فصل: تفسير الآيات رقم (164- 164)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏164- 164‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏164‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه التوحيد بقوله‏:‏ ‏{‏وإلهكم إله واحد‏}‏ عقب ذلك بالدليل الدالّ عليه، وهو هذه الأمور التي هي من أعظم صنعة الصانع الحكيم، مع علم كل عاقل بأنه لا يتهيأ من أحد من الآلهة التي أثبتها الكفار أن يأتي بشيء منها، أو يقتدر عليه، أو على بعضه، وهي خلق السموات، وخلق الأرض، وتعاقب الليل والنهار، وجرى الفلك في البحر، وإنزال المطر من السماء، وإحياء الأرض به، وبثّ الدوابّ منها بسببه، وتصريف الرياح، فإن من أمعن نظره، وأعمل فكره في واحد منها انبهر له، وضاق ذهنه عن تصوّر حقيقته‏.‏ وتحتم عليه التصديق بأن صانعه هو الله سبحانه، وإنما جمع السموات؛ لأنها أجناس مختلفة، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى، ووحد الأرض؛ لأنها كلها من جنس واحد، وهو التراب‏.‏ والمراد باختلاف الليل، والنهار تعاقبهما بإقبال أحدهما، وإدبار الآخر، وإضاءة أحدهما، وإظلام الآخر‏.‏ والنهار‏:‏ ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس‏.‏ وقال النضر بن شميل‏:‏ أوّل النهار طلوع الشمس، ولا يعدّ ما قبل ذلك من النهار‏.‏ وكذا قال ثعلب، واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت‏:‏

والشَّمْسُ تَطْلع كلَّ آخر لَيْلةٍ *** حمراء يُصْبح لوْنُهَا يتورَّدُ

وكذا قال الزجاج‏.‏ وقسم ابن الأنباري الزمان إلى ثلاثة أقسام‏:‏ قسماً جعله ليلاً محضاً، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر‏.‏ وقسماً جعله نهاراً محضاً، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها‏.‏ وقسماً جعله مشتركاً بين النهار والليل، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار‏.‏ هذا باعتبار مصطلح أهل اللغة‏.‏ وأما في الشرع فالكلام في ذلك معروف‏.‏ والفلك‏:‏ السفن، وإفراده، وجمعه بلفظ واحد، وهو هذا، ويذكر، ويؤنث‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى الفلك المشحون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 19‏]‏ ‏{‏والفلك التى تَجْرِى فِى البحر‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏ وقيل‏:‏ واحده فلَك بالتحريك، مثل أسد وأسَد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بِمَا يَنفَعُ الناس‏}‏ يحتمل أن تكون «ما» موصولة، أي‏:‏ بالذي ينفعهم، أو مصدرية، أي‏:‏ بنفعهم، والمراد بما أنزل من السماء المطر الذي به حياة العالم، وإخراج النبات، والأرزاق‏.‏ والبثّ‏:‏ النشر، والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏بَثَّ‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏فَأَحْيَا‏}‏ لأنهما أمران متسببان عن إنزال المطر‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ إن الظاهر عطفه على أنزل‏.‏ والمراد بتصريف الرياح‏:‏ إرسالها عقيماً، وملقحة، وصرّاً، ونصراً، وهلاكاً، وحارة، وباردة، ولينة، وعاصفة، وقيل‏:‏ تصريفها‏:‏ إرسالها جنوباً، وشمالاً ودَبُوراً، وصباً، ونكباً وهي‏:‏ التي تأتي بين مهبَّي ريحين، وقيل تصريفها‏:‏ أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها، والصغار كذلك، ولا مانع من حمل التصريف على جميع ما ذكر‏.‏ والسحاب سمي سحاباً؛ لانسحابه في الهواء، وسحبت ذيلي سحباً، وتسحب فلان على فلان‏:‏ اجترأ‏.‏

والمسخر‏:‏ المذلل، وسخره‏:‏ بعثه من مكان إلى آخر‏.‏ وقيل‏:‏ تسخيره‏:‏ ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد، ولا علائق والأوّل أظهر‏.‏ والآيات‏:‏ الدلالات على وحدانيته سبحانه لمن ينظر ببصره، ويتفكر بعقله‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس قال‏:‏ قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً نتقوى به على عدوّنا، فأوحى الله إليه‏:‏ «إني معطيهم، فأجعل لهم الصفار ذهباً، ولكن إن كفروا بعد ذلك عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين»، فقال‏:‏ «ربّ، دعني، وقومي، فأدعوهم يوماً بيوم،» فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وأخرج نحوه عبد بن حميد، وابن جرير، عن سعيد بن جبير‏.‏ وأخرج وكيع، والفريابي وآدم ابن أبي إياس، وسعيد بن منصور، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الضحى قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏وإلهكم إله واحد‏}‏ عجب المشركون، وقالوا‏:‏ إن محمداً يقول‏:‏ ‏{‏وإلهكم إله واحد‏}‏ فليأتنا بآية إن كان من الصادقين، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عطاء نحوه‏.‏

وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن سلمان قال‏:‏ الليل موكل به ملك يقال له‏:‏ شراهيل، فإذا حان وقت الليل أخذ خرزة سوداء، فدلاها من قبل المغرب، فإذا نظرت إليها الشمس وجبت في أسرع من طرفة عين، وقد أمرت الشمس أن لا تغرب حتى ترى الخرزة، فإذا غربت جاء الليل، فلا تزال الخرزة معلقة حتى يجئ ملك آخر يقال له هراهيل بخرزة بيضاء، فيعلقها من قبل المطلع، فإذا رآها شراهيل مدّ إليه خرزته، وترى الشمس الخرزة البيضاء، فتطلع، وقد أمرت أن لا تطلع حتى تراها، فإذا طلعت جاء النهار‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك في قوله‏:‏ ‏{‏والفلك‏}‏ قال‏:‏ السفينة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال‏:‏ ‏{‏بَثَّ‏}‏ خلق، وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَصْرِيفِ الرياح‏}‏ قال‏:‏ إذا شاء جعلها رحمة لواقح للسحاب، وبشراً بين يدي رحمته، وإذا شاء جعلها عذاباً ريحاً عقيماً لا تلقح‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي بن كعب قال‏:‏ كل شيء في القرآن من الرياح، فهي رحمة، وكل شيء في القرآن من الريح، فهي عذاب‏.‏ وقد ورد في النهي عن سبّ الريح، وأوصافها أحاديث كثيرة لا تعلق لها بالآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165- 167‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ‏(‏165‏)‏ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ‏(‏166‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ‏(‏167‏)‏‏}‏

لما فرغ سبحانه من الدليل على وحدانيته، أخبر أن مع هذا الدليل الظاهر المفيد لعظيم سلطانه، وجليل قدرته، وتفرّده بالخلق، قد وجد في الناس من يتخذ معه سبحانه ندّاً يعبده من الأصنام‏.‏ وقد تقدّم تفسير الأنداد، مع أن هؤلاء الكفار لم يقتصروا على مجرد عبادة الأنداد، بل أحبوها حباً عظيماً، وأفرطوا في ذلك إفراطاً بالغاً، حتى صار حبهم لهذه الأوثان، ونحوها متمكناً في صدورهم كتمكن حبّ المؤمنين لله سبحانه، فالمصدر في قوله‏:‏ ‏{‏كَحُبّ الله‏}‏ مضاف إلى المفعول، والفاعل محذوف، وهو المؤمنون‏.‏ ويجوز أن يكون المراد‏:‏ كحبهم لله، أي‏:‏ عبدة الأوثان، قاله ابن كيسان، والزجاج، ويجوز أن يكون هذا المصدر من المبني للمجهول‏:‏ أي‏:‏ كما يُحَب الله‏.‏ والأولى أولى لقوله‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ‏}‏ فإنه استدرك لما يفيده التشبيه من التساوي، أي‏:‏ أن حبّ المؤمنين لله أشدّ من حبّ الكفار للأنداد؛ لأن المؤمنين يخصون الله سبحانه بالعبادة، والدعاء، والكفار لا يخصون أصنامهم بذلك، بل يشركون الله معهم، ويعترفون بأنهم إنما يعبدون أصنامهم؛ ليقرّبوهم إلى الله، ويمكن أن يجعل هذا، أعني قوله‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ‏}‏ دليلاً على الثاني؛ لأن المؤمنين إذا كانوا أشد حباً لله لم يكن حبّ الكفار للأنداد كحبّ المؤمنين لله؛ وقيل‏:‏ المراد بالأنداد هنا الرؤساء، أي‏:‏ يطيعونهم في معاصي الله، ويقوى هذا الضمير في قلوبهم‏:‏ ‏{‏يُحِبُّونَهُمْ‏}‏ فإنه لمن يعقل، ويقوّيه أيضاً قوله سبحانه عقب ذلك‏:‏ ‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا‏}‏ الآية‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ قراءة أهل مكة، والكوفة، وأبو عمر وبالياء التحتية، وهو‏:‏ اختيار أبي عبيد‏.‏ وقراءة أهل المدينة، وأهل الشام بالفوقية، والمعنى على القراءة الأولى‏:‏ لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة؛ لعلموا حين يرونه أن القوّة لله جميعاً، قاله أبو عبيد‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير‏.‏ انتهى‏.‏ وعلى هذا، فالرؤية هي‏:‏ البصرية لا القلبية‏.‏ وروي عن محمد بن يزيد المبرّد أنه قال‏:‏ هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد، وليست عبارته فيه بالجيدة؛ لأنه يقدّر‏:‏ ولو يرى الذين ظلموا العذاب، فكأنه يجعله مشكوكاً فيه‏.‏ وقد أوجبه الله تعالى، ولكن التقدير، وهو الأحسن‏:‏ ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله، ويرى بمعنى يعلم، أي‏:‏ لو يعلمون حقيقة قوّة الله، وشدّة عذابه‏.‏ قال‏:‏ وجواب لو محذوف‏:‏ أي‏:‏ لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة، كما حذف في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 27‏]‏ ‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنام‏:‏ 30‏]‏‏.‏

ومن قرأ بالفوقية، فالتقدير‏:‏ ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب، وفزعهم منه لعلمت أن القوّة لله جميعاً‏.‏

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك، ولكن خوطب بهذا الخطاب، والمراد به أمته، وقيل‏:‏ ‏"‏ أن ‏"‏ في موضع نصب مفعول لأجله‏:‏ أي‏:‏ لأن القوّة لله، كما قال الشاعر‏:‏

وأغفُر عوراءَ الكَرِيمِ ادّخارَه *** وأعْرِضُ عَنْ شَتْمِ اللئيم تكَرُّمَا

أي‏:‏ لادّخاره، والمعنى‏:‏ ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب؛ لأن القوّة لله لعلمت مبلغهم من النكال، ودخلت ‏"‏ إذ ‏"‏ وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات، تقريباً للأمر، وتصحيحاً لوقوعه‏.‏

وقرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏إِذْ يَرَوْنَ‏}‏ بضم الياء، والباقون بفتحها‏.‏ وقرأ الحسن، ويعقوب، وأبو جعفر‏:‏ «إن القوّة» و«إن الله» بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف، وعلى تقدير القول‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا‏}‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ يَرَوْنَ العذاب‏}‏ ومعناه‏:‏ أن السادة، والرؤساء تبرءوا ممن اتبعهم على الكفر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَرَأَوُاْ العذاب‏}‏ في محل نصب على الحال‏:‏ يعني التابعين، والمتبوعين، قيل‏:‏ عند المعاينة في الدنيا، وقيل‏:‏ عند العرض، والمساءلة في الآخرة، ويمكن أن يقال فيهما جميعاً، إذ لا مانع من ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب‏}‏ هي‏:‏ جمع سبب، وأصله في اللغة‏:‏ الحبل الذي يشد به الشيء، ويجذب به، ثم جعل كل ما جرّ شيئاً سبباً، والمراد بها‏:‏ الوُصَل التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من الرحم، وغيره، وقيل‏:‏ هي الأعمال‏.‏ والكرّة‏:‏ الرجعة، والعودة إلى حال قد كانت، و‏"‏ لو ‏"‏ هنا في معنى التمني كأنه قيل‏:‏ ليت لنا كرّة، ولهذا وقعت الفاء في الجواب‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الأتباع قالوا‏:‏ لو رُددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحاً، ونتبرأ منهم كما تبرّءوا منا‏.‏ والكاف في قوله‏:‏ ‏{‏كَمَا تَبَرَّءواْ مِنَّا‏}‏ في محل نصب على النعت لمصدر محذوف‏.‏ وقيل‏:‏ في محل نصب على الحال، ولا أراه صحيحاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك يُرِيهِمُ الله‏}‏ في موضع رفع، أي‏:‏ الأمر كذلك، أي‏:‏ كما أراهم الله العذاب يريهم أعمالهم، وهذه الرؤية إن كانت البصرية فقوله‏:‏ ‏{‏حسرات‏}‏ منتصب على الحال، وإن كانت القلبية، فهو المفعول الثالث، والمعنى‏:‏ أن أعمالهم الفاسدة يريهم الله إياها، فتكون عليهم حسرات، أو يريهم الأعمال الصالحة التي أوجبها عليهم، فتركوها، فيكون ذلك حسرة عليهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار‏}‏ فيه دليل على خلود الكفار في النار، وظاهر هذا التركيب يفيد الاختصاص، وجعله الزمخشري للتقوية لغرض له يرجع إلى المذهب، والبحث في هذا يطول‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا‏}‏ قال‏:‏ مباهاة، ومضاهاة للحق بالأنداد ‏{‏والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ‏}‏ قال‏:‏ من الكفار لآلهتهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي زيد في هذه الآية قال‏:‏ هؤلاء المشركون أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله يحبونهم كما يحبّ الذين آمنوا الله ‏{‏والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ‏}‏ من حبهم لآلهتهم‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن السدّي في الآية قال‏:‏ الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله إذا أمروهم أطاعوهم، وعصوا الله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن عكرمة نحو ما قال ابن زيد‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الربيع في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى * الذين ظَلَمُواْ‏}‏ قال‏:‏ ولو ترى يا محمد الذين ظلموا أنفسهم، فاتخذوا من دوني أنداداً يحبونهم كحبكم إياي حين يعاينون عذابي يوم القيامة الذي أعددت لهم، لعلمتم أن القوّة كلها لي دون الأنداد، والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئاً، ولا تدفع عنهم عذاباً أحللت بهم، وأيقنتهم أني شديد عذابي لمن كفر بي، وادّعى معي إلهاً غيري‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا‏}‏ قال‏:‏ هم الجبابرة، والقادة، والرءوس في الشرك‏.‏ ‏{‏مِنَ الذين اتبعوا‏}‏ قال‏:‏ هم‏:‏ الشياطين تبرّءوا من الإنس‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب‏}‏ قال‏:‏ المودة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ هي‏:‏ المنازل‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عنه قال‏:‏ هي‏:‏ الأرحام‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو نعيم في الحلية، عن مجاهد قال‏:‏ هي الأوصال التي كانت بينهم في الدنيا، والمودة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن أبي صالح قال‏:‏ هي الأعمال‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن الربيع قال‏:‏ هي المنازل‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً‏}‏ قال‏:‏ رجعة إلى الدنيا‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏حسرات‏}‏ قال‏:‏ صارت أعمالهم الخبيثة حسرة عليهم يوم القيامة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله ‏{‏وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار‏}‏ قال‏:‏ أولئك أهلها الذين هم أهلها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ثابت بن معبد قال‏:‏ ما زال أهل النار يأملون الخروج منها حتى نزلت ‏{‏وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏168- 171‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏168‏)‏ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏169‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏170‏)‏ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَيُّهَا الناس‏}‏ قيل‏:‏ إنها نزلت في ثقيف، وخزاعة، وبني مدلج فيما حرّموه على أنفسهم من الأنعام‏.‏ حكاه القرطبي في تفسيره، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حلالا‏}‏ مفعول، أو حال، وسمي الحلال حلالاً لانحلال عقدة الحظر عنه‏.‏ والطِّيب هنا‏:‏ هو المُسْتَلَذّ كما قاله الشافعي، وغيره‏.‏ وقال مالك، وغيره‏:‏ هو الحلال، فيكون تأكيداً لقوله‏:‏ ‏{‏حلالا‏}‏‏.‏ و‏"‏ منْ ‏"‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مِمَّا فِى الأرض‏}‏ للتبعيض للقطع بأن في الأرض ما هو حرام

‏{‏خطوات‏}‏ جمع خُطْوة بالفتح، والضم، وهي‏:‏ بالفتح للمرة، وبالضم لما بين القدمين‏.‏ وقرأ القراء ‏"‏ خَطوات ‏"‏ بفتح الخاء، وقرأ أبو سماك بفتح الخاء، والطاء، وقرأ عليّ، وقتادة، والأعرج، وعمرو بن ميمون، والأعمش‏:‏ «خُطؤات» بضم الخاء، والطاء، والهمز على الواو‏.‏ قال الأخفش‏:‏ وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع خَطية من الخطأ؛ لا من الخطو‏.‏ قال الجوهري‏:‏ والخطوة بالفتح‏:‏ المرة الواحدة، والجمع خطوات، وخطا‏.‏ انتهى‏.‏ والمعنى على قراءة الجمهور‏:‏ لا تَقْفُوا أثر الشيطان، وعمله، وكلُّ ما لم يرد به الشرع، فهو منسوب إلى الشيطان، وقيل‏:‏ هي النذور، في المعاصي، والأول التعميم، وعدم التخصيص بفرد، أو نوع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ ظاهر العداوة، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 15‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بالسوء‏}‏ سمي السوء سوءاً؛ لأنه يسوء صاحبه بسوء عاقبته، وهو مصدر ساءه يسوؤه سوءاً، ومساءة إذا أحزنه‏.‏ ‏{‏والفحشاء‏}‏ أصله سوء المنظر، ومنه قول الشاعر‏:‏

وَجِيدٍ كَجِيد الرِّئم لَيْسَ بِفَاحِشٍ *** ثم استعمل فيما يقبح من المعاني، وقيل‏:‏ السوء‏:‏ والقبيح، والفحشاء‏:‏ التجاوز للحدّ في القبح، وقيل السوء‏:‏ ما لا حدَّ فيه، والفحشاء‏:‏ ما فيه الحدّ، وقيل‏:‏ الفحشاء‏:‏ الزنا‏.‏ وقيل‏:‏ إن كل ما نهت عنه الشريعة، فهو من الفحشاء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ قال ابن جرير الطبري‏:‏ يريد ما حرّموه من البحيرة، والسائبة، ونحوهما، مما جعلوه شرعاً‏.‏ وقيل‏:‏ هو قولهم‏:‏ هذا حلال، وهذا حرام، بغير علم‏.‏ والظاهر أنه يصدق على كل ما قيل في الشرع بغير علم، وفي هذه الآية دليل على أن كل ما لم يرد فيه نصّ، أو ظاهر من الأعيان الموجودة في الأرض، فأصله الحلّ حتى يرد دليل يقتضي تحريمه، وأوضح دلالة على ذلك من هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ‏}‏ راجع إلى الناس؛ لأن الكفار منهم، وهم المقصودون هنا، وقيل‏:‏ كفار العرب خاصة، و‏{‏أَلْفَيْنَا‏}‏ معناه‏:‏ وجدنا، والألف في قوله‏:‏ ‏{‏أوَ لو كان آباؤهم‏}‏ للاستفهام، وفتحت الواو؛ لأنها واو العطف‏.‏

وفي هذه الآية من الذم للمقلدين، والنداء بجهلهم الفاحش، واعتقادهم الفاسد ما لا يقادر قدره، ومثل هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 104‏]‏، وفي ذلك دليل على قبح التقليد، والمنع منه، والبحث في ذلك يطول‏.‏ وقد أفردتُه بمؤلَّفٍ مستقلّ سميته ‏"‏ القول المفيد في حكم التقليد ‏"‏ واستوفيت الكلام فيه في ‏"‏ أدب الطلب ومنتهى الأرب ‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذى يَنْعِقُ‏}‏ فيه تشبيه واعظ الكافرين، وداعيهم، وهو‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم بالراعي الذي ينعق بالغنم، أو الإبل، فلا يسمع إلا دعاءً، ونداءً، ولا يفهم ما يقول، هكذا فسره الزجاج، والفراء، وسيبويه، وبه قال جماعة من السلف، قال سيبويه‏:‏ لم يشبهوا بالناعق، إنما شبهوا بالمنعوق به، والمعنى‏:‏ مثلك يا محمد، ومثل الذين كفروا، كمثل الناعق، والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم، فحذف لدلالة المعنى عليه‏.‏ وقال قُطْرُب‏:‏ المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يفهم‏:‏ يعني الأصنام، كمثل الراعي إذا نعق بغنمه، وهو لا يدري أين هي‏.‏ وبه قال ابن جرير الطبري‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ المعنى‏:‏ مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الجماد كمثل الصائح في جوف الليل، فيجيبه الصدى، فهو يصيح بما لا يسمع، ويجيبه ما لا حقيقة فيه‏.‏ والنعيق‏:‏ زجر الغنم، والصياح بها، يقال نعق الراعي بغنمه، ينعق نعيقاً، ونعاقاً، ونعقاناً‏:‏ أي‏:‏ صاح بها وزجرها، والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل، ويقولون‏:‏ أجهل من راعي ضأن‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏صُمٌّ‏}‏ وما بعده إخبار لمبتدإ محذوف‏:‏ أي‏:‏ هم صمّ بكم عمي‏.‏ وقد تقدم تفسير ذلك‏.‏

وقد أخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال‏:‏ «تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم يعني‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الناس كُلُواْ مِمَّا فِى الأرض حلالا طَيّباً‏}‏ فقام سعد بن أبي وقاص فقال‏:‏ يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال‏:‏ ‏"‏ يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه، فما يتقبل منه أربعين يوماً، وأيّما عبد نبت لحمه من السُّحت، والربا، فالنار أولى به ‏"‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏}‏ قال‏:‏ عمله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عنه أنه قال‏:‏ «ما خالف القرآن، فهو من خطوات الشيطان» وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن مجاهد أنه قال‏:‏ خطاه‏.‏ وأخرجا أيضاً، عن عكرمة قال‏:‏ هي نزغات الشيطان‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، قال‏:‏ هي تزيين الشيطان‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة قال‏:‏ كل معصية لله، فهي من خطوات الشيطان‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس قال‏:‏ ما كان من يمين، أو نذر في غضب، فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود أنه أتى بضرع، وملح، فجعل يأكل، فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود‏:‏ ناولوا صاحبكم‏.‏ فقال‏:‏ لا أريد، فقال‏:‏ أصائم أنت‏؟‏ قال لا‏.‏ قال‏:‏ فما شأنك‏؟‏ قال‏:‏ حَرَّمْتُ على نفسي أن آكل ضرعاً، فقال ابن مسعود‏:‏ هذا من خطوات الشيطان، فأطْعَمْ، وكفَرّ عن يمينك‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن عثمان بن غياث، قال‏:‏ سألت جابر بن زيد، عن رجل نذر أن يجعل في أنفه حلقة من ذهب، فقال‏:‏ هي من خطوات الشيطان، ولا يزال عاصياً لله، فليكفر عن يمينه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن الحسن أنه جعل يمين من حلف أن يحجّ حبواً من خطوات الشيطان‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن أبي مجلز قال‏:‏ هي‏:‏ النذور في المعاصي‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بالسوء‏}‏ قال‏:‏ المعصية؛ ‏{‏والفحشاء‏}‏ قال‏:‏ الزنا‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس؛ قال‏:‏ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام، ورغّبهم فيه، وحذَّرهم عذاب الله، ونقمته، فقال له رافع بن خارجة، ومالك بن عوف‏:‏ بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم، وخيراً منا، فأنزل الله في ذلك‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا‏}‏ وأخرج ابن جرير، عن الربيع، وقتادة في قوله‏:‏ ‏{‏أَلْفَيْنَا‏}‏ قالا‏:‏ وجدنا‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الآية، قال‏:‏ كمثل البقر والحمار والشاة، إن قلت لبعضهم كلاماً لم يعلم ما تقول غير أنه يسمع صوتك، وكذلك الكافر إن أمرتَه بخير، أو نهيتَه عن شرٍّ، أو وعظته لم يعقل، ما تقول غير أنه يسمع صوتك‏.‏ وروى نحو ذلك عن مجاهد أخرجه عبد بن حميد، وعن عكرمة، أخرجه وكيع‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج قال‏:‏ قال لي عطاء في هذه الآية‏:‏ هم اليهود الذين أنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 173‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏172‏)‏ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏173‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم‏}‏ هذا تأكيد للأمر الأول‏:‏ أعني قوله‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الناس كُلُواْ مِمَّا فِى الأرض حلالا طَيّباً‏}‏ وإنما خص المؤمنين هنا؛ لكونهم أفضل أنواع الناس‏.‏ وقيل‏:‏ والمراد بالأكل الانتفاع‏.‏ وقيل المراد به الأكل المعتاد، وهو الظاهر‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏واشكروا للَّهِ‏}‏ قد تقدّم أنه يقال شكره، وشكر له يتعدى بنفسه، وبالحرف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ أي‏:‏ تخصونه بالعبادة كما يفيده تقدّم المفعول‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة‏}‏ قرأ أبو جعفر‏:‏ ‏"‏ حُرِّم ‏"‏ على البناء للمفعول، و‏{‏إِنَّمَا‏}‏ كلمة موضوعة للحصر تثبت ما تناوله الخطاب، وتنفي ما عداه‏.‏ وقد حصرت ها هنا التحريم في الأمور المذكورة بعدها‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏الميتة‏}‏ قرأ ابن أبي عبلة بالرفع، ووجه ذلك أنه يجعل «ما» في ‏{‏إنما‏}‏ موصولة منفصلة في الخط، والميتة وما بعدها خبر الموصول، وقراءة الجميع بالنصب‏.‏ وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ‏"‏ المِّيتة ‏"‏ بتشديد الياء، وقد ذكر أهل اللغة أنه يجوز في ميت التشديد والتخفيف‏.‏ والميتة‏:‏ ما فارقها الروح من غير ذكاة‏.‏ وقد خصص هذا العموم بمثل حديث‏:‏ «أحلّ لنا ميتتان ودمان» أخرجه أحمد، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم، وابن مردويه، عن ابن عمر مرفوعاً، ومثل حديث جابر في العنبر الثابت في الصحيحين مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 96‏]‏ فالمراد بالميتة هنا ميتة البرّ لا ميتة البحر‏.‏ وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أكل جميع حيوانات البحر حيها، وميتها‏.‏ وقال بعض أهل العلم‏:‏ إنه يحرم من حيوانات البحر ما يحرم شبهه في البر، وتوقف ابن حبيب في خنزير الماء‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ وأنا أتقيه، ولا أراه حراماً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والدم‏}‏ قد اتفق العلماء على أن الدم حرام، وفي الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏ فيحمل المطلق على المقيد؛ لأن ما خلط باللحم غير محرم، قال القرطبي‏:‏ بالإجماع‏.‏ وقد روت عائشة؛ أنها كانت تطبخ اللحم، فتعلو الصفرة على البُرْمَة من الدم، فيأكل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينكره‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَحْمَ الخنزير‏}‏ ظاهر هذه الآية، والآية الأخرى أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ اِلي مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏ أن المحرّم إنما هو‏:‏ اللحم فقط‏.‏ وقد أجمعت الأمة على تحريم شحمه كما حكاه القرطبي في تفسيره وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن اللحم يدخل تحته الشحم‏.‏ وحكى القرطبي الإجماع أيضاً على أن جملة الخنزير محرّمة إلا الشعر، فإنه تجوز الخرازة به‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله‏}‏ الإهلال‏:‏ رفع الصوت، يقال أهلّ بكذا، أي‏:‏ رفع صوته‏.‏

قال الشاعر يصف فلاة‏:‏

تُهِلّ بالفَرْقَد رُكْبانُها *** كما يُهِلّ الراكبُ المُعتَمِر

وقال النابغة‏:‏

أو دُرةٌ صَدَفِيةٌ غَوّاصُها *** بَهِجٌ مَتَى يرها يُهِلّ ويَسجُد

ومنه إهلال الصبيّ، واستهلاله، وهو‏:‏ صياحه عند ولادته‏.‏ والمراد هنا‏:‏ ما ذكر عليه اسم غير الله كاللات والعزّى، إذا كان الذابح، وثنياً، والنار إذا كان الذابح مجوسياً‏.‏ ولا خلاف في تحريم هذا، وأمثاله، ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم، فإنه مما أهلّ به لغير الله، ولا فرق بينه، وبين الذبح للوثن‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضطر‏}‏ قرئ بضم النون للاتباع، وبكسرها على الأصل في التقاء الساكنين، وفيه إضمار‏.‏ أي‏:‏ فمن اضطرّ إلى شيء من هذه المحرمات‏.‏ وقرأ ابن محيصن بإدغام الضاد في الطاء‏.‏ وقرأ أبو السماك بكسر الطاء‏.‏ والمراد مَنْ صيَّره الجوع، والعدم إلى الاضطرار إلى الميتة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏غَيْرَ بَاغٍ‏}‏ نصب على الحال‏.‏ قيل المراد بالباغي‏:‏ من يأكل فوق حاجته، والعادي‏:‏ من يأكل هذه المحرمات، وهو يجد عنها مندوحة، وقيل‏:‏ غير باغٍ على المسلمين، وعادٍ عليهم، فيدخل في الباغي، والعادي قطاع الطريق، والخارج على السلطان، وقاطع الرحم، ونحوهم، وقيل المراد غير باغٍ على مضطرٍّ آخر، ولا عادٍ سدَّ الجوعة‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم‏}‏ قال‏:‏ من الحلال‏.‏ وأخرج ابن سعد، عن عمر بن عبد العزيز، أن المراد بما في الآية‏:‏ طيب الكسب؛ لا طيب الطعام‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الضحاك‏:‏ أنها حلال الرزق‏.‏ وأخرج أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين» فقال‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 172‏]‏ «ثم ذكر الرجلَ يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء‏:‏ يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب له» وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُهِلَّ‏}‏ قال‏:‏ ذبح‏.‏ وأخرج ابن جرير، عنه قال‏:‏ ‏{‏مَا أَهْل بِهِ‏}‏ للطواغيت‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد قال‏:‏ ما ذبح لغير الله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية‏.‏ قال‏:‏ ما ذكر عليه اسم غير الله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ‏}‏ يقول‏:‏ من أكل شيئاً من هذه، وهو مضطرّ، فلا حرج، ومن أكله، وهو غير مضطرّ، فقد بَغَى، واعتدى‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏غَيْرَ بَاغٍ‏}‏ قال‏:‏ في الميتة ‏{‏وَلاَ عَادٍ‏}‏ قال‏:‏ في الأكل‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ‏}‏ قال‏:‏ غير باغ على المسلمين، ولا مُعْتَد عليهم، فمن خرج يقطع الرحم، أو يقطع السبيل، أو يفسد في الأرض، أو مفارقاً للجماعة، والأئمة، أو خرج في معصية الله، فاضطرّ إلى الميتة لم تحلّ له‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، قال‏:‏ العادي الذي يقطع الطريق‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ يعني في أكله ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ لمن أكل من الحرام، رحيم به إذ أحلّ له الحرام في الاضطرار‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ‏}‏ في أكله، ولا عادٍ يتعدى الحلال إلى الحرام، وهو يجد عنه بُلْغَةً، ومندوحة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏174- 176‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏174‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ‏(‏175‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏176‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ‏}‏ قيل‏:‏ المراد بهذه الآية‏:‏ علماء اليهود؛ لأنهم كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والاشتراء هنا‏:‏ الاستبدال، وقد تقدّم تحقيقه، وسماه قليلاً؛ لانقطاع مدّته وسوء عاقبته، وهذا السبب، وإن كان خاصاً، فالاعتبار بعموم اللفظ، وهو يشمل كل من كتم ما شرعه الله، وأخذ عليه الرشا، وذكر البطون دلالة، وتأكيداً أن هذا الأكل حقيقة، إذ قد يستعمل مجازاً في مثل‏:‏ أكل فلان أرضى، ونحوه، وقال في الكشاف‏:‏ إن معنى‏:‏ ‏{‏فِي بُطُونِهِمْ‏}‏ ملء بطونهم‏:‏ قال‏:‏ يقول‏:‏ أكل فلان في بطنه، وأكل في بعض بطنه‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ النار‏}‏ أي‏:‏ أنه يوجب عليهم عذاب النار، فسمى ما أكلوه ناراً؛ لأنه يؤول بهم إليها، هكذا قال أكثر المفسرين، وقيل إنهم يعاقبون على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة، ومثله قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله‏}‏ فيه كناية عن حلول غضب الله عليهم، وعدم الرضا عنهم، يقال فلان لا يكلم فلاناً‏:‏ إذا غضب عليه‏.‏ وقال ابن جرير الطبري‏:‏ المعنى‏:‏ ولا يكلمهم بما يحبونه لا بما يكرهونه‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُزَكّيهِمْ‏}‏ معناه‏:‏ لا يثنى عليهم خيراً‏.‏ قاله الزجاج‏.‏ وقيل معناه‏:‏ لا يصلح أعمالهم الخبيثة، فيطهرهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ قد تقدّم تحقيق معناه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار‏}‏ ذهب الجمهور ومنهم الحسن ومجاهد إلى أن معناه التعجب، والمراد‏:‏ تعجيب المخلوقين من حال هؤلاء الذين باشروا الأسباب الموجبة لعذاب النار، فكأنهم بهذه المباشرة للأسباب صبروا على العقوبة في نار جهنم‏.‏ وحكى الزجاج أن المعنى‏:‏ ما أبقاهم على النار، من قولهم‏:‏ ما أصبر فلاناً على الحبس، أي‏:‏ ما أبقاه فيه، وقيل المعنى‏:‏ ما أقلّ جزعهم من النار، فجعل قلة الجزع صبراً‏.‏ وقال الكسائي وقُطْرُب‏:‏ أي ما أدومهم على عمل أهل النار‏.‏ وقيل‏:‏ «ما» استفهامية، ومعناه التوبيخ‏:‏ أي أيّ شيء أصبرهم على عمل النار‏.‏ قاله ابن عباس، والسدي، وعطاء، وأبو عبيدة‏.‏

‏{‏ذلك بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق‏}‏ الإشارة باسم الإشارة إلى الأمر، أي‏:‏ ذلك الأمر، وهو العذاب‏.‏ قاله الزجاج‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ إن خبر اسم الإشارة محذوف، والتقدير‏:‏ ذلك معلوم‏.‏ والمراد بالكتاب هنا‏:‏ القرآن، ‏{‏بالحق‏}‏ أي‏:‏ بالصدق‏.‏ وقيل بالحجة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الذين اختلفوا فِى الكتاب‏}‏ قيل‏:‏ المراد بالكتاب هنا التوراة، فادّعى النصارى أن فيها صفة عيسى، وأنكرهم اليهود، وقيل‏:‏ خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيها‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ القرآن، والذين اختلفوا كفار قريش، يقول بعضهم هو سحر، وبعضهم يقول‏:‏ هو أساطير الأوّلين، وبعضهم يقول غير ذلك‏.‏

‏{‏لَفِى شِقَاقٍ‏}‏ أي‏:‏ خلاف ‏{‏بَعِيدٍ‏}‏ عن الحق، وقد تقدم معنى الشقاق‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله‏}‏ قال‏:‏ نزلت في يهود‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن السدي قال‏:‏ كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عليه طمعاً قليلاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، أيضاً عن أبي العالية نحوه‏.‏ وأخرج الثعلبي، عن ابن عباس بسندين ضعيفين أنها نزلت في اليهود‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ قال‏:‏ اختاروا الضلالة على الهدى، والعذاب على المغفرة ‏{‏فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار‏}‏ قال‏:‏ ما أجرأهم على عمل النار، وأخرج سعيد بن منصور، وعبد ابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار‏}‏ قال‏:‏ ما أعملهم بأعمال أهل النار‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر ‏[‏عن الحسن‏]‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار‏}‏ قال‏:‏ والله ما لهم عليها من صبر، ولكن يقول‏:‏ ما أجرأهم على النار‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن قتادة ونحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير أيضاً عن السدي في الآية قال‏:‏ هذا على وجه الاستفهام، يقول‏:‏ ما الذي أصبرهم على النار‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الذين اختلفوا فِى الكتاب‏}‏ قال‏:‏ هم اليهود والنصارى ‏{‏لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏ قال‏:‏ في عداوة بعيدة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏177- 177‏]‏

‏{‏لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏177‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ البر‏}‏ قرأ حمزة، وحفص بالنصب على أنه خبر ليس، والاسم‏:‏ ‏{‏أَن تُوَلُّواْ‏}‏ وقرأ الباقون بالرفع على أنه الاسم‏.‏ قيل‏:‏ إن هذه الآية نزلت للردّ على اليهود، والنصارى، لما أكثروا الكلام في شأن القبلة عند تحويل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، وقيل‏:‏ إن سبب نزولها أنه سأل رسول الله سائل، وسيأتي ذلك آخر البحث إن شاء الله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قِبَلَ المشرق والمغرب‏}‏ قيل‏:‏ أشار سبحانه بذكر المشرق إلى قبلة النصارى؛ لأنهم يستقبلون مطلع الشمس، وأشار بذكر المغرب إلى قبلة اليهود؛ لأنهم يستقبلون بيت المقدس، وهو‏:‏ في جهة الغرب منهم إذ ذاك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولكن البر‏}‏ هو‏:‏ اسم جامع للخير، وخبره محذوف تقديره‏:‏ برّ من آمن‏.‏ قاله الفراء وقطرب والزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ إن التقدير‏:‏ ولكن ذو البر من آمن، ووجه هذا التقدير‏:‏ الفرار عن الإخبار باسم العين عن اسم المعنى، ويجوز أن يكون البرّ بمعنى البار، وهو يطلق المصدر على اسم الفاعل كثيراً، ومنه في التنزيل‏:‏ ‏{‏إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 30‏]‏ أي‏:‏ غائراً، وهذا اختيار أبي عبيدة‏.‏ والمراد بالكتاب هنا‏:‏ الجنس، أو القرآن، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏على حُبّهِ‏}‏ راجع إلى المال، وقيل‏:‏ راجع إلى الإيتاء المدلول عليه بقوله‏:‏ ‏{‏وآتى المال‏}‏ وقيل‏:‏ إنه راجع إلى الله سبحانه، أي‏:‏ على حبّ الله، والمعنى على الأوّل‏:‏ أنه أعطى المال، وهو يحبه، ويشح به، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 92‏]‏ والمعنى على الثاني‏:‏ أنه يحب إيتاء المال، وتطيب به نفسه، والمعنى على الثالث‏:‏ أنه أعطى من تضمنته الآية في حبّ الله عزّ وجلّ؛ لا لغرض آخر، وهو مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 8‏]‏ ومثله قول زهير‏:‏

إن الكريم على علاته هرم *** وقدّم ‏{‏ذوي القربى‏}‏ لكون دفع المال إليهم صدقة، وصلة إذا كانوا فقراء، وهكذا اليتامى الفقراء أولى بالصدقة من الفقراء الذين ليسوا بيتامى، لعدم قدرتهم على الكسب‏.‏ والمسكين‏:‏ الساكن إلى ما في أيدي الناس لكونه لا يجد شيئاً‏.‏ ‏{‏وابن السبيل‏}‏ المسافر المنقطع، وجعل ابناً للسبيل؛ لملازمته له‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَفِي الرقاب‏}‏ أي‏:‏ في معاونة الأرقاء الذين كاتبهم المالكون لهم، وقيل‏:‏ المراد شراء الرقاب، وإعتاقها، وقيل‏:‏ المراد فكّ الأسارى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَاتى ‏;‏لزكواة‏}‏ فيه دليل على أن الإيتاء المتقدم هو صدقة التطوّع، لا صدقة الفريضة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والموفون‏}‏ قيل‏:‏ هو‏:‏ معطوف على «من آمن»، كأنه قيل‏:‏ ولكن البرّ المؤمنون والموفون‏.‏ قاله الفراء، والأخفش‏.‏ وقيل‏:‏ هو مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف‏.‏ وقيل‏:‏ هو‏:‏ خبر لمبتدأ محذوف، أي‏:‏ هم الموفون‏.‏ وقيل‏:‏ إنه معطوف على الضمير في آمن، وأنكره أبو عليّ، وقال‏:‏ ليس المعنى عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والصابرين‏}‏ منصوب على المدح كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 162‏]‏ ومنه ما أنشده أبو عبيدة‏:‏

لا يَبْعَدن قَومْي الذين هُمُ *** سَمُّ العُدَاةِ وآفةُ الجزُرِ

النازِلِين بِكلَ مَعْركَةٍ *** والطيبين مَعاقد الأزر

وقال الكسائي‏:‏ هو‏:‏ معطوف على ذوي القربى، كأنه قال‏:‏ وآتي الصابرين‏.‏ وقال النحاس‏:‏ إنه خطأ‏.‏ قال الكسائي‏:‏ وفي قراءة عبد الله‏:‏ ‏{‏الموفين والصابرين‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ يكونان على هذه القراءة منسوقين على ذوي القربى، أو على المدح‏.‏ وقرأ يعقوب والأعمش‏:‏ «والموفون والصابرون» بالرفع فيهما‏.‏ و‏{‏البأساء‏}‏ الشدة والفقر، و‏{‏الضراء‏}‏ المرض، والزمانة ‏{‏وَحِينَ البأس‏}‏ قيل‏:‏ المراد وقت الحرب، والبأساء، والضراء اسمان بنيا على فَعْلاء ولا فعل لهما؛ لأنهما اسمان، وليسا بنعت‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏صَدَقُواْ‏}‏ وصفهم بالصدق، والتقوى في أمورهم، والوفاء بها، وأنهم كانوا جادّين، وقيل المراد‏:‏ صدقوهم القتال، والأول أولى‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم وصححه عن أبي ذرّ، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فتلا ‏{‏لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ‏}‏ حتى فرغ منها، ثم سأله أيضاً، فتلاها، ثم سأله، فتلاها، قال‏:‏ «وإذا عملت بحسنة أحبها قلبك، وإذا عملت بسيئة أبغضها قلبك‏.‏» وأخرج عبد بن حميد، وابن مردويه، عن القاسم بن عبد الرحمن، قال‏:‏ جاء رجل إلى أبي ذر فقال‏:‏ ما الإيمان‏؟‏ فتلا عليه هذه الآية، ثم ذكر له نحو الحديث السابق‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في هذه الآية قال‏:‏ يقول ليس البرّ أن تصلوا، ولا تعملوا، هذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة، وأنزلت الفرائض‏.‏ وأخرج عنه ابن جرير، أنه قال‏:‏ هذه الآية نزلت بالمدينة، يقول‏:‏ ليس البرّ أن تصلوا، ولكن البرّ ما ثبت في القلب من طاعة الله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البرّ، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ البر‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة قال‏:‏ كانت اليهود تصلي قِبَلَ المغرب، والنصارى قِبَلَ المشرق، فنزلت‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ البر‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية مثله‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله‏:‏ قال‏:‏ يعطي، وهو صحيح شحيح يأمل العيش، ويخاف الفقر‏.‏ وأخرج عنه مرفوعاً مثله، وأخرج البيهقي في الشعب عن المطلب‏:‏؛أنه قيل‏:‏ يا رسول ما آتى المال على حب‏؟‏ فكلنا نحبه‏.‏ قال رسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تؤتيه حين تؤتيه، ونفسك تحدثك بطول العمر، والفقر» وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏وآتى المال على حبه‏}‏ يعني على حب المال‏.‏

وأخرج عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏ذَوِى القربى‏}‏ يعني قرابته‏.‏ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة» أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي في سننه من حديث سلمان بن عامر الضبي‏.‏ وفي الصحيحين، وغيرهما من حديث زينب امرأة ابن مسعود‏:‏ أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل تجزي عنها من الصدقة النفقة على زوجها، وأيتام في حجرها‏؟‏ «فقال‏:‏ لك أجران‏:‏ أجر الصدقة، وأجر القرابة» وأخرج الطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه من حديث أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» وأخرج أحمد، والدارمي والطبراني من حديث حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن مجاهد قال‏:‏ هو الذي يمرّ بك، وهو مسافر، وأخرج ابن جرير، عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏والسائلين‏}‏ قال‏:‏ السائل الذي يسألك‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏وَفِي الرقاب‏}‏ قال‏:‏ يعني فكّ الرقاب‏.‏ وأخرج عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وأقام الصلاة‏}‏ يعني وأتمّ الصلاة المكتوبة‏.‏ ‏{‏وآتى الزكاة‏}‏ يعني الزكاة المفروضة

وأخرج الترمذي، وابن ماجه، وابن جرير وابن حاتم وابن المنذر، وابن عدي، والدارقطني، وابن مردويه عن فاطمة بنت قيس قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «في المال حقّ سوى الزكاة، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ‏}‏ الآية» وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏والموفون بِعَهْدِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ فمن أعطى عهد الله، ثم نقضه، فالله ينتقم منه، ومن أعطى ذمة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم غدر بها، فالنبي صلى الله عليه وسلم خصمه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عاهدوا‏}‏ يعني فيما بينهم، وبين الناس‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود في الآية قال‏:‏ ‏{‏البأساء‏}‏ الفقر و‏{‏الضراء‏}‏ السقم و‏{‏حِينَ البأس‏}‏ حين القتال‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الذين صَدَقُوا‏}‏ قال‏:‏ فعلوا ما ذكر الله في هذه الآية، وأخرج ابن جرير، عن الربيع في قوله‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الذين صَدَقُوا‏}‏ قال‏:‏ تكلموا بكلام الإيمان، فكانت حقيقة العمل صدقوا الله‏.‏ قال‏:‏ وكان الحسن يقول هذا كلام الإيمان، وحقيقته العمل، فإن لم يكن مع القول عمل، فلا شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏178- 179‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏178‏)‏ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏179‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏كتبُ‏}‏ ِ معناه فرض، وأثبت، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة‏:‏

كُتِبَ القَتْلُ والقِتالُ عَلَيْنَا *** وعَلَى الغَانِيات جَرُّ الذُّيَولِ

وهذا إخبار من الله سبحانه لعباده بأنه شرع لهم ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏كتب‏}‏ هنا إشارة إلى ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ‏.‏ و‏{‏القصاص‏}‏ أصله قص الأثر‏:‏ أي‏:‏ اتباعه، ومنه القاصّ؛ لأنه يتتبع الآثار، وقصّ الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل يسلك طريقاً من القتل، يقصّ أثره فيها، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فارتدا على ءاثَارِهِمَا قَصَصًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 64‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن القصاص مأخوذ من القص وهو القطع‏:‏ يقال قصصت ما بينهما‏:‏ أي‏:‏ قطعته‏.‏ وقد استدلّ بهذه الآية القائلون بأن الحرّ لا يقتل بالعبد، وهم الجمهور‏.‏

وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، وابن أبي ليلى، وداود إلى أنه يقتل به‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وروى ذلك عن عليّ، وابن مسعود، وبه قال سعيد بن المسيب، وإبراهيم النَّخعي، وقتادة والحكم بن عتيبة، واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفس بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ وأجاب الأولون عن هذا الاستدلال بأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد‏}‏ مفسر لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏النفس بالنفس‏}‏ وقالوا أيضاً‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا‏}‏ يفيد أن ذلك حكاية عما شرعه الله لبني إسرائيل في التوراة‏.‏

ومن جملة ما استدل به الآخرون قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المسلمون تتكافأ دماؤهم» ويجاب عنه بأنه مجمل، والآية مبينة، ولكنه يقال‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد‏}‏ إنما أفاد بمنطوقه أن الحرّ يقتل بالحرّ، والعبد يقتل بالعبد، وليس فيه ما يدل على أن الحرّ لا يقتل بالعبد إلا باعتبار المفهوم، فمن أخذ بمثل هذا المفهوم لزمه القول به هنا، ومن لم يأخذ بمثل هذا المفهوم لم يلزمه القول به هنا، والبحث في هذا محرر في علم الأصول‏.‏

وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن المسلم يقتل بالكافر، وهم‏:‏ الكوفيون، والثوري، لأن الحرّ يتناول الكافر كما يتناول المسلم، وكذا العبد والأنثى يتناولان الكافر كما يتناولان المسلم‏.‏ واستدلوا أيضاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّ النفس بالنفس‏}‏ لأن النفس تصدق على النفس الكافرة كما تصدق على النفس المسلمة‏.‏ وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل المسلم بالكافر، واستدلوا بما ورد من السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقتل مسلم بكافر، وهو مبين لما يراد في الآيتين، والبحث في هذا يطول‏.‏ واستدل بهذه الآية القائلون بأن الذكر لا يقتل بالأنثى، وقرروا الدلالة على ذلك بمثل ما سبق إلا إذا سلم أولياء المرأة الزيادة على ديتها من دية الرجل‏.‏ وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والثوري، وأبو ثور‏.‏ وذهب الجمهور إلى أنه يقتل الرجل بالمرأة، ولا زيادة، وهو الحق‏.‏

وقد بسطنا البحث في شرح المنْتقى، فليرجع إليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَئ‏}‏ «من» هنا عبارة عن القاتل‏.‏ والمراد بالأخ المقتول، أو الوليّ، والشيء‏:‏ عبارة عن الدم، والمعنى‏:‏ أن القاتل، أو الجاني إذا عفي له من جهة المجني عليه، أو الوليّ دم أصابه منه على أن يأخذ منه شيئاً من الدية، أو الأرش، فليتبع المجني عليه الولي من عليه الدم فيما يأخذه منه من ذلك اتباعاً بالمعروف، وليؤدِّ الجاني ما لزمه من الدية، أو الأرش إلى المجني عليه، أو إلى الوليّ أداء بإحسان‏.‏ وقيل إن‏:‏ «من» عبارة عن الوليّ، والأخ يراد به‏:‏ القاتل، والشيء‏:‏ الدية، والمعنى‏:‏ أن الوليّ إذا جنح إلى العفو عن القصاص إلى مقابل الدية، فإن القاتل مخير بين أن يعطيها، أو يسلم نفسه للقصاص كما روي عن مالك أنه يثبت الخيار للقاتل في ذلك، وذهب من عداه إلى أنه لا يخير، بل إذا رضى الأولياء بالدية، فلا خيار للقاتل بل يلزمه تسليمها‏.‏ وقيل‏:‏ معنى‏:‏ «عُفِى» بذل‏.‏ أي‏:‏ من بُذِل له شيء من الدية، فليقبل، وليتبع بالمعروف‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد بذلك‏:‏ أن من فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من الديات، فيكون عفى بمعنى فضل، وعلى جميع التقادير، فتنكير شيء للتقليل، فيتناول العفو عن الشيء اليسير من الدية، والعفو الصادر عن فرد من أفراد الورثة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاتباع‏}‏ مرتفع بفعل محذوف، أي‏:‏ فليكن منه اتباع، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ فالأمر اتباع، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك تَخْفِيفٌ‏}‏ إشارة إلى العفو، والدية؛ أي‏:‏ أن الله شرع لهذه الأمة العفو من غير عوض، أو بعوض، ولم يضيق عليهم كما ضيق على اليهود، فإنه أوجب عليهم القصاص، ولا عفو، وكما ضيق على النصارى، فإنه أوجب عليهم العفو، ولا دية‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك‏}‏ أي‏:‏ بعد التخفيف، نحو أن يأخذ الدية، ثم يقتل القاتل، أو يعفو، ثم يستقص‏.‏

وقد اختلف أهل العلم فيمن قتل القاتل بعد أخذ الدية‏؟‏ فقال جماعة منهم مالك، والشافعي‏:‏ إنه كمن قتل ابتداءً، إن شاء الوليّ قتله، وإن شاء عفا عنه‏.‏ وقال قتادة وعكرمة، والسدي وغيرهم؛ عذابه أن يقتل البتة، ولا يمكِّنُ الحاكمُ الوليَّ من العفو‏.‏ وقال الحسن‏:‏ عذابه أن يرد الدية فقط، ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة‏.‏ وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِي القصاص حياة‏}‏ أي‏:‏ لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم حياة؛ لأن الرجل إذا علم أنه يقتل قصاصاً إذا قتل آخر كَفَّ عن القتل، وانزجر عن التسرع إليه، والوقوع فيه، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية، وهذا نوع من البلاغة بليغ، وجنس من الفصاحة رفيع، فإنه جعل القصاص الذي هو موت حياةً باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضاً، إبقاء على أنفسهم، واستدامةً لحياتهم؛ وجعل هذا الخطاب موجهاً إلى أولي الألباب؛ لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب، ويتحامون ما فيه الضرر الآجل؛ وأما من كان مصاباً بالحمق، والطيش، والخفة، فإنه لا ينظر عند سورة غضبه، وغليان مراجل طيشه إلى عاقبة، ولا يفكر في أمر مستقبل، كما قال بعض فتاكهم‏:‏

سأَغْسِلُ عَنَّي العَارَ بِالسَيْفِ جَالباً *** عَليّ قَضَاء الله مَا كَان جَالِباً

ثم علّل سبحانه هذا الحكم الذي شرعه لعباده بقوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ تتحامون القتل بالمحافظة على القصاص، فيكون ذلك سبباً للتقوى، وقرأ أبو الجوزاء‏:‏ «ولكم في القصص حياة» قيل‏:‏ أراد بالقصص القرآن‏:‏ أي لكم في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص حياة، أي‏:‏ نجاة، وقيل‏:‏ أراد حياة القلوب، وقيل‏:‏ هو مصدر بمعنى القصاص، والكل ضعيف، والقراءة به منكرة‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال‏:‏ إن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل، وجراحات حتى قتلوا العبيد، والنساء، ولم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة، والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحرّ منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، فنزلت هذه الآية‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن الشعبي نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال‏:‏ كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏

1649‏;‏لنَّفْسَ بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏، فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد رجالهم ونساءهم، في النفس، وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستوين في العمد في النفس، وفيما دون النفس رجالهم، ونساءهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن أبي مالك قال‏:‏ كان بين حيين من الأنصار قتال كان لأحدهما على الآخر الطَّوْل، فكأنهم طلبوا الفضل، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ قال ابن عباس‏:‏ فنسختها‏:‏ ‏{‏النفس بالنفس‏}‏، وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَمَنْ عُفِىَ لَهُ‏}‏ قال‏:‏ هو‏:‏ العمد رضي أهله بالعفو‏.‏ ‏{‏فاتباع بالمعروف‏}‏ أمر به الطالب ‏{‏وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان‏}‏ من القابل، قال‏:‏ يؤدي المطلوب بإحسان‏.‏ ‏{‏ذلك تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ‏}‏ مما كان على بني إسرائيل‏.‏ وأخرج نحوه ابن أبي حاتم، عنه من وجه آخر‏.‏

وأخرج البخاري، وغيره عن ابن عباس قال‏:‏ كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن الدية فيهم، فقال الله لهذه الأمة‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَئ‏}‏، فالعفو أن تقبل الدية في العمد ‏{‏فاتباع بالمعروف وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان ذلك تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ‏}‏ مما كتب على من كان قبلكم ‏{‏فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك‏}‏ قيل‏:‏ بعد قبول الدية ‏{‏فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏

وأخرج ابن جرير، عن قتادة قال‏:‏ كان أهل التوراة إنما هو القصاص، أو العفو ليس بينهما أرش، وكان أهل الإنجيل إنما هو العفو أمروا به، وجعل الله لهذه الأمة القتل، والعفو، والدية إن شاءوا أحلها لهم، ولم تكن لأمة قبلهم‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وأحمد، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن أبي شريح الخزاعي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من أصيب بقتل، أو خبلٍ، فإنه يختار إحدى ثلاث‏:‏ إما أن يقتصّ، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة، فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك، فله نار جهنم خالداً فيها أبداً» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة، أنه إذا قتل بعد أخذ الدية، فله عذاب عظيم، قال‏:‏ فعليه القتل لا تقبل منه الدية‏.‏ قال‏:‏ وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذ الدية»، وأخرج سمويه في فوائده، عن سَمُرَة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن عكرمة أنه قال‏:‏ يقتل‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِي القصاص حياة‏}‏ قال‏:‏ جعل الله في القصاص حياة، ونكالاً، وعظة إذا ذكره الظالم المعتدي كفّ عن القتل‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ قال‏:‏ لعلك تتقي أن تقتله، فتقتل به‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏يأُوْلِي الأباب‏}‏ قال‏:‏ من كان له لبّ يذكر القصاص، فيحجزه خوف القصاص عن القتل ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ قال‏:‏ لكي تتقوا الدماء مخافة القصاص‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏180- 182‏]‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏180‏)‏ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏181‏)‏ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏182‏)‏‏}‏

قد تقدّم معنى‏:‏ ‏{‏كتب‏}‏ قريباً، وحضور الموت‏:‏ حضور أسبابه، وظهور علاماته، ومنه قول عنترة‏:‏

وإنَّ الموْتَ طَوعُ يَدي إذَا مَا *** وَصِلْتُ بَنَانها بالهنِدوانِي

وقال جرير‏:‏

أنَا المْوتَ الَّذي حُدِّثْتَ عَنْه *** فَلَيْس لِهَارب منِّي نَجَاةُ

وإنما لم يؤنث الفعل المسند إلى الوصية، وهو‏:‏ ‏{‏كتب‏}‏ لوجود الفاصل بينهما، وقيل‏:‏ لأنها بمعنى الإيصاء، وقد روي جواز إسناد ما لا تأنيث فيه إلى المؤنث مع عدم الفصل‏.‏ وقد حكى سيبويه‏:‏ قام امرأة، وهو خلاف ما أطبق عليه أئمة العربية، وشرط سبحانه ما كتبه من الوصية بأن يترك الموصي خيراً‏.‏ واختلف في جواب هذا الشرط ما هو‏؟‏ فروي عن الأخفش، وجهان‏:‏

أحدهما أن التقدير‏:‏ إن ترك خيراً، فالوصية، ثم حذفت الفاء كما قال الشاعر‏:‏

مَنْ يَفْعَل الحسَنَاتِ الله يَشْكُرها *** والشَّرّ بالشرّ عِنْد اللهِ مِثلانِ

والثاني‏:‏ أن جوابه مقدّر قبله‏:‏ أي‏:‏ كتب الوصية للوالدين، والأقربين إن ترك خيراً‏.‏ واختلف أهل العلم في مقدار الخير، فقيل‏:‏ ما زاد على سبعمائة دينار، وقيل‏:‏ ألف دينار، وقيل ما زاد على خمسمائة دينار‏.‏ والوصية في الأصل‏:‏ عبارة عن الأمر بالشيء، والعهد به في الحياة، وبعد الموت، وهي هنا‏:‏ عبارة عن الأمر بالشيء لبعد الموت‏.‏ وقد اتفق أهل العلم على وجوب الوصية على من عليه دين، أو عنده وديعة، أو نحوها‏.‏ وأما من لم يكن كذلك، فذهب أكثرهم إلى أنها غير واجبة عليه سواء كان فقيراً، أو غنياً، وقالت طائفة‏:‏ إنها واجبة،

ولم يبين الله سبحانه ها هنا القدر الذي كتب الوصية به للوالدين، والأقربين، فقيل‏:‏ الخمس‏.‏ وقيل‏:‏ الربع‏.‏ وقيل‏:‏ الثلث‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة‏؟‏ فذهب جماعة إلى أنها محكمة، قالوا‏:‏ وهي، وإن كانت عامة فمعناها الخصوص‏.‏ والمراد بها من الوالدين مَنْ لا يرث كالأبوين الكافرين، ومَنْ هو في الرقّ، ومن الأقربين من عدا الورثة منهم‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين الذين لا يرثان، والأقرباء الذين لا يرثون جائزة‏.‏

وقال كثير من أهل العلم‏:‏ إنها منسوخة بآية المواريث مع قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا وصية لوارث» وهو حديث صححه بعض أهل الحديث، وروي من غير وجه‏.‏ وقال بعض أهل العلم‏:‏ إنه نسخ الوجوب، وبقي الندب، وروي عن الشعبي، والنخعي، ومالك،

قوله‏:‏ ‏{‏بالمعروف‏}‏، أي‏:‏ العدل لا وكس فيه، ولا شطط‏.‏ وقد أذن الله للميت بالثلث دون ما زاد عليه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حَقّاً‏}‏، مصدر معناه الثبوت، والوجوب‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن بَدَّلَهُ‏}‏ هذا الضمير عائد إلى الإيصاء المفهوم من الوصية، وكذلك الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏سَمِعَهُ‏}‏، والتبديل‏:‏ التغيير، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا إِثْمُهُ‏}‏ راجع إلى التبديل المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏بَدَّلَهُ‏}‏ وهذا وعيد لمن غير الوصية المطابقة للحق، التي لا جَنَف فيها ولا مضارَّة، وأنه يبوء بالإثم، وليس على الموصي من ذلك شيء، فقد تخلص مما كان عليه بالوصية به‏.‏

قال القرطبي‏:‏ ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر، أو خنزير، أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله، ولا يجوز إمضاؤه كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث‏.‏ قاله أبو عمر‏.‏ انتهى‏.‏

والجنف‏:‏ المجاوزة، من جنف يجنف‏:‏ إذا جاوز، قاله النحاس، وقيل‏:‏ الجنف‏:‏ الميل، ومنه قول الأعشى‏:‏

تَجَانَفُ عن حجر اليمامة ناقتى *** وَمَا قَصَدتْ من أهلها لسَوائكا

قال في الصحاح‏:‏ الجنف الميل، وكذا في الكشاف‏.‏ وقال لبيد‏:‏

إني امرُؤٌ مَنعتْ أرُومة عَامر *** ضَيْمِي وَقَدْ جَنَفَتْ عليّ خُصَومِي

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أصلح ما وقع بين الورثة من الشقاق، والاضطراب بسبب الوصية بإبطال ما فيه ضرار، ومخالفة لما شرعه الله، وإثبات ما هو حق كالوصية في قربة لغير وارث، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏بَيْنَهُمْ‏}‏ راجع إلى الورثة، وإن لم يتقدم لهم ذكر؛ لأنه قد عرف أنهم المرادون من السياق‏.‏ وقيل‏:‏ راجع إلى الموصي لهم، وهم الأبوان والقرابة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِن تَرَكَ خَيْرًا‏}‏ قال‏:‏ مالاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن مجاهد نحوه، وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس قال‏:‏ من لم يترك ستين ديناراً لم يترك خيراً‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم، والبيهقي في سننه عن عروة، أن عليّ بن أبي طالب دخل على مولى لهم في البيت، وله سبعمائة درهم، أو ستمائة درهم فقال‏:‏ ألا أوصي‏؟‏ قال لا‏؟‏ إنما قال الله‏:‏ ‏{‏إِن تَرَكَ خَيْرًا‏}‏ وليس لك كثير مال فدع مالك لورثتك‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، والبيهقي، عن عائشة، أن رجلاً قال لها‏:‏ أريد أن أوصي قالت‏:‏ كم مالك‏؟‏ قال‏:‏ ثلاثة آلاف‏.‏ قالت‏:‏ كم عيالك‏؟‏ قال‏:‏ أربعة، قالت‏:‏ قال الله‏:‏ ‏{‏إِن تَرَكَ خَيْرًا‏}‏ وإن هذا شيء يسير، فاتركه لعيالك، فهو أفضل‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والبيهقي عن ابن عباس قال‏:‏ إذا ترك الميت سبعمائة درهم، فلا يوصي‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن الزهري‏.‏ قال‏:‏ جعل الله الوصية حقاً مما قل منه، ومما كثر، وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن قتادة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثاً، وفيه‏:‏ «انظر قرابتك الذين يحتاجون، ولا يرثون، فأوص لهم من مالك بالمعروف»

وأخرجا أيضاً، عن طاوس قال‏:‏ من أوصى لقوم، وسماهم، وترك ذوي قرابته‏.‏ محتاجين انتزعت منهم، وردت على قرابته، وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، وعبد بن حميد، وأبو داود في الناسخ، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس قال‏:‏ نسخت هذه الآية‏.‏

وأخرج عنه من وجه آخر أبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم؛ أن هذه الآية نسخها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وأخرج عنه من وجه آخر ابن جرير وابن أبي حاتم؛ أنها منسوخة بآية الميراث‏.‏ وأخرج عنه أبو داود في سننه، والبيهقي مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أنه قال‏:‏ في الآية نسخ من يرث، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عمر؛ أنه قال‏:‏ هذه الآية نسختها آية الميراث‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ بَدَّلَهُ‏}‏ الآية، قال‏:‏ وقد وقع أجر الموصي على الله، وبرئ من إثمه، وقال في قوله‏:‏ ‏{‏جَنَفًا‏}‏ يعني‏:‏ إثماً ‏{‏فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ إذا أخطأ الميت في وصيته، أو حاف فيها، فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه؛ لكنه فسر الجنف بالميل‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏جَنَفًا أَوْ إِثْمًا‏}‏ قال‏:‏ خطأ، أو عمداً‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، والبيهقي في سننه عنه قال‏:‏ الجنف في الوصية، والإضرار فيها من الكبائر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏183- 184‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏183‏)‏ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏184‏)‏‏}‏

قد تقدّم معنى‏:‏ ‏{‏كتب‏}‏ ولا خلاف بين المسلمين أجمعين أن صوم رمضان فريضة افترضها الله سبحانه على هذه الأمة‏.‏ والصيام أصله في اللغة‏:‏ الإمساك، وترك التنقل من حال إلى حال، ويقال‏:‏ للصمت‏:‏ صوم؛ لأنه إمساك، عن الكلام، ومنه‏:‏ ‏{‏إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 26‏]‏ أي‏:‏ إمساكاً عن الكلام، ومنه قول النابغة‏:‏

خَيْلٌ صِيَامٌ وخَيْلٌ غَيْرٌ صَائِمَةٍ *** تَحْتَ العَجَاجِ وَخَيْلٌ تَعْلُكُ اللُّجمَا

أي‏:‏ خيل ممسكة عن الجري، والحركة‏.‏ وهو في الشرع‏:‏ الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَمَا كُتِبَ‏}‏ أي‏:‏ صوماً كما كتب على أن الكاف في موضع نصب على النعت، أو كتب عليكم الصيام مشبهاً ما كتب على أنه في محل نصب على الحال‏.‏ وقال بعض النحاة‏:‏ إن الكاف في موضع رفع نعتاً للصيام، وهو ضعيف؛ لأن الصيام معرّف باللام، والضمير المستتر في قوله‏:‏ ‏{‏كَمَا كُتِبَ‏}‏ راجع إلى «ما»‏.‏ واختلف المفسرون في وجه التشبيه ما هو، فقيل‏:‏ هو قدر الصوم، ووقته، فإن الله كتب على اليهود، والنصارى صوم رمضان، فغيروا، وقيل‏:‏ هو‏:‏ الوجوب، فإن الله أوجب على الأمم الصيام‏.‏ وقيل‏:‏ هو الصفة‏.‏ أي‏:‏ ترك الأكل، والشرب، ونحوهما في وقت، فعلى الأوّل معناه‏:‏ أن الله كتب على هذه الأمة صوم رمضان كما كتبه على الذين من قبلهم، وعلى الثاني‏:‏ أن الله أوجب على هذه الأمة الصيام كما أوجبه على الذين من قبلهم، وعلى الثالث‏:‏ أن الله سبحانه أوجب على هذه الأمة الإمساك عن المفطرات كما أوجبه على الذين من قبلهم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ بالمحافظة عليها، وقيل‏:‏ تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة؛ لأنها تكسر الشهوة، وتضعف دواعي المعاصي، كما ورد في الحديث أنه «جُنَّة»، وأنه و«جاء»

وقوله‏:‏ ‏{‏أَيَّامًا‏}‏ منتصب على أنه مفعول ثان لقوله‏:‏ ‏{‏كتب‏}‏ قاله الفراء‏.‏ وقيل إنه منتصب على أنه ظرف، أي‏:‏ كتب عليكم الصيام في أيام‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏معدودات‏}‏ أي‏:‏ معينات بعدد معلوم، ويحتمل أن يكون في هذا الجمع لكونه من جموع القلة إشارة إلى تقليل الأيام‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا‏}‏ قيل‏:‏ للمريض حالتان‏:‏ إن كان لا يطيق الصوم كان الإفطار عزيمة، وإن كان يطيقه مع تضرّر، ومشقة كان رخصتة‏.‏ وبهذا قال الجمهور‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏على سَفَرٍ‏}‏ اختلف أهل العلم في السفر المبيح للإفطار، فقيل‏:‏ مسافة قصر الصلاة، والخلاف في قدرها معروف، وبه قال الجمهور‏.‏ وقال غيرهم بمقادير لا دليل عليها‏.‏ والحق أن ما صدق عليه مسمى السفر، فهو الذي يباح عنده الفطر، وهكذا ما صدق عليه مسمى المرض، فهو الذي يباح عنده الفطر‏.‏

وقد وقع الإجماع على الفطر في سفر الطاعة‏.‏ واختلفوا في الأسفار المباحة، والحق أن الرخصة ثابتة فيه، وكذا اختلفوا في سفر المعصية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَعِدَّةٌ‏}‏ أي‏:‏ فعليه عدّة، أو فالحكم عدّة، أو فالواجب عدّة، والعدّة فعلة من العدد، وهو بمعنى‏.‏ المعدود‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ قال سيبويه‏:‏ ولم ينصرف؛ لأنه معدول به عن الآخر؛ لأن سبيل هذا الباب أن يأتي بالألف واللام، وقال الكسائي‏:‏ هو معدول به عن آخر، وقيل‏:‏ إنه جمع أخرى، وليس في الآية ما يدل على وجوب التتابع في القضاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ‏}‏ قراءة الجمهور بكسر الطاء، وسكون الياء، وأصله‏:‏ يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء، وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها‏.‏ وقرأ حميد على الأصل من غير إعلال، وقرأ ابن عباس بفتح الطاء مخففة، وتشديد الواو، أي‏:‏ يكلفونه، وروى ابن الأنباري، عن ابن عباس‏:‏ «يطيقونه» بفتح الياء، وتشديد الطاء، والياء مفتوحتين بمعنى‏:‏ يطيقونه‏.‏ وروي عن عائشة، وابن عباس، وعمرو ابن دينار، وطاوس أنهم قرءوا «يطيقونه» بفتح الياء، وتشديد الطاء مفتوحة‏.‏ وقرأ أهل المدينة، والشام‏:‏ ‏"‏ فِدْيَةٌ طَعَامُ ‏"‏ مضافاً‏.‏ وقرءوا أيضاً‏:‏ ‏{‏مساكين‏}‏ وقرأ ابن عباس‏:‏ ‏{‏طَعَامُ مساكين‏}‏ وهي قراءة أبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية، هل هي محكمة، أم منسوخة‏؟‏ فقيل‏:‏ إنها منسوخة، وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام؛ لأنه شقّ عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكيناً ترك الصوم، وهو يطيقه، ثم نسخ ذلك، وهذا قول الجمهور‏.‏ وروي عن بعض أهل العلم، أنها لم تنسخ، وأنها رخصة للشيوخ، والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة، وهذا يناسب قراءة التشديد، أي‏:‏ يكلفونه كما مرّ‏.‏ والناسخ لهذه الآية عند الجمهور قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏‏.‏ وقد اختلفوا في مقدار الفدية؛ فقيل‏:‏ كل يوم صاع من غير البرّ، ونصف صاع منه، وقيل‏:‏ مدّ فقط‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ‏}‏ قال ابن شهاب‏:‏ معناه‏:‏ من أراد الإطعام مع الصوم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ معناه‏:‏ من زاد في الإطعام على المدّ‏.‏ وقيل‏:‏ من أطعم مع المسكين مسكيناً آخر‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر، ويحيى بن وثاب، وحمزة، والكسائي‏:‏ «يطوّع» مشدّداً مع جزم الفعل على معنى يتطوّع، وقرأ الباقون بتخفيف الطاء على أنه فعل ماض‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ معناه‏:‏ أن الصيام خير لهم من الإفطار مع الفدية، وكان هذا قبل النسخ، وقيل معناه‏:‏ وأن تصوموا في السفر، والمرض غير الشاق‏.‏

وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن معاذ بن جبل؛ قال‏:‏ أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال، فذكر أحوال الصلاة ثم قال‏:‏ وأما أحوال الصيام، فإن رسول الله قدم المدينة، فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء، ثم إن الله سبحانه فرض عليه الصيام، وأنزل عليه‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ‏}‏ فكان من شاء صام، ومن شاء أطعم مسكيناً، فأجزأ ذلك عنه، ثم إن الله أنزل الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏ فأثبت الله صيامه على الصحيح المقيم، ورخص فيه للمريض، والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، ثم ذكر تمام الحديث‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ يعني بذلك أهل الكتاب‏.‏ وأخرج البخاري في تاريخه، والطبراني، عن دغفل بن حنظلة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كان على النصارى صوم شهر رمضان، فمرض ملكهم، فقالوا‏:‏ لئن شفاه الله لنزيدنّ عشراً، ثم كان آخر، فأكل لحماً، فأوجع فوه، فقال‏:‏ لئن شفاه الله ليزيدنّ سبعة، ثم كان عليهم ملك آخر، فقال‏:‏ ما ندع من هذه الثلاثة الأيام شيئاً أن نتمها، ونجعل صومنا في الربيع، ففعل، فصارت خمسين يوماً» وأخرج ابن جرير، عن السدي، في قوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ قال‏:‏ تتقون من الطعام، والشراب، والنساء مثل ما اتقوا‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما سبق عن معاذ‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم» وأخرج البخاري، ومسلم عن عائشة قالت‏:‏ كان عاشوراء صياماً، فلما أنزل رمضان كان من شاء صام، ومن شاء أفطر‏.‏ وأخرج عبد بن حميد أن ابن عباس قال‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ‏}‏ قد نسخت‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه نحو ذلك، وزاد أن الناسخ لها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج نحو ذلك عنه أبو داود في ناسخه‏.‏ وأخرج نحوه عنه أيضاً سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، وغيرهم‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث سلمة بن الأكوع قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ‏}‏ كان من شاء صام، ومن شاء أن يفطر ويفتدي فعل، حتى نزلت هذه الآية بعدها فنسختها‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ‏}‏‏.‏ وأخرج البخاري، عن ابن أبي ليلى قال‏:‏ حدّثنا أصحاب محمد، فذكر نحوه‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن عليّ بن أبي طالب في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ‏}‏ قال‏:‏ الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم فيفطر، ويطعم مكان كل يوم مسكيناً‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والدارقطني، والبيهقي؛ أن أنس بن مالك ضعف عن الصوم عاماً قبل موته، فصنع جَفْنة من ثريد ودعا ثلاثين مسكيناً، فأطعمهم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والدارقطني وصححه عن ابن عباس أنه قال لأم ولد له حامل، أو مرضعة‏:‏ أنت بمنزلة الذين لا يطيقون الصيام، عليك الطعام لا قضاء عليك‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والدارقطني، عن ابن عمر؛ أن إحدى بناته أرسلت تسأله عن صوم رمضان، وهي حامل، قال‏:‏ تفطر، وتطعم كل يوم مسكيناً، وقد روى نحو هذا، عن جماعة من التابعين‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا‏}‏ قال‏:‏ أطعم مسكينين‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن طاوس في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا‏}‏ قال‏:‏ إطعام مساكين‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن شهاب في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أن الصوم خير لكم من الفدية‏.‏ وقد ورد في فضل الصوم أحاديث كثيرة جدّاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏185- 185‏]‏

‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏185‏)‏‏}‏

‏{‏رَمَضَانَ‏}‏ مأخوذ من رمض الصائم يرمض‏:‏ إذا احترق جوفه من شدة العطش، والرمضاء ممدود‏:‏ شدّة الحرّ، ومنه الحديث الثابت في الصحيح‏:‏ «صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال» أي‏:‏ أحرقت الرمضاء أجوافها‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وشهر رمضان يجمع على رمضانات، وأرمضاء يقال‏:‏ إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام الحرّ، فسمي بذلك، وقيل‏:‏ إنما سمي رمضان؛ لأنه يرمض الذنوب، أي‏:‏ يحرقها بالأعمال الصالحة‏.‏ وقال الماوردي‏:‏ إن اسمه في الجاهلية ناتق، وأنشد المفضل‏:‏

وفي ناتِقٍ أجْلَت لَدى حَوْمَةِ الوَغَى *** وَوَلَّتْ على الأدبار فُرسانُ خَثْعَما

وإنما سموه بذلك؛ لأنه كان ينتقهم لشدّته عليهم، و‏{‏شهر‏}‏ مرتفع في قراءة الجماعة على أنه مبتدأ خبره‏:‏ ‏{‏الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن‏}‏ أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي‏:‏ المفروض عليكم صومه شهر رمضان، ويجوز أن يكون بدلاً من الصيام المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام‏}‏‏.‏ وقرأ مجاهد، وشهر بن حوشب بنصب الشهر، ورواها هارون الأعور عن أبي عمرو، وهو منتصب بتقدير‏:‏ الزموا أو صوموا‏.‏ قال الكسائي، والفراء‏:‏ إنه منصوب بتقدير فعل ‏{‏كتب عليكم الصيام‏}‏ ‏{‏وأن تصوموا‏}‏ وأنكر ذلك النحاس، وقال‏:‏ إنه منصوب على الإغراء‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ إنه نصب على الظرف، ومنع الصرف للألف والنون الزائدتين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أُنزِلَ فِيهِ القرآن‏}‏ قيل‏:‏ أنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم كان جبريل ينزل به نجماً نجماً‏.‏ وقيل‏:‏ أنزل فيه أوّله، وقيل‏:‏ أنزل في شأنه القرآن‏.‏ وهذه الآية أعم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةٍ مباركة‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 3‏]‏ يعني‏:‏ ليلة القدر‏.‏ والقرآن اسم لكلام الله تعالى، وهو بمعنى المقروء كالمشروب سمي شراباً، والمكتوب سمي كتاباً، وقيل‏:‏ هو مصدر قرأ يقرأ، ومنه قول الشاعر‏:‏

ضحوا بأشمط عنوان السجود به *** يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً

أي‏:‏ قراءة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقرآن الفجر‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏ أي‏:‏ قراءة الفجر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هُدىً لّلنَّاسِ‏}‏ منتصب على الحال، أي‏:‏ هادياً لهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وبينات مِّنَ الهدى‏}‏ من عطف الخاص على العام، إظهاراً لشرف المعطوف بإفراده بالذكر؛ لأن القرآن يشمل محكمه، ومتشابهه، والبينات تختص بالحكم منه‏.‏ والفرقان‏:‏ ما فرق بين الحق، والباطل‏:‏ أي‏:‏ فصل‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏مَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ‏}‏ أي‏:‏ حضر، ولم يكن في سفر بل كان مقيماً، والشهر منتصب على أنه ظرف، ولا يصح أن يكون مفعولاً به‏.‏ قال جماعة من السلف، والخلف‏:‏ إن من أدركه شهر رمضان مقيماً غير مسافر لزمه صيامه، سافر بعد ذلك، أو أقام استدلالاً بهذه الآية‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ إنه إذا سافر أفطر، لأن معنى الآية‏:‏ إن حضر الشهر من أوّله إلى آخره لا إذا حضر بعضه، وسافر، فإنه لا يتحتم عليه إلا صوم ما حضره، وهذا هو الحق، وعليه دلت الأدلة الصحيحة من السنة‏.‏

وقد كان يخرج صلى الله عليه وسلم في رمضان، فيفطر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ قد تقدّم تفسيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر‏}‏ فيه أن هذا مقصد من مقاصد الربّ سبحانه، ومراد من مراداته في جميع أمور الدين، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏ وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرشد إلى التيسير، وينهى عن التعسير كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» وهو في الصحيح‏.‏ واليسر السهل الذي لا عسر فيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِتُكْمِلُواْ العدة‏}‏ الظاهر أنه معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر‏}‏ أي‏:‏ يريد بكم اليسر، ويريد إكمالكم للعدّة، وتكبيركم، وقيل‏:‏ إنه متعلق بمحذوف تقديره‏:‏ رخص لكم هذه الرخصة لتكملوا العدة، وشرع لكم الصوم لمن شهد الشهر لتكملوا العدة‏.‏ وقد ذهب إلى الأوّل البصريون قالوا‏:‏ والتقدير يريد؛ لأن تكملوا العدّة، ومثله قول كثير بن صخر‏:‏

أريدُ لأنسى ذِكُرَها فَكَأنَّما *** تَمَثَّل ليِ لَيْلا بِكُلِ سَبِيل

وذهب الكوفيون إلى الثاني، وقيل‏:‏ الواو مقحمة، وقيل‏:‏ إن هذه اللام لام الأمر، والواو لعطف الجملة التي بعدها على الجملة التي قبلها‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏وَأَحْصُواْ العدة‏}‏ علة للأمر بمراعاة العدّة ‏{‏وَلِتُكَبّرُواْ‏}‏ علة ما علم من كيفية القضاء، والخروج عن عهدة الفطر ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ علة الترخيص، والتيسير، والمراد بالتكبير هنا‏:‏ هو قول القائل‏:‏ «الله أكبر»‏.‏ قال الجمهور ومعناه‏:‏ الحضّ على التكبير في آخر رمضان‏.‏ وقد وقع الخلاف في وقته، فروى عن بعض السلف أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر، وقيل‏:‏ إذا رأوا هلال شوال كبروا إلى انقضاء الخطبة، وقيل‏:‏ إلى خروج الإمام، وقيل‏:‏ هو التكبير يوم الفطر‏.‏ قال مالك‏:‏ هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الإمام، وبه قال الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يكبر في الأضحى، ولا يكبر في الفطر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ قد تقدّم تفسيره‏.‏

وقد أخرج أبو حاتم، وأبو الشيخ، وابن عديّ، والبيهقي في سننه، عن أبي هريرة مرفوعاً، وموقوفاً‏:‏ «لا تقولوا رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا شهر رمضان» وقد ثبت، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه» وثبت عنه أنه قال‏:‏ «من قام رمضان إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه»

وثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏ شهرا عيد لا ينقصان‏:‏ رمضان، وذو الحجة ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة ‏"‏ وهذا كله في الصحيح‏.‏ وثبت، عنه في أحاديث كثيرة غير هذه أنه كان يقول‏:‏ ‏"‏ رمضان ‏"‏ بدون ذكر الشهر‏.‏ وأخرج ابن مردويه‏:‏ والأصبهاني في الترغيب‏:‏ عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنما سمي رمضان؛ لأن رمضان يرمض الذنوب ‏"‏ وأخرجا أيضاً، عن عائشة مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن ابن عمر نحوه‏.‏ وقد ورد في فضل رمضان أحاديث كثيرة،

وأخرج أحمد وابن جرير ومحمد بن نصر وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أنزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان، وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان ‏"‏ وأخرج أبو يعلى، وابن مردويه عن جابر مثله، لكنه قال‏:‏ ‏"‏ وأنزل الزبور الاثني عشر ‏"‏ وزاد‏:‏ ‏"‏ وأنزل التوراة لست خلون من رمضان، وأنزل الإنجيل لثماني عشرة خلت من رمضان ‏"‏ وأخرج محمد بن نصر عن عائشة نحو قول جابر، إلا أنها لم تذكر نزول القرآن‏.‏

وأخرج ابن جرير، ومحمد بن نصر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء، والصفات عن مقسمٍ؛ قال‏:‏ سأل عطيةُ بنُ الأسود ابنَ عباس فقال‏:‏ إنه قد وقع في قلبي الشكّ في قول الله‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةٍ مباركة‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 3‏]‏ فقال ابن عباس‏:‏ إنه أنزل في ليلة القدر وفي رمضان، وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلاً في الشهور والأيام‏.‏ وأخرج محمد بن نصر، والطبراني، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي، والضياء في المختارة، عن ابن عباس؛ قال‏:‏ نزل القرآن جملة لأربعة وعشرين من رمضان، فوضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيلاً‏.‏

وأخرج ابن جرير، عنه أنه قال‏:‏ «ليلة القدر هي الليلة المباركة، وهي في رمضان أنزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور»‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏هُدىً للناس‏}‏ قال‏:‏ يهتدون به ‏{‏وبينات مِّنَ الهدى‏}‏ قال‏:‏ فيه الحلال، والحرام، والحدود‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏ قال‏:‏ هو إهلاله بالدار‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عليّ قال‏:‏ من أدرك رمضان، وهو مقيم، ثم سافر، فقد لزمه الصوم؛ لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، عن ابن عمر نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر‏}‏ قال‏:‏ اليسر الافطار في السفر، والعسر‏:‏ الصوم في السفر‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِتُكْمِلُواْ العدة‏}‏ قال‏:‏ عدّة شهر رمضان‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الضحاك‏:‏ أنه قال‏:‏ عدة ما أفطر المريض في السفر‏.‏ وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم، فأكملوا العدّة ثلاثين يوماً» وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ حقّ على الصائمين إذا نظروا إلى شهر شوّال أن يكبروا الله حتى يفرغوا من عيدهم؛ لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ‏}‏‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، عن ابن مسعود أنه كان يكبر‏:‏ الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، والبيهقي في سننه عن ابن عباس، أنه كان يكبر‏:‏ الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيراً، الله أكبر، ولله الحمد وأجلّ، الله أكبر على ما هدانا‏.‏