فصل: تفسير الآيات رقم (128- 135)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 135‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏128‏)‏ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ‏(‏129‏)‏ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ‏(‏130‏)‏ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏131‏)‏ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ‏(‏132‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏133‏)‏ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ‏(‏134‏)‏ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ‏(‏135‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ‏}‏ الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدّر، كما مرّ غير مرّة، والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها وفاعل يهد هو الجملة المذكورة بعدها، والمفعول محذوف، وأنكر البصريون مثل هذا لأن الجمل لا تقع فاعلاً، وجوّزه غيرهم‏.‏ قال القفال‏:‏ جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيناً لهم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا خطأ؛ لأن «كم» استفهام، فلا يعمل فيها ما قبلها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أو لم يهد لهم الأمر بإهلاكنا من أهلكناه، وحقيقته تدل على الهدى، فالفاعل هو الهدى، وقال‏:‏ «كَمْ» في موضع نصب ب ‏{‏أهلكنا‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن فاعل ‏{‏يهد‏}‏ ضمير للّه أو للرسول، والجملة بعده تفسره، ومعنى الآية على ما هو الظاهر‏:‏ أفلم يتبين لأهل مكة خبر من ‏{‏أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون‏}‏ حال كون القرون ‏{‏يَمْشُونَ فِي مساكنهم‏}‏ ويتقلبون في ديارهم، أو حال كون هؤلاء يمشون من مساكن القرون الذين أهلكناهم عند خروجهم للتجارة وطلب المعيشة، فيرون بلاد الأمم الماضية، والقرون الخالية خاوية خاربة من أصحاب الحجر وثمود وقرى قوم لوط، فإن ذلك مما يوجب اعتبارهم، لئلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك، وقرأ ابن عباس والسلمي‏:‏ «نهد» بالنون، والمعنى على هذه القراءة واضح، وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لأوْلِي النهى‏}‏ تعليل للإنكار وتقرير للهداية، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى مضمون ‏{‏كم أهلكنا‏}‏ إلى آخره‏.‏ والنهى‏:‏ جمع نهية، وهي العقل، أي لذوي العقول التي تنهى أربابها عن القبيح‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ‏}‏ أي ولولا الكلمة السابقة، وهي وعد الله سبحانه بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الدار الآخرة ‏{‏لَكَانَ‏}‏ عقاب ذنوبهم ‏{‏إلزاماً‏}‏ أي لازماً لهم، لا ينفك عنهم بحال ولا يتأخر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَجَلٌ مُّسَمًّى‏}‏ معطوف على ‏{‏كلمة‏}‏ قاله الزجاج وغيره؛ والأجل المسمى هو‏:‏ يوم القيامة، أو يوم بدر، واللزام مصدر لازم‏.‏ قيل‏:‏ ويجوز عطف ‏{‏وأجل مسمى‏}‏ على الضمير المستتر في كان العائد إلى الأخذ العاجل المفهوم من السياق؛ تنزيلاً للفصل بالخبر منزلة التأكيد، أي لكان الأخذ العاجل ‏{‏وَأَجَلٌ مُّسَمًّى‏}‏ لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود، وفيه تعسف ظاهر‏.‏

ثم لما بين الله سبحانه أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر، فقال‏:‏ ‏{‏فاصبر على مَا يَقُولُونَ‏}‏ من أنك ساحر كذاب، ونحو ذلك أن مطاعنهم الباطلة، والمعنى‏:‏ لا تحتفل بهم، فإن لعذابهم وقتاً مضروباً لا يتقدّم ولا يتأخر‏.‏ وقيل‏:‏ هذا منسوخ بآية القتال ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ‏}‏ أي متلبساً بحمده‏.‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ والمراد‏:‏ الصلوات الخمس كما يفيد قوله‏:‏ ‏{‏قَبْلَ طُلُوعِ الشمس‏}‏ فإنه إشارة إلى صلاة الفجر ‏{‏وَقَبْلَ غُرُوبِهَا‏}‏ فإنه إشارة إلى صلاة العصر ‏{‏وَمِنْ ءَانَاء اليل‏}‏ العتمة، والمراد بالآناء‏:‏ الساعات، وهي جمع إني بالكسر والقصر، وهو الساعة، ومعنى ‏{‏فَسَبّحْ‏}‏ أي فصلّ ‏{‏وَأَطْرَافَ النهار‏}‏ أي المغرب والظهر لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول، وأوّل طرف النهار الآخر‏.‏

وقيل‏:‏ إن الإشارة إلى صلاة الظهر هي بقوله‏:‏ ‏{‏وَقَبْلَ غُرُوبِهَا‏}‏ لأنها هي وصلاة العصر قبل غروب الشمس‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالآية صلاة التطوّع‏.‏ ولو قيل ليس في الآية إشارة إلى الصلاة بل المراد التسبيح في هذه الأوقات أي‏:‏ قول القائل سبحان الله، لم يكن ذلك بعيداً من الصواب‏.‏ والتسبيح وإن كان يطلق على الصلاة ولكنه مجاز، والحقيقة أولى إلا لقرينة تصرف ذلك إلى المعنى المجازي، وجملة‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكَ ترضى‏}‏ متعلقة بقوله‏:‏ ‏{‏فسبح‏}‏ أي سبح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عند الله سبحانه ما ترضى به نفسك، هذا على قراءة الجمهور‏.‏ وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «ترضى» بضم التاء مبنياً للمفعول، أي يرتضيك ربك‏.‏

‏{‏وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أزواجا مّنْهُمْ‏}‏ قد تقدّم تفسير هذه الآية في الحجر‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تطل نظر عينيك، و‏{‏أزواجاً‏}‏ مفعول ‏{‏متعنا‏}‏‏.‏ و‏{‏زهرة‏}‏ منصوبة على الحال، أو بفعل محذوف، أي جعلنا أو أعطينا، ذكر معنى هذا الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ هي بدل من الهاء في‏:‏ ‏{‏به‏}‏ باعتبار محله، وهو النصب لا باعتبار لفظه، فإنه مجرور كما تقول‏:‏ مررت به أخاك‏.‏ ورجح الفراء النصب على الحال، يجوز أن تكون بدلاً، ويجوز أن تكون منتصبة على المصدر مثل صبغة الله ووعد الله و‏{‏زَهْرَةَ الحياة الدنيا‏}‏‏:‏ زينتها وبهجتها بالنبات وغيره‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر‏:‏ «زهرة» بفتح الهاء، وهي نور النبات، واللام في‏:‏ ‏{‏لِنَفْتِنَهُمْ فيه‏}‏ متعلق ب ‏{‏متعنا‏}‏ أي لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالة، ابتلاءً منا لهم، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 7‏]‏ وقيل‏:‏ لنعذبنهم‏.‏ وقيل‏:‏ لنشدد عليهم في التكليف ‏{‏وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وأبقى‏}‏ أي ثواب الله، وما ادّخر لصالح عباده في الآخرة خير مما رزقهم في الدنيا على كل حال، وأيضاً فإن ذلك لا ينقطع، وهذا ينقطع، وهو معنى ‏{‏وأبقى‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بهذا الرزق‏:‏ ما يفتح الله على المؤمنين من الغنائم ونحوها، والأوّل أولى؛ لأن الخيرية المحققة والدوام الذي لا ينقطع إنما يتحققان في الرزق الأخروي لا الدنيوي، وإن كان حلالاً طيباً‏:‏ ‏{‏مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 96‏]‏‏.‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة‏}‏ أمره الله سبحانه بأن يأمر أهله بالصلاة‏.‏ والمراد بهم‏:‏ أهل بيته‏.‏ وقيل‏:‏ جميع أمته، ولم يذكر ها هنا الأمر من الله له بالصلاة، بل قصر الأمر على أهله، إما لكون إقامته لها أمراً معلوماً، أو لكون أمره بها قد تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ‏}‏ إلى آخر الآية، أو لكون أمره بالأمر لأهله أمراً له، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏واصطبر عَلَيْهَا‏}‏ أي اصبر على الصلاة، ولا تشتغل عنها بشيء من أمور الدنيا ‏{‏لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً‏}‏ أي لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك، وتشتغل بذلك عن الصلاة ‏{‏نَّحْنُ نَرْزُقُكَ‏}‏ ونرزقهم ولا نكلفك ذلك ‏{‏والعاقبة للتقوى‏}‏ أي العاقبة المحمودة، وهي الجنة لأهل التقوى على حذف المضاف كما قال الأخفش‏.‏

وفيه دليل على أن التقوى هي ملاك الأمر وعليها تدور دوائر الخير‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ مّن رَّبّهِ‏}‏ أي قال كفار مكة‏:‏ هلا يأتينا محمد بآية من آيات ربه كما كان يأتي بها من قبله من الأنبياء‏؟‏ وذلك كالناقة والعصا، أو هلا يأتينا بآية من الآيات التي قد اقترحناها عليه‏؟‏ فأجاب الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِي الصحف الاولى‏}‏ يريد بالصحف الأولى‏:‏ التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المنزلة، وفيها التصريح بنبوّته والتبشير به، وذلك يكفي، فإن هذه الكتب المنزلة هم معترفون بصدقها وصحتها، وفيها ما يدفع إنكارهم لنبوّته، ويبطل تعنتاتهم وتعسفاتهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أو لم يأتهم إهلاكنا للأمم الذين كفروا واقترحوا الآيات، فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات التي اقترحوها أن يكون حالهم كحالهم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ أو لم تأتهم آية هي أمّ الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعني القرآن، فإنه برهان‏:‏ لما في سائر الكتب المنزلة‏.‏ وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو ويعقوب وابن أبي إسحاق وحفص‏:‏ ‏{‏أو لم تأتهم‏}‏ بالتاء الفوقية، وقرأ الباقون بالتحتية؛ لأن معنى البينة‏:‏ البيان والبرهان، فذكروا الفعل اعتباراً بمعنى البينة، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم‏.‏ قال الكسائي‏:‏ ويجوز‏:‏ «بينة» بالتنوين‏.‏ قال النحاس‏:‏ إذا نوّنت بينة ورفعت جعلت «ما» بدلاً منها، وإذا نصبت فعلى الحال‏.‏ والمعنى‏:‏ أو لم يأتهم ما في الصحف الأولى مبيناً، وهذا على ما يقتضيه الجواز النحوي وإن لم تقع القراءة به‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ‏}‏ أي من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم أو من قبل إتيان البينة لنزول القرآن ‏{‏لَقَالُواْ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً‏}‏ أي هلا أرسلت إلينا رسولاً في الدنيا ‏{‏فَنَتَّبِعَ ءاياتك‏}‏ التي يأتي بها الرسول ‏{‏مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ‏}‏ بالعذاب في الدنيا ‏{‏ونخزى‏}‏ بدخول النار، وقرئ‏:‏ «نذلّ ونخزى» على البناء للمفعول‏.‏ وقد قطع الله معذرة هؤلاء الكفرة بإرسال الرسول إليهم قبل إهلاكهم؛ ولهذا حكى الله عنهم أنهم‏:‏ ‏{‏قَالُواْ بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَئ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 9‏]‏‏.‏

‏{‏قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبّصٌ فَتَرَبَّصُواْ‏}‏ أي قل لهم يا محمد كل واحد منا ومنكم متربص، أي منتظر لما يؤول إليه الأمر فتربصوا أنتم ‏{‏فَسَتَعْلَمُونَ‏}‏ عن قريب ‏{‏مَنْ أصحاب الصراط السوي‏}‏ أي فستعلمون بالنصر والعاقبة من هو من أصحاب الصراط المستقيم ‏{‏وَمَنِ اهتدى‏}‏ من الضلالة ونزع عن الغواية، و«من» في الموضعين في محل رفع بالابتداء‏.‏

قال النحاس‏:‏ والفراء يذهب إلى أن معنى ‏{‏مَنْ أصحاب الصراط السوي‏}‏‏:‏ من لم يضلّ، وإلى أن معنى ‏{‏مَّنِ اهتدى‏}‏‏:‏ من ضلّ ثم اهتدى وقيل‏:‏ ‏"‏ من ‏"‏ في الموضعين في محل نصب، وكذا قال الفراء‏.‏ وحكي عن الزجاج أنه قال‏:‏ هذا خطأ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله‏.‏ وقرأ أبو رافع‏:‏ ‏"‏ فسوف تعلمون ‏"‏ وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري‏:‏ ‏"‏ السوى ‏"‏ على فعلى، وردت هذه القراءة بأن تأنيث الصراط شاذ وقيل‏:‏ هي بمعنى الوسط والعدل‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ‏}‏‏:‏ ألم نبين لهم‏.‏ ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مساكنهم‏}‏ نحو عاد وثمود ومن أهلك من الأمم‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى‏}‏ يقول‏:‏ هذا من مقاديم الكلام، يقول‏:‏ لولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاماً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ نحوه‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال‏:‏ الأجل المسمى‏:‏ الكلمة التي سبقت من ربك‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏لَكَانَ لِزَاماً‏}‏ قال‏:‏ موتاً‏.‏

وأخرج الفريابي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ‏}‏ الآية قال‏:‏ هي الصلاة المكتوبة‏.‏ وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن جرير عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏ قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، ‏{‏وقبل غروبها‏}‏ صلاة العصر ‏"‏ وفي الصحيحين وغيرهما من حديث جرير قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ‏"‏، وقرأ ‏{‏فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ * قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا‏}‏‏.‏ وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي عن عمارة بن رؤبة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ‏"‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن راهويه والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والخرائطي وأبو نعيم عن أبي رافع قال‏:‏ «أضاف النبيّ صلى الله عليه وسلم ضيفاً‏.‏ ولم يكن عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يصلحه، فأرسلني إلى رجل من اليهود‏:‏ أن بعنا أو أسلفنا دقيقاً إلى هلال رجب، فقال‏:‏ لا إلا برهن، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال‏:‏

‏"‏ أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض، ولئن أسلفني أو باعني لأدّيت إليه، اذهب بدرعي الحديد ‏"‏، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ‏}‏‏.‏ كأنه يعزيه عن الدنيا‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا ‏"‏، قالوا‏:‏ وما زهرة الدنيا يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ بركات الأرض ‏"‏ وأخرج ابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن أبي سعيد الخدريّ قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة‏}‏ كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجيء إلى باب عليّ صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول‏:‏ ‏"‏ الصلاة رحمكم الله ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً‏}‏ ‏"‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن أبي الحمراء نحوه‏.‏ وأخرج أحمد في الزهد، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عن ثابت، قال‏:‏ «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله‏:‏ ‏"‏ يا أهلاه صلوا صلوا ‏"‏، قال ثابت‏:‏ وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة‏.‏ وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر، والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب بإسناد‏.‏ قال السيوطي‏:‏ صحيح، عن عبد الله بن سلام قال‏:‏ ‏"‏ كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بأهله شدّة أو ضيق أمرهم بالصلاة، وقرأ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة‏}‏ الآية‏.‏ ‏"‏

سورة الأنبياء

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ‏(‏1‏)‏ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏2‏)‏ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏3‏)‏ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏4‏)‏ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏5‏)‏ مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏7‏)‏ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

يقال‏:‏ قرب الشيء واقترب وقد اقترب الحساب، أي قرب الوقت الذي يحاسبون فيه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ ‏{‏اقترب لِلنَّاسِ‏}‏ وقت ‏{‏حِسَابَهُمْ‏}‏ أي القيامة كما في قوله‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 1‏]‏‏.‏ واللام في ‏{‏للناس‏}‏ متعلقة بالفعل، وتقديمها هي ومجرورها على الفاعل لإدخال الروعة، ومعنى اقتراب وقت الحساب‏:‏ دنّوه منهم، لأنه في كل ساعة أقرب إليهم من الساعة التي قبلها‏.‏ وقيل‏:‏ لأن كل ما هو آتٍ قريب، وموت كل إنسان قيام ساعته‏.‏ والقيامة أيضاً قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى، والمراد بالناس‏:‏ العموم‏.‏ وقيل‏:‏ المشركون مطلقاً‏.‏ وقيل‏:‏ كفار مكة، وعلى هذا الوجه قيل‏:‏ المراد بالحساب‏:‏ عذابهم يوم بدر، وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال، أي هم في غفلة بالدنيا معرضون عن الآخرة، غير متأهبين بما يجب عليهم من الإيمان بالله‏.‏ والقيام بفرائضه، والانزجار عن مناهيه‏.‏

‏{‏مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ‏}‏‏:‏ «من» لابتداء الغاية‏.‏ وقد استدلّ بوصف الذكر لكونه محدثاً على أن القرآن محدث، لأن الذكر هنا هو‏:‏ القرآن‏.‏ وأجيب بأنه‏:‏ لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف، لأنه متجدد في النزول‏.‏ فالمعنى محدث تنزيله، وإنما النزاع في الكلام النفسي‏.‏

وهذه المسألة أعني قدم القرآن وحدوثه، قد ابتلي بها كثير من أهل العلم والفضل في الدولة المأمونية والمعتصمية والواثقية، وجرى للإمام أحمد بن حنبل ما جرى من الضرب الشديد والحبس الطويل وضرب بسببها عنق محمد بن نصر الخزاعي، وصارت فتنة عظيمة في ذلك الوقت وما بعده‏.‏ والقصة أشهر من أن تذكر، ومن أحبّ الوقوف على حقيقتها طالع ترجمة الإمام أحمد بن حنبل في كتاب النبلاء لمؤرخ الإسلام الذهبي‏.‏ ولقد أصاب أئمة السنّة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه وحفظ الله بهم أمة نبيه عن الابتداع، ولكنهم رحمهم الله جاوزوا ذلك إلى الجزم بقدمه ولم يقتصروا على ذلك حتى كفروا من قال بالحدوث، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال‏:‏ لفظي بالقرآن مخلوق، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف، وليتهم لم يجاوزوا حد الوقف وإرجاع العلم إلى علام الغيوب، فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة وظهور القول في هذه المسألة شيء من الكلام، ولا نقل عنهم كلمة في ذلك، فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه، والتمسك بأذيال الوقف، وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى، وفيه السلامة والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله، والأمر لله سبحانه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ استمعوه‏}‏ استثناء مفرغ في محل نصب على الحال‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَلْعَبُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال أيضاً، من فاعل استمعوه، و‏{‏لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ‏}‏ حال أيضاً والمعنى‏:‏ ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا في الاستماع مع اللعب والاستهزاء ولهوة القلوب، وقرئ‏:‏ «لاهية» بالرفع كما قرئ‏:‏ «محدث» بالرفع ‏{‏وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ النجوى‏:‏ اسم من التناجي، والتناجي لا يكون إلا سرّاً، فمعنى إسرار النجوى‏:‏ المبالغة في الإخفاء‏.‏ وقد اختلف في محل الموصول على أقوال، فقيل‏:‏ إنه في محل رفع بدل من الواو في ‏{‏أسرّوا‏}‏، قاله المبرد وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ هو في محل رفع على الذمّ‏.‏ وقيل‏:‏ هو فاعل لفعل محذوف، والتقدير‏:‏ يقول الذين ظلموا، واختار هذا النحاس، وقيل‏:‏ في محل نصب بتقدير أعني‏.‏ وقيل‏:‏ في محل خفض على أنه بدل من الناس ذكر ذلك المبرد‏.‏ وقيل‏:‏ هو في محل رفع على أنه فاعل ‏{‏أسرّوا‏}‏ على لغة من يجوّز الجمع بين فاعلين، كقولهم‏:‏ أكلوني البراغيث، ذكر ذلك الأخفش، ومثله ‏{‏ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 71‏]‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

فاهتدين البغال للأغراض *** وقول الآخر‏:‏

ولكن دنا بي أبوه وأمه *** بحوران يعصرن السليط أقاربه

وقال الكسائي‏:‏ فيه تقديم وتأخير، أي والذين ظلموا أسرّوا النجوى‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أسرّوا هنا من الأضداد، يحتمل أن يكون بمعنى‏:‏ أخفوا كلامهم، ويحتمل أن يكون بمعنى‏:‏ أظهروه وأعلنوه ‏{‏هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ‏}‏ هذه الجملة بتقدير القول قبلها، أي قالوا‏:‏ هل هذا الرسول إلا بشر مثلكم لا يتميز عنكم بشيء‏؟‏ ويجوز أن تكون هذه الجملة بدلاً من النجوى، وهل بمعنى النفي أي‏:‏ وأسرّوا هذا الحديث، والهمزة في ‏{‏أَفَتَأْتُونَ السحر‏}‏ للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره، وجملة‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال، والمعنى‏:‏ إذا كان بشراً مثلكم، وكان الذي جاء به سحراً، فكيف تجيبونه إليه وتتبعونه‏.‏

فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما تناجوا به، وأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم فقال‏:‏ ‏{‏قُل رَّبّي يَعْلَمُ القول فِى السماء والأرض‏}‏ أي لا يخفى عليه شيء مما يقال فيهما، وفي مصاحف أهل الكوفة‏:‏ ‏{‏قال ربي‏}‏ أي قال محمد‏:‏ ربي يعلم القول، فهو عالم بما تناجيتم به‏.‏ قيل‏:‏ القراءة الأولى أولى، لأنهم أسرّوا هذا القول، فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك وأمره أن يقول لهم هذا‏.‏ قال النحاس‏:‏ والقراءتان صحيحتان، وهما بمنزلة آيتين ‏{‏وَهُوَ السميع‏}‏ لكل ما يسمع ‏{‏العليم‏}‏ بكل معلوم، فيدخل في ذلك ما أسرّوا دخولاً أولياً‏.‏

‏{‏بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي قالوا‏:‏ الذي تأتي به أضغاث أحلام‏.‏ قال القتيبي‏:‏ أضغاث الأحلام الرؤيا الكاذبة‏.‏ وقال اليزيدي‏:‏ الأضغاث ما لم يكن له تأويل، وهذا إضراب من جهة الله سبحانه حكاية لما وقع منهم، وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية هذا القول‏.‏

ثم حكى سبحانه إضرابهم عن قولهم‏:‏ أضغاث أحلام، قال‏:‏ ‏{‏بَلِ افتراه‏}‏ أي بل قالوا‏:‏ افتراه من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل‏.‏ ثم حكى سبحانه عنهم أنهم أضربوا عن هذا وقالوا‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ شَاعِرٌ‏}‏ وما أتى به من جنس الشعر، وفي هذا الاضطراب منهم، والتلوّن والتردّد أعظم دليل على أنهم جاهلون بحقيقة ما جاء به، لا يدرون ما هو ولا يعرفون كنهه‏؟‏ أو كانوا قد علموا أنه حق، وأنه من عند الله، ولكن أرادوا أن يدفعوه بالصدر ويرموه بكل حجر ومدر، وهذا شأن من غلبته الحجة وقهره البرهان‏.‏ ثم بعد هذا كله، قالوا‏:‏ ‏{‏فليأتنا بآية‏}‏ وهذا جواب شرط محذوف أي‏:‏ إن لم يكن كما قلنا‏:‏ فليأتنا بآية ‏{‏كَمَا أُرْسِلَ الأولون‏}‏ أي كما أرسل موسى بالعصا وغيرها، وصالح بالناقة، ومحل الكاف الجرّ صفة لآية، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف، وكان سؤالهم هذا سؤال تعنت، لأن الله سبحانه قد أعطاهم من الآيات ما يكفي، ولو علم الله سبحانه أنهم يؤمنون إذا أعطاهم ما يقترحوه لأعطاهم ذلك، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏ قال الزجاج‏:‏ اقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال، فقال الله مجيباً لهم‏:‏ ‏{‏مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ‏}‏ أي قبل مشركي مكة، ومعنى ‏{‏من قرية‏}‏‏:‏ من أهل قرية، ووصف القرية بقوله‏:‏ ‏{‏أهلكناها‏}‏ أي أهلكنا أهلها، أو أهلكناها بإهلاك أهلها‏.‏ وفيه بيان أن سنّة الله في الأمم السالفة أن المقترحين إذا أعطوا ما اقترحوه ثم لم يؤمنوا نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة، و«من» في ‏{‏من قرية‏}‏ مزيدة للتأكيد، والمعنى‏:‏ ما آمنت قرية من القرى التي أهلكناها بسبب اقتراحهم قبل هؤلاء، فكيف نعطيهم ما يقترحون، وهم أسوة من قبلهم، والهمزة في ‏{‏أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ‏}‏ للتقريع والتوبيخ، والمعنى‏:‏ إن لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوا، فكيف يؤمن هؤلاء لو أعطوا ما اقترحوا‏.‏

ثم أجاب سبحانه عن قولهم‏:‏ هل هذا إلا بشر مثلكم بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمُ‏}‏ أي لم نرسل قبلك إلى الأمم السابقة إلا رجالاً من البشر، ولم نرسل إليهم ملائكة كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏قُل لَوْ كَانَ فِى الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 95‏]‏‏.‏ وجملة ‏{‏نوحي إليهم‏}‏ مستأنفة لبيان كيفية الإرسال، ويجوز أن تكون صفة ل ‏{‏رجالاً‏}‏ أي متصفين بصفة الإيحاء إليهم‏.‏ قرأ حفص وحمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏نوحي‏}‏ بالنون، وقرأ الباقون بالياء‏:‏ «يوحي»‏.‏ ثم أمرهم الله بأن يسألوا أهل الذكر إن كانوا يجهلون هذا فقال‏:‏ ‏{‏فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ وأهل الذكر‏:‏ هم أهل الكتابين‏:‏ اليهود والنصارى، ومعنى ‏{‏إن كنتم لا تعلمون‏}‏‏:‏ إن كنتم لا تعلمون أن رسل الله من البشر، كذا قال أكثر المفسرين‏.‏

وقد كان اليهود والنصارى لا يجهلون ذلك ولا ينكرونه، وتقدير الكلام‏:‏ إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أهل الذكر‏.‏ وقد استدل بالآية على أن التقليد جائز وهو خطأ، ولو سلم لكان المعنى سؤالهم عن النصوص من الكتاب والسنّة، لا عن الرأي البحت، وليس التقليد إلا قبول قول الغير دون حجته‏.‏ وقد أوضحنا هذا في رسالة بسيطة‏:‏ سميناها «القول المفيد في حكم التقليد»‏.‏

ثم لما فرغ سبحانه من الجواب عن شبهتهم أكد كون الرسل من جنس البشر فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا جعلناهم جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام‏}‏ أي أن الرسل أسوة لسائر أفراد بني آدم في حكم الطبيعة يأكلون كما يأكلون ويشربون كما يشربون، والجسد جسم الإنسان‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هو واحد، يعني الجسد ينبئ عن جماعة، أي وما جعلناهم ذوي أجساد لا يأكلون الطعام فجملة‏:‏ ‏{‏لا يأكلون الطعام‏}‏ صفة ل ‏{‏جسداً‏}‏ أي وما جعلناهم جسداً مستغنياً عن الأكل، بل هو محتاج إلى ذلك ‏{‏وَمَا كَانُواْ خالدين‏}‏ بل يموتون كما يموت غيرهم من البشر، وقد كانوا يعتقدون أن الرسل لا يموتون، فأجاب الله عليهم بهذا‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ثُمَّ صدقناهم الوعد‏}‏ معطوفة على جملة يدلّ عليها السياق، والتقدير‏:‏ أوحينا إليهم ما أوحينا‏.‏ ‏{‏ثم صدقناهم الوعد‏}‏ أي أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك من كذبهم، ولهذا قال سبحانه‏:‏ ‏{‏فأنجيناهم وَمَن نَّشَاء‏}‏ من عبادنا المؤمنين، والمراد‏:‏ إنجاؤهم من العذاب وإهلاك من كفر بالعذاب الدنيوي، والمراد ب ‏{‏المسرفين‏}‏‏:‏ المجاوزون للحدّ في الكفر والمعاصي، وهم المشركون‏.‏

وقد أخرج النسائي عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏ في الدنيا ‏"‏ وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال‏:‏ ‏"‏ من أمر الدنيا ‏"‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ‏}‏ أي فعل الأحلام إنما هي رؤيا رآها ‏{‏بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ‏}‏ كل هذا قد كان منه ‏{‏فليأتنا بآية كما أرسل الأولون‏}‏ كما جاء عيسى وموسى بالبينات والرسل ‏{‏مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ أهلكناها‏}‏ أي أن الرسل كانوا إذا جاؤوا قومهم بالبينات فلم يؤمنوا لم ينظروا‏.‏ وأخرج ابن جرير عن قتادة قال‏:‏ قال أهل مكة للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا كان ما تقوله حقاً ويسرّك أن نؤمن فحوّل لنا الصفا ذهبا، فأتاه جبريل فقال‏:‏ إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان، ثم لم يؤمنوا لم يُنْظروا، وإن شئت استأنيت بقومك، قال‏:‏ ‏"‏ بل أستأني بقومي ‏"‏، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جعلناهم جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام‏}‏ يقول‏:‏ لم نجعلهم جسداً ليس يأكلون الطعام، إنما جعلناهم جسداً يأكلون الطعام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 25‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏10‏)‏ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏11‏)‏ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ‏(‏12‏)‏ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ‏(‏13‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏14‏)‏ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ‏(‏15‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏16‏)‏ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏17‏)‏ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ‏(‏19‏)‏ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ‏(‏21‏)‏ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏22‏)‏ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ‏(‏23‏)‏ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏24‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

نبه عباده على عظيم نعمته عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا‏}‏ يعني القرآن ‏{‏فِيهِ ذِكْرُكُمْ‏}‏ صفة ل ‏{‏كتاباً‏}‏، والمراد بالذكر هنا‏:‏ الشرف، أي فيه شرفكم كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏ وقيل‏:‏ ‏{‏فيه ذكركم‏}‏ أي ذكر أمر دينكم، وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب أو عقاب‏.‏ وقيل‏:‏ فيه حديثكم، قاله مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ مكارم أخلاقكم ومحاسن أعمالكم‏.‏ وقيل‏:‏ فيه العمل بما فيه حياتكم‏.‏ قاله سهل بن عبد الله‏.‏ وقيل‏:‏ فيه موعظتكم، والاستفهام في‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ للتوبيخ والتقريع، أي‏:‏ أفلا تعقلون أن الأمر كذلك، أو لا تعقلون شيئاً من الأشياء التي من جملتها ما ذكر‏.‏

ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة، فقال‏:‏ ‏{‏وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظالمة‏}‏‏:‏ «كم» في محل نصب على أنها مفعول ‏{‏قصمنا‏}‏ وهي الخبرية المفيدة للتكثير‏.‏ والقصم‏:‏ كسر الشيء ودقه، يقال‏:‏ قصمت ظهر فلان‏:‏ إذا كسرته، واقتصمت سنه‏:‏ إذا انكسرت، والمعنى هنا‏:‏ الإهلاك والعذاب‏.‏ وأما الفصم بالفاء فهو الصدع في الشيء من غير بينونة، وجملة‏:‏ ‏{‏كَانَتْ ظالمة‏}‏ في محل جرّ صفة لقرية، وفي الكلام مضاف محذوف، أي وكم قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين، أي كافرين بالله مكذبين بآياته، والظلم في الأصل‏:‏ وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر في موضع الإيمان ‏{‏وأنشأنا بعدها قوماً آخرين‏}‏ أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاك أهلها قوماً ليسوا منهم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا‏}‏ أي أدركوا أو رأوا عذابنا، وقال الأخفش‏:‏ خافوا وتوقعوا، أو البأس‏:‏ العذاب الشديد ‏{‏إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ‏}‏ الركض‏:‏ الفرار والهرب والانهزام، وأصله‏:‏ من ركض الرجل الدابة برجليه، يقال‏:‏ ركض الفرس‏:‏ إذا كدّه بساقيه، ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا، ومنه‏:‏ «اركض بِرِجْلِكَ» ‏[‏ص‏:‏ 42‏]‏ والمعنى‏:‏ أنهم يهربون منها راكضين دوابهم‏.‏ فقيل لهم‏:‏ ‏{‏لاَ تَرْكُضُواْ‏}‏ أي لا تهربوا‏.‏ قيل‏:‏ إن الملائكة نادتهم بذلك عند فرارهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن القائل لهم ذلك هم من هنالك من المؤمنين استهزاء بهم وسخرية منهم ‏{‏وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ‏}‏ أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم وكفركم، والمترف المنعم، يقال‏:‏ أترف فلان، أي وسع عليه في معاشه ‏{‏ومساكنكم‏}‏ أي وارجعوا إلى مساكنكم التي كنتم تسكنونها وتفتخرون بها ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات، وهذا على طريقة التهكم بهم والتوبيخ لهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ لعلكم تسألون عما نزل بكم من العقوبة فتخبرون به؛ وقيل‏:‏ لعلكم تسألون أن تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول العذاب بكم‏.‏ قال المفسرون وأهل الأخبار‏:‏ إن المراد بهذه الآية‏:‏ أهل حضور من اليمن، وكان الله سبحانه قد بعث إليهم نبياً اسمه شعيب بن مهدم، وقبره بجبل من جبال اليمن يقال له ضنن، وبينه وبين حضور نحو بريد، قالوا‏:‏ وليس هو شعيباً صاحب مدين‏.‏

قلت‏:‏ وآثار القبر بجبل ضين موجودة، والعامة من أهل تلك الناحية يزعمون أنه قبر قدم بن قادم‏.‏

‏{‏قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين‏}‏ أي قالوا لما قالت لهم الملائكة ‏{‏لا تركضوا‏}‏ يا ويلنا، أي‏:‏ ياهلاكنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا مستوجبين العذاب بما قدّمنا‏.‏ فاعترفوا على أنفسهم بالظلم الموجب للعذاب‏.‏ ‏{‏فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ‏}‏ أي ما زالت هذه الكلمة دعواهم أي‏:‏ دعوتهم، والكلمة هي قولهم‏:‏ ‏{‏يا ويلنا‏}‏ أي يدعون بها ويردّدونها ‏{‏حتى جعلناهم حَصِيداً‏}‏ أي بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل، والحصيد هنا بمعنى المحصود، ومعنى ‏{‏خامدين‏}‏ أنهم ميتون من خمدت النار إذا طفئت، فشبه خمود الحياة بخمود النار، كما يقال لمن مات‏:‏ قد طفئ‏.‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السماء والارض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ‏}‏ أي لم نخلقهما عبثاً ولا باطلاً، بل للتنبيه على أن لهما خالقاً قادراً يجب امتثال أمره‏.‏ وفيه إشارة إجمالية إلى تكوين العالم، والمراد بما بينهما سائر المخلوقات الكائنة بين السماء والأرض على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها ‏{‏لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً‏}‏ اللهو‏:‏ ما يتلهى به‏.‏ قيل‏:‏ اللهو‏:‏ الزوجة والولد‏.‏ وقيل‏:‏ الزوجة فقط‏.‏ وقيل‏:‏ الولد فقط‏.‏ قال الجوهري‏:‏ قد يكفي باللهو عن الجماع، يدل على ما قاله قول امرئ القيس‏:‏

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني *** كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي

ومنه قول الآخر‏:‏

وفيهنّ ملهى للصديق ومنظر *** والجملة مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها، وجواب لقوله‏:‏ ‏{‏لاتخذناه مِن لَّدُنَّا‏}‏ أي من عندنا ومن جهة قدرتنا لا من عندكم‏.‏ قال المفسرون أي من الحور العين، وفي هذا رد على من قال بإضافة الصاحبة والولد إلى الله، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً‏.‏ وقيل‏:‏ أراد الردّ على من قال‏:‏ الأصنام أو الملائكة بنات الله‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الآية ردٌّ على النصارى‏.‏ ‏{‏إِن كُنَّا فاعلين‏}‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ ما كنا فاعلين‏.‏ قال الفراء والمبرد والزجاج‏:‏ يجوز «أن» تكون إن للنفي كما ذكره المفسرون، أي ما فعلنا ذلك ولم نتخذ صاحبة ولا ولداً؛ ويجوز أن تكون للشرط، أي إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا‏.‏ قال الفراء‏:‏ وهذا أشبه الوجهين بمذهب العربية‏.‏

‏{‏بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل‏}‏ هذا إضراب عن اتخاذ اللهو، أي دع ذلك الذي قالوا فإنه كذب وباطل، بل شأننا أن نرمي بالحق على الباطل ‏{‏فَيَدْمَغُهُ‏}‏ أي يقهره، وأصل الدمغ‏:‏ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدامغة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ نذهبه ذهاب الصغار والإذلال، وذلك أن أصله إصابة الدماغ بالضرب‏.‏ قيل أراد بالحق‏:‏ الحجة، وبالباطل‏:‏ شبههم‏.‏

وقيل‏:‏ الحق المواعظ، والباطل المعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ الباطل‏:‏ الشيطان‏.‏ وقيل‏:‏ كذبهم ووصفهم الله سبحانه بغير صفاته ‏{‏فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ‏}‏ أي‏:‏ زائل ذاهب، وقيل‏:‏ هالك تالف، والمعنى متقارب، و«إذا» هي الفجائية ‏{‏وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ‏}‏ أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم لله بما لا يجوز عليه، وقيل‏:‏ الويل‏:‏ وادٍ في جهنم، وهو وعيد لقريش بأن لهم من العذاب مثل الذي لأولئك؛ ومن‏:‏ هي التعليلية‏.‏

‏{‏وَلَهُ مَن فِي السموات والأرض‏}‏ عبيداً وملكاً، وهو خالقهم ورازقهم ومالكهم، فكيف يجوز أن يكون له بعض مخلوقاته شريكاً يعبد كما يعبد، وهذه الجملة مقررة لما قبلها ‏{‏وَمَنْ عِندَهُ‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة، وفيه ردّ على القائلين بأن الملائكة بنات الله، وفي التعبير عنهم بكونهم ‏{‏عنده‏}‏ إشارة إلى تشريفهم وكرامتهم، وأنهم بمنزلة المقربين عند الملوك، ثم وصفهم بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ‏}‏ أي لا يتعاظمون ولا يأنفون عن عبادة الله سبحانه والتذلل له ‏{‏وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ‏}‏ أي لا يعيون، مأخوذ من الحسير، وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب، يقال‏:‏ حسر البعير يحسر حسوراً‏:‏ أعيا وكلّ، واستحسر وتحسر‏:‏ مثله وحسرته أنا حسراً، يتعدى ولا يتعدى‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ لا يكلون، وقال ابن الأعرابي‏:‏ لا يفشلون‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معنى الآية أن هؤلاء الذين ذكرتم أنهم أولاد الله، عباد الله لا يأنفون عن عبادته ولا يتعظمون عنها كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 206‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا ينقطعون عن عبادته‏.‏ وهذه المعاني متقاربة‏.‏

‏{‏يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ‏}‏ أي ينزهون الله سبحانه دائماً لا يضعفون عن ذلك ولا يسأمون‏.‏ وقيل‏:‏ يصلون الليل والنهار‏.‏ قال الزجاج‏:‏ مجرى التسبيح منهم كمجرى النفس منا لا يشغلنا عن النفس شيء، فكذلك تسبيحهم دائم، وهذه الجملة إما مستأنفة جواب سؤال مقدّر، أو في محل نصب على الحال ‏{‏أَمِ اتخذوا الِهَةً مّنَ الأرض‏}‏ قال المفضل‏:‏ مقصود هذا الاستفهام‏:‏ الجحد، أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء، و«أم»‏:‏ هي المنقطعة، والهمزة لإنكار الوقوع‏.‏ قال المبرد‏:‏ إن «أم» هنا بمعنى هل، أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى، ولا تكون «أم» هنا بمعنى بل، لأن ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدّر «أم» مع الاستفهام، فتكون «أم» المنقطعة، فيصح المعنى، و‏{‏من الأرض‏}‏ متعلق باتخذوا، أو بمحذوف هو صفة لآلهة، ومعنى ‏{‏هُمْ يُنشِرُونَ‏}‏‏:‏ هم يبعثون الموتى، والجملة صفة لآلهة، وهذه الجملة هي التي يدور عليها الإنكار والتجهيل، لا نفس الاتخاذ، فإنه واقع منهم لا محالة‏.‏ والمعنى‏:‏ بل اتخذوا آلهة من الأرض هم خاصة مع حقارتهم ينشرون الموتى، وليس الأمر كذلك، فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل عن ذلك‏.‏

قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ينشرون‏}‏ بضم الياء وكسر الشين من أنشره أي‏:‏ أحياه، وقرأ الحسن بفتح الياء، أي يحيون ولا يموتون‏.‏

ثم إنه سبحانه أقام البرهان على بطلان تعدّد الآلهة، فقال‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا‏}‏ أي‏:‏ لو كان في السموات والأرض آلهة معبودون غير الله لفسدتا، أي لبطلتا، يعني السموات والأرض بما فيهما من المخلوقات، قال الكسائي وسيبويه والأخفش والزجاج وجمهور النحاة‏:‏ إن «إلا» هنا ليست للاستثناء بل بمعنى غير صفة لآلهة، ولذلك ارتفع الاسم الذي بعدها وظهر فيه إعراب غير التي جاءت «إلا» بمعناها، ومنه قول الشاعر‏:‏

وكل أخ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان

وقال الفراء‏:‏ إن «إلا» هنا بمعنى سوى، والمعنى‏:‏ لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسدتا، ووجه الفساد أن كون مع الله إلها آخر يستلزم أن يكون كل واحد منهما قادراً على الاستبداد بالتصرف، فيقع عند ذلك التنازع والاختلاف ويحدث بسببه الفساد ‏{‏فسبحان الله رَبّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان، أي تنزّه عزّ وجلّ عما لا يليق به من ثبوت الشريك له، وفيه إرشاد للعباد أن ينزّهوا الربّ سبحانه عما لا يليق به‏.‏ ‏{‏لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ‏}‏ هذه الجملة مستأنفة مبينة أنه سبحانه لقوّة سلطانه وعظيم جلاله لا يسأله أحد من خلقه عن شيء من قضائه وقدره ‏{‏وَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ العباد ‏{‏يُسْئَلُونَ‏}‏ عما يفعلون أي‏:‏ يسألهم الله عن ذلك لأنهم عبيده‏.‏ وقيل‏:‏ إن المعنى‏:‏ أنه سبحانه لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون‏.‏ قيل‏:‏ والمراد بذلك أنه سبحانه بين لعباده أن من يسأل عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح لأن يكون إلها‏.‏

‏{‏أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً‏}‏ أي بل اتخذوا، وفيه إضراب وانتقال من إظهار بطلان كونها آلهة بالبرهان السابق، إلى إظهار بطلان اتخاذها آلهة مع توبيخهم بطلب البرهان منهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏قُلْ هَاتُواْ برهانكم‏}‏ على دعوى أنها آلهة، أو على جواز اتخاذ آلهة سوى الله، ولا سبيل لهم إلى شيء من ذلك، لا من عقل ولا نقل، لأن دليل العقل قد مرّ بيانه، وأما دليل النقل فقد أشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي‏}‏ أي هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع ذكر أمتي وذكر الأمم السالفة وقد أقمته عليكم وأوضحته لكم، فأقيموا أنتم برهانكم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت قبلي فانظروا‏:‏ هل في واحد منها أن الله أمر باتخاذ إله سواه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ قيل لهم‏:‏ هاتوا برهانكم بأن رسولاً من الرسل أنبأ أمته بأن لهم إلها غير الله، فهل في ذكر من معي وذكر من قبلي إلا توحيد الله‏؟‏ وقيل معنى الكلام‏:‏ الوعيد والتهديد، أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء‏.‏

وحكى أبو حاتم‏:‏ أن يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف قرآ‏:‏ «هذا ذكر من معي وذكر من قبلي» بالتنوين وكسر الميم، وزعم أنه لا وجه لهذه القراءة‏.‏ وقال الزجاج في توجيه هذه القراءة‏:‏ إن المعنى‏:‏ هذا ذكر مما أنزل إليّ ومما هو معي وذكر من قبلي‏.‏ وقيل‏:‏ ذكر كائن من قبلي، أي جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي‏.‏ ثم لما توجهت الحجة عليهم ذمهم بالجهل بمواضع الحق فقال‏:‏ ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق‏}‏ وهذا إضراب من جهته سبحانه وانتقال من تبكيتهم بمطالبتهم بالبرهان إلى بيان أنه لا يؤثر فيهم إقامة البرهان، لكونهم جاهلين للحق لا يميزون بينه وبين الباطل‏.‏ وقرأ ابن محيصن والحسن‏:‏ «الحق» بالرفع على معنى هذا الحق، أو هو الحق، وجملة‏:‏ ‏{‏فَهُمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏ تعليل لما قبله من كون أكثرهم لا يعلمون أي فهم لأجل هذا الجهل المستولي على أكثرهم معرضون عن قبول الحق مستمرّون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول، فلا يتأملون حجة، ولا يتدبرون في برهان، ولا يتفكرون في دليل‏.‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ يُوحَى إِلَيْهِ‏}‏ قرأ حفص وحمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏نوحي‏}‏ بالنون، وقرأ الباقون بالياء أي‏:‏ نوحي إليه ‏{‏أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ‏}‏ وفي هذا تقرير لأمر التوحيد وتأكيد لما تقدّم من قوله‏:‏ ‏{‏هذا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ‏}‏ وختم الآية بالأمر لعباده بعبادته، فقال‏:‏ ‏{‏فاعبدون‏}‏ فقد اتضح لكم دليل العقل، ودليل النقل وقامت عليكم حجة الله‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ‏}‏ قال‏:‏ شرفكم‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال‏:‏ فيه حديثكم‏.‏ وفي رواية عنه قال‏:‏ فيه دينكم‏.‏ وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال‏:‏ بعث الله نبياً من حمير يقال له‏:‏ شعيب، فوثب إليه عبد فضربه بعصا، فسار إليهم بختنصر فقاتلتهم فقتلهم حتى لم يبق منهم شيء، وفيهم أنزل الله‏:‏ ‏{‏وَكَمْ قَصَمْنَا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏خامدين‏}‏‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وعبد ابن حميد، وابن المنذر عن الكلبي في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ‏}‏ قال‏:‏ هي حضور بني أزد، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ‏}‏ قال‏:‏ ارجعوا إلى دوركم وأموالكم‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ‏}‏ قال‏:‏ هم أهل حضور كانوا قتلوا نبيهم، فأرسل الله عليهم بختنصر فقتلهم، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فجعلناهم حَصِيداً خامدين‏}‏ قال‏:‏ بالسيف ضرب الملائكة وجوههم حتى رجعوا إلى مساكنهم‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال‏:‏ حدّثني رجل من الجزريين قال‏:‏ كان اليمن قريتان، يقال لإحداهما‏:‏ حضور، وللأخرى قلابة، فبطروا وأترفوا حتى ما كانوا يغلقون أبوابهم، فلما أترفوا بعث الله إليهم نبياً فدعاهم فقتلوه، فألقى الله في قلب بختنصر أن يغزوهم، فجهز لهم جيشاً، فقاتلوهم فهزموا جيشه فرجعوا منهزمين إليه، فجهز إليهم جيشاً آخر أكثف من الأوّل، فهزموهم أيضاً؛ فلما رأى بختنصر ذلك غزاهم هو بنفسه، فقاتلوهم فهزمهم حتى خرجوا منها يركضون، فسمعوا منادياً يقول‏:‏ ‏{‏لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ومساكنكم‏}‏ فرجعوا فسمعوا صوتاً منادياً يقول‏:‏ يا لثارات النبي فقتلوا بالسيف، فهي التي قال الله‏:‏ ‏{‏وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏خامدين‏}‏ قلت‏:‏ وقرى حضور معروفة الآن بينها وبين مدينة صنعاء نحو بريد في جهة الغرب منها‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏حَصِيداً خامدين‏}‏‏.‏ قال‏:‏ كخمود النار إذا طفئت‏.‏

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً‏}‏ قال‏:‏ اللهو‏:‏ الولد‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً‏}‏ قال‏:‏ النساء‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ‏}‏ يقول‏:‏ لا يرجعون‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ‏}‏ قال‏:‏ بعباده ‏{‏وَهُمْ يُسْئَلُونَ‏}‏ قال‏:‏ عن أعمالهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك نحوه‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس قال‏:‏ ما في الأرض قوم أبغض إليّ من القدرية، وما ذاك إلا أنهم لا يعلمون قدرة الله، قال الله‏:‏ ‏{‏لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 35‏]‏

‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ‏(‏26‏)‏ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ‏(‏28‏)‏ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏30‏)‏ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏31‏)‏ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏32‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ‏(‏33‏)‏ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ‏(‏34‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً‏}‏ هؤلاء القائلون هم خزاعة، فإنهم قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله، وقيل‏:‏ هم اليهود، ويصح حمل الآية على كل من جعل لله ولدا‏.‏ وقد قالت اليهود‏:‏ عزير ابن الله، وقالت النصارى‏:‏ المسيح ابن الله، وقالت طائفة من العرب‏:‏ الملائكة بنات الله‏.‏ ثم نزه عزّ وجلّ نفسه‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ أي تنزيهاً له عن ذلك، وهو مقول على ألسنة العباد‏.‏ ثم أضرب عن قولهم وأبطله فقال‏:‏ ‏{‏بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ‏}‏ أي ليسوا كما قالوا، بل هم عباد لله سبحانه مكرمون بكرامته لهم، مقرّبون عنده‏.‏ وقرئ‏:‏ «مكرمون» بالتشديد، وأجاز الزجاج والفراء نصب عباد على معنى‏:‏ بل اتخذ عباداً، ثم وصفهم بصفة أخرى فقال‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول‏}‏ أي لا يقولون شيئاً حتى يقوله أو يأمرهم به‏.‏ كذا قال ابن قتيبة وغيره، وفي هذا دليل على كمال طاعتهم وانقيادهم‏.‏ وقرئ‏:‏ «لا يسبقونه» بضم الباء من سبقته أسبقه ‏{‏وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي هم العاملون بما يأمرهم الله به، التابعون له المطيعون لربهم‏.‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ هذه الجملة تعليل لما قبلها، أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون، أو يعلم ما بين أيديهم وهو الآخرة، وما خلفهم وهو الدنيا، ووجه التعليل أنهم إذا علموا بأنه عالم بما قدّموا وأخروا، لم يعملوا عملاً ولم يقولوا قولاً إلا بأمره ‏{‏وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى‏}‏ أي‏:‏ يشفع الشافعون له، وهو من رضي عنه، وقيل‏:‏ هم أهل لا إله إلا الله، وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة يشفعون في الدار الآخرة ‏{‏وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ‏}‏ أي من خشيتهم منه فالمصدر مضاف إلى المفعول، والخشية‏:‏ الخوف مع التعظيم، والإشفاق‏:‏ الخوف مع التوقع والحذر، أي لا يأمنون مكر الله‏.‏

‏{‏وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّي إله مّن دُونِهِ‏}‏ أي من يقل من الملائكة إني إله من دون الله‏.‏ قال المفسرون‏:‏ عني بهذا إبليس؛ لأنه لم يقل أحد من الملائكة إني إله إلا إبليس؛ وقيل‏:‏ الإشارة إلى جميع الملائكة ‏{‏فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ‏}‏ أي فذلك القائل على سبيل الفرض، والتقدير‏:‏ نجزيه جهنم بسبب هذا القول الذي قاله، كما نجزي غيره من المجرمين ‏{‏كذلك نَجْزِي الظالمين‏}‏ أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين، أو مثل ما جعلنا جزاء هذا القائل جهنم، فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعها، والمراد بالظالمين‏:‏ المشركون‏.‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدّر، والرؤية هي القلبية، أي ألم يتفكروا أو لم يعلموا ‏{‏أن السموات والأرض * كَانَتَا رَتْقاً‏}‏ قال الأخفش‏:‏ إنما قال‏:‏ ‏{‏كانتا‏}‏، لأنهما صنفان أي جماعتا السموات والأرضين كما قال سبحانه‏:‏

‏{‏إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 41‏]‏ وقال الزجاج‏:‏ إنما قال ‏{‏كانتا‏}‏ لأنه يعبر عن السموات بلفظ الواحد، لأن السموات كانت سماء واحدة، وكذلك الأرضون‏.‏ والرتق‏.‏ السد ضدّ الفتق، يقال‏:‏ رتقت الفتق أرتقه فارتتق، أي التأم، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج، يعني‏:‏ أنهما كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما، وقال ‏{‏رتقاً‏}‏ ولم يقل «رتقين» لأنه مصدر، والتقدير‏:‏ كانتا ذواتي رتق، ومعنى ‏{‏ففتقناهما‏}‏ ففصلناهما، أي فصلنا بعضهما من بعض، فرفعنا السماء، وأبقينا الأرض مكانها ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْء حَيّ‏}‏ أي أحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء، فيشمل الحيوان والنبات، والمعنى‏:‏ أن الماء سبب حياة كل شيء‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالماء هنا‏:‏ النطفة، وبه قال أكثر المفسرين، وهذا احتجاج على المشركين بقدرة الله سبحانه وبديع صنعه، وقد تقدم تفسير هذه الآية، والهمزة في ‏{‏أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ للإنكار عليهم، حيث لم يؤمنوا مع وجود ما يقتضيه من الآيات الربانية‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ‏}‏ أي جبالاً ثوابت ‏{‏أَن تَمِيدَ بِهِمْ‏}‏ الميد التحرّك والدوران، أي لئلا تتحرك وتدور بهم، أو كراهة ذلك، وقد تقدم تفسير ذلك في النحل مستوفى ‏{‏وَجَعَلْنَا فِيهَا‏}‏ أي في الرواسي، أو في الأرض ‏{‏فِجَاجاً‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ هي المسالك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ كل مخترق بين جبلين فهو فج و‏{‏سُبُلاً‏}‏ تفسير للفجاج، لأن الفج قد لا يكون طريقاً نافذاً مسلوكاً ‏{‏لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ إلى مصالح معاشهم، وما تدعو إليه حاجاتهم ‏{‏وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً‏}‏ عن أن يقع ويسقط على الأرض كقوله‏:‏ ‏{‏وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وقال الفراء‏:‏ محفوظاً بالنجوم من الشيطان كقوله‏:‏ ‏{‏وحفظناها مِن كُلّ شيطان رَّجِيمٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ محفوظاً‏:‏ لا يحتاج إلى عماد، وقيل‏:‏ المراد بالمحفوظ هنا‏:‏ المرفوع‏.‏ وقيل‏:‏ محفوظاً عن الشرك والمعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ محفوظاً عن الهدم والنقض ‏{‏وَهُمْ عَنْ ءاياتها مُعْرِضُونَ‏}‏ أضاف الآيات إلى السماء، لأنها مجعولة فيها، وذلك كالشمس والقمر ونحوهما، ومعنى الإعراض‏:‏ أنهم لا يتدبرون فيها، ولا يتفكرون فيما توجبه من الإيمان‏.‏

‏{‏وَهُوَ الذي خَلَقَ اليل والنهار والشمس والقمر‏}‏ هذا تذكير لهم بنعمة أخرى مما أنعم به عليهم، وذلك بأنه خلق لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيه في معايشهم، وخلق الشمس والقمر أي جعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل، ليعلموا عدد الشهور والحساب كما تقدّم بيانه في سبحان ‏{‏كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ أي كل واحد من الشمس والقمر والنجوم في فلك يسبحون، أي يجرون في وسط الفلك، ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء، والجمع في الفعل باعتبار المطالع، قال سيبويه‏:‏ إنه لما أخبر عنهنّ بفعل من يعقل، وجعلهنّ في الطاعة بمنزلة من يعقل، جعل الضمير عنهنّ ضمير العقلاء، ولم يقل يسبحن أو تسبح، وكذا قال الفراء‏.‏

وقال الكسائي‏:‏ إنما قال‏:‏ ‏{‏يسبحون‏}‏ لأنه رأس آية‏.‏ والفلك واحد أفلاك النجوم‏.‏ وأصل الكلمة من الدوران، ومنه فلكة المغزل لاستدارتها‏.‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد‏}‏ أي دوام البقاء في الدنيا ‏{‏أَفَإِيْن مّتَّ‏}‏ بأجلك المحتوم ‏{‏فَهُمُ الخالدون‏}‏ أي أفهم الخالدون‏؟‏ قال الفراء‏:‏ جاء بالفاء لتدل على الشرط لأنه جواب قولهم سيموت‏.‏ قال‏:‏ ويجوز حذف الفاء وإضمارها، والمعنى‏:‏ إن متّ فهم يموتون أيضاً، فلا شماتة في الموت‏.‏ وقرئ‏:‏ «مت» بكسر الميم وضمها لغتان‏:‏ وكان سبب نزول هذه الآية قول المشركين فيما حكاه الله عنهم‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏‏.‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت‏}‏ أي ذائقة مفارقة جسدها، فلا يبقى أحد من ذوات الأنفس المخلوقة كائناً ما كان‏.‏ ‏{‏وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً‏}‏ أي نختبركم بالشدّة والرخاء، لننظر كيف شكركم وصبركم‏.‏ والمراد‏:‏ أنه سبحانه يعاملهم معاملة من يبلوهم، و‏{‏فتنة‏}‏ مصدر ‏{‏لنبلوكم‏}‏ من غير لفظه ‏{‏وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ‏}‏ لا إلى غيرنا فنجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير، وإن شراً فشرّ‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال‏:‏ قالت اليهود‏:‏ إن الله عزّ وجلّ صاهر الجنّ فكانت بنيهم الملائكة، فقال الله تكذيباً لهم ‏{‏بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ‏}‏ أي الملائكة ليس كما قالوا، بل عباد أكرمهم بعبادته‏.‏ ‏{‏لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول‏}‏ يثني عليهم ‏{‏وَلاَ يَشْفَعُونَ‏}‏ قال‏:‏ لا تشفع الملائكة يوم القيامة ‏{‏إِلاَّ لِمَنِ ارتضى‏}‏ قال‏:‏ لأهل التوحيد وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ لِمَنِ ارتضى‏}‏ قال‏:‏ لأهل التوحيد لمن رضي عنه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في الآية قال‏:‏ قول لا إله إلا الله‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ الذين ارتضاهم لشهادة أن لا إله إلا الله‏.‏

وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في البعث عن جابر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى‏}‏ قال‏:‏ «إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» وأخرج الفريابي وعبد بن حميد، والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما‏}‏ قال‏:‏ فتقت السماء بالغيث، وفتقت الأرض بالنبات‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه ‏{‏كَانَتَا رَتْقاً‏}‏ قال‏:‏ لا يخرج منهما شيء، وذكر مثل ما تقدم‏.‏ وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية عنه أيضاً من طريق أخرى‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه ‏{‏كَانَتَا رَتْقاً‏}‏ قال‏:‏ ملتصقتين‏.‏

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْء حَيّ‏}‏ قال‏:‏ نطفة الرجل‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ‏{‏وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً‏}‏ قال‏:‏ بين الجبال‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كُلٌّ فِي فَلَكٍ‏}‏ قال‏:‏ دوران ‏{‏يَسْبَحُونَ‏}‏ قال‏:‏ يجرون‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عنه‏:‏ ‏{‏كُلٌّ فِي فَلَكٍ‏}‏ قال‏:‏ فلك كفلكة المغزل ‏{‏يَسْبَحُونَ‏}‏ قال‏:‏ يدورون في أبواب السماء، كما تدور الفلكة في المغزل‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ هو فلك السماء‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن عائشة قال‏:‏ دخل أبو بكر على النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد مات فقبّله وقال‏:‏ وانبياه واخليلاه واصفياه، ثم تلا‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً‏}‏ قال‏:‏ نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 43‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏36‏)‏ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ‏(‏37‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏39‏)‏ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏40‏)‏ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏41‏)‏ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏42‏)‏ أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَاكَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ يعني المستهزئين من المشركين ‏{‏إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هزواً‏}‏ أي ما يتخذونك إلا مهزوءاً بك، والهزؤ‏:‏ السخرية، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏المشركين إِنَّا كفيناك المستهزءين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 95‏]‏ والمعنى‏:‏ ما يفعلون بك إلا اتخذوك هزؤاً ‏{‏أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ‏}‏ هو على تقدير القول، أي يقولون‏:‏ أهذا الذي، فعلى هذا هو جواب إذا، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هزواً‏}‏ اعتراضاً بين الشرط وجوابه، ومعنى يذكرها‏:‏ يعيبها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال فلان يذكر الناس، أي يغتابهم، ويذكرهم بالعيوب، وفلان يذكر الله، أي يصفه بالتعظيم ويثني عليه، وإنما يحذف مع الذكر ما عقل معناه، وعلى ما قالوا لا يكون الذكر في كلام العرب العيب، وحيث يراد به العيب يحذف منه السوء، قيل‏:‏ ومن هذا قول عنترة‏:‏

لا تذكري مهري وما أطعمته *** فيكون جلدك مثل جلد الأجرب

أي لا تعيبي مهري، وجملة ‏{‏وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كافرون‏}‏ في محل نصب على الحال، أي وهم بالقرآن كافرون، أو هم بذكر الرحمن الذي خلقهم كافرون، والمعنى‏:‏ أنهم يعيبون على النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يذكر آلهتهم التي لا تضرّ ولا تنفع بالسوء، والحال أنهم بذكر الله سبحانه بما يليق به من التوحيد، أو القرآن كافرون، فهم أحق بالعيب لهم والإنكار عليهم، فالضمير الأوّل مبتدأ خبره كافرون، وبذكر متعلق بالخبر، والضمير الثاني تأكيد‏.‏

‏{‏خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ‏}‏ أي جعل لفرط استعجاله كأنه مخلوق من العجل‏.‏ قال الفراء‏:‏ كأنه يقول‏:‏ بنيته وخلقته من العجلة وعلى العجلة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ خوطبت العرب بما تعقل، والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء‏:‏ خلقت منه كما تقول‏:‏ أنت من لعب، وخلقت من لعب، تريد المبالغة في وصفه بذلك‏.‏ ويدل على هذا المعنى قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الإنسان عَجُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 11‏]‏‏.‏ والمراد بالإنسان‏:‏ الجنس‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالإنسان‏:‏ آدم، فإنه لما خلقه الله ونفخ فيه الروح صار الروح في رأسه، فذهب لينهض قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه فوقع، فقيل‏:‏ خلق الإنسان من عجل، كذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والسديّ والكلبي ومجاهد وقال أبو عبيدة وكثير من أهل المعاني‏:‏ العجل‏:‏ الطين بلغة حمير‏.‏ وأنشدوا‏:‏

والنخل تنبت بين الماء والعجل *** وقيل‏:‏ إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث، وهو القائل‏:‏ ‏{‏اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في قريش لأنهم استعجلوا العذاب‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ معنى خلق الإنسان من عجل أنه قيل له كن فكان‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذه الآية من المقلوب، أي خلق العجل من الإنسان وقد حكي هذا عن أبي عبيدة والنحاس، والقول الأوّل أولى ‏{‏سأريكم آياتي‏}‏ أي‏:‏ سأريكم نقماتي منكم بعذاب النار ‏{‏فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ‏}‏ أي لا تستعجلوني بالإتيان به، فإنه نازل بكم لا محالة، وقيل‏:‏ المراد بالآيات ما دل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات وما جعله الله له من العاقبة المحمودة، والأوّل أولى، ويدل عليه قولهم‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أي متى حصول هذا الوعد، الذي تعدنا به من العذاب، قالوا ذلك على جهة الاستهزاء والسخرية‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالوعد هنا‏:‏ القيامة، ومعنى ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏‏:‏ إن كنتم يا معشر المسلمين صادقين في وعدكم، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين الذين يتلون الآيات القرآنية المنذرة بمجيء الساعة وقرب حضور العذاب‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ وما بعدها مقرّرة لما قبلها، أي لو عرفوا ذلك الوقت، وجواب لو محذوف، والتقدير‏:‏ لو علموا الوقت الذي ‏{‏لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ‏}‏ لما استعجلوا الوعيد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ في تقدير الجواب لعلموا صدق الوعد‏.‏ وقيل‏:‏ لو علموه ما أقاموا على الكفر‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة، أي لو علموه علم يقين لعلموا أن الساعة آتية، ويدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً‏}‏ وتخصيص الوجوه والظهور بالذكر بمعنى الأمام والخلف لكونهما أشهر الجوانب الجوانب في استلزام الإحاطة بها للإحاطة بالكلّ، بحيث لا يقدرون على دفعها من جانب من جوانبهم، ومحل ‏{‏حين لا يكفون‏}‏ النصب على أنه مفعول العلم، وهو عبارة عن الوقت الموعود الذي كانوا يستعجلونه، ومعنى ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏‏:‏ ولا ينصرهم أحد من العباد فيدفع ذلك عنهم، وجملة ‏{‏بل تأتيهم بغتة‏}‏ معطوفة على ‏{‏يكفون‏}‏ أي لا يكفونها بل تأتيهم العدّة أو النار أو الساعة بغتة، أي فجأة ‏{‏فَتَبْهَتُهُمْ‏}‏ قال الجوهري‏:‏ بهته بهتاً أخذه بغتة، وقال الفراء‏:‏ فتبهتهم، أي تحيرهم‏.‏ وقيل‏:‏ فتفجؤهم ‏{‏فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا‏}‏ أي صرفها عن وجوههم ولا عن ظهورهم، فالضمير راجع إلى النار‏.‏ وقيل‏:‏ راجع إلى الوعد بتأويله بالعدة‏.‏ وقيل‏:‏ راجع إلى الحين بتأويله بالساعة ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ أي يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار‏.‏

وجملة ‏{‏وَلَقَدِ استهزيء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ‏}‏ مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزيته، كأنه قال‏:‏ إن استهزأ بك هؤلاء فقد فعل ذلك بمن قبلك من الرسل على كثرة عددهم وخطر شأنهم ‏{‏فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ‏}‏ أي أحاط ودار بسبب ذلك بالذين سخروا من أولئك الرسل وهزئوا بهم ‏{‏مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ‏}‏‏:‏ «ما» موصولة، أو مصدرية، أي فأحاط بهم الأمر الذي كانوا يستهزئون به، أو فأحاط بهم استهزاؤهم، أي جزاؤه على وضع السبب موضع المسبب، أو نفس الاستهزاء، إن أريد به العذاب الأخروي‏.‏ ‏{‏قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم باليل والنهار مِنَ الرحمن‏}‏ أي يحرسكم ويحفظكم‏.‏

والكلاءة‏:‏ الحراسة والحفظ، يقال‏:‏ كلأه الله كلاء بالكسر، أي حفظه وحرسه‏.‏ قال ابن هرمة‏:‏

إن سليمى والله يكلؤها *** ضنت بشيء ما كان يرزؤها

أي قل يا محمد لأولئك المستهزئين بطريق التقريع والتوبيخ‏:‏ من يحرسكم ويحفظكم بالليل والنهار من بأس الرحمن وعذابه الذي تستحقون حلوله بكم ونزوله عليكم‏؟‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ من يحفظكم من بأس الرحمن‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ من يحفظكم مما يريد الرحمن إنزاله بكم من عقوبات الدنيا والآخرة‏.‏ وحكى الكسائي والفراء‏:‏ من يكلوكم بفتح اللام وإسكان الواو ‏{‏بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏ أي عن ذكره سبحانه فلا يذكرونه ولا يخطرونه ببالهم، بل يعرضون عنه، أو عن القرآن، أو عن مواعظ الله، أو عن معرفته‏.‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا‏}‏‏:‏ «أم» هي المنقطعة التي بمعنى بل، والهمزة للإضراب والانتقال عن الكلام السابق المشتمل على بيان جهلهم بحفظه سبحانه إياهم إلى توبيخهم وتقريعهم باعتمادهم على من هو عاجز عن نفع نفسه، والدفع عنها‏.‏ والمعنى‏:‏ بل لهم آلهة تمنعهم من عذابنا‏.‏ وقيل‏:‏ فيه تقديم وتأخير، والتقدير‏:‏ أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم‏.‏ ثم وصف آلهتهم هذه التي زعموا أنها تنصرهم بما يدلّ على الضعف والعجز فقال‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ‏}‏ أي هم عاجزون عن نصر أنفسهم فكيف يستطيعون أن ينصروا غيرهم ‏{‏ولا هم منا يصحبون‏}‏ أي ولا هم يجارون من عذابنا‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي لا يجيرهم منا أحد، لأن المجير صاحب الجار، والعرب تقول‏:‏ صحبك الله، أي حفظك وأجارك، ومنه قول الشاعر‏:‏

ينادي بأعلى صوته متعوّذا *** ليصحب منا والرماح دواني

تقول العرب‏:‏ أنا لك جار وصاحب من فلان، أي مجير منه‏.‏ قال المازني‏:‏ هو من أصحبت الرجل‏:‏ إذا منعته‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السديّ قال‏:‏ «مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان وأبي جهل وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لأبي سفيان‏:‏ هذا نبيّ بني عبد مناف، فغضب أبو سفيان فقال‏:‏ ما تنكرون أن يكون لبني عبد مناف نبيّ، فسمعها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى أبي جهل فوقع به وخوّفه وقال‏:‏ ما أراك منتهياً حتى يصيبك ما أصاب عمك، وقال لأبي سفيان‏:‏ أما إنك لم تقل ما قلت إلا حمية»، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَآكَ الذين كَفَرُواْ‏}‏‏.‏ قلت‏:‏ ينظر من الذي روى عنه السديّ‏؟‏‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال‏:‏ لما نفخ في آدم الروح صار في رأسه فعطس فقال‏:‏ الحمد لله، فقالت الملائكة‏:‏ يرحمك الله، فذهب لينهض قبل أن تمور في رجليه فوقع، فقال الله‏:‏ ‏{‏خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ‏}‏‏.‏

وقد أخرج نحو هذا ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير‏.‏ وأخرج نحوه أيضاً ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن مجاهد، وكذا أخرج ابن المنذر عن ابن جريج‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم‏}‏ قال‏:‏ يحرسكم، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ‏}‏ قال‏:‏ لا ينصرون‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ‏}‏ قال‏:‏ لا يجارون‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في الآية‏:‏ قال لا يمنعون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 56‏]‏

‏{‏بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏44‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ‏(‏45‏)‏ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏46‏)‏ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ‏(‏47‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ‏(‏49‏)‏ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏50‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ‏(‏51‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ‏(‏53‏)‏ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏54‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ‏(‏55‏)‏ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

لما أبطل كون الأصنام نافعة أضرب عن ذلك منتقلاً إلى بيان أن ما هم فيه من الخير والتمتع بالحياة العاجلة هو من الله، لا من مانع يمنعهم من الهلاك، ولا من ناصر ينصرهم على أسباب التمتع فقال‏:‏ ‏{‏بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَءَابَاءهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكة متعهّم الله بما أنعم عليهم ‏{‏حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر‏}‏ فاغترّوا بذلك وظنوا أنهم لا يزالون كذلك، فرد سبحانه عليهم قائلاً‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَرَوْنَ‏}‏ أي أفلا ينظرون فيرون ‏{‏أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا‏}‏ أي أرض الكفر ننقصها بالظهور عليها من أطرافها فنفتحها بلداً بعد بلد وأرضاً بعد أرض، وقيل‏:‏ ننقصها بالقتل والسبي، وقد مضى في الرعد الكلام على هذا مستوفى، والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَهُمُ الغالبون‏}‏ للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره، أي كيف يكونون غالبين بعد نقصنا لأرضهم من أطرافها‏؟‏ وفي هذا إشارة إلى أن الغالبين هم المسلمون‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بالوحي‏}‏ أي أخوّفكم وأحذركم بالقرآن، وذلك شأني وما أمرني الله به، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء‏}‏ إما من تتمة الكلام الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، أو من جهة الله تعالى‏.‏ والمعنى‏:‏ أن من أصمّ الله سمعه وختم على قلبه وجعل على بصره غشاوة لا يسمع الدعاء‏.‏ قرأ أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن السميفع «ولا يسمع» بضم الياء وفتح الميم على ما لم يسم فاعله‏.‏ وقرأ ابن عامر وأبو حيوة ويحيى بن الحارث بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الميم، أي إنك يا محمد لا تسمع هؤلاء‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ ولو كان كما قال ابن عامر لكان‏:‏ إذا ما تنذرهم، فيحسن نظم الكلام، فأما ‏{‏إِذَا مَا يُنذَرُونَ‏}‏ فحسن أن يتبع قراءة العامة‏.‏ وقرأ الباقون بفتح الياء وفتح الميم ورفع الصم على أنه الفاعل‏.‏ ‏{‏وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ‏}‏ المراد بالنفحة‏:‏ القليل، مأخوذ من نفح المسك قاله ابن كيسان، ومنه قول الشاعر‏:‏

وعمرة من سروات النساء *** تنفَّحُ بالمسك أردانها

وقال المبرد‏:‏ النفحة‏:‏ الدفعة من الشيء التي دون معظمه، يقال‏:‏ نفحه نفحة بالسيف إذا ضربه ضربة خفيفة‏.‏ وقيل‏:‏ هي النصيب، وقيل هي الطرف‏.‏ والمعنى متقارب، أي ولئن مسهم أقلّ شيء من العذاب ‏{‏لَيَقُولُنَّ ياويلنا إِنَّا كُنَّا ظالمين‏}‏ أي ليدعون على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترفون عليها بالظلم‏.‏

‏{‏وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة‏}‏ الموازين جمع ميزان، وهو يدل على أن هناك موازين، ويمكن أن يراد ميزان واحد، عبر عنه بلفظ الجمع، وقد ورد في السنة في صفة الميزان ما فيه كفاية، وقد مضى في الأعراف، وفي الكهف في هذا ما يغني عن الإعادة‏.‏

والقسط‏:‏ صفة للموازين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ قسط‏:‏ مصدر يوصف به، تقول‏:‏ ميزان قسط وموازين قسط، والمعنى‏:‏ ذوات قسط، والقسط‏:‏ العدل‏.‏ وقرئ «القصط» بالصاد والطاء، ومعنى ‏{‏لِيَوْمِ القيامة‏}‏ لأهل يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ اللام بمعنى في، أي في يوم القيامة ‏{‏فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً‏}‏ أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء ‏{‏وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ‏}‏ قرأ نافع وشيبة وأبو جعفر برفع مثقال على أن كان تامة، أي إن وقع أو وجد مثقال حبة‏.‏ وقرأ الباقون بنصب المثقال على تقدير‏:‏ وإن كان العمل المدلول عليه بوضع الموازين مثقال حبة، كذا قال الزجاج‏.‏ وقال أبو عليّ الفارسي‏:‏ وإن كان الظلامة مثقال حبة‏.‏ قال الواحدي‏:‏ وهذا أحسن لتقدّم قوله‏:‏ ‏{‏فلا تظلم نفس شيئاً‏}‏، ومثقال الشيء ميزانه، أي وإن كان في غاية الخفة والحقارة، فإن حبة الخردل مثل في الصغر ‏{‏أَتَيْنَا بِهَا‏}‏ قرأ الجمهور بالقصر، أي أحضرناها وجئنا بها للمجازاة عليها، و‏{‏بها‏}‏ أي بحبة الخردل‏.‏ وقرأ مجاهد وعكرمة‏:‏ «آتينا» بالمدّ على معنى‏:‏ جازينا بها، يقال‏:‏ آتى يؤاتي مؤاتاة جازى ‏{‏وكفى بِنَا حاسبين‏}‏ أي كفى بنا محصين‏.‏ والحسب في الأصل معناه‏:‏ العدّ؛ وقيل‏:‏ كفى بنا عالمين، لأن من حسب شيئاً علمه وحفظه، وقيل‏:‏ كفى بنا مجازين على ما قدّموه من خير وشرّ‏.‏ ثم شرع سبحانه في تفصيل ما أجمله سابقاً بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 7‏]‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ المراد بالفرقان‏:‏ هنا‏:‏ التوراة، لأن فيها الفرق بين الحلال والحرام، وقيل‏:‏ الفرقان هنا هو‏:‏ النصر على الأعداء كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ وهذا القول أشبه بظاهر الآية، ومعنى ‏{‏وضياء‏}‏‏:‏ أنهم استضاؤوا بها في ظلمات الجهل والغواية، ومعنى ‏{‏وذكرا‏}‏ الموعظة، أي أنهم يتعظون بما فيها، وخصّ المتقين لأنهم الذين ينتفعون بذلك، ووصفهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب‏}‏ لأن هذه الخشية تلازم التقوى‏.‏ ويجوز أن يكون الموصول بدلاً من المتقين أو بياناً له، ومحل ‏{‏بالغيب‏}‏ النصب على الحال، أي يخشون عذابه وهو غائب عنهم، أو هم غائبون عنه لأنهم في الدنيا، والعذاب في الآخرة‏.‏ وقرأ ابن عباس وعكرمة‏:‏ ‏{‏ضياء‏}‏ بغير واو‏.‏ قال الفراء‏:‏ حذف الواو والمجيء بها واحد، واعترضه الزجاج بأن الواو تجيء لمعنى فلا تزاد ‏{‏وَهُمْ مّنَ الساعة مُشْفِقُونَ‏}‏ أي وهم من القيامة خائفون وجلون، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ‏}‏ إلى القرآن‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ وهذا القرآن ذكر لمن تذكر به وموعظة لمن اتعظ به، والمبارك كثير البركة والخير‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أنزلناه‏}‏ صفة ثانية للذكر، أو خبر بعد خبر، والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ‏}‏ للإنكار لما وقع منهم من الإنكار، أي كيف تنكرون كونه منزلاً من عند الله مع اعترافكم بأن التوراة منزلة من عنده‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ‏}‏ أي الرشد اللائق به وأمثاله من الرسل، ومعنى ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏‏:‏ أنه أعطى رشده قبل إيتاء موسى وهارون التوراة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ أعطيناه هداه من قبل النبوّة، أي وفقناه للنظر والاستدلال لما جنّ عليه الليل فرأى الشمس والقمر والنجم، وعلى هذا أكثر المفسرين، وبالأوّل قال أقلهم ‏{‏وَكُنَّا بِهِ عالمين‏}‏ أنه موضع لإيتاء الرشد، وأنه يصلح لذلك، والظرف في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لأبِيهِ‏}‏ متعلق بآتينا أو بمحذوف، أي اذكر حين قال، وأبوه هو آزر ‏{‏وَقَوْمِهِ‏}‏ نمروذ ومن اتبعه، والتماثيل‏:‏ الأصنام‏.‏ وأصل التمثال‏:‏ الشيء المصنوع مشابهاً لشيء من مخلوقات الله سبحانه، يقال‏:‏ مثلت الشيء بالشيء‏:‏ إذا جعلته مشابهاً له، واسم ذلك الممثل تمثال، أنكر عليهم عبادتها بقوله‏:‏ ‏{‏مَا هذه التماثيل التى أَنتُمْ لَهَا عاكفون‏}‏ والعكوف عبارة عن اللزوم والاستمرار على الشيء، واللام في ‏{‏لها‏}‏ للاختصاص، ولو كانت للتعدية لجيء بكلمة على، أي ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها‏؟‏ وقيل‏:‏ إن العكوف مضمن معنى العبادة‏.‏

‏{‏قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين‏}‏ أجابوه بهذا الجواب الذي هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز، والحبل الذي يتشبث به كل غريق، وهو التمسك بمجرد تقليد الآباء، أي وجدنا آباءنا يعبدونها فعبدناها اقتداء بهم ومشياً على طريقتهم، وهكذا يجيب هؤلاء المقلدة من أهل هذه الملة الإسلامية، وإن العالم بالكتاب والسنّة إذا أنكر عليهم العمل بمحض الرأي المدفوع بالدليل قالوا‏:‏ هذا قد قال به إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين وبرأيه آخذين، وجوابهم‏:‏ هو ما أجاب به الخليل ها هنا ‏{‏قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ فِي ضلال مُّبِينٍ‏}‏ أي في خسران واضح ظاهر لا يخفى على أحد ولا يلتبس على ذي عقل، فإن قوم إبراهيم عبدوا الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر، وليس بعد هذا الضلال ضلال، ولا يساوي هذا الخسران خسران، وهؤلاء المقلدة من أهل الإسلام استبدلوا بكتاب الله وبسنّة رسوله كتاباً قد دوّنت فيه اجتهادات عالم من علماء الإسلام زعم أنه لم يقف على دليل يخالفها، إما لقصور منه أو لتقصير في البحث فوجد ذلك الدليل من وجده وأبرزه واضح المنار‏:‏

كأنه علم في رأسه نار *** وقال‏:‏ هذا كتاب الله أو هذه سنّة رسوله، وأنشدهم‏:‏

دعوا كل قول عند قول محمد *** فما آمن في دينه كمخاطر

فقالوا كما قال الأوّل‏:‏

ما أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وأن ترشد غزية أرشد

وقد أحسن من قال‏:‏

يأبى الفتى إلا اتباع الهوى *** ومنهج الحقّ له واضح

ثم لما سمع أولئك مقالة الخليل قالوا‏:‏ ‏{‏أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين‏}‏ أي أجادّ أنت فيما تقول أم أنت لاعب مازح‏؟‏ قال‏:‏ مضرباً عما بنوا عليه مقالتهم من التقليد‏:‏ ‏{‏بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السموات والأرض *الذى فطَرَهُنَّ‏}‏ أي خلقهنّ وأبدعهنّ ‏{‏وَأَنَاْ على ذلكم‏}‏ الذي ذكرته لكم من كون ربكم هو ربّ السموات والأرض دون ما عداه ‏{‏مّنَ الشاهدين‏}‏ أي العالمين به المبرهنين عليه، فإن الشاهد على الشيء هو من كان عالماً به مبرهناً عليه مبيناً له‏.‏

وقد أخرج أحمد والترمذي، وابن جرير في تهذيبه، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن عائشة أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم‏؟‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا عليك ولا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتصّ لهم منك الفضل»، فجعل الرجل يبكي ويهنف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أما تقرأ كتاب الله‏:‏ ‏{‏وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حاسبين‏}‏» فقال له الرجل‏:‏ يا رسول الله، ما أجد لي ولهم خيراً من مفارقتهم أشهدك أنهم أحرار‏.‏ رواه أحمد هكذا‏:‏ حدّثنا أبو نوح قراد، أخبرنا ليث بن سعد عن مالك بن أنس عن الزهري عن عروة، عن عائشة فذكره، وفي معناه أحاديث‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء‏}‏‏.‏

وأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان‏}‏ قال‏:‏ التوراة‏.‏ وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال‏:‏ ‏{‏الفرقان‏}‏‏:‏ الحقّ‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة‏:‏ ‏{‏وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ‏}‏ أي القرآن‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ‏}‏ قال‏:‏ هديناه صغيراً، وفي قوله‏:‏ ‏{‏مَا هذه التماثيل‏}‏ قال‏:‏ الأصنام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 70‏]‏

‏{‏وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ‏(‏57‏)‏ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ‏(‏58‏)‏ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏59‏)‏ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ‏(‏60‏)‏ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ‏(‏62‏)‏ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ‏(‏63‏)‏ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏64‏)‏ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ‏(‏65‏)‏ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ‏(‏66‏)‏ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏68‏)‏ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ‏(‏69‏)‏ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وتالله لأكِيدَنَّ أصنامكم‏}‏ أخبرهم أنه سينتقل من المحاجة باللسان إلى تغيير المنكر بالفعل ثقة بالله سبحانه ومحاماة على دينه‏.‏ والكيد‏:‏ المكر، يقال‏:‏ كاده يكيده كيداً ومكيدة، والمراد هنا الاجتهاد في كسر الأصنام‏.‏ قيل‏:‏ إنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك سرّاً‏.‏ وقيل‏:‏ سمعه رجل منهم ‏{‏بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ‏}‏ أي بعد أن ترجعوا من عبادتها ذاهبين منطلقين‏.‏ قال المفسرون‏:‏ كان لهم عيد في كل سنة يجتمعون فيه، فقالوا لإبراهيم‏:‏ لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، فقال إبراهيم هذه المقالة‏.‏ والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً‏}‏ فصيحة، أي فولوا، فجعلهم جذاذاً، الجذّ‏:‏ القطع والكسر، يقال‏:‏ جذذت الشيء قطعته وكسرته، والواحد‏:‏ جذاذة، والجذاذ ما كسر منه‏.‏ قاله الجوهري‏.‏ قال الكسائي‏:‏ ويقال لحجارة الذهب‏:‏ الجذاذ؛ لأنها تكسر‏.‏ قرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن‏:‏ «جذاذاً» بكسر الجيم، أي كسراً وقطعاً، جمع جذيذ، وهو الهشيم، مثل خفيف وخفاف، وظريف وظراف‏.‏ قال الشاعر‏:‏

جذذ الأصنام في محرابها *** ذاك في الله العليّ المقتدر

وقرأ الباقون بالضم، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، أي الحطام والرفات، فعال بمعنى مفعول، وهذا هو الكيد الذي وعدهم به‏.‏ وقرأ ابن عباس وأبو السماك «جذاذاً» بفتح الجيم ‏{‏إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ‏}‏ أي للأصنام ‏{‏لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ‏}‏ أي إلى إبراهيم ‏{‏يَرْجِعُونَ‏}‏ فيحاجهم بما سيأتي فيحجهم؛ وقيل‏:‏ لعلهم إلى الصنم الكبير يرجعون فيسألونه عن الكاسر، لأن من شأن المعبود أن يرجع إليه في المهمات، فإذا رجعوا إليه لم يجدوا عنده خبراً، فيعلمون حينئذٍ أنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضرراً، ولا تعلم بخير ولا شرّ، ولا تخبر عن الذي ينوبها؛ من الأمر، وقيل‏:‏ لعلهم إلى الله يرجعون، وهو بعيد جدّاً‏.‏

‏{‏قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين‏}‏ في الكلام حذف، والتقدير‏:‏ فلما رجعوا من عيدهم ورأوا ما حدث بآلهتهم قالوا هذه المقالة، والاستفهام للتوبيخ‏.‏ وقيل‏:‏ إن «من» ليست استفهامية، بل هي مبتدأ وخبرها ‏{‏إنه لمن الظالمين‏}‏ أي فاعل هذا ظالم، والأوّل أولى لقولهم‏:‏ ‏{‏سَمِعْنَا فَتًى‏}‏ إلخ، فإنه قال بهذا بعضهم مجيباً للمستفهمين لهم، وهذا القائل هو الذي سمع إبراهيم يقول‏:‏ ‏{‏تالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم‏}‏ ومعنى ‏{‏يَذْكُرُهُمْ‏}‏‏:‏ يعيبهم، وقد سبق تحقيق مثل هذه العبارة، وجملة‏:‏ ‏{‏يُقَالُ لَهُ إبراهيم‏}‏ صفة ثانية لفتى‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وارتفع إبراهيم على معنى‏:‏ يقال له هو إبراهيم، فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف، وقيل‏:‏ ارتفاعه على أنه مفعول ما لم يسمّ فاعله، وقيل‏:‏ مرتفع على النداء‏.‏

ومن غرائب التدقيقات النحوية، وعجائب التوجيهات الإعرابية، أن الأعلم الشنتمري الأشبيلي قال‏:‏ إنه مرتفع على الإهمال‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ ذهب إلى رفعه بغير شيء‏.‏ والفتى‏:‏ هو الشاب، والفتاة الشابة‏.‏

‏{‏قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس‏}‏ القائلون هم السائلون، أمروا بعضهم أن يأتي به ظاهراً بمرأى من الناس‏.‏ قيل‏:‏ إنه لما بلغ الخبر نمروذ وأشراف قومه كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، فقالوا هذه المقالة، ليكون ذلك حجة عليه يستحلون بها منه ما قد عزموا على أن يفعلوه به‏.‏ ومعنى ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ‏}‏‏:‏ لعلهم يحضرون عقابه حتى ينزجر غيره عن الاقتداء به في مثل هذا‏.‏ وقيل‏:‏ لعلهم يشهدون عليه بأنهم رأوه يكسر الأصنام، أو لعلهم يشهدون طعنه على أصنامهم‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏قَالُواْ ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِئَالِهَتِنَا يإبراهيم‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر، وفي الكلام حذف تقديره‏:‏ فجاء إبراهيم حين أتوا به فاستفهموه هل فعل ذلك لإقامة الحجة عليه في زعمهم‏.‏

‏{‏قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا‏}‏ أي قال إبراهيم مقيماً للحجة عليهم مبكتاً لهم، بل فعله كبيرهم هذا مشيراً إلى الصنم الذي تركه ولم يكسره ‏{‏فاسألوهم إن كانوا ينطقون‏}‏ أي إن كانوا ممن يمكنه النطق ويقدر على الكلام ويفهم ما يقال له، فيجيب عنه بما يطابقه‏.‏ أراد عليه الصلاة والسلام أن يبين لهم أن من لا يتكلم ولا يعلم ليس بمستحق للعبادة، ولا يصح في العقل أن يطلق عليه أنه إله‏.‏ فأخرج الكلام مخرج التعريض لهم بما يوقعهم في الاعتراف بأن الجمادات التي عبدوها ليست بآلهة، لأنهم إذا قالوا‏:‏ إنهم لا ينطقون، قال لم‏:‏ فكيف تعبدون من يعجز عن النطق، ويقصر عن أن يعلم بما يقع عنده في المكان الذي هو فيه‏؟‏ فهذا الكلام من باب فرض الباطل مع الخصم حتى تلزمه الحجة ويعترف بالحق، فإن ذلك أقطع لشبهته وأدفع لمكابرته‏.‏ وقيل‏:‏ أراد إبراهيم عليه السلام بنسبة الفعل إلى ذلك الكبير من الأصنام أنه فعل ذلك لأنه غار وغضب من أن يعبد وتعبد الصغار معه إرشاداً لهم إلى أن عبادة هذه الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تدفع لا تستحسن في العقل مع وجود خالقها وخالقهم، والأوّل أولى‏.‏ وقرأ ابن السميفع‏:‏ «بل فعله» بتشديد اللام على معنى بل فلعل الفاعل كبيرهم‏.‏

‏{‏فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته المتفطن لصحة حجة خصمه المراجع لعقله، وذلك أنهم تنبهوا وفهموا عند هذه المقاولة بينهم وبين إبراهيم أن من لا يقدر على دفع المضرّة عن نفسه ولا على الإضرار بمن فعل به ما فعله إبراهيم بتلك الأصنام، يستحيل أن يكون مستحقاً للعبادة، ولهذا ‏{‏قَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون‏}‏ أي قال بعضهم لبعض‏:‏ أنتم الظالمون لأنفسكم بعبادة هذه الجمادات، وليس الظالم من نسبتم الظلم إليه بقولكم‏:‏ إنه لمن الظالمين ‏{‏ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ‏}‏ أي رجعوا إلى جهلهم وعنادهم، شبه سبحانه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه‏.‏

وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أنهم طأطئوا رؤوسهم خجلاً من إبراهيم، وهو ضعيف؛ لأنه لم يقل‏:‏ نكسوا رؤوسهم بفتح الكاف وإسناد الفعل إليهم حتى يصح هذا التفسير، بل قال‏:‏ نكسوا على رؤوسهم، وقرئ «نكسوا» بالتشديد، ثم قالوا بعد أن نكسوا مخاطبين لإبراهيم ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ قائلين لإبراهيم لقد علمت أن النطق ليس من شأن هذه الأصنام، فقال إبراهيم مبكتاً لهم ومزرياً عليهم‏:‏ ‏{‏أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً‏}‏ من النفع ‏{‏وَلاَ يَضُرُّكُمْ‏}‏ بنوع من أنواع الضرر، ثم تضجر عليه السلام منهم، فقال‏:‏ ‏{‏أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ وفي هذا تحقير لهم ولمعبوداتهم، واللام في ‏{‏لكم‏}‏ لبيان المتأفف به، أي لكم ولآلهتكم، والتأفف‏:‏ صوت يدلّ على التضجر ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي ليس لكم عقول تتفكرون بها، فتعلمون هذا الصنع القبيح الذي صنعتموه‏.‏

‏{‏قَالُواْ حَرّقُوهُ‏}‏ أي قال بعضهم لبعض لما أعيتهم الحيلة في دفع إبراهيم، وعجزوا عن مجادلته، وضاقت عليهم مسالك المناظرة، حرّقوا إبراهيم‏.‏ انصرافاً منهم إلى طريق الظلم والغشم، وميلاً منهم إلى إظهار الغلبة بأي وجه كان، وعلى أيّ أمر اتفق، ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏وانصروا ءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فاعلين‏}‏ أي انصروها بالانتقام من هذا الذي فعل بها ما فعل إن كنتم فاعلين للنصر‏.‏ وقيل‏:‏ هذا القائل هو نمروذ؛ وقيل‏:‏ رجل من الأكراد‏.‏ ‏{‏قُلْنَا يا نار كُونِي بَرْداً وسلاما على إبراهيم‏}‏ في الكلام حذف تقديره‏:‏ فأضرموا النار، وذهبوا بإبراهيم إليها، فعند ذلك قلنا‏:‏ يا نار كوني ذات بردٍ وسلامٍ‏.‏ وقيل‏:‏ إن انتصاب ‏{‏سلاماً‏}‏ على أنه مصدر لفعل محذوف، أي وسلمنا سلاماً عليه ‏{‏وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً‏}‏ أي مكراً ‏{‏فجعلناهم الاخسرين‏}‏ أي أخسر من كل خاسر؛ ورددنا مكرهم عليهم؛ فجعلنا لهم عاقبة السوء؛ كما جعلنا لإبراهيم عاقبة الخير‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال‏:‏ لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مرّوا عليه، فقالوا‏:‏ يا إبراهيم ألا تخرج معنا‏؟‏ قال‏:‏ إني سقيم، وقد كان بالأمس، قال‏:‏ ‏{‏تالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ‏}‏ فسمعه ناس منهم‏.‏ فلما خرجوا انطلق إلى أهله، فأخذ طعاماً ثم انطلق إلى آلهتهم فقرّبه إليهم، فقال‏:‏ ألا تأكلون‏؟‏ فكسرها إلا كبيرهم، ثم ربط في يده الذي كسر به آلهتهم، فلما رجع القوم من عيدهم دخلوا، فإذا هم بآلهتهم قد كسرت، وإذا كبيرهم في يده الذي كسر به الأصنام، قالوا‏:‏ من فعل هذا بآلهتنا‏؟‏ فقال الذين سمعوا إبراهيم يقول‏:‏ ‏{‏تالله * لاكِيدَنَّ أصنامكم‏}‏‏:‏ ‏{‏سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ‏}‏ فجادلهم عند ذلك إبراهيم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏جُذَاذاً‏}‏ قال‏:‏ حطاماً‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ فتاتاً‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا‏}‏ قال‏:‏ عظيم آلهتهم‏.‏ وأخرج أبو داود والترمذي ‏[‏وابن المنذر‏]‏ وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث كلهنّ في الله‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِنّي سَقِيمٌ‏}‏ ولم يكن سقيماً، وقوله لسارة‏:‏ أختي، وقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا‏}‏» وهذا الحديث هو في الصحيحين من حديث أبي هريرة بأطول من هذا‏.‏ وقد روى نحو هذا أبو يعلى من حديث أبي سعيد‏.‏

وأخرح ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ لما جمع لإبراهيم ما جمع، وألقي في النار جعل خازن المطر يقول‏:‏ متى أومر بالمطر فأرسله‏؟‏ فكان أمر الله أسرع، قال الله‏:‏ ‏{‏كُونِي بَرْداً وسلاما‏}‏ فلم يبق في الأرض نار إلا طفئت‏.‏ وأخرج أحمد وابن ماجه وابن حبان وأبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن إبراهيم حين ألقي في النار لم تكن دابة إلا تطفئ عنه النار غير الوزغ فإنه كان ينفخ على إبراهيم» «فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر عن ابن عمر، قال‏:‏ أوّل كلمة قالها إبراهيم حين ألقي في النار ‏{‏حسبنا الله ونعم الوكيل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْنَا يانار كُونِي‏}‏ قال‏:‏ كان جبريل هو الذي ناداها‏.‏ وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم من بردها‏.‏ وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد، وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عليّ نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير عن معتمر بن سليمان التيمي عن بعض أصحابه قال‏:‏ جاء جبريل إلى إبراهيم وهو يوثق ليلقى في النار، فقال‏:‏ يا إبراهيم، ألك حاجة‏؟‏ قال‏:‏ أما إليك فلا‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن كعب قال‏:‏ ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن المنهال بن عمرو قال‏:‏ أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار، فكان فيها إما خمسين وإما أربعين، قال‏:‏ ما كنت أياماً وليالي قط أطيب عيشاً إذ كنت فيها، وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها‏.‏