فصل: تفسير الآيات رقم (41- 44)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏41‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ‏(‏42‏)‏ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ‏(‏43‏)‏ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا‏}‏ التنكير التغيير، يقول‏:‏ غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته‏.‏ قيل‏:‏ جعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، وقيل‏:‏ غير بزيادة ونقصان‏.‏ قال الفراء، وغيره‏:‏ إنما أمر بتنكيره؛ لأن الشياطين قالوا له‏:‏ إن في عقلها شيئاً، فأراد أن يمتحنها، وقيل‏:‏ خافت الجنّ أن يتزوّج بها سليمان، فيولد له منها ولد فيبقون مسخرين لآل سليمان أبداً، فقالوا لسليمان‏:‏ إنها ضعيفة العقل، ورجلها كرجل الحمار، وقوله‏:‏ ‏{‏نَنظُرْ‏}‏ بالجزم على أنه جواب الأمر، وبالجزم قرأ الجمهور، وقرأ أبو حيان بالرفع على الاستئناف ‏{‏أَتَهْتَدِى‏}‏ إلى معرفته، أو إلى الإيمان بالله ‏{‏أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ‏}‏ إلى ذلك‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءتْ‏}‏ أي‏:‏ بلقيس إلى سليمان ‏{‏قِيلَ‏}‏ لها، والقائل هو سليمان، أو غيره بأمره‏:‏ ‏{‏أَهَكَذَا عَرْشُكِ‏}‏ لم يقل‏:‏ هذا عرشك لئلا يكون ذلك تلقيناً لها فلا يتمّ الاختبار لعقلها ‏{‏قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ جعلت تعرف، وتنكر، وتعجب من حضوره عند سليمان، فقالت‏:‏ كأنه هو‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ عرفته، ولكنه شبهت عليهم كما شبّهوا عليها، ولو قيل لها‏:‏ أهذا عرشك لقالت‏:‏ نعم‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ كانت حكيمة، قالت‏:‏ إن قلت‏:‏ هو هو خشيت أن أكذب، وإن قلت‏:‏ لا، خشيت أن أكذب، فقالت‏:‏ كأنه هو، وقيل‏:‏ أراد سليمان أن يظهر لها أن الجنّ مسخرون له ‏{‏وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ‏}‏ قيل‏:‏ هو من كلام بلقيس، أي أوتينا العلم بصحة نبوّة سليمان من قبل هذه الآية في العرش ‏{‏وَكُنَّا مُسْلِمِينَ‏}‏ منقادين لأمره‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول سليمان أي أوتينا العلم بقدرة الله من قبل بلقيس، وقيل‏:‏ أوتينا العلم بإسلامها، ومجيئها طائعة من قبلها أي من قبل مجيئها‏.‏ وقيل‏:‏ هو من كلام قوم سليمان‏.‏ والقول الثاني أرجح من سائر الأقوال‏.‏

‏{‏وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله‏}‏ هذا من كلام الله سبحانه بيان لما كان يمنعها من إظهار ما ادّعته من الإسلام، ففاعل صدّ هو ما كانت تعبد أي منعها من إظهار الإيمان ما كانت تعبده، وهي الشمس، قال النحاس‏:‏ أي صدّها عبادتها من دون الله، وقيل‏:‏ فاعل صدّ هو الله أي منعها الله ما كانت تعبد من دونه فتكون «ما» في محل نصب، وقيل‏:‏ الفاعل سليمان أي ومنعها سليمان ما كانت تعبد، والأوّل أولى، والجملة مستأنفة للبيان كما ذكرنا، وجملة ‏{‏إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين‏}‏ تعليل للجملة الأولى أي سبب تأخرها عن عبادة الله، ومنع ما كانت تعبده عن ذلك أنها كانت من قوم متصفين بالكفر‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏إنها‏}‏ بالكسر‏.‏ وقرأ أبو حيان بالفتح‏.‏ وفي هذه القراءة وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الجملة بدل مما كانت تعبد‏.‏

والثاني أن التقدير‏:‏ لأنها كانت تعبد، فسقط حرف التعليل‏.‏

‏{‏قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح‏}‏‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الصرح‏:‏ القصر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الصرح‏:‏ الصحن‏.‏ يقال‏:‏ هذه صرحة الدار وقاعتها‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الصرح‏:‏ بلاط اتخذ لها من قوارير، وجعل تحته ماء وسمك‏.‏ وحكى أبو عبيد في الغريب أن الصرح كل بناء عالٍ مرتفع، وأن الممرّد‏:‏ الطويل ‏{‏فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا‏}‏ أي فلما رأت الصرح بين يديها حسبت أنه لجة، واللجة‏:‏ معظم الماء، فلذلك كشفت عن ساقيها لتخوض الماء، فلما فعلت ذلك ‏{‏قَالَ‏}‏ سليمان‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مّن قَوارِيرَ‏}‏ الممرّد‏:‏ المحكوك المملس، ومنه الأمرد، وتمرّد الرجل إذا لم تخرج لحيته، قاله الفراء‏.‏ ومنه الشجرة المرداء‏:‏ التي لا ورق لها‏.‏ والممرّد أيضاً‏:‏ المطوّل، ومنه قيل‏:‏ للحصن ما رد، ومنه قول الشاعر‏:‏

غدوت صباحاً باكراً فوجدتهم *** قبيل الضحى في السابري الممرّد

أي الدروع الواسعة الطويلة، فلما سمعت بلقيس ذلك أذعنت، واستسلمت، و‏{‏قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِى‏}‏ أي بما كنت عليه من عبادة غيرك، وقيل‏:‏ بالظنّ الذي توهمته في سليمان؛ لأنها توهمت أنه أراد تغريقها في اللجة، والأوّل أولى ‏{‏وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان‏}‏ متابعة له داخلة في دينه ‏{‏للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ التفتت من الخطاب إلى الغيبة، قيل‏:‏ لإظهار معرفتها بالله، والأولى أنها التفتت لما في هذا الاسم الشريف من الدلالة على جميع الأسماء، ولكونه علماً للذات‏.‏ وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا‏}‏ قال‏:‏ زيد فيه ونقص ‏{‏نَنظُرْ أَتَهْتَدِي‏}‏ قال‏:‏ لننظر إلى عقلها فوجدت ثابتة العقل‏.‏

وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا‏}‏ قال‏:‏ من قول سليمان‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد نحوه‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً‏}‏ قال‏:‏ بحراً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في أثر طويل؛ أن سليمان تزوّجها بعد ذلك‏.‏ قال أبو بكر بن أبي شيبة‏:‏ ما أحسنه من حديث‏.‏ قال ابن كثير في تفسيره بعد حكايته لقول أبي بكر بن أبي شيبة‏:‏ بل هو منكر جداً، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس، والله أعلم‏.‏ والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب بما يوجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله فيما نقلا إلى هذه الأمة من بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ومما لم يكن ومما حرّف وبدّل ونسخ‏.‏ انتهى‏.‏ وكلامه هذا هو شعبة مما قد كررناه في هذا التفسير، ونبهنا عليه في عدّة مواضع، وكنت أظنّ أنه لم ينبّه على ذلك غيري‏.‏ فالحمد لله على الموافقة لمثل هذا الحافظ المنصف‏.‏

وأخرج البخاري في تاريخه، والعقيلي عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أوّل من صنعت له الحمامات سليمان» وروي عنه مرفوعاً من طريق أخرى رواها الطبراني، وابن عديّ في الكامل، والبيهقي في الشعب بلفظ‏:‏ «أوّل من دخل الحمام سليمان فلما وجد حرّه قال‏:‏ أوّه من عذاب الله»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 53‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏46‏)‏ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ‏(‏47‏)‏ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏48‏)‏ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏49‏)‏ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏50‏)‏ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏51‏)‏ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏52‏)‏ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلنَا‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودُ‏}‏ واللام هي الموطئة للقسم، وهذه القصة من جملة بيان قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ‏}‏ و‏{‏صالحا‏}‏ عطف بيان، و‏{‏أَنِ اعبدوا الله‏}‏ تفسير للرسالة، وأن هي المفسرة، ويجوز أن تكون مصدرية أي بأن اعبدوا الله، و«إذا» في ‏{‏فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ‏}‏ هي الفجائية أي ففاجئوا التفرق، والاختصام، والمراد ب ‏{‏الفريقان‏}‏‏:‏ المؤمنون منهم والكافرون‏.‏ ومعنى الاختصام‏:‏ أن كلّ فريق يخاصم على ما هو فيه، ويزعم أن الحقّ معه، وقيل‏:‏ إن الخصومة بينهم في صالح هل هو مرسل أم لا‏؟‏ وقيل‏:‏ أحد الفريقين صالح، والفريق الآخر جميع قومه، وهو ضعيف‏.‏

‏{‏قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة‏}‏ أي قال صالح للفريق الكافر منهم منكراً عليهم‏:‏ لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة‏؟‏ قال مجاهد‏:‏ بالعذاب قبل الرحمة‏.‏ والمعنى‏:‏ لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب وتقدّمون الكفر الذي يجلب إليكم العقوبة‏؟‏ وقد كانوا لفرط كفرهم يقولون‏:‏ ائتنا يا صالح بالعذاب ‏{‏لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله‏}‏ هلا تستغفرون الله وتتوبون إليه من الشرك ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ رجاء أن ترحموا أو كي ترحموا فلا تعذبوا، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشرّ، ووصف العذاب بأنه سيئة مجازاً، إما لأن العقاب من لوازمه، أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً، فكان جوابهم عليه بعد هذا الإرشاد الصحيح، والكلام اللين أنهم ‏{‏قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ‏}‏ أصله تطيرنا، وقد قرئ بذلك، والتطير‏:‏ التشاؤم أي تشاءمنا منك وبمن معك ممن أجابك ودخل في دينك، وذلك لأنه أصابهم قحط فتشاءموا بصالح، وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة وأشقاهم بها، وكانوا إذا أرادوا سفراً أو أمراً من الأمور نفروا طائراً من وكره فإن طار يمنة ساروا، وفعلوا ما عزموا عليه، وإن طار يسرة تركوا ذلك فلما قالوا ذلك قَال لهم صالح‏:‏ ‏{‏طَائِرُكُمْ عِندَ الله‏}‏ أي ليس ذلك بسبب الطير الذي تتشاءمون به، بل سبب ذلك عند الله، وهو ما يقدّره عليكم، والمعنى‏:‏ أن الشؤم الذي أصابكم هو من عند الله بسبب كفركم، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 131‏]‏‏.‏ ثم أوضح لهم سبب ما هم فيه بأوضح بيان، فقال‏:‏ ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ‏}‏ أي تمتحنون، وتختبرون وقيل‏:‏ تعذبون بذنوبكم، وقيل‏:‏ يفتنكم غيركم، وقيل‏:‏ يفتنكم الشيطان بما تقعون فيه من الطيرة، أو بما لأجله تطيرون، فأضرب عن ذكر الطائر إلى ما هو السبب الداعي إليه‏.‏

‏{‏وَكَانَ فِي المدينة‏}‏ التي فيها صالح، وهو الحجر ‏{‏تِسْعَةُ رَهْطٍ‏}‏ أي تسعة رجال من أبناء الأشراف، والرهط‏:‏ اسم للجماعة، فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كلّ واحد منهم جماعة، والجمع أرهط وأراهط، وهؤلاء التسعة هم أصحاب قدار عاقر الناقة، ثم وصف هؤلاء بقوله‏:‏ ‏{‏يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ‏}‏ أي شأنهم وعملهم الفساد في الأرض الذي لا يخالطه صلاح، وقد اختلف في أسماء هؤلاء التسعة اختلافاً كثيراً لا حاجة إلى التطويل بذكره‏.‏

‏{‏قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله‏}‏ أي قال بعضهم لبعض‏:‏ احلفوا بالله، هذا على أن ‏{‏تقاسموا‏}‏ فعل أمر، ويجوز أن يكون فعلاً ماضياً مفسراً لقالوا، كأنه قيل‏:‏ ما قالوا‏؟‏ فقال‏:‏ تقاسموا، أو يكون حالاً على إضمار قد أي قالوا ذلك متقاسمين، وقرأ ابن مسعود‏:‏ «يفسدون في الأرض ولا يصلحون تقاسموا بالله» وليس فيها قالوا، واللام في ‏{‏لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ‏}‏ جواب القسم أي لنأتينه بغتة في وقت البيات، فنقتله وأهله ‏{‏ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ‏}‏ قرأ الجمهور بالنون للمتكلم في ‏{‏لنبيتنه‏}‏، وفي ‏{‏لنقولن‏}‏، واختار هذه القراءة أبو حاتم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بالفوقية فيهما على خطاب بعضهم لبعضهم، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وقرأ مجاهد وحميد بالتحتية فيهما، والمراد بوليّ صالح‏:‏ رهطه ‏{‏مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ‏}‏ أي ما حضرنا قتلهم، ولا ندري من قتله، وقتل أهله، ونفيهم لشهودهم لمكان الهلاك يدلّ على نفي شهودهم لنفس القتل بالأولى، وقيل‏:‏ إن المهلك بمعنى الإهلاك، وقرأ حفص والسلمي مهلك بفتح الميم واللام، وقرأ أبو بكر، والمفضل بفتح الميم، وكسرها ‏{‏وِإِنَّا لصادقون‏}‏ فيما قلناه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وكان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحاً وأهله، ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك، ولا رأوه، وكان هذا مكراً منهم، ولهذا قال الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُواْ مَكْراً‏}‏ أي بهذه المحالفة ‏{‏وَمَكَرْنَا مَكْراً‏}‏ جازيناهم بفعلهم فأهلكناهم ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ بمكر الله بهم‏.‏

‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة مَكْرِهِمْ‏}‏ أي انظر ما انتهى إليه أمرهم الذي بنوه على المكر، وما أصابهم بسببه ‏{‏أَنَّا دمرناهم وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ قرأ الجمهور بكسر همزة أنا، وقرأ حمزة والكسائي والأعمش والحسن وابن أبي إسحاق وعاصم بفتحها، فمن كسر جعله استئنافاً‏.‏ قال الفراء، والزجاج‏:‏ من كسر استأنف، وهو يفسر به ما كان قبله‏.‏ كأنه جعله تابعاً للعاقبة، كأنه قال‏:‏ العاقبة إنا دمرناهم، وعلى قراءة الفتح يكون التقدير‏:‏ بأنا دمرناهم أو لأنا دمرناهم، وكان تامة وعاقبة فاعل لها، أو يكون بدلاً من عاقبة، أو يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي أنا دمرناهم، ويجوز أن تكون كان ناقصة، وكيف خبرها، ويجوز أن يكون خبرها أنا دمرنا‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ وفي حرف أبيّ‏:‏ «أن دمرناهم»‏.‏ والمعنى في الآية‏:‏ أن الله دمّر التسعة الرهط المذكورين، ودمر قومهم الذين لم يكونوا معهم عند مباشرتهم لذلك، ومعنى التأكيد بأجمعين‏:‏ أنه لم يشذ منهم أحد ولا سلم من العقوبة فرد من أفرادهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً‏}‏ مقرّرة لما قبلها‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏خاوية‏}‏ بالنصب على الحال‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ فانظر إلى بيوتهم حال كونها خاوية، وكذا قال الفراء، والنحاس‏:‏ أي خالية عن أهلها خراباً ليس بها ساكن‏.‏ وقال الكسائي وأبو عبيدة‏:‏ نصب خاوية على القطع‏.‏ والأصل فتلك بيوتهم الخاوية، فلما قطع منها الألف، واللام نصبت كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الدين وَاصِبًا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وقرأ عاصم بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري وعيسى بن عمر برفع ‏{‏خاوية‏}‏ على أنه خبر اسم الإشارة، وبيوتهم بدل، أو عطف بيان، أو خبر لاسم الإشارة، وخاوية خبر آخر، والباء في‏:‏ ‏{‏بِمَا ظَلَمُواْ‏}‏ للسببية أي بسبب ظلمهم ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ‏}‏ التدمير، والإهلاك ‏{‏لآيَةً‏}‏ عظيمة ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي يتصفون بالعلم بالأشياء‏.‏ ‏{‏وَأَنجَيْنَا الذين ءَامَنُواْ‏}‏ وهم صالح ومن آمن به ‏{‏وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ الله ويخافون عذابه‏.‏

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏طَائِرُكُمْ‏}‏ قال‏:‏ مصائبكم‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ‏}‏ قال‏:‏ هم الذين عقروا الناقة، وقالوا حين عقروها‏:‏ نبيت صالحاً وأهله فنقتلهم، ثم نقول لأولياء صالح‏:‏ ما شهدنا من هذا شيئاً، وما لنا به علم فدمرهم الله أجمعين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 66‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏54‏)‏ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏55‏)‏ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ‏(‏56‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏57‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏58‏)‏ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏ أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ‏(‏60‏)‏ أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏61‏)‏ أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏62‏)‏ أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏63‏)‏ أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏64‏)‏ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏65‏)‏ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

انتصاب ‏{‏لوطاً‏}‏ بفعل مضمر معطوف على أرسلنا، أي وأرسلنا لوطاً، و‏{‏إِذْ قَالَ‏}‏ ظرف للفعل المقدر، ويجوز أن يقدر‏:‏ اذكر؛ والمعنى‏:‏ وأرسلنا لوطاً وقت قوله لقومه ‏{‏أَتَأْتُونَ الفاحشة‏}‏ أي الفعلة المتناهية في القبح والشناعة، وهم أهل سدوم، وجملة ‏{‏وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال متضمنة لتأكيد الإنكار أي وأنتم تعلمون أنها فاحشة‏.‏ وذلك أعظم لذنوبكم، على أن ‏{‏تبصرون‏}‏ من بصر القلب، وهو العلم، أو بمعنى النظر، لأنهم كانوا لا يستترون حال فعل الفاحشة عتوًّا وتمرّداً، وقد تقدّم تفسير هذه القصة في الأعراف مستوفى‏.‏ ‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً‏}‏ فيه تكرير للتوبيخ مع التصريح بأن تلك الفاحشة هي اللواطة، وانتصاب ‏{‏شهوة‏}‏ على العلة أي للشهوة، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي‏:‏ إتياناً شهوة، أو أنه بمعنى الحال، أي مشتهين لهم ‏{‏مّن دُونِ النساء‏}‏ أي متجاوزين النساء اللاتي هنّ محل لذلك ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏}‏ التحريم، أو العقوبة على هذه المعصية، واختار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة من أئنكم‏.‏

‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءَالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏ قرأ الجمهور بنصب ‏{‏جواب‏}‏ على أنه خبر كان، واسمها ‏{‏إلاّ أن قالوا‏}‏‏:‏ أي إلاّ قولهم‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق برفع جواب على أنه اسم كان، وخبرها ما بعده، ثم علّلوا ما أمروا به بعضهم بعضاً من الإخراج بقولهم‏:‏ إنهم أناس يتطهرون أي يتنزهون عن أدبار الرجال‏!‏ قالوا ذلك استهزاء منهم بهم‏.‏ ‏{‏فأنجيناه وَأَهْلَهُ‏}‏ من العذاب ‏{‏إِلاَّ امرأته قدرناها مِنَ الغابرين‏}‏ أي قدّرنا أنها من الباقين في العذاب، ومعنى ‏{‏قدرنا‏}‏‏:‏ قضينا، قرأ الجمهور قدّرنا بالتشديد، وقرأ عاصم بالتخفيف‏.‏ والمعنى واحد مع دلالة زيادة البناء على زيادة المعنى ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا‏}‏ هذا التأكيد يدل على شدّة المطر، وأنه غير معهود ‏{‏فَسَاء مَطَرُ المنذرين‏}‏ المخصوص بالذم محذوف أي ساء مطر المنذرين مطرهم، والمراد بالمنذرين‏:‏ الذين أنذروا، فلم يقبلوا، وقد مضى بيان هذا كله في الأعراف والشعراء‏.‏

‏{‏قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ‏}‏ قال الفراء‏:‏ قال أهل المعاني‏:‏ قيل للوط‏:‏ قل‏:‏ الحمد لله على هلاكهم، وخالفه جماعة فقالوا‏:‏ إن هذا خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم، أي قيل‏:‏ الحمد لله على هلاك كفار الأمم الخالية، وسلام على عباده ‏{‏الذين اصطفى‏}‏ قال النحاس‏:‏ وهذا أولى؛ لأن القرآن منزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكلّ ما فيه فهو مخاطب به إلاّ ما لم يصحّ معناه إلا لغيره‏.‏ قيل‏:‏ والمراد بعباده الذين اصطفى‏:‏ أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والأولى حمله على العموم، فيدخل في ذلك الأنبياء وأتباعهم ‏{‏ءَآللَّهِ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ أي آلله الذي ذكرت أفعاله وصفاته الدالة على عظيم قدرته خير أما يشركون به من الأصنام‏؟‏ وهذه الخيرية ليست بمعناها الأصلي، بل هي كقول الشاعر‏:‏

أتهجوه ولست له بكفء *** فشركما لخيركما الفداء

فيكون ما في الآية من باب التهكم بهم، إذ لا خير فيهم أصلاً‏.‏ وقد حكى سيبويه أن العرب تقول‏:‏ السعادة أحبّ إليك أم الشقاوة، ولا خير في الشقاوة أصلاً‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أثواب الله خير، أم عقاب ما تشركون به‏؟‏ وقيل‏:‏ قال لهم ذلك جرياً على اعتقادهم، لأنهم كانوا يعتقدون أن في عبادة الأصنام خيراً‏.‏ وقيل‏:‏ المراد من هذا الاستفهام‏:‏ الخبر‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏"‏ تشركون ‏"‏ بالفوقية على الخطاب، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم‏.‏ وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب‏:‏ ‏{‏يشركون‏}‏ بالتحتية، و«أم» في ‏{‏أَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ هي المتصلة، وأما في قوله‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ خَلَقَ السموات والأرض‏}‏ فهي المنقطعة‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ تقديره ءآلهتكم خير أم من خلق السماوات والأرض وقدر على خلقهنّ‏؟‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير، أم عبادة من خلق السماوات والأرض‏؟‏ فتكون ‏"‏ أم ‏"‏ على هذا متصلة، وفيها معنى التوبيخ، والتهكم كما في الجملة الأولى‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ ‏"‏ أمن ‏"‏ بتخفيف الميم ‏{‏وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء‏}‏ أي نوعاً من الماء، وهو المطر ‏{‏فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ‏}‏ جمع حديقة‏.‏ قال الفراء‏:‏ الحديقة البستان الذي عليه حائط، فإن لم يكن عليه حائط، فهو البستان، وليس بحديقة‏.‏ وقال قتادة، وعكرمة‏:‏ الحدائق‏:‏ النخل ‏{‏ذَاتَ بَهْجَةٍ‏}‏ أي ذات حسن، ورونق‏.‏ والبهجة‏:‏ هي الحسن الذي يبتهج به من رآه، ولم يقل‏:‏ ذوات بهجة على الجمع؛ لأن المعنى‏:‏ جماعة حدائق ‏{‏مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا‏}‏ أي ما صح لكم أن تفعلوا ذلك، ومعنى هذا النفي‏:‏ الحظر، والمنع من فعل هذا أي ما كان للبشر، ولا يتهيأ لهم ذلك، ولا يدخل تحت مقدرتهم لعجزهم عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود‏.‏ ثم قال سبحانه موبخاً لهم، ومقرّعاً ‏{‏أإله مَعَ الله‏}‏ أي هل معبود مع الله الذي تقدّم ذكر بعض أفعاله حتى يقرن به ويجعل شريكاً له في العبادة، وقرئ‏:‏ ‏"‏ ءإلها مع الله ‏"‏ بالنصب على تقدير‏:‏ أتدعون إلها‏.‏ ثم أضرب عن تقريعهم وتوبيخهم بما تقدّم، وانتقل إلى بيان سوء حالهم مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، فقال‏:‏ ‏{‏بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ‏}‏ أي يعدلون بالله غيره، أو يعدلون عن الحق إلى الباطل‏.‏

ثم شرع في الاستدلال بأحوال الأرض وما عليها، فقال‏:‏ ‏{‏أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً‏}‏ القرار‏:‏ المستقرّ أي دحاها، وسوّاها بحيث يمكن الإستقرار عليها‏.‏ وقيل‏:‏ هذه الجملة وما بعدها من الجمل الثلاث بدل من قوله‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ خَلَقَ السموات والأرض‏}‏، ولا ملجئ لذلك، بل هي وما بعدها إضراب وانتقال من التوبيخ والتقريع بما قبلها إلى التوبيخ والتقريع بشيء آخر ‏{‏وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً‏}‏ الخلال‏:‏ الوسط‏.‏

وقد تقدّم تحقيقه في قوله‏:‏ ‏{‏وَفَجَّرْنَا خلالهما نَهَراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 33‏]‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ‏}‏ أي جبالاً ثوابت تمسكها، وتمنعها من الحركة ‏{‏وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً‏}‏ الحاجز‏:‏ المانع، أي جعل بين البحرين من قدرته حاجزاً‏.‏ والبحران هما‏:‏ العذب والمالح، فلا يختلط أحدهما بالآخر فلا هذا يغير ذاك ولا ذاك يدخل في هذا، وقد مرّ بيانه في سورة الفرقان ‏{‏أإله مَعَ الله‏}‏ أي إذا ثبت أنه لا يقدر على ذلك إلاّ الله فهل إله في الوجود يصنع صنعه، ويخلق خلقه‏؟‏ فكيف يشركون به ما لا يضرّ ولا ينفع ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ توحيد ربهم، وسلطان قدرته‏.‏

‏{‏أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ‏}‏ هذا استدلال منه سبحانه بحاجة الإنسان إليه على العموم، والمضطر اسم مفعول من الاضطرار وهو المكروب المجهود الذي لا حول له ولا قوة‏.‏ وقيل‏:‏ هو المذنب، وقيل‏:‏ هو الذي عراه ضرّ من فقر أو مرض، فألجأه إلى التضرّع إلى الله‏.‏ واللام في ‏{‏المضطر‏}‏ لجنس لا للاستغراق، فقد لا يجاب دعاء بعض المضطرين لمانع يمنع من ذلك بسبب يحدثه العبد يحول بينه وبين إجابة دعائه، وإلاّ فقد ضمن الله سبحانه إجابة دعاء المضطرّ إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والوجه في إجابة دعاء المضطرّ أن ذلك الاضطرار الحاصل له يتسبب عنه الإخلاص، وقطع النظر عما سوى الله، وقد أخبر الله سبحانه بأنه يجيب دعاء المخلصين له الدين، وإن كانوا كافرين، فقال‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 65‏]‏ فأجابهم عند ضرورتهم، وإخلاصهم مع علمه بأنهم سيعودون إلى شركهم ‏{‏وَيَكْشِفُ السوء‏}‏ أي الذي يسوء العبد من غير تعيين، وقيل‏:‏ هو الضرّ، وقيل‏:‏ هو الجور ‏{‏وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الأرض‏}‏ أي يخلف كل قرن منكم القرن الذي قبله بعد انقراضهم، والمعنى‏:‏ يهلك قرناً وينشئ آخرين، وقيل‏:‏ يجعل أولادكم خلفاً منكم، وقيل‏:‏ يجعل المسلمين خلفاً من الكفار ينزلون أرضهم، وديارهم ‏{‏أإله مَعَ الله‏}‏ الذي يوليكم هذه النعم الجسام ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏ أي تذكرا قليلاً ما تذكرون‏.‏ قرأ الجمهور بالفوقية على الخطاب‏.‏ وقرأ أبو عمرو وهشام ويعقوب بالتحتية على الخبر ردًّا على قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ واختار هذه القراءة أبو حاتم‏.‏

‏{‏أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظلمات البر والبحر‏}‏ أي يرشدكم في الليالي المظلمات إذا سافرتم في البرّ أو البحر‏.‏

وقيل‏:‏ المراد‏:‏ مفاوز البرّ التي لا أعلام لها، ولجج البحار، وشبهها بالظلمات لعدم ما يهتدون به فيها ‏{‏وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ‏}‏ والمراد بالرحمة هنا المطر أي‏:‏ يرسل الرياح بين يدي المطر، وقبل نزوله ‏{‏أإله مَعَ الله‏}‏ يفعل ذلك، ويوجده ‏{‏تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ أي تنزه، وتقدّس عن وجود ما يجعلونه شريكاً له ‏{‏أَم مَّنْ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ كانوا يقرّون بأن لله سبحانه هو الخالق، فألزمهم الإعادة أي إذا قدر على الإبتداء قدر على الإعادة ‏{‏وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض‏}‏ بالمطر والنبات أي هو خير أم ما تجعلونه شريكاً له مما لا يقدر على شيء من ذلك ‏{‏أإله مَعَ الله‏}‏ حتى تجعلونه شريكاً له ‏{‏قُلْ هَاتُواْ برهانكم إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أي حجتكم على أن الله سبحانه شريكاً، أو هاتوا حجتكم أن ثمّ صانعاً يصنع كصنعه، وفي هذا تبكيت لهم، وتهكم بهم ‏{‏قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله‏}‏ أي لا يعلم أحد من المخلوقات الكائنة في السموات والأرض الغيب الذي استأثر الله بعلمه، والاستثناء في قوله إِلاَّ الله منقطع، أي لكن الله يعلم ذلك، ورفع ما بعد إلاّ مع كون الاستثناء منقطعاً هو على اللغة التميمية كما في قولهم‏:‏

إلاّ اليعافير وإلاّ العيس *** وقيل‏:‏ إن فاعل ‏{‏يعلم‏}‏ هو ما بعد إلاّ، و‏{‏من في السماوات‏}‏ مفعوله، و‏{‏الغيب‏}‏ بدل من ‏"‏ من ‏"‏ أي لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلاّ الله، وقيل‏:‏ هو استثناء متصل من «من»‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏إلاّ الله‏}‏ بدل من «من»‏.‏ قال الفراء‏:‏ وإنما رفع ما بعد إلاّ لأن ما بعدها خبر كقولهم‏:‏ ما ذهب أحد إلاّ أبوك، وهو كقول الزجاج‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومن نصب نصب على الاستثناء ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ أي لا يشعرون متى ينشرون من القبور، وأيان مركبة من أي، وإن‏.‏ وقد تقدّم تحقيقه، والضمير للكفرة‏.‏ وقرأ السلمي‏:‏ ‏"‏ إيان ‏"‏ بكسر الهمزة، وهي لغة بني سليم، وهي منصوبة ب ‏"‏ يبعثون ‏"‏، ومعلقة ل ‏"‏ يشعرون ‏"‏، فتكون هي وما بعدها في محل نصب بنزع الخافض، أي وما يشعرون بوقت بعثهم، ومعنى أَيَّانَ معنى متى‏.‏

‏{‏بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة‏}‏‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ادّارك‏}‏‏.‏ وأصل ادارّك‏:‏ تدارك، أدغمت التاء في الدال، وجيء بهمزة الوصل ليمكن الابتداء بالساكن‏.‏ وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمر وحميد‏:‏ ‏"‏ بل أدرك ‏"‏ من الإدراك‏.‏ وقرأ عطاء بن يسار وسليمان بن يسار والأعمش‏:‏ ‏"‏ بل ادّرك ‏"‏ بفتح لام بل، وتشديد الدال‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏:‏ ‏"‏ بل أدرك ‏"‏ على الاستفهام‏.‏

وقرأ ابن عباس وأبو رجاء وشيبة والأعمش والأعرج‏:‏ «بلى أدّارك» بإثبات الياء في بل وبهمزة قطع وتشديد الدال‏.‏ وقرأ أبيّ «بل تدارك»، ومعنى الآية‏:‏ بل تكامل علمهم في الآخرة؛ لأنهم رأوا كل ما وعدوا به، وعاينوه‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ تتابع علمهم في الآخرة، والقراءة الثانية معناها‏:‏ كمل علمهم في الآخرة مع المعاينة، وذلك حين لا ينفعهم العلم؛ لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إنه على معنى الإنكار، واستدلّ على ذلك بقوله فيما بعد‏:‏ ‏{‏بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ‏}‏ أي لم يدرك علمهم علم الآخرة، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ بل ضلّ، وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم، ومعنى القراءة الثالثة كمعنى القراءة الأولى، فافتعل، وتفاعل قد يجيئان لمعنى، والقراءة الرابعة هي بمعنى الإنكار‏.‏ قال الفراء‏:‏ وهو وجه حسن كأنه وجهه إلى المكذبين على طريق الاستهزاء بهم، وفي الآية قراءات أخر لا ينبغي الاشتغال بذكرها وتوجيهها‏.‏ ‏{‏بَلْ هُمْ فِي شَكّ مّنْهَا‏}‏ أي بل هم اليوم في الدنيا في شك من الآخرة، ثم أضرب عن ذلك إلى ما هو أشدّ منه، فقال‏:‏ ‏{‏بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ‏}‏ فلا يدركون شيئاً من دلائلها لاختلال بصائرهم التي يكون بها الإدراك، وعمون جمع عم‏:‏ وهو من كان أعمى القلب، والمراد بيان جهلهم بها على وجه لا يهتدون إلى شيء مما يوصل إلى العلم بها، فمن قال‏:‏ إن معنى الآية الأولى أعني ‏{‏بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة‏}‏ أنه كمل علمهم، وتمّ مع المعاينة فلا بدّ من حمل قوله‏:‏ ‏{‏بْل هُمْ فَي شَكّ‏}‏ إلخ على ما كانوا عليه في الدنيا، ومن قال‏:‏ إن معنى الآية الأولى‏:‏ الاستهزاء بهم، والتبكيت لهم لم يحتج إلى تقييد قوله‏:‏ ‏{‏بْل هُمْ فَي شَكّ‏}‏ إلخ بما كانوا عليه في الدنيا‏.‏ وبهذا يتضح معنى هذه الآيات، ويظهر ظهوراً بينا‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى‏}‏‏.‏ قال‏:‏ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اصطفاهم الله لنبيه، وروي مثله عن سفيان الثوري‏.‏ والأولى ما قدمناه من التعميم فيدخل في ذلك أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم دخولاً أولياً‏.‏ وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والطبراني، عن رجل من بلهجيم قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله إلى ما تدعو‏؟‏ قال‏:‏ «أدعو الله وحده الذي إن مسك ضرّ فدعوته كشفه عنك»، هذا طرف من حديث طويل‏.‏ وقد رواه أحمد من وجه آخر فبين اسم الصحابي فقال‏:‏ حدّثنا عفان، حدّثنا حماد بن سلمة، حدّثنا يونس، حدّثنا عبيد بن عبيدة الهجيمي عن أبيه عن أبي تميمة الهجيمي عن جابر بن سليم الهجيمي‏.‏

ولهذا الحديث طرق عند أبي داود والنسائي‏.‏

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة قالت‏:‏ ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم على الله الفرية وقالت في آخره‏:‏ ومن زعم أنه يخبر الناس بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول ‏{‏قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة‏}‏ قال‏:‏ حين لا ينفع العلم‏.‏ وأخرج أبو عبيد في فضائله، وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قرأ‏:‏ «بل أدرك علمهم في الآخرة» قال‏:‏ لم يدرك علمهم‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ يعني‏:‏ أنه قرأها بالاستفهام‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً‏:‏ «بَلِ ادرك عِلْمُهُمْ فِى الآخرة» يقول‏:‏ غاب علمهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 82‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ‏(‏67‏)‏ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏69‏)‏ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏70‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏71‏)‏ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏72‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏74‏)‏ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏75‏)‏ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏76‏)‏ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ‏(‏78‏)‏ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ‏(‏79‏)‏ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏80‏)‏ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه أن المشركين في شكّ من البعث، وأنهم عمون عن النظر في دلائله أراد أن يبين غاية شبههم، وهي مجرّد استبعاد إحياء الأموات بعد صيرورتهم تراباً، فقال‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً وَءَابَاؤُنَا أَءِنَّا لَمُخْرَجُونَ‏}‏‏.‏ والعامل في «إذا» محذوف دلّ عليه ‏{‏مخرجون‏}‏ تقديره‏:‏ أنبعث، أو نخرج إذا كنا، وإنما لم يعمل فيه مخرجون لتوسط همزة الاستفهام، وإنّ ولام الابتداء بينهما‏.‏ قرأ أبو عمرو باستفهامين إلاّ أنه خفف الهمزة‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة باستفهامين، إلاّ أنهما حققا الهمزتين‏.‏ وقرأ نافع بهمزة‏.‏ وقرأ ابن عامر وورش ويعقوب ‏{‏أإذا‏}‏ بهمزتين و‏{‏إننا‏}‏ بنونين على الخبر، ورجح أبو عبيد قراءة نافع، وردّ على من جمع بين استفهامين؛ ومعنى الآية‏:‏ أنهم استنكروا واستبعدوا أن يخرجوا من قبورهم أحياء بعد أن قد صاروا تراباً، ثم أكدوا ذلك الاستبعاد بما هو تكذيب للبعث، فقالوا‏:‏ ‏{‏لَقَدْ وُعِدْنَا هذا‏}‏ يعنون‏:‏ البعث ‏{‏نَحْنُ وَءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل وعد محمد لنا، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير الإنكار مصدّرة بالقسم لزيادة التقرير ‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ الوعد بالبعث ‏{‏إِلاَّ أساطير الأولين‏}‏ أحاديثهم وأكاذيبهم الملفقة، وقد تقدّم تحقيق معنى الأساطير في سورة المؤمنون‏.‏

ثم أوعدهم سبحانه على عدم قبول ما جاءت به الأنبياء من الإخبار بالبعث‏.‏ فأمرهم بالنظر في أحوال الأمم السابقة المكذبة للأنبياء وما عوقبوا به، وكيف كانت عاقبتهم، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِي الارض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين‏}‏ بما جاءت به الأنبياء من الإخبار بالبعث، ومعنى النظر هو‏:‏ مشاهدة آثارهم بالبصر فإن في المشاهدة زيادة اعتبار‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ فانظروا بقلوبكم، وبصائركم كيف كان عاقبة المكذبين لرسلهم، والأوّل أولى لأمرهم بالسير في الأرض ‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏}‏ لما وقع منهم من الإصرار على الكفر ‏{‏وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ‏}‏ الضيق‏:‏ الحرج، يقال‏:‏ ضاق الشيء ضيقاً بالفتح، وضيقاً بالكسر قرئ بهما، وهما لغتان‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ يقال‏:‏ في صدر فلان ضيق وضيق، وهو ما تضيق عنه الصدور‏.‏ وقد تقدّم تفسير هذه الآية في آخر سورة النحل ‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد‏}‏ أي بالعذاب الذي تعدنا به ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في ذلك‏.‏

‏{‏قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم‏}‏ يقال‏:‏ ردفت الرجل، وأردفته‏:‏ إذا ركبت خلفه، وردفه‏:‏ إذا أتبعه، وجاء في أثره، والمعنى‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء الكفار عسى أن يكون هذا العذاب الذي به توعدون تبعكم، ولحقكم، فتكون اللام زائدة للتأكيد، أو بمعنى‏:‏ اقترب لكم، ودنا لكم، فتكون غير زائدة‏.‏ قال ابن شجرة‏:‏ معنى ردف لكم‏:‏ تبعكم، قال‏:‏ ومنه ردف المرأة؛ لأنه تبع لها من خلفها، ومنه قول أبي ذؤيب‏:‏

عاد السواد بياضاً في مفارقه *** لا مرحباً ببياض الشيب إذ ردفا

قال الجوهري‏:‏ وأردفه لغة في ردفه مثل تبعه وأتبعه بمعنى‏.‏ قال خزيمة بن مالك بن نهد‏:‏

إذا الجوزاء أردفت الثريا *** ظننت بآل فاطمة الظنونا

قال الفراء‏:‏ ردف لكم دنا لكم، ولهذا قيل‏:‏ لكم‏.‏ وقرأ الأعرج‏:‏ «ردف لكم» بفتح الدال، وهي لغة، والكسر أشهر‏.‏ وقرأ ابن عباس «أزف لكم» وارتفاع ‏{‏بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ أي على أنه فاعل ردف، والمراد‏:‏ بعض الذي تستعجلونه من العذاب أي عسى أن يكون قد قرب ودنا وأزف بعض ذلك، قيل‏:‏ هو عذابهم بالقتل يوم بدر، وقيل‏:‏ هو عذاب القبر‏.‏ ثم ذكر سبحانه فضله في تأخير العذاب، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس‏}‏ في تأخير العقوبة، والأولى أن تحمل الآية على العموم، ويكون تأخير العقوبة من جملة أفضاله سبحانه وإنعامه ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ فضله وإنعامه ولا يعرفون حق إحسانه‏.‏

ثم بين أنه مطلع على ما في صدورهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ‏}‏ أي ما تخفيه‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تكن‏}‏ بضم التاء من أكنّ‏.‏ وقرأ ابن محيصن وابن السميفع وحميد بفتح التاء وضم الكاف، يقال‏:‏ كننته بمعنى سترته وخفيت أثره ‏{‏وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ وما يظهرون من أقوالهم وأفعالهم‏.‏ ‏{‏وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السماء والأرض إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ ما من شيء غائب، وأمر يغيب عن الخلق في السماء والأرض إلاّ في كتاب مبين إلاّ هو مبين في اللوح المحفوظ، وغائبة هي من الصفات الغالبة والتاء للمبالغة‏.‏ قال الحسن‏:‏ الغائبة هنا هي‏:‏ القيامة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ علم ما تستعجلون من العذاب هو مبين عند الله وإن غاب عن الخلق‏.‏ وقال ابن شجرة‏:‏ الغائبة هنا جميع ما أخفى الله عن خلقه، وغيبه عنهم مبين في أمّ الكتاب، فكيف يخفى عليه شيء من ذلك‏؟‏ ومن جملة ذلك ما يستعجلونه من العذاب فإنه موقت بوقت، ومؤجل بأجل علمه عند الله فكيف يستعجلونه قبل أجله المضروب له‏؟‏

‏{‏إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِي إسراءيل أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ وذلك لأن أهل الكتاب تفرّقوا فرقاً، وتحزّبوا أحزاباً يطعن بعضهم على بعض، ويتبرأ بعضهم من بعض، فنزل القرآن مبيناً لما اختلفوا فيه من الحق، فلو أخذوا به لوجدوا فيه ما يرفع اختلافهم ويدفع تفرّقهم‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤمِنِينَ‏}‏ أي وإنّ القرآن لهدى ورحمة لمن آمن بالله، وتابع رسوله، وخصّ المؤمنين؛ لأنهم المنتفعون به، ومن جملتهم من آمن من بني إسرائيل‏.‏ ‏{‏إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ‏}‏ أي يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل بما يحكم به من الحق، فيجازي المحق ويعاقب المبطل، وقيل‏:‏ يقضي بينهم في الدنيا، فيظهر ما حرّفوه‏.‏

قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بحكمه‏}‏ بضم الحاء وسكون الكاف‏.‏ وقرأ جناح بكسرها وفتح الكاف جمع حكمة ‏{‏وَهُوَ العزيز العليم‏}‏ العزيز‏:‏ الذي لا يغالب، والعليم بما يحكم به، أو الكثير العلم‏.‏

ثم أمره سبحانه بالتوكل وقلة المبالاة، فقال‏:‏ ‏{‏فَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ والفاء لترتيب الأمر على ما تقدّم ذكره، والمعنى‏:‏ فوّض إليه أمرك، واعتمد عليه فإنه ناصرك‏.‏ ثم علل ذلك بعلتين‏:‏ الأولى‏:‏ قوله ‏{‏إِنَّكَ عَلَى الحق المبين‏}‏ أي الظاهر، وقيل‏:‏ المظهر‏.‏ والعلة الثانية‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى‏}‏ لأنه إذا علم أن حالهم كحال الموتى في انتفاء الجدوى بالسماع، أو كحال الصمّ الذين لا يسمعون، ولا يفهمون، ولا يهتدون صار ذلك سبباً قوياً في عدم الاعتداد بهم، شبه الكفار بالموتى الذين لا حسّ لهم ولا عقل، وبالصمّ الذين لا يسمعون المواعظ، ولا يجيبون الدعاء إلى الله‏.‏ ثم ذكر جملة لتكميل التشبيه وتأكيده، فقال‏:‏ ‏{‏إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ‏}‏ أي إذا أعرضوا عن الحق إعراضاً تاماً، فإن الأصمّ لا يسمع الدعاء إذا كان مقبلاً فكيف إذا كان معرضاً عنه مولياً مدبراً‏.‏ وظاهر نفي إسماع الموتى العموم، فلا يخصّ منه إلاّ ما ورد بدليل كما ثبت في الصحيح‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم خاطب القتلى في قليب بدر، فقيل له‏:‏ يا رسول الله إنما تكلم أجساداً لا أرواح لها، وكذلك ما ورد من أن الميت يسمع خفق نعال المشيعين له إذا انصرفوا‏.‏ وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبي إسحاق‏:‏ «لا يسمع» بالتحتية مفتوحة، وفتح الميم، وفاعله الصمّ‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏تسمع‏}‏ بضم الفوقية، وكسر الميم من أسمع‏.‏ قال قتادة‏:‏ الأصمّ إذا ولى مدبراً، ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ما يدعى إليه من الإيمان‏.‏

ثم ضرب العمى مثلاً لهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضلالتهم‏}‏ أي ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الحق إرشاداً يوصله إلى المطلوب منه وهو الإيمان، وليس في وسعك ذلك، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏ قرأ الجمهور بإضافة هادي إلى العمي‏.‏ وقرأ يحيى بن الحارث، وأبو حيان‏:‏ «بهاد العمي» بتنوين هادٍ‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ «تهدي» فعلاً مضارعاً، وفي حرف عبد الله‏:‏ «وما أن تهدي العمي»‏.‏ ‏{‏إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا‏}‏ أي ما تسمع إلاّ من يؤمن لا من يكفر، والمراد بمن يؤمن بالآيات‏:‏ من يصدّق القرآن، وجملة‏:‏ ‏{‏فَهُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ تعليل للإيمان، أي فهم منقادون مخلصون‏.‏

ثم هدّد العباد بذكر طرف من أشراط الساعة وأهوالها‏:‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم‏}‏‏.‏

واختلف في معنى وقوع القول عليهم، فقال قتادة‏:‏ وجب الغضب عليهم‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون، وقيل‏:‏ حق العذاب عليهم، وقيل‏:‏ وجب السخط، والمعاني متقاربة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالقول ما نطق به القرآن من مجيء الساعة وما فيها من فنون الأهوال التي كانوا يستعجلونها، وقيل‏:‏ وقع القول بموت العلماء، وذهاب العلم‏.‏ وقيل‏:‏ إذا لم يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر‏.‏ والحاصل أن المراد بوقع‏:‏ وجب، والمراد بالقول‏:‏ مضمونه، أو أطلق المصدر على المفعول أي القول، وجواب الشرط‏:‏ ‏{‏أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الأرض تُكَلّمُهُمْ‏}‏‏.‏

واختلف في هذه الدابة على أقوال، فقيل‏:‏ إنها فصيل ناقة صالح يخرج عند اقتراب القيامة ويكون من أشراط الساعة‏.‏ وقيل‏:‏ هي دابة ذات شعر، وقوائم طوال يقال لها‏:‏ الجساسة‏.‏ وقيل‏:‏ هي دابة على خلقة بني آدم، وهي في السحاب، وقوائمها في الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن إيَّل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرّ، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصل ومفصل اثنا عشر ذراعاً‏.‏ وقيل‏:‏ هي الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة، والمراد‏:‏ أنها هي التي تخرج في آخر الزمان، وقيل‏:‏ هي دابة ما لها ذنب ولها لحية، وقيل‏:‏ هي إنسان ناطق متكلم يناظر أهل البدع ويراجع الكفار‏.‏ وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره، وقد رجح القول الأوّل القرطبي في تفسيره‏.‏

واختلف من أيّ موضع تخرج‏؟‏ فقيل‏:‏ من جبل الصفا بمكة، وقيل‏:‏ تخرج من جبل أبي قبيس‏.‏ وقيل‏:‏ لها ثلاث خرجات‏:‏ خرجة في بعض البوادي حتى يتقاتل عليها الناس، وتكثر الدماء ثم تكمن، وتخرج في القرى ثم تخرج من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها‏.‏ وقيل‏:‏ تخرج من بين الركن والمقام‏.‏ وقيل‏:‏ تخرج في تهامة‏.‏ وقيل‏:‏ من مسجد الكوفة من حيث فار التنور‏.‏ وقيل من أرض الطائف‏.‏ وقيل‏:‏ من صخرة من شعب أجياد‏.‏ وقيل‏:‏ من صدع في الكعبة‏.‏ واختلف في معنى قوله‏:‏ ‏{‏تكلمهم‏}‏ فقيل‏:‏ تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ تكلمهم بما يسوؤهم‏.‏ وقيل‏:‏ تكلمهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّ الناس كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ‏}‏ أي بخروجها؛ لأن خروجها من الآيات‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تكلمهم‏}‏ من التكليم، ويدلّ عليه قراءة أبيّ‏:‏ ‏"‏ تنبئهم ‏"‏، وقرأ ابن عباس وأبو زرعة وأبو رجاء والحسن‏:‏ ‏"‏ تكلمهم ‏"‏ بفتح الفوقية، وسكون الكاف من الكلم، وهو الجرح‏.‏ قال عكرمة‏:‏ أي تسمهم وسماً، وقيل‏:‏ تجرحهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن قراءة الجمهور مأخوذة من الكلم بفتح الكاف، وسكون اللام، وهو الجرح، والتشديد للتكثير، قاله أبو حاتم‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏"‏ إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ‏"‏ بكسر إن على الاستئناف، وقرأ الكوفيون وابن أبي إسحاق بفتح «أن»‏.‏ قال الأخفش‏:‏ المعنى على قراءة الفتح‏:‏ ‏"‏ بأن الناس ‏"‏‏.‏

وكذا قرأ ابن مسعود‏:‏ ‏"‏ بأن الناس ‏"‏ بالباء‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ موضعها نصب بوقوع الفعل عليها أي‏:‏ تخبرهم أن الناس، وعلى هذه القراءة فالذي تكلم الناس به هو قوله‏:‏ ‏{‏أَنَّ الناس كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ‏}‏ كما قدّمنا الإشارة إلى ذلك‏.‏ وأما على قراءة الكسر فالجملة مستأنفة كما قدّمنا، ولا تكون من كلام الدابة‏.‏ وقد صرّح بذلك جماعة من المفسرين، وجزم به الكسائي والفراء‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ إن كسر «إن» هو على تقدير القول أي تقول لهم‏:‏ ‏"‏ إِنَّ الناس ‏"‏ إلخ، فيرجع معنى القراءة الأولى على هذا إلى معنى القراءة الثانية، والمراد بالناس في الآية‏:‏ هم الناس على العموم، فيدخل في ذلك كل مكلف، وقيل‏:‏ المراد الكفار خاصة، وقيل‏:‏ كفار مكة، والأوّل أولى‏.‏

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم‏}‏ قال‏:‏ اقترب لكم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ قال‏:‏ يعلم ما عملوا بالليل والنهار‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ‏}‏ الآية يقول‏:‏ ما من شيء في السماء والأرض سرًّا ولا علانية إلا يعلمه‏.‏ وأخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة، ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم‏}‏ الآية قال‏:‏ إذا لم يأمروا بمعروف، ولم ينهوا عن منكر‏.‏ وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي العالية‏:‏ أنه فسر ‏{‏وَقَعَ القول عَلَيْهِم‏}‏ بما أوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏دَابَّةً مّنَ الأرض تُكَلّمُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ تحدّثهم‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه قال‏:‏ كلامها‏:‏ تنبئهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي داود نفيع الأعمى قال‏:‏ سألت ابن عباس عن قوله‏:‏ ‏{‏تُكَلّمُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ هل هو من التكليم باللسان، أو من الكلم، وهو الجرح‏؟‏ فقال‏:‏ كل ذلك، والله تفعل، تكلم المؤمن وتكلم الكافر أي تجرحه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ليس ذلك حديثاً، ولا كلاماً، ولكنها سمة تسم من أمرها الله به، فيكون خروجها من الصفا ليلة منى، فيصبحون بين رأسها وذنبها لا يدحض داحض، ولا يجرح جارح، حتى إذا فرغت مما أمرها الله به فهلك من هلك، ونجا من نجا، كان أوّل خطوة تضعها بإنطاكية ‏"‏

وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال‏:‏ الدابة ذات وبر وريش، مؤلفة فيها من كل لون، لها أربع قوائم تخرج بعقب من الحاج‏.‏ وأخرج أحمد وابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «تخرج الدابة فتسم على خراطيمهم، ثم يعمرون فيكم حتى يشتري الرجل الدابة، فيقال له‏:‏ ممن اشتريتها‏؟‏ فيقول‏:‏ من الرجل المخطم» وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس‏:‏ «إن للدابة ثلاث خرجات»؛ وذكر نحو ما قدّمنا‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن حذيفة بن أسيد رفعه قال‏:‏ «تخرج الدابة من أعظم المساجد حرمة» وأخرج سعيد بن منصور ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ تخرج من بعض أودية تهامة‏.‏

وأخرج الطيالسي وأحمد ونعيم بن حماد والترمذي وحسنه، وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان، فتجلو وجه المؤمن بالخاتم، وتخطم أنف الكافر بالعصا، حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر»، وأخرج الطيالسي ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث عن حذيفة بن أسيد الغفاريّ قال‏:‏ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة، فقال‏:‏ «لها ثلاث خرجات من الدهر» وذكر نحو ما قدّمنا في حديث طويل‏.‏ وفي صفتها ومكان خروجها وما تصنعه ومتى تخرج أحاديث كثيرة بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف‏.‏ وأما كونها تخرج، وكونها من علامات الساعة، فالأحاديث الواردة في ذلك صحيحة‏.‏ ومنها ما هو ثابت في الصحيح كحديث حذيفة مرفوعاً‏:‏ «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات» وذكر منها الدابة فإنه في صحيح مسلم وفي السنن الأربعة، وكحديث‏:‏ «بادروا بالأعمال قبل طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدابة» فإنه في صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة مرفوعاً، وكحديث ابن عمر مرفوعاً‏:‏ «إن أوّل الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى» فإنه في صحيح مسلم أيضاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 93‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏83‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏84‏)‏ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏85‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏86‏)‏ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ‏(‏87‏)‏ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ‏(‏88‏)‏ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ ‏(‏89‏)‏ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏90‏)‏ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏91‏)‏ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏92‏)‏ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

ثم ذكر سبحانه طرفاً مجملاً من أهوال يوم القيامة‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجاً‏}‏ العامل في الظرف فعل محذوف خوطب به النبيّ صلى الله عليه وسلم، والحشر الجمع‏.‏ قيل‏:‏ والمراد بهذا الحشر هو حشر العذاب بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق، و‏"‏ من ‏"‏ لابتداء الغاية، والفوج‏:‏ الجماعة كالزمرة، و«من» في ‏{‏مّمَّن يُكَذّبُ بئاياتنا‏}‏ بيانية ‏{‏فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ أي يحبس أوّلهم على آخرهم، وقد تقدّم تحقيقه في هذه السورة مستوفى، وقيل معناه‏:‏ يدفعون، ومنه قول الشماخ‏:‏

وسمه وزعنا من خميس جحفل *** ومعنى الآية‏:‏ واذكر يا محمد يوم نجمع من كل أمة من الأمم جماعة مكذّبين بآياتنا فهم عند ذلك الحشر يرد أوّلهم على آخرهم، أو يدفعون أي اذكر لهم هذا، أو بينه تحذيراً لهم، وترهيباً‏.‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاءُوا‏}‏ إلى موقف الحساب قال الله لهم توبيخاً، وتقريعاً‏:‏ ‏{‏أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي‏}‏ التي أنزلتها على رسلي، وأمرتهم بإبلاغها إليكم والحال أنكم ‏{‏لَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً‏}‏ بل كذبتم بها بادئ بدء جاهلين لها غير ناظرين فيها، ولا مستدلين على صحتها، أو بطلانها تمرّداً، وعناداً، وجرأة على الله وعلى رسله، وفي هذا مزيد تقريع وتوبيخ؛ لأن من كذب بشيء، ولم يحط به علماً فقد كذب في تكذيبه، ونادى على نفسه بالجهل وعدم الإنصاف، وسوء الفهم، وقصور الإدراك، ومن هذا القبيل من تصدّى لذمّ علم من العلوم الشرعية، أو لذمّ علم هو مقدّمة من مقدّماتها، ووسيلة يتوسل بها إليها، ويفيد زيادة بصيرة في معرفتها، وتعقل معانيها كعلوم اللغة العربية بأسرها، وهي اثنا عشر علماً، وعلم أصول الفقه فإنه يتوصل به إلى استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية مع اشتماله على بيان قواعد اللغة الكلية، وهكذا كل علم من العلوم التي لها مزيد نفع في فهم كتاب الله، وسنة رسوله، فإنه قد نادى على نفسه بأرفع صوت بأنه جاهل مجادل بالباطل طاعن على العلوم الشرعية، مستحق لأن تنزل به قارعة من قوارع العقوبة التي تزجره عن جهله وضلاله وطعنه على ما لا يعرفه، ولا يعلم به، ولا يحيط بكنهه حتى يصير عبرة لغيره، وموعظة يتعظ بها أمثاله من ضعاف العقول، وركاك الأديان، ورعاع المتلبسين بالعلم زوراً وكذباً‏.‏

و ‏"‏ أم ‏"‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ هي المنقطعة، والمعنى‏:‏ أم أيّ شيء كنتم تعملون حتى شغلكم ذلك عن النظر فيها، والتفكر في معانيها‏؟‏ وهذا الاستفهام على طريق التبكيت لهم‏.‏ ‏{‏وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم‏}‏ قد تقدّم تفسيره قريباً، والباء في ‏{‏بِمَا ظَلَمُواْ‏}‏ للسببية أي وجب القول عليهم بسبب الظلم الذي أعظم أنواعه الشرك بالله ‏{‏فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ‏}‏ عند وقوع القول عليهم، أي ليس لهم عذر ينطقون به، أو لا يقدرون على القول لما يرونه من الهول العظيم‏.‏

وقال أكثر المفسرين‏:‏ يختم على أفواههم فلا ينطقون‏.‏

ثم بعد أن خوّفهم بأهوال القيامة ذكر سبحانه ما يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد، وعلى الحشر، وعلى النبوّة مبالغة في الإرشاد وإبلاء للمعذرة، فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً‏}‏ أي جعلنا الليل للسكون والاستقرار والنوم، وذلك بسبب ما فيه من الظلمة فإنهم لا يسعون فيه للمعاش، والنهار مبصراً، ليبصروا فيه ما يسعون له من المعاش الذي لا بدّ له منهم، ووصف النهار بالإبصار، وهو وصف للناس مبالغة في إضاءته كأنه يبصر ما فيه‏.‏ قيل‏:‏ في الكلام حذف، والتقدير‏:‏ وجعلنا الليل مظلماً ليسكنوا، وحذف مظلماً لدلالة مبصراً عليه، وقد تقدّم تحقيقه في الإسراء وفي يونس ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ المذكور ‏{‏لآيَاتٍ‏}‏ أي علامات ودلالات ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ بالله سبحانه‏.‏

ثم ذكر سبحانه علامة أخرى للقيامة فقال‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور‏}‏ هو معطوف على ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُ‏}‏ منصوب بناصبه المتقدّم‏.‏ قال الفراء‏:‏ إن المعنى‏:‏ وذلكم يوم ينفخ في الصور، والأوّل أولى‏.‏ والصور‏:‏ قرن ينفخ فيه إسرافيل، وقد تقدّم في الأنعام استيفاء الكلام عليه‏.‏ والنفخات في الصور ثلاث‏:‏ الأولى‏:‏ نفخة الفزع، والثانية‏:‏ نفخة الصعق، والثالثة‏:‏ نفخة البعث‏.‏ وقيل‏:‏ إنها نفختان، وإن نفخة الفزع إما أن تكون راجعة إلى نفخة الصعق، أو إلى نفخة البعث، واختار هذا القشيري، والقرطبي، وغيرهما‏.‏ وقال الماوردي‏:‏ هذه النفخة المذكورة هنا يوم النشور من القبور ‏{‏فَفَزِعَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض‏}‏ أي خافوا وانزعجوا لشدّة ما سمعوا، وقيل‏:‏ المراد بالفزع هنا‏:‏ الإسراع والإجابة إلى النداء من قولهم‏:‏ فزعت إليك في كذا‏:‏ إذا أسرعت إلى إجابتك، والأوّل أولى بمعنى الآية‏.‏ وإنما عبر بالماضي مع كونه معطوفاً على مضارع‏:‏ للدلالة على تحقق الوقوع حسبما ذكره علماء البيان‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو محمول على المعنى؛ لأن المعنى إذا نفخ ‏{‏إِلاَّ مَن شَاء الله‏}‏ أي إلا من شاء الله أن لا يفزع عند تلك النفخة‏.‏

واختلف في تعيين من وقع الاستثناء له، فقيل‏:‏ هم الشهداء والأنبياء‏.‏ وقيل‏:‏ الملائكة، وقيل‏:‏ جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وقيل‏:‏ الحور العين‏.‏ وقيل‏:‏ هم المؤمنون كافة بدليل قوله فيما بعد‏:‏ ‏{‏مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ‏}‏ ويمكن أن يكون الاستثناء شاملاً لجميع المذكورين فلا مانع من ذلك ‏{‏وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ «آتوه» على صيغة اسم الفاعل مضافاً إلى الضمير الراجع إلى الله سبحانه‏.‏ وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة وحفص عن عاصم‏:‏ «أتوه» فعلاً ماضياً، وكذا قرأ ابن مسعود‏.‏

وقرأ قتادة‏:‏ «وكل أتاه»‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إن من قرأ على الفعل الماضي فقد وحد على لفظ كل، ومن قرأ على اسم الفاعل فقد جمع على معناه، وهو غلط ظاهر، فإن كلا القراءتين لا توحيد فيها، بل التوحيد في قراءة قتادة فقط، ومعنى ‏{‏داخرين‏}‏‏:‏ صاغرين ذليلين، وهو منصوب على الحال، قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏داخرين‏}‏، وقرأ الأعرج‏:‏ «دخرين» بغير ألف، وقد مضى تفسير هذا في سورة النحل‏.‏

‏{‏وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً‏}‏ معطوف على ‏{‏ينفخ‏}‏‏.‏ والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكلّ من يصلح للرؤية، و‏{‏تحسبها جامدة‏}‏ في محل نصب على الحال من ضمير ترى أو من مفعوله؛ لأن الرؤية بصرية‏.‏ وقيل‏:‏ هي بدل من الجملة الأولى، وفيه ضعف، وهذه هي العلامة الثالثة لقيام الساعة، ومعنى ‏{‏تحسبها جامدة‏}‏ أي قائمة ساكنة، وجملة‏:‏ ‏{‏وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب‏}‏ في محل نصب على الحال، أي وهي تسير سيراً حثيثاً كسير السحاب التي تسيرها الرياح‏.‏ قال القتيبي‏:‏ وذلك أن الجبال تجمع وتسير وهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير‏.‏ قال القشيري‏:‏ وهذا يوم القيامة، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسُيّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 20‏]‏‏.‏ قرأ أهل الكوفة تحسبها بفتح السين، وقرأ الباقون بكسرها ‏{‏صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء‏}‏ انتصاب ‏{‏صنع‏}‏ على المصدرية عند الخليل وسيبويه وغيرهما، أي صنع الله ذلك صنعاً، وقيل‏:‏ هو مصدر مؤكد لقوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ منصوب على الإغراء، أي انظروا صنع الله، ومعنى ‏{‏الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء‏}‏‏:‏ الذي أحكمه، يقال‏:‏ رجل تقن أي حاذق بالأشياء، وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ‏}‏ تعليل لما قبلها من كونه سبحانه صنع ما صنع، وأتقن كل شيء، والخبير‏:‏ المطلع على الظواهر والضمائر‏.‏ قرأ الجمهور بالتاء الفوقية على الخطاب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالتحتية على الخبر‏.‏

‏{‏مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا‏}‏ الألف واللام للجنس، أي من جاء بجنس الحسنة فله من الجزاء والثواب عند الله خير منها أي أفضل منها، وأكثر‏.‏ وقيل‏:‏ خير حاصل من جهتها، والأول أولى‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالحسنة هنا‏:‏ لا إله إلاّ الله‏.‏ وقيل‏:‏ هي الإخلاص‏.‏ وقيل‏:‏ أداء الفرائض، والتعميم أولى ولا وجه للتخصيص وإن قال به بعض السلف‏.‏ قيل‏:‏ وهذه الجملة بيان لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ‏}‏، وقيل‏:‏ بيان لقوله‏:‏ ‏{‏وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين‏}‏‏.‏ قرأ عاصم وحمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏وهم من فزع‏}‏ بالتنوين وفتح ميم ‏{‏يومئذٍ‏}‏‏.‏ وقرأ نافع بفتحها من غير تنوين، وقرأ الباقون بإضافة فزع إلى يومئذٍ‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ وهذا أعجب إليّ لأنه أعم التأويلين؛ لأن معناه‏:‏ الأمن من فزع جميع ذلك اليوم، ومع التنوين يكون الأمن من فزع دون فزع‏.‏

وقيل‏:‏ إنه مصدر يتناول الكثير فلا يتم الترجيح بما ذكر، فتكون القراءتان بمعنى واحد‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالفزع ها هنا هو‏:‏ الفزع الأكبر المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏‏.‏ ووجه قراءة نافع أنه نصب يوم على الظرفية لكون الإعراب فيه غير متمكن، ولما كانت إضافة الفزع إلى ظرف غير متمكن بني، وقد تقدّم في سورة هود كلام في هذا مستوفى ‏{‏وَمَن جَاء بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار‏}‏‏.‏ قال جماعة من الصحابة، ومن بعدهم حتى قيل‏:‏ إنه مجمع عليه بين أهل التأويل‏:‏ إن المراد بالسيئة هنا‏:‏ الشرك، ووجه التخصيص قوله‏:‏ ‏{‏فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار‏}‏، فهذا الجزاء لا يكون إلاّ بمثل سيئة الشرك، ومعنى ‏{‏فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار‏}‏‏:‏ أنهم كبوا فيها على وجوههم وألقوا فيها وطرحوا عليها، يقال‏:‏ كببت الرجل‏:‏ إذا ألقيته لوجهه فانكبّ وأكبّ، وجملة ‏{‏هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ بتقدير القول، أي يقال ذلك، والقائل خزنة جهنم، أي‏:‏ ما تجزون إلاّ جزاء عملكم‏.‏

‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ البلدة الذي حَرَّمَهَا‏}‏ لما فرغ سبحانه من بيان أحوال المبدأ، والمعاد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه المقالة، أي قل يا محمد‏:‏ إنما أمرت أن أخص الله بالعبادة وحده لا شريك له، والمراد بالبلدة‏:‏ مكة، وإنما خصها من بين سائر البلاد لكون فيها بيت الله الحرام، ولكونها أحبّ البلاد إلى رسوله، والموصول صفة للربّ، وهكذا قرأ الجمهور‏.‏ وقرأ ابن عباس وابن مسعود‏:‏ «التي حرّمها» على أن الموصول صفة للبلدة، ومعنى ‏{‏حَرَّمَهَا‏}‏‏:‏ جعلها حرماً آمناً لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصطاد صيدها، ولا يختلى خلالها ‏{‏وَلَهُ كُلُّ شَيء‏}‏ من الأشياء خلقاً وملكاً وتصرّفاً، أي ولله كل شيء ‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين‏}‏ أي المنقادين لأمر الله المستسلمين له بالطاعة، وامتثال أمره، واجتناب نهيه‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏أَنْ أَكُونَ‏}‏‏:‏ أن أثبت على ما أنا عليه ‏{‏وَأَنْ أَتْلُوَ القرءان‏}‏ أي أداوم تلاوته، وأواظب على ذلك‏.‏ قيل‏:‏ وليس المراد من تلاوة القرآن هنا إلاّ تلاوة الدعوة إلى الإيمان، والأول أولى ‏{‏فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ‏}‏ لأن نفع ذلك راجع إليه، أي فمن اهتدى على العموم، أو فمن اهتدى بما أتلوه عليه، فعمل بما فيه من الإيمان بالله، والعمل بشرائعه‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وأن أتلو‏}‏ بإثبات الواو بعد اللام على أنه من التلاوة، وهي القراءة، أو من التلوّ، وهو الاتباع‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ «وأن اتل» بحذف الواو أمراً له صلى الله عليه وسلم وكذا وجهه الفراء‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولا نعرف أحداً قرأ هذه القراءة، وهي مخالفة لجميع المصاحف ‏{‏وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ المنذرين‏}‏ أي ومن ضلّ بالكفر وأعرض عن الهداية، فقل له‏:‏ إنما أنا من المنذرين، وقد فعلت بإبلاغ ذلك إليكم، وليس عليّ غير ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ الجواب محذوف، أي فوبال ضلاله عليه، وأقيم ‏{‏إنما أنا من المنذرين‏}‏ مقامه لكونه كالعلة له‏.‏

‏{‏وَقُلِ الحمد لِلَّهِ‏}‏ على نعمه التي أنعم بها عليّ من النبوّة والعلم، وغير ذلك، وقوله‏:‏ ‏{‏سَيُرِيكُمْ ءاياته‏}‏ هو من جملة ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله، أي سيريكم الله آياته في أنفسكم، وفي غيركم ‏{‏فَتَعْرِفُونَهَا‏}‏ أي تعرفون آياته، ودلائل قدرته ووحدانيته، وهذه المعرفة لا تنفع الكفار؛ لأنهم عرفوها حين لا يقبل منهم الإيمان، وذلك عند حضور الموت‏.‏ ثم ختم السورة بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏، وهو كلام من جهته سبحانه غير داخل تحت الكلام الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله، وفيه ترهيب شديد وتهديد عظيم‏.‏ قرأ أهل المدينة والشام وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏تعملون‏}‏ بالفوقية على الخطاب، وقرأ الباقون بالتحتية‏.‏

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏داخرين‏}‏ قال‏:‏ صاغرين‏.‏ وأخرج هؤلاء عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً‏}‏ قال‏:‏ قائمة ‏{‏صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء‏}‏ قال‏:‏ أحكم‏.‏ وأخرج ابن أبي جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء‏}‏ قال‏:‏ أحسن كل شيء خلقه، وأوثقه‏.‏

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا‏}‏ قال‏:‏ «هي‏:‏ لا إله إلاّ الله» ‏{‏وَمَن جَاء بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار‏}‏ قال‏:‏ «هي‏:‏ الشرك»، وإذا صحّ هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمصير إليه في تفسير كلام الله سبحانه متعين، ويحمل على أن المراد قال‏:‏ لا إله إلاّ الله بحقها، وما يجب لها، فيدخل تحت ذلك كل طاعة، ويشهد له ما أخرجه الحاكم في الكنى عن صفوان بن عسال قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا كان يوم القيامة‏:‏ جاء الإيمان والشرك يجثوان بين يدي الله سبحانه، فيقول الله للإيمان‏:‏ انطلق أنت وأهلك إلى الجنة، ويقول للشرك‏:‏ انطلق أنت وأهلك إلى النار»، ثم تلا رسولا الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا‏}‏، يعني‏:‏ قول‏:‏ لا إله إلاّ الله ‏{‏وَمَن جَاء بالسيئة‏}‏ يعني‏:‏ الشرك ‏{‏فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار‏}‏‏.‏ وأخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة وأنس نحوه مرفوعاً‏.‏ وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏مَن جَاء بالحسنة‏}‏ يعني‏:‏ «شهادة أن لا إله إلاّ الله» ‏{‏فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا‏}‏ يعني بالخير‏:‏ «الجنة» ‏{‏وَمَن جَاء بالسيئة‏}‏ يعني‏:‏ «الشرك» ‏{‏فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار‏}‏، وقال‏:‏

«هذه تنجي، وهذه تردي» وأخرج عبد ابن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات، والخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن مسعود‏:‏ ‏{‏مَن جَاء بالحسنة‏}‏ قال‏:‏ لا إله إلاّ الله، ‏{‏وَمَن جَاء بالسيئة‏}‏ قال‏:‏ بالشرك‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم‏:‏ ‏{‏فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا‏}‏ قال‏:‏ له منها خير، يعني‏:‏ من جهتها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا‏}‏ قال‏:‏ ثواب‏.‏ وأخرج أيضاً عنه أيضاً قال‏:‏ البلدة‏:‏ مكة‏.‏

سورة القصص

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 13‏]‏

‏{‏طسم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏4‏)‏ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ‏(‏5‏)‏ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ‏(‏6‏)‏ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏7‏)‏ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ‏(‏8‏)‏ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏10‏)‏ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏11‏)‏ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ‏(‏12‏)‏ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

الكلام في فاتحة هذه السورة قد مرّ في فاتحة الشعراء وغيرها، فلا نعيده، وكذلك مرّ الكلام على قوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ ءَايَاتُ الكتاب المبين‏}‏ فاسم الإشارة مبتدأ خبره ما بعده، أو خبر مبتدأ محذوف، و‏{‏آيات‏}‏ بدل من اسم الإشارة، ويجوز أن يكون تلك في موضع نصب ب ‏{‏نتلو‏}‏، والمبين‏:‏ المشتمل على بيان الحق من الباطل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ مبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وهو من أبان بمعنى‏:‏ أظهر ‏{‏نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ بالحق لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي نوحي إليك من خبرهما ملتبساً بالحق، وخص المؤمنين؛ لأن التلاوة إنما ينتفع بها المؤمن، وقيل‏:‏ إن مفعول نتلو محذوف، والتقدير‏:‏ نتلو عليك شيئاً من نبئهما، ويجوز أن تكون «من» مزيدة على رأي الأخفش أي‏:‏ نتلو عليك نبأ موسى وفرعون، والأولى أن تكون للبيان على تقدير المفعول كما ذكر أو للتبعيض، ولا ملجئ للحكم بزيادتها، والحق‏:‏ الصدق، وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض‏}‏ وما بعدها مستأنفة مسوقة لبيان ما أجمله من النبأ‏.‏ قال المفسرون‏:‏ معنى ‏{‏علا‏}‏‏:‏ تكبر، وتجبر بسلطانه، والمراد بالأرض أرض مصر‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏علا‏}‏‏:‏ ادعى الربوبية، وقيل‏:‏ علا عن عبادة ربه ‏{‏وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً‏}‏ أي فرقاً، وأصنافاً في خدمته يشايعونه على ما يريد، ويطيعونه، وجملة‏:‏ ‏{‏يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ‏}‏ مستأنفة مسوقة لبيان حال الأهل الذين جعلهم فرقاً وأصنافاً، ويجوز أن تكون في محلّ نصب على الحال من فاعل جعل، أي جعلهم شيعاً حال كونهم مستضعفاً طائفة منهم، ويجوز أن تكون صفة لطائفة، والطائفة هم بنو إسرائيل، وجملة‏:‏ ‏{‏يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْييِ نِسَاءهُمْ‏}‏ بدل من الجملة الأولى، ويجوز أن تكون مستأنفة للبيان، أو حالاً، أو صفة كالتي قبلها على تقدير عدم كونها بدلاً منها، وإنما كان فرعون يذبح أبناءهم، ويترك النساء؛ لأن المنجمين في ذلك العصر أخبروه أنه يذهب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والعجب من حمق فرعون، فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقاً عنده فما ينفع القتل، وإن كان كاذباً فلا معنى للقتل ‏{‏إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين‏}‏ في الأرض بالمعاصي والتجبر، وفيه بيان أن القتل من فعل أهل الإفساد‏.‏

‏{‏وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض‏}‏ جاء بصيغة المضارع لحكاية الحالة الماضية، واستحضار صورتها، أي نريد أن نتفضل عليهم بعد استضعافهم، والمراد بهؤلاء‏:‏ بنو إسرائيل، والواو في ‏{‏ونريد‏}‏ للعطف على جملة ‏{‏إن فرعون علا‏}‏، وإن كانت الجملة المعطوف عليها اسمية؛ لأن بينهما تناسباً من حيث أن كل واحدة منهما للتفسير والبيان، ويجوز أن تكون حالاً من فاعل ‏{‏يستضعف‏}‏ بتقدير مبتدأ، أي ونحن نريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض كما في قول الشاعر‏:‏

نجوت وأرهنتهم ملكاً *** والأوّل أولى ‏{‏وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً‏}‏ أي قادة في الخير، ودعاة إليه، وولاة على الناس، وملوكاً فيهم ‏{‏وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين‏}‏ لملك فرعون، ومساكن القبط، وأملاكهم، فيكون ملك فرعون فيهم، ويسكنون في مساكنه، ومساكن قومه، وينتفعون بأملاكه وأملاكهم ‏{‏وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأرض‏}‏ أي نجعلهم مقتدرين عليها وعلى أهلها مسلطين على ذلك يتصرّفون به كيف شاؤوا‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏نمكّن‏}‏ بدون لام، وقرأ الأعمش‏:‏ «لنمكن» بلام العلة‏.‏ ‏{‏وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏نرى‏}‏ بنون مضمومة وكسر الراء على أن الفاعل هو الله سبحانه‏.‏ وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف‏:‏ «ويرى» بفتح الياء التحتية والراء، والفاعل فرعون‏.‏ والقراءة الأولى ألصق بالسياق؛ لأن قبلها نريد ونجعل ونمكّن بالنون‏.‏ وأجاز الفراء‏:‏ «ويري فرعون» بضم الياء التحتية، وكسر الراء، أي ويرى الله فرعون، ومعنى ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏‏:‏ من أولئك المستضعفين ‏{‏مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ‏}‏ الموصول هو المفعول الثاني على القراءة الأولى، والمفعول الأوّل على القراءة الثانية، والمعنى‏:‏ أن الله يريهم، أو يرون هم الذي كانوا يحذرون منه، ويجتهدون في دفعه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد المولود من بني إسرائيل المستضعفين‏.‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ‏}‏ أي ألهمناها وقذفنا في قلبها، وليس ذلك هو الوحي الذي يوحى إلى الرسل، وقيل‏:‏ كان ذلك رؤيا في منامها، وقيل‏:‏ كان ذلك بملك أرسله الله يعلمها بذلك‏.‏

وقد أجمع العلماء على أنها لم تكن نبية، وإنما كان إرسال الملك إليها عند من قال به على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى كما في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما، وقد سلمت على عمران بن حصين الملائكة كما في الحديث الثابت في الصحيح فلم يكن بذلك نبياً، و«أن» في ‏{‏أَنْ أَرْضِعِيهِ‏}‏ هي المفسرة، لأن في الوحي معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية، أي بأن أرضعيه، وقرأ عمر بن عبد العزيز بكسر نون أن، ووصل همزة أرضعيه فالكسر لالتقاء الساكنين، وحذف همزة الوصل على غير القياس ‏{‏فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ‏}‏ من فرعون بأن يبلغ خبره إليه ‏{‏فَأَلْقِيهِ فِي اليم‏}‏، وهو بحر النيل، وقد تقدّم بيان الكيفية التي ألقته في اليمّ عليها في سورة طه ‏{‏وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي‏}‏ أي لا تخافي عليه الغرق، أو الضيعة، ولا تحزني لفراقه ‏{‏إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ‏}‏ عن قريب على وجه تكون به نجاته ‏{‏وجاعلوه مِنَ المرسلين‏}‏ الذين نرسلهم إلى العباد‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ‏}‏ هي الفصيحة، والالتقاط‏:‏ إصابة الشيء من غير طلب، والمراد بآل فرعون هم الذين أخذوا التابوت الذي فيه موسى من البحر، وفي الكلام حذف، والتقدير‏:‏ فألقته في اليمّ بعد ما جعلته في التابوت، فالتقطه من وجده من آل فرعون، واللام في ‏{‏لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً‏}‏ لام العاقبة، ووجه ذلك‏:‏ أنهم إنما آخذوه؛ ليكون لهم ولداً، وقرّة عين لا ليكون عدوّاً فكان عاقبة ذلك إنه كان لهم عدوًّا وحزناً، ولما كانت هذه العداوة نتيجة لفعلهم، وثمرة له شبهت بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله، ومن هذا قول الشاعر‏:‏

لدوا للموت وابنوا للخراب *** قول الآخر‏:‏

وللمنايا تربي كل مرضعة *** ودورنا لخراب الدهر نبنيها

قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وحزناً‏}‏ بفتح الحاء، والزاي، وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف‏:‏ «وحزناً» بضم الحاء وسكون الزاي، واختار القراءة الأولى أبو عبيدة وأبو حاتم وهما لغتان كالعَدَم والعُدْم، والرَّشَد والرُّشْد، والسَّقَم والسُّقْم، وجملة ‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين‏}‏ لتعليل ما قبلها، أو للاعتراض لقصد التأكيد؛ ومعنى ‏{‏خاطئين‏}‏‏:‏ عاصين آثمين في كل أفعالهم وأقوالهم، وهو مأخوذ من الخطأ المقابل للصواب، وقرئ‏:‏ «خاطين» بياء من دون همزة، فيحتمل أن يكون معنى هذه القراءة معنى قراءة الجمهور، ولكنها خففت بحذف الهمزة، ويحتمل أن تكون من خطا يخطو، أي تجاوز الصواب‏.‏

‏{‏وَقَالَتِ امرأت فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لّي وَلَكَ‏}‏ أي قالت امرأة فرعون لفرعون، وارتفاع ‏{‏قرّة‏}‏ على أنه خبر مبتدأ محذوف، قاله الكسائي، وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ على أنه مبتدأ، وخبره‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْتُلُوهُ‏}‏ قاله الزجاج، والأوّل أولى‏.‏ وكان قولها لهذا القول عند رؤيتها له لما وصل إليها، وأخرجته من التابوت، وخاطبت بقولها‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْتُلُوهُ‏}‏ فرعون، ومن عنده من قومه، أو فرعون وحده على طريقة التعظيم له‏.‏ وقرأ عبد الله بن مسعود‏:‏ «وقالت امرأة فرعون لا تقتلوه قرّة عين لي ولك»، ويجوز نصب «قرّة» بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْتُلُوهُ‏}‏ على الاشتغال‏.‏ وقيل‏:‏ إنها قالت‏:‏ لا تقتلوه فإن الله أتى به من أرض بعيدة، وليس من بني إسرائيل‏.‏ ثم عللت ما قالته بالترجي منها لحصول النفع منه لهم، أو التنبي له، فقالت‏:‏ ‏{‏عسى أَن يَنفَعَنَا‏}‏ فنصيب منه خيراً ‏{‏أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا‏}‏ وكانت لا تلد، فاستوهبته من فرعون فوهبه لها، وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال، أي وهم لا يشعرون أنهم على خطأ في التقاطه، ولا يشعرون أن هلاكهم على يده؛ فتكون حالاً من آل فرعون، وهي من كلام الله سبحانه‏.‏ وقيل‏:‏ هي من كلام المرأة، أي وبنو إسرائيل لا يدرون أنا التقطناه، وهم لا يشعرون، قال الكلبي، وهو بعيد جداً‏.‏ وقد حكى الفراء عن السديّ عن الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس أن قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْتُلُوهُ‏}‏ من كلام فرعون، واعترضه بكلام يرجع إلى اللفظ، ويكفي في ردّه ضعف إسناده‏.‏

‏{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ معنى ذلك‏:‏ أنه فارغ من كل شيء إلاّ من أمر موسى كأنها لم تهتمّ بشيء سواه‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ خالياً من ذكر كل شيء في الدنيا إلاّ من ذكر موسى، وقال الحسن وابن إسحاق، وابن زيد‏:‏ فارغاً مما أوحى إليها من قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي‏}‏، وذلك لما سوّل الشيطان لها من غرقه وهلاكه‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ فارغاً من الخوف والغمّ لعلمها أنه لم يغرق بسبب ما تقدّم من الوحي إليها، وروى مثله عن أبي عبيدة أيضاً‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ ناسياً ذاهلاً، وقال العلاء بن زياد‏:‏ نافراً‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ والهاً كادت تقول‏:‏ وا ابناه من شدّة الجزع، وقال مقاتل‏:‏ كادت تصيح شفقة عليه من الغرق‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أنها لما سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع، والدهش، قال النحاس‏:‏ وأصحّ هذه الأقوال الأوّل، والذين قالوه أعلم بكتاب الله، فإذا كان فارغاً من كل شيء إلاّ من ذكر موسى فهو فارغ من الوحي، وقول من قال‏:‏ فارغاً من الغمّ غلط قبيح؛ لأن بعده‏:‏ ‏{‏إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا‏}‏ وقرأ فضالة بن عبيد الأنصاري ومحمد ابن السميفع وأبو العالية وابن محيصن‏:‏ «فزعا» بالفاء، والزاي، والعين المهملة من الفزع، أي خائفاً وجلاً، وقرأ ابن عباس‏:‏ «قرعا» بالقاف المفتوحة، والراء المهملة المكسورة، والعين المهملة من قرع رأسه‏:‏ إذا انحسر شعره، ومعنى ‏{‏وَأَصْبَحَ‏}‏‏:‏ وصار، كما قال الشاعر‏:‏

مضى الخلفاء في أمر رشيد *** وأصبحت المدينة للوليد

‏{‏إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا‏}‏ «إن» هي‏:‏ المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، أي إنها كادت لتظهر أمر موسى، وأنه ابنها من فرط ما دهمها من الدهش والخوف والحزن، من بدا يبدو‏:‏ إذا ظهر، وأبدى يبدي‏:‏ إذا أظهر، وقيل‏:‏ الضمير في ‏{‏به‏}‏ عائد إلى الوحي الذي أوحى إليها، والأوّل أولى‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إن كانت لتبدي باسمه لضيق صدرها لولا أن ربطنا على قلبها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى الربط على القلب‏:‏ إلهام الصبر، وتقويته، وجواب لولا محذوف، أي لولا أن ربطنا على قلبها لأبدت، واللام في‏:‏ ‏{‏لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏ متعلق ب ‏{‏ربطنا‏}‏، والمعنى‏:‏ ربطنا على قلبها؛ لتكون من المصدّقين بوعد الله، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ‏}‏ قيل‏:‏ والباء في ‏{‏لَتُبْدِي بِهِ‏}‏ زائدة للتأكيد، والمعنى‏:‏ لتبديه كما تقول‏:‏ أخذت الحبل وبالحبل‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ لتبدي القول به ‏{‏وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصّيهِ‏}‏ أي‏:‏ قالت أمّ موسى لأخت موسى، وهي مريم‏:‏ قصيه، أي تتبعي أثره، واعرفي خبره، وانظري أين وقع، وإلى من صار‏؟‏ يقال‏:‏ قصصت الشيء‏:‏ إذا اتبعت أثره متعرّفاً لحاله ‏{‏فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ‏}‏ أي أبصرته عن بعد، وأصله عن مكان جنب، ومنه الأجنبي‏.‏

قال الشاعر‏:‏

فلا تحرميني نائلاً عن جنابة *** فإني امرؤ وسط الديار غريب

وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏عن جنب‏}‏ عن جانب، والمعنى‏:‏ أنها أبصرت إليه متجانفة مخاتلة، ويؤيد ذلك قراءة النعمان بن سالم عن جانب، ومحلّ‏:‏ ‏{‏عن جنب‏}‏ النصب على الحال إما من الفاعل، أي بصرت به مستخفية كائنة عن جنب، وإما من المجرور، أي بعيداً منها‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بصرت‏}‏ به بفتح الباء وضم الصاد، وقرأ قتادة بفتح الصاد، وقرأ عيسى بن عمر بكسرها‏.‏ قال المبرّد‏:‏ أبصرته، وبصرت به بمعنى، وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏عن جنب‏}‏ بضمتين، وقرأ قتادة والحسن والأعرج وزيد بن عليّ بفتح الجيم وسكون النون، وروي عن قتادة أيضاً أنه قرأ بفتحهما‏.‏ وروي عن الحسن أيضاً أنه قرأ بضم الجيم وسكون النون‏.‏ وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ إن معنى ‏{‏عَن جُنُبٍ‏}‏‏:‏ عن شوق‏.‏ قال‏:‏ وهي لغة جذام يقولون‏:‏ جنبت إليك أي‏:‏ اشتقت إليك ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ أنها تقصه وتتبع خبره، وأنها أخته‏.‏

‏{‏وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع‏}‏ المراضع جمع مرضع، أي منعناه أن يرضع من المرضعات‏.‏ وقيل‏:‏ المراضع جمع مرضع بفتح الضاد، وهو الرضاع، أو موضعه، وهو الثدي، ومعنى ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏‏:‏ من قبل أن نردّه إلى أمه، أو من قبل أن تأتيه أمه، أو من قبل قصها لأثره، وقد كانت امرأة فرعون طلبت لموسى المرضعات ليرضعنه، فلم يرضع من واحدة منهنّ فعند ذلك ‏{‏قَالَتْ‏}‏ أي أخته لما رأت امتناعه من الرضاع‏:‏ ‏{‏هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يضمنون لكم القيام به، وإرضاعه ‏{‏وَهُمْ لَهُ ناصحون‏}‏ أي مشفقون عليه لا يقصرون في إرضاعه وتربيته‏.‏ وفي الكلام حذف، والتقدير‏:‏ فقالوا لها‏:‏ من هم‏؟‏ فقالت‏:‏ أمي، فقيل لها‏:‏ وهل لأمك لبن‏؟‏ قالت‏:‏ نعم لبن أخي هارون‏:‏ فدلتهم على أمّ موسى، فدفعوه إليها، فقبل ثديها، ورضع منه، وذلك معنى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فرددناه إلى أُمّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا‏}‏ بولدها ‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ‏}‏ على فراقه ‏{‏وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله‏}‏ أي جميع وعده، ومن جملة ذلك ما وعدها بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ‏}‏‏.‏ ‏{‏حَقّ‏}‏ لا خلف فيه واقع لا محالة ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي أكثر آل فرعون لا يعلمون بذلك، بل كانوا في غفلة عن القدر وسرّ القضاء، أو أكثر الناس لا يعلمون بذلك أو لا يعلمون أن الله وعدها بأن يردّه إليها‏.‏

وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً‏}‏ قال‏:‏ فرّق بينهم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً‏}‏ قال‏:‏ يستعبد طائفة منهم، ويدع طائفة ويقتل طائفة ويستحيي طائفة‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب في قوله‏:‏ ‏{‏وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً‏}‏ قال‏:‏ يوسف وولده‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض‏}‏ قال‏:‏ هم‏:‏ بنو إسرائيل ‏{‏وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً‏}‏ أي ولاة الأمر ‏{‏وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين‏}‏ أي الذين يرثون الأرض بعد فرعون وقومه ‏{‏وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ‏}‏ قال‏:‏ ما كان القوم حذروه‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى‏}‏ أي ألهمناها الذي صنعت بموسى‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش قال‏:‏ قال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ‏}‏ قال‏:‏ أن يسمع جيرانك صوته‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً‏}‏ قال‏:‏ فرغ من ذكر كل شيء من أمر الدنيا إلاّ من ذكر موسى‏.‏ وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً‏}‏ قال‏:‏ خالياً من كل شيء غير ذكر موسى‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ‏}‏ قال‏:‏ تقول‏:‏ يا ابناه‏.‏ وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصّيهِ‏}‏ أي اتبعي أثره ‏{‏فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ‏}‏ قال‏:‏ عن جانب‏.‏ وأخرج الطبراني وابن عساكر عن أبي أمامة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة‏:‏ «أما شعرت أن الله زوّجني مريم بنت عمران وكلثوم أخت موسى وامرأة فرعون‏؟‏» قالت‏:‏ هنيئاً لك يا رسول الله، وأخرجه ابن عساكر عن ابن أبي روّاد مرفوعاً بأطول من هذا، وفي آخره‏:‏ أنها قالت‏:‏ بالرفاء والبنين‏.‏ وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ‏}‏ قال‏:‏ لا يؤتى بمرضع فيقبلها‏.‏