فصل: تفسير الآيات رقم (42- 51)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 51‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ‏(‏42‏)‏ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ‏(‏43‏)‏ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏44‏)‏ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ‏(‏45‏)‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ‏(‏46‏)‏ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏47‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏48‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏49‏)‏ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏50‏)‏ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن يُكَذّبُوكَ‏}‏ إلخ هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزية له متضمنة للوعد له بإهلاك المكذبين له كما أهلك سبحانه المكذبين لمن كان قبله‏.‏ وفيه إرشاد له صلى الله عليه وسلم إلى الصبر على قومه والاقتداء بمن قبله من الأنبياء في ذلك، وقد تقدّم ذكر هذه الأمم وما كان منهم ومن أنبيائهم وكيف كانت عاقبتهم‏.‏ وإنما غير النظم في قوله‏:‏ ‏{‏وَكُذّبَ موسى‏}‏ فجاء بالفعل مبنياً للمفعول؛ لأن قوم موسى لم يكذبوه وإنما كذّبه غيرهم من القبط ‏{‏فَأمْلَيْتُ للكافرين‏}‏ أي‏:‏ أخرت عنهم العقوبة وأمهلتهم والفاء لترتيب الإمهال على التكذيب ‏{‏ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ‏}‏ أي أخذت كلّ فريق من المكذبين بالعذاب بعد انقضاء مدّة الإمهال ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ هذا الاستفهام للتقرير، أي فانظر كيف كان إنكاري عليهم وتغيير ما كانوا فيه من النعم وإهلاكهم، والنكير اسم من الإنكار‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي ثم أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار‏.‏ قال الجوهري‏:‏ النكير والإنكار تغيير المنكر‏.‏

ثم ذكر سبحانه كيف عذّب أهل القرى المكذبة فقال‏:‏ ‏{‏وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أهلكناها‏}‏ أي أهلكنا أهلها، وقد تقدّم الكلام على هذا التركيب في آل عمران، وقرئ‏:‏ «أهلكتها»، وجملة‏:‏ ‏{‏وَهِيَ ظالمة‏}‏ حالية، وجملة‏:‏ ‏{‏فَهِيَ خَاوِيَةٌ‏}‏ عطف على ‏{‏أهلكناها‏}‏، لا على ‏{‏ظالمة‏}‏ لأنها حالية، والعذاب ليس في حال الظلم، والمراد بنسبة الظلم إليها نسبته إلى أهلها‏.‏ والخواء‏:‏ بمعنى السقوط فهي ساقطة ‏{‏على عُرُوشِهَا‏}‏ أي على سقوفها، وذلك بسبب تعطل سكانها حتى تهدّمت فسقطت حيطانها فوق سقوفها، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في البقرة ‏{‏وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ‏}‏ معطوف على قرية، والمعنى‏:‏ وكم من أهل قرية، ومن أهل بئر معطلة، هكذا قال الزجاج‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إنه معطوف على عروشها‏.‏ والمراد بالمعطلة‏:‏ المتروكة، وقيل‏:‏ الخالية عن أهلها لهلاكهم‏.‏ وقيل‏:‏ الغائرة‏.‏ وقيل معطلة من الدلاء والأرشية، والقصر المشيد هو‏:‏ المرفوع البنيان، كذا قال قتادة والضحاك، ويدلّ عليه قول عديّ بن زيد‏:‏

شاده مرمرا وجلله كِلْ *** ساً فللطير في ذراه وكور

شاده‏:‏ أي رفعه‏.‏ وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد‏:‏ المراد بالمشيد‏:‏ المجصص، مأخوذ من الشيد، وهو الجص، ومنه قول الراجز‏:‏

لا تحسبني وإن كنت أمرأ غمرا *** كحية الماء بين الطين والشيد

وقيل‏:‏ المشيد‏:‏ الحصين قاله الكلبيّ‏.‏ قال الجوهري‏:‏ المشيد المعمول بالشيد، والشيد‏:‏ بالكسر‏:‏ كلّ شيء طليت به الحائط من جصّ أو بلاط، وبالفتح المصدر، تقول‏:‏ شاده يشيده جصصه، والمشيد بالتشديد‏:‏ المطوّل‏.‏ قال الكسائي‏:‏ ‏[‏المشِيد‏]‏ للواحد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقصر مشيد‏}‏ والمُشيِّد للجمع، من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏ والمعنى المعنيّ‏:‏ وكم من قصر مشيد معطل مثل البئر المعطلة‏؟‏ ومعنى التعطيل في القصر هو‏:‏ أنه معطل من أهله، أو من آلاته، أو نحو ذلك‏.‏

قال القرطبي في تفسيره‏:‏ ويقال‏:‏ إن هذه البئر والقصر بحضر موت معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقرّ الريح شيئاً سقط فيها إلا أخرجته، وأصحاب القصر ملوك الحضر، وأصحاب البئر ملوك البدو‏.‏ حكى الثعلبيّ وغيره‏:‏ أن البئر كان بعدن من اليمن في بلد يقال لها‏:‏ حضوراء، نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح ونجوا من العذاب ومعهم صالح فمات صالح، فسمي المكان حضر موت؛ لأن صالحاً لما حضره مات فبنوا حضوراء وقعدوا على هذه البئر وأمروا عليهم رجلاً، ثم ذكر قصة طويلة، وقال بعد ذلك‏:‏ وأما القصر المشيد فقصر بناه شدّاد بن عاد بن إرم، لم يبن في الأرض مثله فيما ذكروا وزعموا، وحاله أيضاً كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنس، وإقفاره بعد العمران، وإن أحداً لا يستطيع أن يدنو منه على أميال، لما يسمع فيه من عزيف الجنّ والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك، وانتظام الأهل كالسلك فبادوا وما عادوا، فذكرهم الله سبحانه في هذه الآية موعظة وعبرة‏.‏ قال‏:‏ وقيل‏:‏ إنهم الذين أهلكهم بختنصر على ما تقدّم في سورة الأنبياء في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم‏.‏ انتهى‏.‏

ثم أنكر سبحانه على أهل مكة عدم اعتبارهم بهذه الآثار قائلاً‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض‏}‏ حثاً لهم على السفر ليروا مصارع تلك الأمم فيعتبروا، ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ولم يعتبروا، فلهذا أنكر عليهم، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 137، 138‏]‏‏.‏ ومعنى ‏{‏فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا‏}‏‏:‏ أنهم بسبب ما شاهدوا من العبر تكون لهم قلوب يعقلون بها ما يجب أن يتعقلوه وأسند التعقل إلى القلوب لأنها محل العقل‏.‏ كما أن الآذان محل السمع‏.‏ وقيل‏:‏ إن العقل محله الدماغ ولا مانع من ذلك، فإن القلب هو الذي يبعث على إدراك العقل وإن كان محله خارجاً عنه‏.‏

وقد اختلف علماء المعقول في محل العقل وماهيته اختلافاً كثيراً لا حاجة إلى التطويل بذكره ‏{‏أو آذان يسمعون بها‏}‏ أي ما يجب أن يسمعوه مما تلاه عليهم أنبياؤهم من كلام الله، وما نقله أهل الأخبار إليهم من أخبار الأمم المهلكة ‏{‏فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار‏}‏ قال الفراء‏:‏ الهاء عماد يجوز أن يقال‏:‏ فإنه، وهي قراءة عبد الله بن مسعود، والمعنى واحد، التذكير على الخبر، والتأنيث على الأبصار أو القصة، أي فإن الأبصار لا تعمى، أو فإن القصة ‏{‏لا تعمي الأبصار‏}‏ أي أبصار العيون ‏{‏ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور‏}‏ أي ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما هو في عقولهم أي لا تدرك عقولهم مواطن الحق ومواضع الاعتبار‏.‏

قال الفراء والزجاج‏:‏ إن قوله ‏{‏التي في الصدور‏}‏ من التوكيد الذي تزيده العرب في الكلام كقوله‏:‏ ‏{‏عشرة كاملة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، ‏{‏يقولون بأفواههم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏، ‏{‏يطير بجناحيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏‏.‏

ثم حكى سبحانه عن هؤلاء ما كانوا عليه من التكذيب والاستهزاء فقال‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب‏}‏ لأنهم كانوا منكرين لمجيئه أشدّ إنكار، فاستعجالهم له، هو على طريقة الاستهزاء والسخرية، وكأنهم كانوا يقولون ذلك عند سماعهم لما تقوله الأنبياء عن الله سبحانه من الوعد منه عزّ وجلّ بوقوعه عليهم وحلوله بهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ‏}‏ قال الفراء‏:‏ في هذه الآية وعيد لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة‏.‏ وذكر الزجاج وجهاً آخر فقال‏:‏ أعلم أن الله لا يفوته شيء، وإن يوماً عنده وألف سنة في قدرته واحد، ولا فرق بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخره في القدرة، إلا أن الله تفضل بالإمهال انتهى‏.‏ ومحل جملة‏:‏ ‏{‏ولن يخلف الله وعده‏}‏ النصب على الحال، أي والحال أنه لا يخلف وعده أبداً، وقد سبق الوعد فلا بدّ من مجيئه حتماً، أو هي اعتراضية مبينة لما قبلها، وعلى الأوّل تكون جملة‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ مستأنفة، وعلى الثاني تكون معطوفة على الجملة التي قبلها مسوقة لبيان حالهم في الاستعجال، وخطابهم في ذلك ببيان كمال حلمه، لكون المدة القصيرة عنده كالمدة الطويلة عندهم كما في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة أي‏:‏ يوم من أيام عذابهم في الآخرة كألف سنة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ وإن يوماً من الخوف والشدّة في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا فيها خوف وشدة، وكذلك يوم النعيم قياساً‏.‏ قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي‏:‏ «مما يعدون» بالتحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ‏}‏ وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب، واختارها أبو حاتم‏.‏

‏{‏وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظالمة ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِليَّ المصير‏}‏‏:‏ هذا إعلام منه سبحانه أنه أخذ قوماً بعد الإملاء والتأخير‏.‏ قيل‏:‏ وتكرير هذا مع ذكره قبله للتأكيد، وليس بتكرار في الحقيقة؛ لأن الأوّل سيق لبيان الإهلاك مناسباً لقوله‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ ولهذا عطف بالفاء بدلاً عن ذلك؛ والثاني‏:‏ سيق لبيان الإملاء مناسباً لقوله‏:‏ ‏{‏وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أمهلتهم حيناً، ثم أخذتهم بالعذاب، ومرجع الكل إلى حكمي‏.‏ فجملة‏:‏ ‏{‏وإليّ المصير‏}‏ تذييل لتقرير ما قبلها‏.‏ ثم أمره الله سبحانه أن يخبر الناس بأنه نذير لهم بين يدي الساعة مبين لهم ما نزل إليهم، فمن آمن وعمل صالحاً فاز بالمغفرة والرزق الكريم وهو الجنة، ومن كان على خلاف ذلك فهو في النار، وهم ‏{‏الذين سعوا في آيات الله معاجزين‏}‏ يقال‏:‏ عاجزه‏:‏ سابقه، لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر، فإذا سبقه قيل‏:‏ أعجزه وعجزه، قاله الأخفش‏.‏

وقيل‏:‏ معنى ‏{‏معاجزين‏}‏ ظانين ومقدّرين أن يعجزوا الله سبحانه ويفوتوه فلا يعذبهم، قاله الزجاج؛ وقيل‏:‏ معاندين، قاله الفرّاء‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا‏}‏ قال‏:‏ خربة ليس فيها أحد ‏{‏وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ‏}‏‏:‏ عطلها أهلها وتركوها ‏{‏وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ‏}‏ قال‏:‏ شيدوه وحصنوه فهلكوا وتركوه‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ‏{‏وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ‏}‏ قال‏:‏ التي تركت لا أهل لها‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ‏{‏وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ‏}‏ قال‏:‏ هو المجصص‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن عطاء نحوه أيضاً‏.‏

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ قال‏:‏ من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن عكرمة، قال في الآية‏:‏ هو يوم القيامة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة، فقد مضى منها ستة آلاف‏.‏ وأخرج ابن عدّي والديلمي عن أنس مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏معاجزين‏}‏ قال‏:‏ مراغمين‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أنه قال‏:‏ مشاقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 57‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏52‏)‏ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏54‏)‏ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ‏(‏55‏)‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏56‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيّ‏}‏ قيل‏:‏ الرسول‏:‏ الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عياناً ومحاورته شفاهاً، والنبيّ‏:‏ الذي تكون ‏[‏نبوته‏]‏ إلهاماً أو مناماً‏.‏ وقيل‏:‏ الرسول من بعث بشرع وأمر بتبليغه، والنبيّ‏:‏ من أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله، ولم ينزل عليه كتاب، ولا بدّ لهما جميعاً من المعجزة الظاهرة ‏{‏إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ معنى تمنى‏:‏ تشهى وهيأ في نفسه ما يهواه‏.‏ قال الواحدي‏:‏ وقال المفسرون‏:‏ معنى تمنى‏:‏ تلا‏.‏ قال جماعة المفسرين في سبب نزول هذه الآية‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم لما شقّ عليه إعراض قومه عنه تمنّى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم، فكان ذات يوم جالساً في نادٍ من أنديتهم وقد نزل عليه سورة ‏{‏والنجم إِذَا هوى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 1‏]‏‏.‏ فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله‏:‏ ‏{‏أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19، 20‏]‏‏.‏ وكان ذلك التمني في نفسه، فجرى على لسانه مما ألقاه الشيطان عليه‏:‏ تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته حتى ختم السورة، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين، فتفرّقت قريش مسرورين بذلك وقالوا‏:‏ قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، فأتاه جبريل فقال‏:‏ ما صنعت‏؟‏ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاف خوفاً شديداً، فأنزل الله هذه الآية، هكذا قالوا‏.‏

ولم يصح شيء من هذا، ولا ثبت بوجه من الوجوه، ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه، قال الله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 44، 46‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 74‏]‏‏.‏ فنفى المقاربة للركون فضلاً عن الركون‏.‏ قال البزار‏:‏ هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل‏.‏ وقال البيهقي‏:‏ هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم‏.‏ وقال إمام الأئمة ابن خزيمة‏:‏ إن هذه القصة من وضع الزنادقة‏.‏ قال القاضي عياض في الشفاء‏:‏ إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه، لا قصداً ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح‏.‏

وإذا تقرّر لك بطلان ذلك عرفت أن معنى ‏{‏تمنى‏}‏‏:‏ قرأ وتلا، كما قدّمنا من حكاية الواحدي لذلك عن المفسرين‏.‏ وكذا قال البغوي‏:‏ إن أكثر المفسرين قالوا معنى ‏{‏تمنى‏}‏‏:‏ تلا وقرأ كتاب الله، ومعنى ‏{‏أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ أي في تلاوته وقراءته‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ هذا القول أشبه بتأويل الكلام، ويؤيد هذا ما تقدّم في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِىَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 78‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏تمنى‏}‏‏:‏ حدّث، ومعنى ‏{‏أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ في حديثه، روي هذا عن ابن عباس، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏تمنى‏}‏‏:‏ قال‏.‏ فحاصل معنى الآية‏:‏ أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جرى على لسانه، فتكون هذه الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لا يهولنك ذلك ولا يحزنك، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء، وعلى تقدير أن معنى ‏{‏تمنى‏}‏‏:‏ حدّث نفسه كما حكاه الفرّاء والكسائي فإنهما قالا‏:‏ تمنى إذا حدّث نفسه، فالمعنى‏:‏ أنه إذا حدّث نفسه بشيء تكلم به الشيطان وألقاه في مسامع الناس من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جرى على لسانه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة وقعت بها الفتنة‏.‏ وقد قيل في تأويل الآية‏:‏ إن المراد بالغرانيق‏:‏ الملائكة، ويردّ بقوله‏:‏ ‏{‏فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان‏}‏ أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة؛ وقيل‏:‏ إن ذلك جرى على لسانه صلى الله عليه وسلم سهواً ونسياناً وهما مجوّزان على الأنبياء، ويرد بأن السهو والنسيان فيما طريقه البلاغ غير جائز كما هو مقرّر في مواطنه، ثم لما سلاه الله سبحانه بهذه التسلية وأنها قد وقعت لمن قبله من الرسل والأنبياء بيّن سبحانه أنه يبطل ذلك ولا يثبته ولا يستمر تغرير الشيطان به فقال‏:‏ ‏{‏فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان‏}‏ أي‏:‏ يبطله ويجعله ذاهباً غير ثابت ‏{‏ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته‏}‏ أي يثبتها ‏{‏والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ كثير العلم والحكمة في كل أقواله وأفعاله‏.‏

وجملة ‏{‏لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً‏}‏ للتعليل، أي ذلك الإلقاء الذي يلقيه الشيطان فتنة، أي ضلالة ‏{‏لّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ أي شكّ ونفاق ‏{‏والقاسية قُلُوبُهُمْ‏}‏‏:‏ هم المشركون، فإن قلوبهم لا تلين للحق أبداً ولا ترجع إلى الصواب بحال، ثم سجل سبحانه على هاتين الطائفتين‏:‏ وهما‏:‏ من في قلبه مرض، ومن في قلبه قسوة بأنهم ظالمون فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الظالمين لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏ أي عداوة شديدة، ووصف الشقاق بالبعد مبالغة، والموصوف به في الحقيقة من قام به‏.‏

ولما بين سبحانه أن ذلك الإلقاء كان فتنة في حقّ أهل النفاق والشكّ والشرك بيّن أنه في حقّ المؤمنين العالمين بالله العارفين به سبب لحصول العلم لهم بأن القرآن حقّ وصدق فقال‏:‏ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ‏}‏ أي‏:‏ الحقّ النازل من عنده‏.‏ وقيل‏:‏ إن الضمير في ‏{‏أنه‏}‏ راجع إلى تمكين الشيطان من الإلقاء، لأنه مما جرت به عادته مع أنبيائه، ولكنه يردّ هذا قوله‏:‏ ‏{‏فَيُؤْمِنُواْ بِهِ‏}‏ فإن المراد الإيمان بالقرآن، أي يثبتوا على الإيمان به ‏{‏فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ‏}‏ أي تخشع وتسكن وتنقاد، فإن الإيمان به وإخبات القلوب له لا يمكن أن يكونا تمكين من الشيطان بل للقرآن ‏{‏وإن الله لهاد الذين آمنوا‏}‏ في أمور دينهم ‏{‏إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ أي طريق صحيح لاعوج به‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏:‏ «وإن الله لهاد الذين آمنوا» بالتنوين‏.‏

‏{‏وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ‏}‏ أي في شكّ من القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ في الدين الذي يدل عليه ذكر الصراط المستقيم‏.‏ وقيل‏:‏ في إلقاء الشيطان، فيقولون‏:‏ ما باله ذكر الأصنام بخير ثم رجع عن ذلك‏؟‏ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ «في مرية» بضم الميم ‏{‏حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة‏}‏ أي القيامة ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ أي فجأة ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ‏}‏ وهو يوم القيامة؛ لأنه لا يوم بعده، فكان بهذا الاعتبار عقيماً، والعقيم في اللغة من لا يكون له ولد، ولما كانت الأيام تتوالى جعل ذلك كهيئة الولادة، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم، وصف بالعقم‏.‏ وقيل‏:‏ يوم حرب يقتلون فيه كيوم بدر‏.‏ وقيل‏:‏ إن اليوم وصف بالعقم، لأنه لا رأفة فيه ولا رحمة، فكأنه عقيم من الخير، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 41‏]‏ أي التي لا خير فيها ولا تأتي بمطر‏.‏

‏{‏الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ‏}‏ أي السلطان القاهر والاستيلاء التامّ‏:‏ يوم القيامة لله سبحانه وحده لا منازع له فيه ولا مدافع له عنه، وجملة‏:‏ ‏{‏يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ‏}‏ مستأنفة جواباً عن سؤال مقدّر، ثم فسر هذا الحكم بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي جنات النعيم‏}‏ أي كائنون فيها مستقرّون في أرضها منغمسون في نعيمها ‏{‏والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا‏}‏ أي جمعوا بين الكفر بالله والتكذيب بآياته ‏{‏فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ أي عذاب متصف بأنه مهين للمعذبين بالغ منهم المبلغ العظيم‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف، عن عمرو بن دينار قال‏:‏ كان ابن عباس يقرأ‏:‏ «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيّ وَلاَ مُّحْدَثٍ»‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مثله، وزاد‏:‏ فنسخت محدّث، قال‏:‏ والمحدّثون‏:‏ صاحب ياس ولقمان، ومؤمن آل فرعون، وصاحب موسى‏.‏

وأخرج البزار والطبراني وابن مردويه، والضياء في المختارة‏.‏ قال السيوطي‏:‏ بسند رجاله ثقات، من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ‏:‏ «أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى، تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى»‏.‏ ففرح المشركون بذلك وقالوا‏:‏ قد ذكر آلهتنا، فجاءه جبريل فقال‏:‏ اقرأ عليّ ما جئت به، فقرأ‏:‏ ‏{‏أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى‏}‏ فقال‏:‏ ما أتيتك بهذا، هذا من الشيطان، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، قال السيوطي‏:‏ بسند صحيح عن سعيد بن جبير، قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة النجم، فذكر نحوه، ولم يذكر ابن عباس‏.‏ وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والسديّ عن سعيد مرسلاً‏.‏ ورواه عبد بن حميد عن السديّ عن أبي صالح مرسلاً‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم عن ابن شهاب مرسلاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه مرسلاً أيضاً‏.‏ والحاصل‏:‏ أن جميع الروايات في هذا الباب إما مرسلة أو منقطعة لا تقوم الحجة بشيء منها‏.‏ وقد أسلفنا عن الحفاظ في أوّل هذا البحث ما فيه كفاية، وفي الباب روايات من أحبّ الوقوف على جميعها فلينظرها في الدرّ المنثور للسيوطي، ولا يأتي التطويل بذكرها هنا بفائدة، فقد عرّفناك أنها جميعها لا تقوم بها الحجة‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ يقول‏:‏ إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك، قال‏:‏ يعني بالتمني التلاوة والقراءة، ألقى الشيطان في أمنيته‏:‏ في تلاوته ‏{‏فَيَنسَخُ الله‏}‏ ينسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان على لسان النبيّ‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن مجاهد‏:‏ ‏{‏إِذَا تمنى‏}‏ قال‏:‏ تكلم ‏{‏فِي أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ قال‏:‏ كلامه‏.‏ وأخرج ابن مردويه، والضياء في المختارة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ‏}‏ قال‏:‏ يوم بدر‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن أبيّ بن كعب نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏عذاب يوم عقيم‏}‏، قال‏:‏ يوم بدر‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وعكرمة مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال‏:‏ يوم القيامة لا ليلة له‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الضحاك مثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 66‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏58‏)‏ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏59‏)‏ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏60‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏61‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏62‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏63‏)‏ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏64‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏65‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ‏(‏66‏)‏‏}‏

أفرد سبحانه المهاجرين بالذكر تخصيصاً لهم بمزيد الشرف، فقال‏:‏ ‏{‏والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله‏}‏ قال بعض المفسرين‏:‏ هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ الذين هاجروا من الأوطان في سرية أو عسكر، ولا يبعد حمل ذلك على الأمرين، والكلّ من سبيل الله ‏{‏ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ‏}‏ أي في حال المهاجرة، واللام في ‏{‏لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً‏}‏ جواب قسم محذوف، والجملة خبر الموصول بتقدير القول، وانتصاب ‏{‏رزقاً‏}‏ على أنه مفعول ثانٍ، أي‏:‏ مرزوقاً حسناً، أو على أنه مصدر مؤكدة، والرزق الحسن هو نعيم الجنة الذي لا ينقطع وقيل هو الغنيمة لأنه حلال‏.‏ وقيل‏:‏ هو العلم والفهم كقول شعيب‏:‏ ‏{‏وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏‏.‏ قرأ ابن عامر وأهل الشام‏:‏ «ثم قتلوا» بالتشديد على التكثير، وقرأ الباقون بالتخفيف ‏{‏وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين‏}‏ فإنه سبحانه يرزق بغير حساب، وكل رزق يجري على يد العباد لبعضهم البعض، فهو منه سبحانه، لا رازق سواه ولا معطي غيره، والجملة تذييل مقرّرة لما قبلها‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ‏}‏ مستأنفة، أو بدل من جملة‏:‏ ‏{‏ليرزقنهم الله‏}‏‏.‏ قرأ أهل المدينة‏:‏ «مدخلاً» بفتح الميم، وقرأ الباقون بضمها، وهو اسم مكان أريد به الجنة، وانتصابه على أنه مفعول ثانٍ أو مصدر ميمي مؤكد للفعل المذكور، وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة سبحان‏.‏ وفي هذا من الامتنان عليهم والتبشير لهم ما لا يقادر قدره، فإن المدخل الذي يرضونه هو الأوفق لنفوسهم والأقرب إلى مطلبهم، على أنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وذلك هو الذي يرضونه وفوق الرضا ‏{‏وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ‏}‏ بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ عن تفريط المفرطين منهم لا يعاجلهم بالعقوبة‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما تقدّم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصة إذا قتلوا أو ماتوا، فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف، ومعنى ‏{‏وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ‏}‏‏:‏ من جازى الظالم بمثل ما ظلمه‏.‏ وسمي الابتداء باسم الجزاء مشاكلة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏‏.‏ والعقوبة في الأصل إنما تكون بعد فعل تكون جزاء عنه‏.‏ والمراد بالمثلية‏:‏ أنه اقتصر على المقدار الذي ظلم به ولم يزد عليه، ومعنى ‏{‏ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ‏}‏‏:‏ أن الظالم له في الابتداء عاوده بالمظلمة بعد تلك المظلمة الأولى‏.‏ قيل‏:‏ المراد بهذا البغي‏:‏ هو ما وقع من المشركين من إزعاج المسلمين من أوطانهم بعد أن كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به، واللام في ‏{‏لَيَنصُرَنَّهُ الله‏}‏ جواب قسم محذوف، أي لينصرن الله المبغيّ عليه على الباغي ‏{‏إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ‏}‏ أي كثير العفو والغفران للمؤمين فيما وقع منهم من الذنوب‏.‏

وقيل‏:‏ العفو والغفران لما وقع من المؤمنين من ترجيح الانتقام على العفو‏.‏ وقيل‏:‏ إن معنى ‏{‏ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ‏}‏ أي ثم كان المجازي مبغياً عليه، أي مظلوماً، ومعنى ثم تفاوت الرتبة، لأن الابتداء بالقتال معه نوع ظلم كما قيل في أمثال العرب‏:‏ البادي أظلم‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذه الآية مدنية، وهي في القصاص والجراحات‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ اليل فِي النهار‏}‏ إلى ما تقدّم من نصر الله سبحانه للمبغيّ عليه، وهو مبتدأ وخبره جملة‏:‏ ‏{‏بأن الله يولج‏}‏، والباء للسببية، أي ذلك بسبب أنه سبحانه قادر، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وعبر عن الزيادة بالإيلاج، لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر، والمراد تحصيل أحد العرضين في محل الآخر‏.‏ وقد مضى في آل عمران معنى هذا الإيلاج ‏{‏وَأَنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ يسمع كلّ مسموع ‏{‏بَصِيرٌ‏}‏ يبصر كلّ مبصر، أو سميع للأقوال مبصر للأفعال، فلا يعزب عنه مثقال ذرة‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق‏}‏ إلى ما تقدّم من اتصافه سبحانه بكمال القدرة الباهرة والعلم التام، أي هو سبحانه ذو الحق، دينه حقّ، وعبادته حقّ، ونصره لأوليائه على أعدائه حقّ، ووعده حقّ، فهو عزّ وجلّ في نفسه وأفعاله وصفاته حقّ ‏{‏وَإِن مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل‏}‏ قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة «تدعون» بالفوقية على الخطاب للمشركين، واختار هذه القراءة أبو حاتم‏.‏ وقرأ الباقون بالتحتية على الخبر، واختار هذه القراءة أبو عبيدة‏.‏ والمعنى‏:‏ إن الذين تدعونه إلها، وهي الأصنام، هو الباطل الذي لا ثبوت له ولا لكونه إلها ‏{‏وَأَنَّ الله هُوَ العلي‏}‏ أي العالي على كلّ شيء بقدرته المتقدّس على الأشباه والأنداد المتنزه عما يقول الظالمون من الصفات ‏{‏الكبير‏}‏ أي ذو الكبرياء، وهو عبارة عن كمال ذاته وتفرّده بالإلهية‏.‏

ثم ذكر سبحانه دليلاً بيناً على كمال قدرته، فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً‏}‏ الاستفهام للتقرير، والفاء للعطف على ‏{‏أنزل‏}‏ وارتفع الفعل بعد الفاء لكون استفهام التقرير بمنزلة الخبر كما قاله الخليل وسيبويه‏.‏ قال الخليل‏:‏ المعنى أنزل من السماء ماء فكان كذا وكذا، كما قال الشاعر‏:‏

ألم تسأل الربع القواء فينطق *** وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق

معناه‏:‏ قد سألته فنطق‏.‏ قال الفراء‏:‏ ‏{‏ألم ترَ‏}‏ خبر، كما تقول في الكلام‏:‏ إن الله ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرّة، أي ذات خضرة كما تقول مبقلة ومسبعة، أي ذوات بقل وسباع، وهو عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة، وصيغة الاستقبال، لاستحضار صورة الاخضرار مع الإشعار بتجدد الإنزال واستمراره، وهذا المعنى لا يحصل إلا بالمستقبل، والرفع هنا متعين؛ لأنه لو نصب لانعكس المعنى المقصود من الآية فينقلب إلى نفي الاخضرار، والمقصود إثباته‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ هذا لا يكون، يعني الاخضرار في صباح ليلة المطر إلا بمكة وتهامة‏.‏ والظاهر أن المراد بالاخضرار اخضرار الأرض في نفسها لا باعتبار النبات فيها كما في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لَطِيفٌ‏}‏ أنه يصل علمه إلى كل دقيق وجليل‏.‏ وقيل‏:‏ لطيف بأرزاق عباده‏.‏ وقيل‏:‏ لطيف باستخراج النبات، ومعنى ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ أنه ذو خبرة بتدبير عباده وما يصلح لهم‏.‏ وقيل‏:‏ خبير بما ينطوون عليه من القنوط عند تأخير المطر‏.‏ وقيل‏:‏ خبير بحاجتهم وفاقتهم‏.‏

‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ خلقاً وملكاً وتصرّفاً وكلهم محتاجون إلى رزقه ‏{‏وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني‏}‏ فلا يحتاج إلى شيء ‏{‏الحميد‏}‏ المستوجب للحمد في كل حال ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الارض‏}‏ هذه نعمة أخرى ذكرها الله سبحانه، فأخبر عباده بأنه سخر لهم ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار وجعله لمنافعهم ‏{‏والفلك‏}‏ عطف على ما، أو على اسم أن، أي وسخر لكم الفلك في حال جريها في البحر، وقرأ عبد الرحمن الأعرج‏:‏ «والفلك» بالرفع على الابتداء وما بعده خبره، وقرأ الباقون بالنصب‏.‏ ومعنى ‏{‏تَجْرِي فِي البحر بِأَمْرِهِ‏}‏ أي بتقديره، والجملة في محل نصب على الحال على قراءة الجمهور ‏{‏وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض‏}‏ أي كراهة أن تقع، وذلك بأنه خلقها على صفة مستلزمة للإمساك، والجملة معطوفة على تجري ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ أي بإرادته ومشيئته، وذلك يوم القيامة ‏{‏إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ كثير الرأفة والرحمة حيث سخر هذه الأمور لعباده وهيأ لهم أسباب المعاش، وأمسك السماء أن تقع على الأرض فتهلكهم تفضلاً منه عل عباده وإنعاماً عليهم‏.‏

ثم ذكر سبحانه نعمة أخرى فقال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ‏}‏ بعد أن كنتم جماداً ‏{‏ثُمَّ يُمِيتُكُمْ‏}‏ عند انقضاء أعماركم ‏{‏ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ عند البعث للحساب والعقاب ‏{‏إنْ الإنسان لَكَفُورٌ‏}‏ أي كثير الجحود لنعم الله عليه مع كونها ظاهرة غير مستترة، ولا ينافي هذا خروج بعض الأفراد عن هذا الجحد؛ لأن المراد وصف جميع الجنس بوصف من يوجد فيه ذلك من أفراده مبالغة‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سلمان الفارسي‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر، وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين، واقرؤوا إن شئتم ‏{‏والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏»

وإسناد ابن أبي حاتم هكذا‏:‏ حدّثنا المسيب بن واضح، حدّثنا ابن المبارك عن عبد الرحمن بن شريح عن عبد الكريم بن الحارث عن أبي عقبة، يعني‏:‏ أبا عبيدة بن عقبة قال‏:‏ قال شرحبيل بن السمط‏:‏ طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم، فمرّ بي سلمان‏:‏ يعني‏:‏ الفارسي قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان برودس، فمرّوا بجنازتين أحدهما قتيل والآخر متوفى، فمال الناس عن القتيل، فقال فضالة‏:‏ مالي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ هذا القتيل في سبيل الله، فقال‏:‏ والله ما أبالي من أيّ حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله ‏{‏والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ‏}‏ الآية‏.‏ وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا‏:‏ حدّثنا أبو زرعة عن زيد بن بشر أخبرني ضمام؛ أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المغافري يقولان‏:‏ كنا برودس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره‏.‏ قلت‏:‏ ويؤيد هذا قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 100‏]‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ‏}‏ قال‏:‏ إن النبيّ بعث سرية في ليلتين بقيتا من المحرم فلقوا المشركين، فقال المشركون بعضهم لبعض‏:‏ قاتلوا أصحاب محمد فإنهم يحرمون القتال في الشهر الحرام، وإن أصحاب محمد ناشدوهم وذكروهم بالله أن يعرضوا لقتالهم فإنهم لا يستحلون القتال في الشهر الحرام إلا من بادأهم، وإن المشركين بدأوا فقاتلوهم، فاستحلّ الصحابة قتالهم عند ذلك فقاتلوهم ونصرهم الله عليهم‏.‏ وهو مرسل‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَاقَبَ‏}‏ الآية قال‏:‏ تعاون المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأخرجوه، فوعده الله أن ينصره، وهو في القصاص أيضاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد ‏{‏وَإِن مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل‏}‏ قال‏:‏ الشيطان‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ‏}‏ قال‏:‏ يعدّ المصيبات وينسى النعم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 72‏]‏

‏{‏لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ‏(‏67‏)‏ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏68‏)‏ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏69‏)‏ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏70‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏71‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏72‏)‏‏}‏

عاد سبحانه إلى بيان أمر التكاليف مع الزجر لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الأديان عن منازعته فقال‏:‏ ‏{‏لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً‏}‏ أي لكلّ قرن من القرون الماضية وضعنا شريعة خاصة، بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى، وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُمْ نَاسِكُوهُ‏}‏ صفة ل ‏{‏منسكاً‏}‏، والضمير لكل أمة، أي تلك الأمة هي العاملة به لا غيرها، فكانت التوراة منسك الأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى، والإنجيل منسك الأمة التي من مبعث عيسى إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والقرآن منسك المسلمين، والمنسك‏:‏ مصدر لا اسم مكان كما يدلّ عليه‏:‏ ‏{‏هم ناسكوه‏}‏، ولم يقل‏:‏ ناسكون فيه‏.‏ وقيل‏:‏ المنسك‏:‏ موضع أداء الطاعة، وقيل‏:‏ هو الذبائح، ولا وجه للتخصيص، ولا اعتبار بخصوص السبب، والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ ينازعنك فِي الأمر‏}‏ لترتيب النهي على ما قبله، والضمير راجع إلى الأمم الباقية آثارهم، أي‏:‏ قد عينا لكل أمة شريعة، ومن جملة الأمم هذه الأمة المحمدية، وذلك موجب لعدم منازعة من بقي منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومستلزم لطاعتهم إياه في أمر الدين، والنهي إما على حقيقته، أو كناية عن نهيه عن الالتفات إلى نزاعهم له‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إنه نهي له صلى الله عليه وسلم عن منازعتهم، أي لا تنازعهم أنت، كما تقول لا يخاصمك فلان أي‏:‏ لا تخاصمه، وكما تقول لا يضاربنك فلان، أي لا تضاربه، وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمناً، ولا يجوز لا يضربنك فلان وأنت تريد‏:‏ لا تضربه‏.‏ وحكي عن الزجاج أنه قال في معنى الآية‏:‏ فلا ينازعنك، أي فلا يجادلنك‏.‏ قال‏:‏ ودلّ على هذا ‏{‏وَإِن جادلوك‏}‏ وقرأ أبو مجلز‏:‏ «فلا ينزعنك في الأمر» أي لا يستخفنك ولا يغلبنك على دينك‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏ينازعنك‏}‏ من المنازعة ‏{‏وادع إلى رَبّكَ‏}‏ أي وادع هؤلاء المنازعين، أو ادع الناس على العموم إلى دين الله وتوحيده والإيمان به ‏{‏إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ أي طريق مستقيم لا اعوجاج فيه‏.‏

‏{‏وَإِن جادلوك‏}‏ أي وإن أبوا إلا الجدال بعد البيان لهم وظهور الحجة عليهم ‏{‏فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ أي فكل أمرهم إلى الله وقل لهم هذا القول المشتمل على الوعيد ‏{‏الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ‏}‏ أي بين المسلمين والكافرين ‏{‏يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏ من أمر الدين فيتبين حينئذٍ الحق من الباطل، وفي هذه الآية تعليم لهذه الأمة بما ينبغي لهم أن يجيبوا به من أراد الجدال بالباطل وقيل‏:‏ إنها منسوخة بآية السيف‏.‏

وجملة ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ‏}‏ مستأنفة مقرّرة لمضمون ما قبلها‏.‏

والاستفهام للتقرير، أي قد علمت يا محمد وتيقنت ‏{‏أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماء والأرض‏}‏ ومن جملة ذلك ما أنتم فيه مخلتفون ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ الذي في السماء والأرض من معلوماته ‏{‏فِى كتاب‏}‏ أي مكتوب عنده في أمّ الكتاب ‏{‏إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ أي إن الحكم منه سبحانه بين عباده فيما يختلفون فيه يسير عليه غير عسير، أو إن إحاطة علمه بما في السماء والأرض يسير عليه‏.‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا‏}‏ هذا حكاية لبعض فضائحهم، أي إنهم يعبدون أصناماً لم يتمسكوا في عبادتها بحجة نيرة من الله سبحانه ‏{‏وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ من دليل عقل يدلّ على جواز ذلك بوجه من الوجوه ‏{‏وَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ‏}‏ ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في آل عمران، وجملة‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ‏}‏ معطوفة على يعبدون، وانتصاب بينات على الحال، أي حال كونها واضحات ظاهرات الدلالة ‏{‏تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر‏}‏ أي الأمر الذي ينكر، وهو غضبهم وعبوسهم عند سماعها، أو المراد بالمنكر‏:‏ الإنكار، أي تعرف في وجوههم إنكارها‏.‏ وقيل‏:‏ هو التجبر والترفع، وجملة‏:‏ ‏{‏يكادون يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل‏:‏ ما ذلك المنكر الذي يعرف في وجوههم‏؟‏ فقيل‏:‏ يكادون يسطون، أي يبطشون، والسطوة‏:‏ شدّة البطش، يقال‏:‏ سطا به يسطو إذا بطش به بضرب، أو شتم، أو أخذ باليد، وأصل السطو‏:‏ القهر‏.‏

وهكذا ترى أهل البدع المضلة إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليهم من آيات الكتاب العزيز، أو من السنة الصحيحة مخالفاً لما اعتقده من الباطل والضلالة رأيت في وجهه من المنكر ما لو تمكن من أن يسطو بذلك العالم لفعل به ما لا يفعله بالمشركين، وقد رأينا وسمعنا من أهل البدع ما لا يحيط به الوصف، والله ناصر الحقّ ومظهر الدين وداحض الباطل ودامغ البدع وحافظ المتكلمين بما أخذه عليهم، المبينين للناس ما نزل إليهم، وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏

ثم أمر رسوله أن يردّ عليهم‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم‏}‏ أي أخبركم ‏{‏بِشَرّ مّن ذلكم‏}‏ الذي فيكم من الغيظ على من يتلو عليكم آيات الله ومقاربتكم للوثوب عليهم، وهو النار التي أعدّها الله لكم، فالنار مرتفعة على أنها خبر لمبتدأ محذوف، والجملة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل‏:‏ ما هذا الأمر الذي هو شرّ مما نكابده ونناهده عند سماعنا ما تتلوه علينا‏؟‏ فقال‏:‏ هو ‏{‏النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ‏}‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏النار‏}‏ مبتدأ وخبره جملة‏:‏ ‏{‏وعدها الله الذين كفروا‏}‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أفأخبركم بشرّ مما يلحق تالي القرآن منكم من الأذى والتوعد لهم والتوثب عليهم‏؟‏ وقرئ «النار» بالنصب على تقدير‏:‏ أعني‏.‏

وقرئ بالجرّ بدلاً من شرّ ‏{‏وَبِئْسَ المصير‏}‏ أي الموضع الذي تصيرون إليه، وهو النار‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏هُمْ نَاسِكُوهُ‏}‏ قال‏:‏ يعني‏:‏ هم ذابحوه ‏{‏فَلاَ ينازعنك فِى الأمر‏}‏ يعني‏:‏ في أمر الذبح‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال‏:‏ ‏{‏فَلاَ ينازعنك فِى الأمر‏}‏ قول أهل الشرك‏:‏ أما ما ذبح الله بيمينه فلا تأكلوه، وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ خلق الله اللوح المحفوظ لمسيرة مائة عام، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش‏:‏ اكتب، قال‏:‏ ما أكتب‏؟‏ قال‏:‏ علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة، فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة، فذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماء والأرض‏}‏ يعني‏:‏ ما في السموات السبع والأرضين السبع‏.‏ ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ العلم ‏{‏فِي كتاب‏}‏ يعني‏:‏ في اللوح المحفوظ مكتوب قبل أن يخلق السموات والأرضين ‏{‏إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ هين‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يكادون يَسْطُونَ‏}‏ يبطشون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 78‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ‏(‏73‏)‏ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏74‏)‏ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏75‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏76‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏77‏)‏ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏78‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ مَثَلٌ‏}‏ هذا متصل بقوله‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 71‏]‏ قال الأخفش‏:‏ ليس ثم مثل، وإنما المعنى‏:‏ ضربوا لي مثلاً ‏{‏فاستمعوا‏}‏ قولهم، يعني‏:‏ أن الكفار جعلوا لله مثلاً بعبادتهم غيره، فكأنه قال‏:‏ جعلوا لي شبهاً في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه‏.‏ وقال القتيبي‏:‏ إن المعنى‏:‏ يا أيها الناس، مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذباباً، وإن سلبها شيئاً لم تستطع أن تستنقذه منه‏.‏ قال النحاس‏:‏ المعنى ضرب الله عزّ وجلّ لما يعبدونه من دونه مثلاً‏.‏ قال‏:‏ وهذا من أحسن ما قيل فيه، أي بين الله لكم شبهاً ولمعبودكم‏.‏ وأصل المثل‏:‏ جملة من الكلام متلقاة بالرضا والقبول، مسيرة في الناس مستغربة عندهم، وجعلوا مضربها مثلاً لموردها، ثم قد يستعيرونها للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لكونها مماثلة لها في الغرابة كهذه القصة المذكورة في هذه الآية‏.‏ والمراد بما يدعونه من دون الله‏:‏ الأصنام التي كانت حول الكعبة وغيرها‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بهم‏:‏ السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله لكونهم أهل الحلّ والعقد فيهم‏.‏ وقيل‏:‏ الشياطين الذين حملوهم على معصية الله، والأوّل أوفق بالمقام وأظهر في التمثيل، والذباب‏:‏ اسم للواحد يطلق على الذكر والأنثى، وجمع القلة أذبة، والكثرة ذبان مثل غراب وأغربة وغربان‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ الذباب معروف، الواحد ذبابة‏.‏ والمعنى‏:‏ لن يقدروا على خلقه مع كونه صغير الجسم حقير الذات، وجملة‏:‏ ‏{‏وَلَوِ اجتمعوا لَهُ‏}‏ معطوفة على جملة أخرى شرطية محذوفة، أي لو لم يجتمعوا له لن يخلقوه ولو اجتمعوا له، والجواب محذوف والتقدير‏:‏ لن يخلقوه وهما في محل نصب على الحال، أي لن يخلقوه على كلّ حال‏.‏

ثم بين سبحانه كمال عجزهم وضعف قدرتهم فقال‏:‏ ‏{‏وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ‏}‏ أي إذا أخذ منهم الذباب شيئاً من الأشياء لا يقدرون على تخليصه منه لكمال عجزهم وفرط ضعفهم، والاستنقاذ والإنقاذ‏:‏ التخلص، وإذا عجزوا عن خلق هذا الحيوان الضعيف، وعن استنقاذ ما أخذه عليهم؛ فهم عن غيره مما هو أكبر منه جرماً وأشدّ منه قوّة؛ أعجز وأضعف، ثم عجب سبحانه من ضعف الأصنام والذباب، فقال‏:‏ ‏{‏ضَعُفَ الطالب والمطلوب‏}‏ فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه، والمطلوب‏:‏ الذباب‏.‏ وقيل‏:‏ الطالب عابد الصنم، والمطلوب‏:‏ الصنم، وقيل‏:‏ الطالب‏:‏ الذباب، والمطلوب‏:‏ الآلهة‏.‏

ثم بين سبحانه أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة عاجزة إلى هذه الغاية في العجز، ما عرفوا الله حقّ معرفته فقال‏:‏ ‏{‏مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ أي ما عظموه حقّ تعظيمه ولا عرفوه حقّ معرفته، حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له مع كون حالها هذا الحال، وقد تقدّم في الأنعام ‏{‏إِنَّ الله لَقَوِيٌّ‏}‏ على خلق كل شيء ‏{‏عَزِيزٌ‏}‏ غالب لا يغالبه أحد، بخلاف آلهة المشركين، فإنها جماد لا تعقل ولا تنفع ولا تضرّ ولا تقدر على شيء‏.‏

ثم أراد سبحانه أن يردّ عليهم ما يعتقدونه في النبوّات والإلهيات فقال‏:‏ ‏{‏الله يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلاً‏}‏ كجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل ويصطفي أيضاً رسلاً ‏{‏مِنَ الناس‏}‏ وهم الأنبياء، فيرسل الملك إلى النبيّ، والنبيّ إلى الناس، أو يرسل الملك لقبض أرواح مخلوقاته، أو لتحصيل ما ينفعهم، أو لإنزال العذاب عليهم ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ لأقوال عباده ‏{‏بَصِيرٌ‏}‏ بمن يختاره من خلقه ‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ أي ما قدّموا من الأعمال وما يتركونه من الخير والشرّ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءَاثَارَهُمْ‏}‏ ‏[‏ياس‏:‏ 12‏]‏‏.‏ ‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور‏}‏ لا إلى غيره‏.‏

ولما تضمن ما ذكره من أن الأمور ترجع إليه، الزجر لعباده عن معاصيه، والحضّ لهم على طاعاته؛ صرح بالمقصود فقال‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ اركعوا واسجدوا‏}‏ أي صلوا الصلاة التي شرعها الله لكم، وخصّ الصلاة لكونها أشرف العبادات، ثم عمّم فقال‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ‏}‏ أي افعلوا جميع أنواع العبادة التي أمركم الله بها ‏{‏وافعلوا الخير‏}‏ أي ما هو خير، وهو أعم من الطاعة الواجبة والمندوبة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالخير هنا‏:‏ المندوبات‏.‏ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ أي إذا فعلتم هذه كلها رجوتم الفلاح‏.‏ وهذه الآية من مواطن سجود التلاوة عند الشافعي ومن وافقه، لا عند أبي حنيفة ومن قال بقوله، وقد تقدّم أن هذه السورة فضلت بسجدتين، وهذا دليل على ثبوت السجود عند تلاوة هذه الآية‏.‏

ثم أمرهم بما هو سنام الدين وأعظم أعماله، فقال‏:‏ ‏{‏وجاهدوا فِي الله‏}‏ أي في ذاته ومن أجله، والمراد به الجهاد الأكبر، وهو الغزو للكفار ومدافعتهم إذا غزوا بلاد المسلمين، وقيل‏:‏ المراد بالجهاد هنا‏:‏ امتثال ما أمرهم الله به في الآية المتقدّمة، أو امتثال جميع ما أمر به ونهى عنه على العموم، ومعنى ‏{‏حَقَّ جهاده‏}‏‏:‏ المبالغة في الأمر بهذا الجهاد؛ لأنه أضاف الحق إلى الجهاد، والأصل إضافة الجهاد إلى الحق، أي جهاداً خالصاً لله، فعكس ذلك لقصد المبالغة، وأضاف الجهاد إلى الضمير اتساعاً، أو لاختصاصه به سبحانه من حيث كونه مفعولاً له ومن أجله‏.‏ وقيل‏:‏ المراد ‏{‏بحق جهاده‏}‏‏:‏ هو أن لا تخافوا في الله لومة لائم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به استفراغ ما في وسعهم في إحياء دين الله‏.‏ وقال مقاتل والكلبي‏:‏ إن الآية منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله مَا استطعتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏‏.‏ كما أن قوله‏:‏ ‏{‏اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ منسوخ بذلك، ورد ذلك بأن التكليف مشروط بالقدرة، فلا حاجة إلى المصير إلى النسخ‏.‏

ثم عظم سبحانه شأن المكلفين بقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ اجتباكم‏}‏ أي اختاركم لدينه، وفيه تشريف لهم عظيم‏.‏ ثم لما كان في التكليف مشقة على النفس في بعض الحالات قال‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ‏}‏ أي من ضيق وشدّة‏.‏

وقد اختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله، فقيل‏:‏ هو ما أحله الله من النساء مثنى وثلاث ورباع وملك اليمين‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ قصر الصلاة، والإفطار للمسافر، والصلاة بالإيماء على من لا يقدر على غيره، وإسقاط الجهاد عن الأعرج والأعمى والمريض، واغتفار الخطأ في تقديم الصيام وتأخيره لاختلاف الأهلة، وكذا في الفطر والأضحى‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أنه سبحانه ما جعل عليهم حرجاً بتكليف ما يشق عليهم، ولكن كلفهم بما يقدرون عليه، ورفع عنهم التكاليف التي فيها حرج، فلم يتعبدهم بها كما تعبد بها بني إسرائيل‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بذلك‏:‏ أنه جعل لهم من الذنب مخرجاً بفتح باب التوبة وقبول الاستغفار والتكفير فيما شرع فيه الكفارة والأرش، أو القصاص في الجنايات، وردّ المال أو مثله أو قيمته في الغصب ونحوه‏.‏ والظاهر أن الآية أعمّ من هذا كله، فقط حطّ سبحانه ما فيه مشقة من التكاليف على عباده‏:‏ إما بإسقاطها من الأصل وعدم التكليف بها كما كلف بها غيرهم، أو بالتخفيف وتجويز العدول إلى بدل لا مشقة فيه، أو بمشروعية التخلص عن الذنب بالوجه الذي شرعه الله، وما أنفع هذه الآية وأجلّ موقعها وأعظم فائدتها، ومثلها قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله مَا استطعتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏‏.‏ وفي الحديث الصحيح أنه سبحانه قال‏:‏ «قد فعلت» كما سبق بيانه في تفسير هذه الآية، والأحاديث في هذا كثيرة‏.‏

وانتصاب ملة في ‏{‏مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم‏}‏ على المصدرية بفعل دلّ عليه ما قبله أي وسع عليكم دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم‏.‏ وقال الفراء‏:‏ انتصب على تقدير حذف الكاف، أي كملة، وقيل‏:‏ التقدير‏:‏ وافعلوا الخير كفعل أبيكم إبراهيم، فأقام الملة مقام الفعل‏.‏ وقيل‏:‏ على الإغراء‏.‏ وقيل‏:‏ على الاختصاص، وإنما جعله سبحانه أباهم لأنه أبو العرب قاطبة، ولأن له عند غير العرب الذين لم يكونوا من ذريته حرمة عظيمة كحرمة الأب على الابن لكونه أبا لنبيهم صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ‏}‏ أي في الكتب المتقدّمة ‏{‏وَفِي هذا‏}‏ أي القرآن، والضمير لله سبحانه‏.‏ وقيل‏:‏ راجع إلى إبراهيم‏.‏ والمعنى‏:‏ هو، أي إبراهيم، سماكم المسلمين من قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي هذا، أي في حكمه، أن من اتبع محمداً فهو مسلم‏.‏

قال النحاس‏:‏ وهذا القول مخالف لقول علماء الأمة‏.‏ ثم علل سبحانه ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ‏}‏ أي بتبليغه إليكم ‏{‏وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس‏}‏ أن رسلهم قد بلغتهم، وقد تقدّم بيان معنى هذه الآية في البقرة‏.‏ ثم أمرهم بما هو أعظم الأركان الإسلامية فقال‏:‏ ‏{‏فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏ وتخصيص الخصلتين بالذكر لمزيد شرفهما ‏{‏واعتصموا بالله‏}‏ أي اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون، والتجؤوا إليه في جميع أموركم، ولا تطلبوا ذلك إلاّ منه ‏{‏هُوَ مولاكم‏}‏ أي ناصركم ومتولي أموركم دقيقها وجليلها ‏{‏فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير‏}‏ أي لا مماثل له في الولاية لأموركم والنصرة على أعدائكم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏واعتصموا بالله‏}‏‏:‏ تمسكوا بدين الله‏.‏ وقيل‏:‏ ثقوا به تعالى‏.‏

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ مَثَلٌ‏}‏ قال‏:‏ نزلت في صنم‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه‏:‏ ‏{‏ضَعُفَ الطالب والمطلوب‏}‏ قال‏:‏ الطالب آلهتهم، والمطلوب الذباب‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ‏}‏ قال‏:‏ لا تستنقذ الأصنام ذلك الشيء من الذباب‏.‏ وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضاً قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله اصطفى موسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة» وأخرج أيضاً عن أنس وصححه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «موسى بن عمران صفي الله» وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف قال‏:‏ قال لي عمر‏:‏ ألسنا كنا نقرأ فيما نقرأ‏:‏ وجاهدوا في الله حق جهاده في آخر الزمان كما جاهدتم في أوّله‏؟‏ قلت‏:‏ بلى فمتى هذا يا أمير المؤمنين‏؟‏ قال‏:‏ إذا كانت بنو أمية الأمراء، وبنو المغيرة الوزراء‏.‏ وأخرجه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة قال‏:‏ قال عمر لعبد الرحمن بن عوف فذكره‏.‏ وأخرج الترمذي وصححه وابن حبان وابن مردويه والعسكري في الأمثال عن فضالة بن عبيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله» وأخرج ابن جرير، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن عائشة؛ أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ‏}‏ قال‏:‏ «الضيق» وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد قال‏:‏ قال أبو هريرة لابن عباس‏:‏ أما علينا في الدين من حرج في أن نسرق أو نزني‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ فما جعل عليكم في الدين من حرج، قال‏:‏ الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن شهاب أن ابن عباس كان يقول‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ‏}‏ توسعة الإسلام، ما جعل الله من التوبة والكفارات‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن يسار عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ‏}‏ قال‏:‏ هذا في هلال رمضان إذا شكّ فيه الناس، وفي الحج إذا شكوا في الأضحى، وفي الفطر وأشباهه‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير‏:‏ أن ابن عباس سئل عن الحرج فقال‏:‏ ادع لي رجلاً من هذيل، فجاءه فقال‏:‏ مما الحرج فيكم‏؟‏ قال‏:‏ الحرجة من الشجر التي ليس فيها مخرج، فقال ابن عباس‏:‏ الذي ليس له مخرج‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر، والبيهقي في سننه من طريق عبيد الله بن أبي يزيد، أن ابن عباس سئل عن الحرج فقال‏:‏ ها هنا أحد من هذيل‏؟‏ قال رجل‏:‏ أنا، فقال‏:‏ ما تعدّون الحرجة فيكم‏؟‏ قال‏:‏ الشيء الضيق، قال‏:‏ هو ذاك‏.‏ وأخرج البيهقي في سننه عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال‏:‏ قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ثم قال لي‏:‏ ادع لي رجلاً من بني مدلج، قال عمر‏:‏ ما الحرج فيكم‏؟‏ قال‏:‏ الضيق‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏مّلَّةَ أَبِيكُمْ‏}‏ قال‏:‏ دين أبيكم‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏سماكم المسلمين مِن قَبْلُ‏}‏ قال الله عزّ وجلّ‏:‏ سماكم‏.‏ وروي نحوه عن جماعة من التابعين‏.‏ وأخرج الطيالسي وأحمد، والبخاري في تاريخه، والترمذي وصححه، والنسائي وأبو يعلى وابن خزيمة وابن حبان والبغوي والبارودي وابن قانع والطبراني والحاكم وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان عن الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من دعا بدعوة الجاهلية فإنه من جثي جهنم»، قال رجل‏:‏ يا رسول الله وإن صام وصلى‏؟‏ قال‏:‏ «نعم، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين والمؤمنين عباد الله»‏.‏

سورة المؤمنون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ‏(‏4‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏5‏)‏ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏6‏)‏ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏7‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏8‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون‏}‏ قال الفراء‏:‏ «قد» ها هنا يجوز أن تكون تأكيداً لفلاح المؤمنين، ويجوز أن تكون تقريباً للماضي من الحال؛ لأن قد تقرّب الماضي من الحال حتى تلحقه بحكمه، ألا تراهم يقولون‏:‏ قد قامت الصلاة قبل حال قيامها، ويكون المعنى في الآية‏:‏ أن الفلاح قد حصل لهم وأنهم عليه في الحال، والفلاح الظفر بالمراد والنجاة من المكروه‏.‏ وقيل‏:‏ البقاء في الخير، وأفلح إذا دخل في الفلاح، ويقال‏:‏ أفلحه‏:‏ إذا أصاره إلى الفلاح، وقد تقدّم بيان معنى الفلاح في أوّل البقرة‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف «قد أفلح» بضم الهمزة وبناء الفعل للمفعول‏.‏ وروي عنه أنه قرأ‏:‏ «أفلحوا المؤمنون» على الإبهام والتفسير، أو على لغة أكلوني البراغيث‏.‏

ثم وصف هؤلاء المؤمنين بقوله‏:‏ ‏{‏الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون‏}‏ وما عطف عليه‏.‏ والخشوع منهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات والعبث، وهو في اللغة السكون والتواضع والخوف والتذلل‏.‏

وقد اختلف الناس في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها‏؟‏ على قولين‏:‏ قيل‏:‏ الصحيح الأوّل، وقيل‏:‏ الثاني‏.‏ وادّعى عبد الواحد بن زيد إجماع العلماء على أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته، حكاه النيسابوري في تفسيره‏.‏ قال‏:‏ ومما يدل على صحة هذا القول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 24‏]‏‏.‏ والتدبر لا يتصوّر بدون الوقوف على المعنى، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصلاة لِذِكْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏‏.‏ والغفلة تضادّ الذكر، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 205‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏‏.‏ نهي للسكران والمستغرق في هموم الدنيا بمنزلته‏.‏ واللغو، قال الزجاج‏:‏ هو كل باطل ولهو وهزل ومعصية وما لا يجمل من القول والفعل، وقد تقدم تفسيره في البقرة‏.‏ قال الضحاك‏:‏ إن اللغو هنا الشرك‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إنه المعاصي كلها‏.‏ ومعنى إعراضهم عنه‏:‏ تجنبهم له وعدم التفاتهم إليه، وظاهره اتصافهم بصفة الإعراض عن اللغو في كل الأوقات، فيدخل وقت الصلاة في ذلك دخولاً أوّلياً كما تفيده الجملة الإسمية، وبناء الحكم على الضمير، ومعنى فعلهم للزكاة‏:‏ تأديتهم لها، فعبر عن التأدية بالفعل لأنها مما يصدق عليه الفعل، والمراد بالزكاة هنا‏:‏ المصدر؛ لأنه الصادر عن الفاعل، وقيل‏:‏ يجوز أن يراد بها العين على تقدير مضاف، أي والذين هُم لتأدية الزكواة * فاعلون‏.‏ ‏{‏والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون‏}‏‏:‏ الفرج يطلق على فرج الرجل والمرأة، ومعنى حفظهم لها‏:‏ أنهم ممسكون لها بالعفاف عما لا يحلّ لهم‏.‏ قيل‏:‏ والمراد هنا‏:‏ الرجال خاصة دون النساء، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم‏}‏ للإجماع على أنه لا يحل للمرأة أن يطأها من تملكه‏.‏

قال الفراء‏:‏ إن «على» في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ على أزواجهم‏}‏ بمعنى‏:‏ «من»‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أنهم يلامون في إطلاق ما حظر عليهم فأمروا بحفظه إلا على أزواجهم ودلّ على المحذوف ذكر اللوم في آخر الآية‏.‏ والجملة في محل نصب على الحال‏.‏ وقيل‏:‏ إن الاستثناء من نفي الإرسال المفهوم من الحفظ، أي لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ إلا والين على أزواجهم وقوّامين عليهم من قولهم‏:‏ كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم لفروجهم حافظون في جميع الأحوال إلا في حال تزوّجهم أو تسرّيهم، وجملة‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم‏}‏ في محل جرّ عطفاً على أزواجهم، و«ما» مصدرية‏.‏ والمراد بذلك‏:‏ الإماء، وعبر عنهنّ ب «ما» التي لغير العقلاء؛ لأنه اجتمع فيهنّ الأنوثة المنبئة عن قصور العقل وجواز البيع والشراء فيهنّ كسائر السلع، فأجراهن بهذين الأمرين مجرى غير العقلاء، وجملة‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏ تعليل لما تقدّم مما لا يجب عليهم حفظ فروجهم منه‏.‏

‏{‏فَمَنِ ابتغى وَرَاء ذلك فأولئك هُمُ العادون‏}‏ الإشارة إلى الزوجات وملك اليمين، ومعنى العادون‏:‏ المجاوزون إلى ما لا يحلّ لهم، فسمى سبحانه من نكح ما لا يحلّ عادياً‏.‏ ووراء هنا بمعنى‏:‏ سوى وهو مفعول ابتغى‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي فمن ابتغى ما بعد ذلك فمفعول الابتغاء محذوف، و‏{‏وراء‏}‏ ظرف‏.‏

وقد دلت هذه الآية على تحريم نكاح المتعة، واستدلّ بها بعض أهل العلم على تحريم الاستمناء لأنه من الوراء لما ذكر، وقد جمعنا في ذلك رسالة سميناها «بلوغ المني في حكم الاستمنا»، وذكرنا فيها أدلة المنع والجواز وترجيح الراجح منهما‏.‏

‏{‏والذين هُمْ لأماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لأماناتهم‏}‏ بالجمع‏.‏ وقرأ ابن كثير بالإفراد‏.‏ والأمانة‏:‏ ما يؤتمنون عليه، والعهد‏:‏ ما يعاهدون عليه من جهة الله سبحانه أو جهة عباده، وقد جمع العهد والأمانة كل ما يتحمله الإنسان من أمر الدين والدنيا، والأمانة أعمّ من العهد، فكل عهد أمانة، ومعنى ‏{‏راعون‏}‏‏:‏ حافظون‏.‏ ‏{‏والذين هُمْ على صلواتهم يحافظون‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏صلواتهم‏}‏ بالجمع‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ «صلاتهم» بالإفراد، ومن قرأ بالإفراد فقد أراد اسم الجنس وهو في معنى الجمع‏.‏ والمحافظة على الصلاة إقامتها والمحافظة عليها في أوقاتها وإتمام ركوعها وسجودها وقراءتها والمشروع من أذكارها‏.‏

ثم مدح سبحانه هؤلاء فقال‏:‏ ‏{‏أولئك هُمُ الوارثون‏}‏ أي الأحقاء بأن يسموا بهذا الاسم دون غيرهم‏.‏ ثم بين الموروث بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يَرِثُونَ الفردوس‏}‏ وهو أوسط الجنة، كما صح تفسيره بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمعنى‏:‏ أن من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهو الوارث الذي يرث من الجنة ذلك المكان، وفيه استعارة لاستحقاقهم الفردوس بأعمالهم‏.‏

وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أنهم يرثون من الكفار منازلهم حيث فرقوها على أنفسهم؛ لأنه سبحانه خلق لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار‏.‏ ولفظ الفردوس لغة رومية معرّبة، وقيل‏:‏ فارسية‏.‏ وقيل‏:‏ حبشية‏.‏ وقيل‏:‏ هي عربية‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ في محل نصب على الحال المقدّرة، أو مستأنفة لا محل لها، ومعنى الخلود‏:‏ أنهم يدومون فيها لا يخرجون منها ولا يموتون فيها، وتأنيث الضمير مع أنه راجع إلى الفردوس لأنه بمعنى الجنة‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والترمذي والنسائي وابن المنذر والعقيلي، والحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل، والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ كان إذا أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدويّ النحل، فأنزل الله عليه يوماً فمكثنا ساعة، فسريّ عنه فاستقبل القبلة فقال‏:‏ «اللّهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا»، ثم قال‏:‏ «لقد أنزل عليّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنة»، ثم قرأ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون‏}‏ حتى ختم العشر‏.‏ وفي إسناده يونس بن سليم الصنعاني‏.‏ قال النسائي‏:‏ لا نعرف أحداً رواه عن ابن شهاب إلا يونس بن سليم ويونس لا نعرفه‏.‏ وأخرج البخاري في الأدب المفرد، والنسائي وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن يزيد بن بابنوس قال‏:‏ قلنا لعائشة‏:‏ كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالت‏:‏ كان خلقه القرآن، ثم قالت‏:‏ تقرأ سورة المؤمنين‏؟‏ اقرأ‏:‏ ‏{‏قد أفلح المؤمنون‏}‏ حتى بلغ العشر، فقالت‏:‏ هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير، والبيهقي في سننه عن محمد بن سيرين قال‏:‏ نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء، فنزلت‏:‏ ‏{‏الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون‏}‏‏.‏ وأخرجه عبد الرزاق، عنه، وزاد‏:‏ فأمره بالخشوع فرمى ببصره نحو مسجده‏.‏ وأخرجه عنه أيضاً عبد بن حميد، وأبو داود في المراسيل، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن بلفظ‏:‏ كان إذا قام في الصلاة نظر هكذا وهكذا، يميناً وشمالاً، فنزلت‏:‏ ‏{‏الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون‏}‏ فحنى رأسه‏.‏ وروي عنه من طرق مرسلاً هكذا‏.‏ وأخرجه الحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عنه عن أبي هريرة؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء، فنزلت‏:‏ ‏{‏الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون‏}‏ فطأطأ رأسه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن سيرين بلفظ‏:‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون رؤوسهم وأبصارهم إلى السماء في الصلاة يلتفتون يميناً وشمالاً، فأنزل الله ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون * الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون‏}‏ فمالوا برؤوسهم فلم يرفعوا أبصارهم بعد ذلك في الصلاة، ولم يلتفتوا يميناً وشمالاً‏.‏

وأخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن عليّ‏:‏ أنه سئل عن قوله‏:‏ ‏{‏الذين هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خاشعون‏}‏ قال‏:‏ الخشوع في القلب، وأن تلين كتفك للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون‏}‏ قال‏:‏ خائفون ساكنون‏.‏ وقد ورد في مشروعية الخشوع في الصلاة والنهي عن الالتفات وعن رفع البصر إلى السماء أحاديث معروفة في كتب الحديث‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ‏}‏ قال‏:‏ الباطل‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وأبو داود في ناسخه عن القاسم بن محمد‏:‏ أنه سئل عن المتعة فقال‏:‏ إني لأرى تحريمها في القرآن، ثم تلا‏:‏ ‏{‏والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون * إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني عن ابن مسعود أنه قيل له‏:‏ إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن‏:‏ ‏{‏الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 23‏]‏‏.‏ ‏{‏والذين هُمْ على صلاتهم يحافظون‏}‏ قال‏:‏ ذلك على مواقيتها، قالوا‏:‏ ما كنا نرى ذلك إلا على تركها، قال‏:‏ تركها كفر‏.‏

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير، والحاكم وصححه عن أبي هريرة في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك هُمُ الوارثون‏}‏ قال‏:‏ يرثون مساكنهم ومساكن إخوانهم التي أعدت لهم لو أطاعوا الله‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما منكم من أحد إلا وله منزلان‏:‏ منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏أولئك هُمُ الوارثون‏}‏» وأخرج عبد بن حميد، والترمذي وقال‏:‏ حسن صحيح غريب عن أنس، فذكر قصة، وفيها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها»، ويدلّ على هذه الوراثة المذكورة هنا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 63‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏‏.‏ ويشهد لحديث أبي هريرة هذا ما في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى» وفي لفظ له‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فيقول‏:‏ هذا فكاكك من النار»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 22‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ‏(‏12‏)‏ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ‏(‏14‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ‏(‏15‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ‏(‏16‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ‏(‏17‏)‏ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ ‏(‏20‏)‏ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏21‏)‏ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

لما حثّ سبحانه عباده على العبادة ووعدهم الفردوس على فعلها، عاد إلى تقرير المبدأ والمعاد ليتمكن ذلك في نفوس المكلفين فقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان‏}‏ إلى آخره، واللام جواب قسم محذوف، والجملة مبتدأة، وقيل‏:‏ معطوفة على ما قبلها، والمراد بالإنسان‏:‏ الجنس؛ لأنهم مخلوقون في ضمن خلق أبيهم آدم، وقيل‏:‏ المراد به آدم‏.‏ والسلالة فعالة من السلّ، وهو استخراج الشيء من الشيء، يقال‏:‏ سللت الشعرة من العجين، والسيف من الغمد فانسلّ، فالنطفة سلالة، والولد سليل، وسلالة أيضاً، ومنه قول الشاعر‏:‏

فجاءت به عضب الأديم غضنفرا *** سلالة فرج كان غير حصين

وقول الآخر‏:‏

وهل هند إلا مهرة عربية *** سلالة أفراس تجللها بغل

و «مِنْ» في‏:‏ ‏{‏مِن سلالة‏}‏ ابتدائية متعلقة ب ‏{‏خلقنا‏}‏، وفي‏:‏ ‏{‏مِن طِينٍ‏}‏ بيانية متعلقة بمحذوف، وقع صفة لسلالة، أي كائنة من طين، والمعنى‏:‏ أنه سبحانه خلق جوهر الإنسان أوّلاً من طين؛ لأن الأصل آدم، وهو من طين خالص وأولاده من طين ومنيّ، وقيل‏:‏ السلالة‏:‏ الطين إذا عصرته انسلّ من بين أصابعك؛ فالذي يخرج هو السلالة، قاله الكلبي ‏{‏ثُمَّ جعلناه‏}‏ أي‏:‏ الجنس باعتبار أفراده الذين هم بنو آدم، أو جعلنا نسله على حذف مضاف إن أريد بالإنسان آدم ‏{‏نُّطْفَةٍ‏}‏ وقد تقدّم تفسير النطفة في سورة الحج‏.‏ وكذلك تفسير العلقة والمضغة‏.‏ والمراد بالقرار المكين‏:‏ الرّحم، وعبر عنها بالقرار الذي هو مصدر مبالغة، ومعنى ‏{‏ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً‏}‏ أي أنه سبحانه أحال النطفة البيضاء علقة حمراء ‏{‏فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً‏}‏ أي قطعة لحم غير مخلقة ‏{‏فَخَلَقْنَا المضغة عظاما‏}‏ أي جعلها الله سبحانه متصلبة لتكون عموداً للبدن على أشكال مخصوصة ‏{‏فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً‏}‏ أي أنبتَ الله سبحانه على كل عظم لحماً على المقدار الذي يليق به ويناسبه ‏{‏ثم أنشأناه خلقاً آخر‏}‏ أي نفخنا فيه الروح بعد أن كان جماداً‏.‏ وقيل‏:‏ أخرجناه إلى الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ هو نبات الشعر‏.‏ وقيل‏:‏ خروج الأسنان‏.‏ وقيل‏:‏ تكميل القوى المخلوقة فيه، ولا مانع من إرادة الجميع، والمجيء ب «ثم» لكمال التفاوت بين الخلقين ‏{‏فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين‏}‏ أي استحق التعظيم والثناء‏.‏ وقيل‏:‏ مأخوذ من البركة، أي كثر خيره وبركته‏.‏ والخلق في اللغة‏:‏ التقدير، يقال‏:‏ خلقت الأديم‏:‏ إذا قسته لتقطع منه شيئاً، فمعنى ‏{‏أحسن الخالقين‏}‏‏:‏ أتقن الصانعين المقدّرين، ومنه قول الشاعر‏:‏

ولأنت تفري ما خلقت وب *** عض القوم يخلق ثم لا يفري

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ‏}‏ الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى الأمور المتقدّمة، أي ثم إنكم بعد تلك الأمور لميتون صائرون إلى الموت لا محالة ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ‏}‏ من قبوركم إلى المحشر للحساب والعقاب‏.‏

واللام في ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ‏}‏ جواب لقسم محذوف، والجملة مبتدأة مشتملة على بيان خلق ما يحتاجون إليه بعد بيان خلقهم‏.‏ والطرائق‏:‏ هي السموات‏.‏ قال الخليل والفراء والزجاج‏:‏ سميت طرائق؛ لأنه طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ طارقت الشيء جعلت بعضه فوق بعض، والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة‏.‏ وقيل‏:‏ لأنها طرائق الملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ لأنها طرائق الكواكب ‏{‏وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غافلين‏}‏ المراد بالخلق هنا‏:‏ المخلوق، أي‏:‏ وما كنا عن هذه السبع الطرائق وحفظها عن أن تقع على الأرض بغافلين‏.‏ وقال أكثر المفسرين‏:‏ المراد الخلق كلهم بغافلين بل حفظنا السموات عن أن تسقط، وحفظنا من في الأرض أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم أو تميد بهم الأرض، أو يهلكون بسبب من الأسباب المستأصلة لهم، ويجوز أن يراد نفي الغفلة عن القيام بمصالحهم وما يعيشون به، ونفي الغفلة عن حفظهم‏.‏

‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء‏}‏ هذا من جملة ما امتن الله سبحانه به على خلقه‏.‏ والمراد‏:‏ بالماء ماء المطر، فإن به حياة الأرض وما فيها من الحيوان، ومن جملة ذلك ماء الأنهار النازلة من السماء والعيون، والآبار المستخرجة من الأرض، فإن أصلها من ماء السماء‏.‏ وقيل‏:‏ أراد سبحانه في هذه الآية الأنهار الأربعة‏:‏ سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل، ولا وجه لهذا التخصيص‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به‏:‏ الماء العذب، ولا وجه لذلك أيضاً فليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء، ومعنى ‏{‏بِقَدَرٍ‏}‏‏:‏ بتقدير منا أو بمقدار يكون به صلاح الزرع والثمار، فإنه لو كثر لكان به هلاك ذلك، ومثله قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن مّن شَئ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 21‏]‏ ومعنى ‏{‏فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض‏}‏‏:‏ جعلناه مستقرّاً فيها ينتفعون به وقت حاجتهم إليه كالماء الذي يبقى في المستنقعات والغدران ونحوها ‏{‏وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون‏}‏ أي كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن نذهب به بوجه من الوجوه، ولهذا التنكير حسن موقع لا يخفى، وفي هذا تهديد شديد لما يدلّ عليه من قدرته سبحانه على إذهابه وتغويره حتى يهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 30‏]‏‏.‏

ثم بين سبحانه ما يتسبب عن إنزال فقال‏:‏ ‏{‏فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب‏}‏ أي أوجدنا بذلك الماء جنات من النوعين المذكورين ‏{‏لَكُمْ فِيهَا‏}‏ أي في هذه الجنات ‏{‏فواكه كَثِيرَةٌ‏}‏‏.‏ تتفكهون بها وتتطعمون منها، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ومن هذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعاشكم كقوله‏:‏ فلان يأكل من حرفة كذا، وهو بعيد، واقتصر سبحانه على النخيل والأعناب؛ لأنها الموجودة بالطائف والمدينة وما يتصل بذلك‏.‏

كذا قال ابن جرير‏.‏ وقيل‏:‏ لأنها أشرف الأشجار ثمرة وأطيبها منفعة وطعماً ولذّة‏.‏ قيل‏:‏ المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏لَّكُمْ فِيهَا فواكه‏}‏ أن لكم في هذه الجنات فواكه من غير العنب والنخيل‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لكم في هذين النوعين خاصة فواكه؛ لأن فيهما أنواعاً مختلفة متفاوتة في الطعم واللون‏.‏

وقد اختلف أهل الفقه في لفظ الفاكهة على ماذا يطلق‏؟‏ اختلافاً كثيراً، وأحسن ما قيل‏:‏ إنها تطلق على الثمرات التي يأكلها الناس، وليست بقوت لهم ولا طعام ولا إدام‏.‏ واختلف في البقول هل تدخل في الفاكهة أم لا‏؟‏

وانتصاب ‏{‏شجرة‏}‏ على العطف على ‏{‏جنات‏}‏‏.‏ وأجاز الفراء الرفع على تقدير‏:‏ وثم شجرة فتكون مرتفعة على الابتداء، وخبرها محذوف مقدّر قبلها، وهو الظرف المذكور‏.‏ قال الواحدي‏:‏ المفسرون كلهم يقولون‏:‏ إن المراد بهذه الشجرة‏:‏ شجرة الزيتون، وخصت بالذكر، لأنه لا يتعاهدها أحد بالسقي، وهي التي يخرج الدهن منها، فذكرها الله سبحانه امتناناً منه على عباده بها؛ ولأنها أكرم الشجر وأعمها نفعاً وأكثرها بركة، ثم وصف سبحانه هذه الشجرة بأنها ‏{‏تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء‏}‏ وهو جبل ببيت المقدّس، والطور الجبل في كلام العرب‏.‏ وقيل‏:‏ هو مما عرّب من كلام العجم‏.‏ واختلف في معنى سيناء فقيل‏:‏ هو الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ هو المبارك، وذهب الجمهور إلى أنه اسم للجبل كما تقول‏:‏ جبل أحد‏.‏ وقيل‏:‏ سيناء حجر بعينه أضيف الجبل إليه لوجوده عنده‏.‏ وقيل‏:‏ هو كلّ جبل يحمل الثمار‏.‏ وقرأ الكوفيون‏:‏ ‏{‏سيناء‏}‏ بفتح السين، وقرأ الباقون بكسر السين، ولم يصرف لأنه جعل اسماً للبقعة، وزعم الأخفش أنه أعجمي‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تنبت بالدهن‏}‏ بفتح المثناة وضمّ الباء الموحدة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضمّ المثناة وكسر الباء الموحدة‏.‏ والمعنى على القراءة الأولى‏:‏ أنها تنبت في نفسها متلبسة بالدهن، وعلى القراءة الثانية‏:‏ الباء بمعنى مع، فهي للمصاحبة‏.‏ قال أبو عليّ الفارسي‏:‏ التقدير‏:‏ تنبت جناها ومعه الدهن‏.‏ وقيل‏:‏ الباء زائدة، قاله أبو عبيدة، ومثله قول الشاعر‏:‏

هنّ الحرائر لا ربات أحمرة *** سود المحاجر لا يقرأن بالسور

وقال آخر‏:‏

نضرب بالسيف ونرجو بالفرج *** وقال الفراء والزجاج‏:‏ إن نبت وأنبت بمعنى، والأصمعي ينكر أنبت، ويرد عليه قول زهير‏:‏

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم *** قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل

أي نبت‏.‏ وقرأ الزهري والحسن والأعرج‏:‏ «تنبت» بضم المثناة وفتح الموحدة‏.‏ قال الزجاج وابن جني‏:‏ أي تنبت ومعها الدهن، وقرأ ابن مسعود‏:‏ «تخرج» بالدهن، وقرأ زرّ بن حبيش‏:‏ «تنبت الدهن» بحذف حرف الجرّ‏.‏ وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب‏:‏ «بالدهان» ‏{‏وَصِبْغٍ لّلآكِلِيِنَ‏}‏ معطوف على الدهن، أي تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به‏.‏ وكونه صبغاً يؤتدم به‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏صبغ‏}‏، وقرأ قوم «صباغ» مثل لبس ولباس‏.‏

وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ وصباغ‏.‏ وأصل الصبغ‏:‏ ما يلّون به الثوب، وشبه الإدام به؛ لأن الخبز يكون بالإدام كالمصبوغ به‏.‏

‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِي الانعام لَعِبْرَةً‏}‏ هذه من جملة النعم التي امتنّ الله بها عليهم‏.‏ وقد تقدّم تفسير الأنعام في سورة النحل‏.‏ قال النيسابوري في تفسيره‏:‏ ولعلّ القصد بالأنعام هنا إلى الإبل خاصة؛ لأنها هي المحمول عليها في العادة؛ ولأنه قرنها بالفلك وهي سفائن البرّ، كما أن الفلك سفائن البحر‏.‏ وبين سبحانه أنها عبرة؛ لأنها مما يستدل بخلقها وأفعالها على عظيم القدرة الإلهية، ثم فصل سبحانه ما في هذه الأنعام من النعم بعد ما ذكره من العبرة فيها للعباد فقال‏:‏ ‏{‏نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِي بُطُونِهَا‏}‏ يعني سبحانه‏:‏ اللبن المتكوّن في بطونها المنصبّ إلى ضروعها، فإن في انعقاد ما تأكله من العلف واستحالته إلى هذا الغذاء اللذيذ، والمشروب النفيس أعظم عبرة للمعتبرين، وأكبر موعظة للمتعظين‏.‏ وقرئ ‏{‏نسقيكم‏}‏ بالنون على أن الفاعل هو الله سبحانه، وقرئ بالتاء الفوقية على أن الفاعل هو الأنعام، ثم ذكر ما فيها من المنافع إجمالاً فقال‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فيِهَا منافع كَثِيرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ في ظهورها وألبانها وأولادها وأصوافها وأشعارها، ثم ذكر منفعة خاصة فقال‏:‏ ‏{‏وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ لما في الأكل من عظيم الانتفاع لهم‏.‏

وكذلك ذكر الركوب عليها لما فيه من المنفعة العظيمة فقال‏:‏ ‏{‏وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ‏}‏ أي وعلى الأنعام، فإن أريد بالأنعام الإبل والبقر والغنم، فالمراد وعلى بعض الأنعام، وهي الإبل خاصة، وإن أريد بالأنعام الإبل خاصة، فالمعنى واضح‏.‏ ثم لما كانت الأنعام هي غالب ما يكون الركوب عليه في البرّ ضمّ إليها ما يكون الركوب عليه في البحر، فقال‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ‏}‏ تميماً للنعمة وتكميلاً للمنة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ السلالة‏:‏ صفو الماء الرقيق الذي يكون منه الولد‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال‏:‏ إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في ‏[‏كل‏]‏ شعر وظفر فتمكث أربعين يوماً، ثم تنحدر في الرحم فتكون علقة‏.‏ وللتابعين في تفسير السلالة أقوال قد قدّمنا الإشارة إليها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ثم أنشأناه خلقاً آخر‏}‏ قال‏:‏ الشعر والأسنان‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه‏:‏ ‏{‏أنشأناه خلقاً آخر‏}‏ قال‏:‏ نفخ فيه الروح، وكذا قال مجاهد وعكرمة والشعبي والحسن وأبو العالية والربيع بن أنس والسديّ والضحاك وابن زيد، واختاره ابن جرير‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد‏:‏ ‏{‏ثم أنشأناه خلقاً آخر‏}‏ قال‏:‏ حين استوى به الشباب‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن صالح أبي الخليل قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثم أنشأناه خلقاً آخر‏}‏ قال عمر‏:‏ ‏{‏فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين‏}‏ قال‏:‏

«والذي نفسي بيده إنها ختمت بالذي تكلمت به يا عمر» وأخرج الطيالسي وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أنس قال‏:‏ قال عمر‏:‏ وافقت ربي في أربع، قلت‏:‏ يا رسول الله لو صلينا خلف المقام‏؟‏ فأنزل الله ‏{‏واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏‏.‏ وقلت‏:‏ يا رسول الله، لو اتخذت على نسائك حجاباً فإنه يدخل عليك البرّ والفاجر، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏ وقلت لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لتنتهنّ أو ليبدلنّه الله أزواجاً خيراً منكنّ، فنزلت‏:‏ ‏{‏عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏ الآية، ونزلت‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثم أنشأناه خلقاً آخر‏}‏ فقلت أنا‏:‏ ‏{‏فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين‏}‏‏.‏ وأخرج ابن راهويه وابن المنذر وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال‏:‏ أملى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏خَلْقاً ءَاخَرَ‏}‏ فقال معاذ بن جبل‏:‏ ‏{‏فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين‏}‏ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له معاذ‏:‏ مم ضحكت يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «بها ختمت ‏{‏فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين‏}‏» وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف جداً‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ وفي خبره هذا نكارة شديدة، وذلك أن هذه السورة مكية، وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة، وكذلك إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة، والله أعلم‏.‏

وأخرج ابن مردويه والخطيب، قال السيوطي‏:‏ بسند ضعيف، عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار‏:‏ سيحون وهو نهر الهند، وجيحون وهو نهر بلخ، ودجلة والفرات وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر مصر، أنزلها من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل، فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض، وجعلها منافع للناس في أصناف معايشهم، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض‏}‏ فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل، فرفع من الأرض القرآن والعلم، والحجر من ركن البيت، ومقام إبراهيم، وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع كل ذلك إلى السماء، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون‏}‏ فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والآخرة» وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس، قال‏:‏ طور سيناء هو الجبل الذي نودي منه موسى‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏تَنبُتُ بالدهن‏}‏ قال‏:‏ هو الزيت يؤكل ويدهن به‏.‏