة أهل الكهف، وفيما قصّ الله عليك في ذلك ما يغنيك عن سؤال من لا علم له‏.‏

‏{‏وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَئ إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَداً‏}‏ أي‏:‏ لأجل شيء تعزم عليه فيما يستقبل من الزمان، فعبر عنه بالغد، ولم يرد الغد بعينه، فيدخل فيه الغد دخولاً أوّلياً‏.‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ لما سألت اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم عن خبر الفتية فقال‏:‏ «أخبركم غداً»، ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس الوحي عنه حتى شقّ عليه، فأنزل الله هذه الآية يأمره بالاستثناء بمشيئة الله يقول‏:‏ إذا قلت لشيء‏:‏ إني فاعل ذلك غداً، فقل‏:‏ إن شاء الله‏.‏ وقال الأخفش والمبرد والكسائي والفراء‏:‏ لا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن تقول إن شاء الله، فأضمر القول ولما حذف تقول نقل شاء إلى لفظ الاستقبال، قيل‏:‏ وهذا الاستثناء مفرّغ، أي‏:‏ لا تقولنّ ذلك في حال من الأحوال، إلا حال ملابسته لمشيئة الله وهو أن تقول إن شاء الله، أو في وقت من الأوقات إلا وقت أن يشاء الله أن تقوله مطلقاً، وقيل‏:‏ الاستثناء جار مجرى التأبيد كأنه قيل‏:‏ لا تقولنه أبداً كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يكون لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 89‏]‏‏.‏ لأن عودهم في ملتهم مما لا يشاؤه الله‏.‏ ‏{‏واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏ الاستثناء بمشيئة الله أي‏:‏ فقل إن شاء الله، سواء كانت المدّة قليلة أو كثيرة‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في المدّة التي يجوز إلحاق الاستثناء فيها بعد المستثنى منه على أقوال معروفة في مواضعها وقيل‏:‏ المعنى ‏{‏واذكر رَّبَّكَ‏}‏ بالاستغفار ‏{‏إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِى رَبّى لأقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا‏}‏ المشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏من هذا‏}‏ هو نبأ أصحاب الكهف، أي‏:‏ قل يا محمد عسى أن يوفقني ربي لشيء أقرب من هذا النبأ من الآيات والدلائل الدالة على نبوّتي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ عسى أن يعطيني ربي من الآيات والدلالات على النبوّة ما يكون أقرب في الرشد وأدلّ من قصة أصحاب الكهف، وقد فعل الله به ذلك حيث آتاه من علم غيوب المرسلين وخبرهم ما كان أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف، وقيل‏:‏ الإشارة إلى قوله‏:‏ ‏{‏واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏ أي‏:‏ عسى أن يهديني ربي عند هذا النسيان لشيء آخر بدل هذا المنسيّ، وأقرب منه رشداً وأدنى منه خيراً ومنفعة، والأوّل أولى‏.‏ ‏{‏وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثلاثمائة سنين وازدادوا تِسْعًا‏}‏ قرأ الجمهور بتنوين مائة ونصب سنين، فيكون سنين على هذه القراءة بدلاً أو عطف بيان‏.‏ وقال الفراء وأبو عبيدة والزجاج والكسائي‏:‏ فيه تقديم وتأخير، والتقدير سنين ثلثمائة، ورجح الأوّل أبو عليّ الفارسي‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بإضافة مائة إلى سنين، وعلى هذه القراءة تكون سنين تمييزاً على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله تعالى‏:‏

‏{‏بالأخسرين أعمالا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 103‏]‏ قال الفراء‏:‏ ومن العرب من يضع سنين موضع سنة‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلثمائة رجل وثوب قد تضاف إلى المجموع وفي مصحف عبد الله ‏(‏ثلثمائة سنة‏)‏‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ لا تكاد العرب تقول مائة سنين‏.‏ وقرأ الضحاك ‏(‏ثلثمائة سنون‏)‏ بالواو‏.‏ وقرأ الجمهور ‏(‏تسعاً‏)‏ بكسر التاء‏.‏ وقرأ أبو عمرو بفتحها، وهذا إخبار من الله سبحانه بمدّة لبثهم‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدّة بعد الإعثار عليهم، فقال بعضهم‏:‏ إنهم لبثوا ثلثمائة سنة وتسع سنين، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذه المدّة في كونهم نياماً، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر، فأمر الله أن يردّ علم ذلك إليه، فقال‏:‏ ‏{‏قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ‏}‏ قال ابن عطية‏:‏ فقوله على هذا‏:‏ لبثوا الأوّل يريد في يوم الكهف، ولبثوا الثاني يريد بعد الإعثار عليهم إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم، أو إلى أن ماتوا‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إنه لما قال‏:‏ ‏{‏وازدادوا تِسْعًا‏}‏ لم يدر الناس أهي ساعات أم أيام أم جمع أم شهور أم أعوام‏؟‏ واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك، فأمر الله برد العلم إليه في التسع، فهي على هذا مبهمة‏.‏ والأوّل أولى، لأن الظاهر من كلام العرب المفهوم بحسب لغتهم أن التسع أعوام، بدليل أن العدد في هذا الكلام للسنين لا للشهور ولا للأيام ولا للساعات‏.‏ وعن الزجاج أن المراد‏:‏ ثلثمائة سنة شمسية وثلثمائة وتسع سنين قمرية، وهذا إنما يكون من الزجاج على جهة التقريب‏.‏ ثم أكد سبحانه اختصاصه بعلم ما لبثوا بقوله‏:‏ ‏{‏لَهُ غَيْبُ السموات والأرض‏}‏ أي‏:‏ ما خفي فيهما وغاب من أحوالهما ليس لغيره من ذلك شيء، ثم زاد في المبالغة والتأكيد فجاء بما يدلّ على التعجب من إدراكه للمبصرات والمسموعات فقال‏:‏ ‏{‏أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ‏}‏ فأفاد هذا التعجب على أن شأنه سبحانه في علمه بالمبصرات والمسموعات خارج عما عليه إدراك المدركين، وأنه يستوي في علمه الغائب والحاضر، والخفيّ والظاهر، والصغير والكبير، واللطيف والكثيف، وكأن أصله ما أبصره وما أسمعه، ثم نقل إلى صيغة الأمر للإنشاء، والباء زائدة عند سيبويه وخالفه الأخفش، والبحث مقرر في علم النحو ‏{‏مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ‏}‏ الضمير لأهل السموات والأرض، وقيل‏:‏ لأهل الكهف، وقيل‏:‏ لمعاصري محمد من الكفار، أي‏:‏ ما لهم من موالٍ يواليهم أو يتولى أمورهم أو ينصرهم، وفي هذا بيان لغاية قدرته وأن الكل تحت قهره ‏{‏وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا‏}‏ قرأ الجمهور برفع الكاف على الخبر عن الله سبحانه‏.‏

وقرأ ابن عباس والحسن وأبو رجاء وقتادة بالتاء الفوقية وإسكان الكاف على أنه نهي للنبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل لله شريكاً في حكمه، ورويت هذه القراءة عن ابن عامر‏.‏ وقرأ مجاهد بالتحتية والجزم‏.‏ قال يعقوب‏:‏ لا أعرف وجهها، والمراد بحكم الله‏:‏ ما يقضيه، أو علم الغيب‏.‏ والأوّل أولى‏.‏ ويدخل علم الغيب في ذلك دخولاً أوّلياً، فإن علمه سبحانه من جملة قضائه‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ‏}‏ قال‏:‏ أطلعنا‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ الأمراء، أو قال‏:‏ السلاطين‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُونَ ثلاثة‏}‏ قال‏:‏ اليهود ‏{‏وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ‏}‏ قال‏:‏ النصارى‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏رَجْماً بالغيب‏}‏ قال‏:‏ قذفاً بالظنّ‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ‏}‏ قال‏:‏ أنا من القليل كانوا سبعة‏.‏ وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال السيوطي بسند صحيح في قوله‏:‏ ‏{‏مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ‏}‏ قال‏:‏ أنا من أولئك القليل كانوا سبعة، ثم ذكر أسماءهم‏.‏ وحكاه ابن كثير عن ابن عباس في رواية قتادة وعطاء وعكرمة، ثم قال‏:‏ فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس‏:‏ أنهم كانوا سبعة‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ‏}‏ يقول‏:‏ حسبك ما قصصت عليك‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً‏}‏ قال‏:‏ اليهود‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَئ‏}‏ الآية قال‏:‏ إذا نسيت أن تقول لشيء إني أفعله فنسيت أن تقول‏:‏ إن شاء الله، فقل إذا ذكرت‏:‏ إن شاء الله‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه عنه أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ هي خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأحد أن يستثني إلا في صلة يمين‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر قال‏:‏ كل استثناء موصول فلا حنث على صاحبه، وإذا كان غير موصول فهو حانث‏.‏ وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قال سليمان بن داود‏:‏ لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة- وفي رواية‏:‏ تسعين- تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك‏:‏ قل إن شاء الله، فلم يقل، فطاف فلم يلد منهنّ إلا امرأة واحدة نصف إنسان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ والذي نفسي بيده لو قال‏:‏ إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته»

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عن عكرمة ‏{‏إِذَا نَسِيتَ‏}‏ قال‏:‏ إذا غضبت‏.‏ وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن الحسن ‏{‏إِذَا نَسِيتَ‏}‏ قال‏:‏ إذا لم تقل إن شاء الله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ إن الرجل ليفسر الآية يرى أنها كذلك فيهوي أبعد ما بين السماء والأرض، ثم تلا ‏{‏وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ‏}‏ الآية، ثم قال‏:‏ كم لبث القوم‏؟‏ قالوا‏:‏ ثلثمائة وتسع سنين، قال‏:‏ لو كانوا لبثوا كذلك لم يقل الله ‏{‏قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ‏}‏ ولكنه حكى مقالة القوم فقال‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُونَ ثلاثة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏رَجْماً بالغيب‏}‏ فأخبر أنهم لا يعلمون، ثم قال‏:‏ سيقولون ‏{‏وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثلاثمائة سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا‏}‏‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في حرف ابن مسعود، وقالوا‏:‏ ‏{‏ولبثوا في كهفهم‏}‏ الآية، يعني‏:‏ إنما قاله الناس ألا ترى أنه قال‏:‏ ‏{‏قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثلاثمائة‏}‏ قيل‏:‏ يا رسول الله أياماً أم أشهراً أم سنين‏؟‏ فأنزل الله ‏{‏سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا‏}‏‏.‏ وأخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك بدون ذكر ابن عباس‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ‏}‏ قال‏:‏ الله يقوله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 31‏]‏

‏{‏وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏27‏)‏ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ‏(‏28‏)‏ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏29‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ‏(‏30‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ‏}‏ أمره الله سبحانه أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحى إليه، قيل‏:‏ ويحتمل أن يكون معنى قوله‏:‏ ‏{‏واتل‏}‏‏:‏ واتبع، أمراً من التلوّ، لا من التلاوة، و‏{‏مِن كتاب رَبّكَ‏}‏ بيان للذي أوحي إليه ‏{‏لاَ مُبَدّلَ لكلماته‏}‏ أي‏:‏ لا قادر على تبديلها وتغييرها، وإنما يقدر على ذلك هو وحده‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي ما أخبر الله به وما أمر به فلا مبدّل له، وعلى هذا يكون التقدير‏:‏ لا مبدّل لحكم كلماته ‏{‏وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏ الملتحد‏:‏ الملتجأ، وأصل اللحد‏:‏ الميل، قال الزجاج‏:‏ لن تجد معدلاً عن أمره ونهيه، والمعنى‏:‏ أنك إن لم تتبع القرآن وتتله وتعمل بأحكامه لن تجد معدلاً تعدل إليه ومكاناً تميل إليه‏.‏ وهذه الآية آخر قصة أهل الكهف‏.‏ ثم شرح سبحانه في نوع آخر كما هو دأب الكتاب العزيز فقال‏:‏ ‏{‏واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم‏}‏ قد تقدّم في الأنعام نهيه صلى الله عليه وسلم عن طرد فقراء المؤمنين بقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏ وأمره سبحانه ههنا بأن يحبس نفسه معهم، فصبر النفس هو حبسها، وذكر الغداة والعشي كناية عن الاستمرار على الدعاء في جميع الأوقات، وقيل‏:‏ في طرفي النهار، وقيل المراد‏:‏ صلاة العصر والفجر‏.‏ وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبد الرحمن وابن عامر ‏(‏بالغدوة‏)‏ بالواو، واحتجوا بأنها في المصحف كذلك مكتوبة بالواو‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو، ولا تكاد العرب تقول‏:‏ الغدوة، ومعنى ‏{‏يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏‏:‏ أنهم يريدون بدعائهم رضى الله سبحانه، والجملة في محل نصب على الحال، ثم أمره سبحانه بالمراقبة لأحوالهم فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم‏.‏ قال الفراء‏:‏ معناه لا تصرف عيناك عنهم، وقال الزجاج‏:‏ لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة، واستعماله بعن لتضمنه معنى النبوّ، من عدوته عن الأمر، أي‏:‏ صرفته منه، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ لا تحتقرهم عيناك ‏{‏تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا‏}‏ أي‏:‏ مجالسة أهل الشرف والغنى، والجملة في محل نصب على الحال، أي‏:‏ حال كونك مريداً لذلك، هذا إذا كان فاعل تريد هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كان الفاعل ضميراً يعود إلى العينين، فالتقدير‏:‏ مريدة زينة الحياة الدنيا، وإسناد الإرادة إلى العينين مجاز، وتوحيد الضمير للتلازم كقول الشاعر‏:‏

لمن زحلوقة زل *** بها العينان تنهلّ

‏{‏وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا‏}‏ أي‏:‏ جعلناه غافلاً بالختم عليه، نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طاعة من جعل الله قلبه غافلاً عن ذكره كأولئك الذين طلبوا منه أن ينحي الفقراء عن مجلسه، فإنهم طالبوا تنحية الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه وهم غافلون عن ذكر الله، ومع هذا فهم ممن اتبع هواه وآثره على الحق فاختار الشرك على التوحيد ‏{‏وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏ أي‏:‏ متجاوزاً عن حدّ الاعتدال، من قولهم‏:‏ فرس فرط‏:‏ إذا كان متقدماً للخيل فهو على هذا من الإفراط‏.‏

وقيل هو‏:‏ من التفريط، وهو التقصير والتضييع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومن قدم العجز في أمره أضاعه وأهلكه‏.‏ ثم بيّن سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم ما يقوله لأولئك الغافلين، فقال‏:‏ ‏{‏وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ‏}‏ أي قل لهم‏:‏ إن ما أوحي إليك وأمرت بتلاوته هو الحق الكائن من جهة الله، لا من جهة غيره حتى يمكن فيه التبديل والتغيير، وقيل‏:‏ المراد بالحق الصبر مع الفقراء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي الذين أتيتكم به الحق مِن رَّبّكُمْ يعني‏:‏ لم آتكم به من قبل نفسي إنما أتيتكم به من الله ‏{‏فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ‏}‏ قيل‏:‏ هو من تمام القول الذي أمر رسوله أن يقوله، والفاء لترتيب ما قبلها على ما بعدها، ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه لا من القول الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه تهديد شديد، ويكون المعنى‏:‏ قل لهم يا محمد الحق من ربكم وبعد أن تقول لهم هذا القول، من شاء أن يؤمن بالله ويصدّقك فليؤمن، ومن شاء أن يكفر به ويكذبك فليكفر‏.‏ ثم أكد الوعيد وشدّده فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ أعددنا وهيأنا للظالمين الذين اختاروا الكفر بالله والجحد له والإنكار لأنبيائه ناراً عظيمة ‏{‏أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا‏}‏ أي‏:‏ اشتمل عليهم‏.‏ والسرادق‏:‏ واحد السرادقات‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وهي التي تمد فوق صحن الدار، وكل بيت من كرسف فهو سرادق، ومنه قول رؤبة‏:‏

يا حكم بن المنذر بن جارود *** سرادق المجد عليك ممدود

وقال الشاعر‏:‏

هو المدخل النعمان بيتاً سماؤه *** صدور الفيول بعد بيت مسردق

يقوله سلام بن جندل لما قتل ملك الفرس ملك العرب النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ سرادقها‏:‏ سورها‏.‏ وقال القتيبي‏:‏ السرادق‏:‏ الحجرة التي تكون حول الفسطاط‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه أحاط بالكفار سرادق النار على تشبيه ما يحيط بهم من النار بالسرادق المحيط بمن فيه ‏{‏وَإِن يَسْتَغِيثُواْ‏}‏ من حرّ النار ‏{‏يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل‏}‏ وهو‏:‏ الحديد المذاب‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إنهم يغاثون بماء كالرصاص المذاب أو الصفر، وقيل‏:‏ هو درديّ الزيت‏.‏ وقال أبو عبيدة والأخفش‏:‏ هو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس‏.‏ وقيل‏:‏ هو ضرب من القطران‏.‏ ثم وصف هذا الماء الذي يغاثون به بأنه ‏{‏يَشْوِى الوجوه‏}‏ إذا قدّم إليهم صارت وجوههم مشوية لحرارته ‏{‏بِئْسَ الشراب‏}‏ شرابهم هذا ‏{‏وَسَاءتْ‏}‏ النار ‏{‏مُرْتَفَقًا‏}‏ متكأً، يقال‏:‏ ارتفقت أي‏:‏ اتكأت، وأصل الارتفاق‏:‏ نصب المرفق، ويقال‏:‏ ارتفق الرجل إذا نام على مرفقه، وقال القتيبي‏:‏ هو المجلس، وقيل، المجتمع‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ هذا شروع في وعد المؤمنين بعد الفراغ من وعيد الكافرين، والمعنى‏:‏ إن الذين آمنوا بالحق الذي أوحي إليك وعملوا الصالحات من الأعمال ‏{‏إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً‏}‏ هذا خبر ‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏، والعائد محذوف، أي‏:‏ من أحسن منهم عملاً، وجملة‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ‏}‏ استئناف لبيان الأجر، والإشارة إلى من تقدّم ذكره، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون ‏{‏أولئك‏}‏ خبر ‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏، وتكون جملة‏:‏ ‏{‏إِنَّا لاَ نُضِيعُ‏}‏ اعتراضاً، ويجوز أن يكون ‏{‏أولئك‏}‏ خبراً بعد خبر، وقد تقدّم الكلام ‏{‏في جنات عدن‏}‏، وفي كيفية جري الأنهار من تحتها ‏{‏يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، وهي زينة تلبس في الزند من اليد وهي من زينة الملوك، قيل‏:‏ يحلى كل واحد منهم ثلاثة أسورة‏:‏ واحد من فضة، واحد من لؤلؤ، وواحد من ذهب، وظاهر الآية أنها جميعها من ذهب، ويمكن أن يكون قول القائل هذا جمعاً بين الآيات لقوله سبحانه في آية أخرى‏:‏ ‏{‏أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 21‏]‏، ولقوله في آية أخرى‏:‏ ‏{‏وَلُؤْلُؤاً‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 23‏]‏‏.‏ و«من» في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ أَسَاوِرَ‏}‏ للابتداء، وفي ‏{‏من ذهب‏}‏ للبيان‏.‏ وحكى الفراء ‏"‏ يحلون ‏"‏ بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام، يقال‏:‏ حليت المرأة تحلى فهي حالية‏:‏ إذا لبست الحليّ ‏{‏وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ‏}‏ قال الكسائي‏:‏ السندس‏:‏ الرقيق، واحده سندسة، والإستبرق‏:‏ ما ثخن وكذا قال المفسرون، وقيل‏:‏ الإستبرق‏:‏ هو الديباج كما قال الشاعر‏:‏

وإستبرق الديباج طوراً لباسها *** وقيل‏:‏ هو المنسوج بالذهب‏.‏ قال القتيبي‏:‏ هو فارسيّ معرّب‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وتصغيره أبيرق، وخصّ الأخضر لأنه الموافق للبصر، ولكونه أحسن الألوان ‏{‏مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك‏}‏ قال الزجاج‏:‏ الأرائك‏:‏ جمع أريكة، وهي السرر في الحجال، وقيل‏:‏ هي أسرة من ذهب مكللة بالدرّ والياقوت، وأصل اتكأ‏:‏ اوتكأ، وأصل متكئين‏:‏ موتكئين، والاتكاء‏:‏ التحامل على الشيء ‏{‏نِعْمَ الثواب‏}‏ ذلك الذي أثابهم الله به ‏{‏وَحَسُنَتْ‏}‏ تلك الأرائك ‏{‏مُرْتَفَقًا‏}‏ أي متكأً وقد تقدّم قريباً‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏مُلْتَحَدًا‏}‏ قال‏:‏ ملتجأً‏.‏ وأخرج ابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب عن سلمان قال‏:‏ جاءت المؤلفة قلوبهم‏:‏ عيينة بن بدر، والأقرع بن حابس فقالوا‏:‏ يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم، يعنون‏:‏ سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف، جالسناك وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله ‏{‏واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا‏}‏، زاد أبو الشيخ عن سلمان‏:‏

«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى فقال‏:‏» الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا والممات «وأخرج ابن جرير، والطبراني، وابن مردويه عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال‏:‏ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته ‏{‏واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى‏}‏ فخرج يلتمسهم فوجد قوماً يذكرون الله منهم ثائر الرأس وحاف الجلد وذو الثوب الخلق، فلما رآهم جلس معهم وقال‏:‏» الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم «وأخرج البزار عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا‏:‏ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يقرأ سورة الحجر أو سورة الكهف فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏» هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم «، وفي الباب روايات‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن نافع قال‏:‏ أخبرني عبد الله بن عمر في هذه الآية‏:‏ ‏{‏واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم‏}‏ أنهم الذين يشهدون الصلوات الخمس‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن ابن عباس مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه في قوله‏:‏ ‏{‏واصبر نَفْسَكَ‏}‏ الآية قال‏:‏ نزلت في صلاة الصبح وصلاة العصر‏.‏ وأخرج ابن مردويه من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا‏}‏ قال‏:‏ نزلت في أمية بن خلف، وذلك أنه دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة، فأنزل الله هذه الآية، يعني‏:‏ من ختمنا على قلبه يعني‏:‏ التوحيد ‏{‏واتبع هَوَاهُ‏}‏ يعني الشرك ‏{‏وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏ يعني‏:‏ فرطاً في أمر الله وجهالة بالله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن بريدة قال‏:‏ دخل عيينة بن حصن على النبيّ في يوم حارّ، وعنده سلمان عليه جبة صوف، فصار منه ريح العرق في الصوف، فقال عيينة‏:‏ يا محمد إذا نحن أتيناك فأخرج هذا وضرباءه من عندك لا يؤذينا، فإذا خرجنا فأنت وهم أعلم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ‏}‏ الآية‏.‏ وقد ثبت في صحيح مسلم في سبب نزول الآية المتضمنة لمعنى هذه الآية، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏، عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال‏:‏ وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدّث نفسه، فأنزل الله ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏ قال‏:‏ ضياعاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة ‏{‏وَقُلِ الحق‏}‏ قال‏:‏ هو القرآن‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ‏}‏ يقول‏:‏ من شاء الله له الإيمان آمن، ومن شاء له الكفر كفر، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله رَبُّ العالمين‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال في الآية‏:‏ هذا تهديد ووعيد‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا‏}‏ قال‏:‏ حائط من نار‏.‏ وأخرج أحمد، والترمذي، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لسرادق النار أربعة جدر، كثافة كل جدار منها مسيرة أربعين سنة» وأخرج أحمد، والبخاري، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن يعلى بن أمية قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن البحر هو من جهنم، ثم تلا ‏{‏نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا‏}‏» وأخرج أحمد، والترمذي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏بِمَاء كالمهل‏}‏ قال‏:‏ «كعكر الزيت، فإذا قرّب إليه سقطت فروة وجهه فيه» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كالمهل‏}‏ قال‏:‏ أسود كعكر الزيت‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وهناد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عطية قال‏:‏ سئل ابن عباس عن المهل فقال‏:‏ ماء غليظ كدرديّ الزيت‏.‏ وأخرج هناد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني عن ابن مسعود‏:‏ أنه سئل عن المهل، فدعا بذهب وفضة فأذابه، فلما ذاب قال‏:‏ هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو شراب أهل النار ولونه لون السماء، غير أن شراب أهل النار أشدّ حرّاً من هذا‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال‏:‏ هل تدرون ما المهل‏؟‏ المهل‏:‏ سهل الزيت، يعني‏:‏ آخره‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا‏}‏ قال‏:‏ مجتمعاً‏.‏

وأخرج البخاري، ومسلم عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» وأخرج البيهقي عن أبي الخير مرثد بن عبد الله قال‏:‏ في الجنة شجرة تنبت السندس منه يكون ثياب أهل الجنة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير عن عكرمة قال‏:‏ الإستبرق‏:‏ الديباج الغليظ‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحوّل منه ولا يمله، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه» وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ الأرائك‏:‏ السرر في جوف الحجال عليها الفرش منضود في السماء فرسخ‏.‏ وأخرج البيهقي في البعث عنه قال‏:‏ لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن عكرمة، أنه سئل عن الأرائك فقال‏:‏ هي الحجال على السرر‏.‏