فصل: سورة الروم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


سورة الروم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ غُلِبَتِ الرُّومُ ‏(‏2‏)‏ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ‏(‏3‏)‏ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏4‏)‏ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏5‏)‏ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏6‏)‏ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ‏(‏7‏)‏ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏9‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قد تقدّم الكلام على فاتحة هذه السورة في فاتحة سورة البقرة، وتقدّم الكلام على محلها من الإعراب، ومحلّ أمثالها في غير موضع من فواتح السور‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏غلبت الروم‏}‏ بضم الغين المعجمة وكسر اللام مبنياً للمفعول، وقرأ عليّ بن أبي طالب وأبو سعيد الخدري ومعاوية بن قرّة وابن عمر وأهل الشام بفتح الغين، واللام مبنياً للفاعل‏.‏ قال النحاس‏:‏ قراءة أكثر الناس‏:‏ ‏{‏غُلِبَتِ‏}‏ بضم الغين وكسر اللام‏.‏ قال أهل التفسير‏:‏ غلبت فارس الروم ففرح بذلك كفار مكة وقالوا‏:‏ الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم كتاب، وافتخروا على المسلمين وقالوا‏:‏ نحن أيضاً نغلبكم كما غلبت فارس الروم، وكان المسلمين يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب‏.‏

ومعنى ‏{‏فِي أَدْنَى الأرض‏}‏‏:‏ في أقرب أرضهم من أرض العرب، أو في أقرب أرض العرب منهم‏.‏ قيل‏:‏ هي أرض الجزيرة‏.‏ وقيل‏:‏ أذرعات‏.‏ وقيل‏:‏ كسكر‏:‏ وقيل‏:‏ الأدرن‏.‏ وقيل‏:‏ فلسطين، وهذه المواضع هي أقرب إلى بلاد العرب من غيرها، وإنما حملت الأرض على أرض العرب لأنها المعهود في ألسنتهم إذا أطلقوا الأرض أرادوا بها جزيرة العرب‏.‏ وقيل‏:‏ إن الألف واللام عوض عن المضاف إليه‏.‏ والتقدير‏:‏ في أدنى أرضهم فيعود الضمير إلى الروم، ويكون المعنى‏:‏ في أقرب أرض الروم من العرب‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ إن كانت الوقعة بأذرعات، فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة، وإن كانت الوقعة بالجزيرة، فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى، وإن كانت بالأردن، فهي أدنى إلى أرض الروم ‏{‏وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ‏}‏ أي والروم من بعد غلب فارس إياهم سيغلبون أهل فارس، والغلب والغلبة لغتان، والمصدر مضاف إلى المفعول على قراءة الجمهور، وإلى الفاعل على قراءة غيرهم‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏سيغلبون‏}‏ مبنياً للفاعل، وقرأ علي وأبو سعيد ومعاوية بن قرّة وابن عمر، وأهل الشام على البناء للمفعول، وسيأتي في آخر البحث ما يقوّي قراءة الجمهور في الموضعين‏.‏ وقرأ أبو حيوة الشامي وابن السميفع‏:‏ «من بعد غلبهم» بسكون اللام‏.‏

‏{‏فِي بِضْعِ سِنِينَ‏}‏ متعلق بما قبله، وقد تقدّم تفسير البضع واشتقاقه في سورة يوسف، والمراد به هنا ما بين الثلاثة إلى العشرة ‏{‏لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ‏}‏ أي هو المنفرد بالقدرة وإنقاذ الأحكام وقت مغلوبيتهم ووقت غالبيتهم، فكلّ ذلك بأمر الله سبحانه وقضائه، قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏من قبل ومن بعد‏}‏ بضمهما لكونهما مقطوعين عن الإضافة، والتقدير‏:‏ من قبل الغلب ومن بعده، أو من قبل كل أمر ومن بعده‏.‏ وحكى الكسائي «من قبل ومن بعدُ» بكسر الأوّل منوّناً وضم الثاني بلا تنوين‏.‏ وحكى الفراء «من قبلِ ومن بعدِ» بكسرهما من غير تنوين، وغلطه النحاس‏.‏

قال شهاب الدين‏:‏ قد قرئ بكسرهما منوّنين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى الآية‏:‏ من متقدّم ومن متأخر ‏{‏وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله‏}‏ أي يوم أن تغلب الروم على فارس في بضع سنين يفرح المؤمنون بنصر الله للروم لكونهم أهل كتاب كما أن المسلمين أهل كتاب، بخلاف فارس فإنه لا كتاب لهم، ولهذا سرّ المشركون بنصرهم على الروم‏.‏ وقيل‏:‏ نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس، والأوّل أولى‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذه الآية من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله لأنه إنباء بما سيكون، وهذا لا يعلمه إلاّ الله سبحانه ‏{‏يَنصُرُ مَن يَشَاء‏}‏ أن ينصره ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ الغالب القاهر ‏{‏الرحيم‏}‏ الكثير الرحمة لعباده المؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالرحمة هنا‏:‏ الدنيوية، وهي شاملة للمسلم والكافر‏.‏

‏{‏وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ‏}‏ أي‏:‏ وعد الله وعداً لا يخلفه، وهو ظهور الروم على فارس ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن الله لا يخلف وعده، وهم الكفار، وقيل‏:‏ كفار مكة على الخصوص‏.‏ ‏{‏يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا‏}‏ أي يعلمون ظاهر ما يشاهدونه من زخارف الدنيا وملاذها وأمر معاشهم وأسباب تحصيل فوائدهم الدنيوية‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما تلقيه الشياطين إليهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع‏.‏ وقيل‏:‏ الظاهر‏:‏ الباطل ‏{‏وَهُمْ عَنِ الآخرة‏}‏ التي هي النعمة الدائمة، واللذة الخالصة ‏{‏هُمْ غافلون‏}‏ لا يلتفتون إليها ولا يعدون لها ما يحتاج إليه، أو غافلون عن الإيمان بها والتصديق بمجيئها‏.‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ الله السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ الهمزة للإنكار عليهم، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره، و‏{‏في أنفسهم‏}‏ ظرف للتفكر وليس مفعولاً للتفكر والمعنى‏:‏ أن أسباب التفكر حاصلة لهم، وهي أنفسهم لو تفكروا فيها كما ينبغي لعلموا وحدانية الله وصدق أنبيائه‏.‏ وقيل‏:‏ إنها مفعول للتفكر‏.‏ والمعنى‏:‏ أو لم يتفكروا في خلق الله إياهم ولم يكونوا شيئاً‏؟‏ و«ما» في‏:‏ ‏{‏ما خلق الله‏}‏ نافية، أي لم يخلقها إلاّ بالحق الثابت الذي يحق ثبوته، أو هي اسم في محل نصب على إسقاط الخافض، أي بما خلق الله، والعامل فيها العلم الذي يؤدي إليه التفكر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ في الكلام حذف، أي فيعلموا، فجعل ‏"‏ ما ‏"‏ معمولة للفعل المقدّر لا للعلم المدلول‏:‏ عليه، والباء في‏:‏ ‏{‏إِلاَّ بالحق‏}‏ إما للسببية، أو هي ومجرورها في محل نصب على الحال، أي ملتبسة بالحق‏.‏ قال الفراء‏:‏ معناه‏:‏ إلاّ للحق، أي للثواب، والعقاب‏.‏ وقيل‏:‏ بالحق‏:‏ بالعدل‏.‏ وقيل‏:‏ بالحكمة‏.‏ وقيل‏:‏ بالحق، أي أنه هو الحق وللحق خلقها ‏{‏وَأَجَلٌ مُّسَمًّى‏}‏ معطوف على الحق، أي وبأجل مسمى للسماوات والأرض وما بينهما تنتهي إليه، وهو يوم القيامة، وفي هذا تنبيه على الفناء، وأن لكل مخلوق أجلاً لا يجاوزه‏.‏

وقيل‏:‏ معنى ‏{‏وَأَجَلٌ مُّسَمًّى‏}‏‏:‏ أنه خلق ما خلق في وقت سماه لخلق ذلك الشيء ‏{‏وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الناس بِلِقَاء رَبّهِمْ لكافرون‏}‏ أي لكافرون بالبعث بعد الموت، واللام هي المؤكدة، والمراد بهؤلاء‏:‏ الكفار على الإطلاق، أو كفار مكة‏.‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض‏}‏ الاستفهام للتقريع والتوبيخ لعدم تفكرهم في الآثار وتأملهم لمواقع الاعتبار، والفاء في‏:‏ ‏{‏فَيَنظُرُواْ‏}‏ للعطف على ‏{‏يسيروا‏}‏ داخل تحت ما تضمنه الاستفهام من التقريع والتوبيخ، والمعنى‏:‏ أنهم قد ساروا وشاهدوا ‏{‏كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ من طوائف الكفار الذين أهلكهم الله بسبب كفرهم بالله، وجحودهم للحق وتكذيبهم للرسل، وجملة‏:‏ ‏{‏كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً‏}‏ مبينة للكيفية التي كانوا عليها، وأنهم أقدر من كفار مكة ومن تابعهم على الأمور الدنيوية، ومعنى ‏{‏وَأَثَارُواْ الأرض‏}‏‏:‏ حرثوها وقلبوها للزراعة وزاولوا أسباب ذلك، ولم يكن أهل مكة أهل حرث ‏{‏وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا‏}‏ أي عمروها عمارة أكثر مما عمرها هؤلاء؛ لأن أولئك كانوا أطول منهم أعماراً، وأقوى أجساماً، وأكثر تحصيلاً لأسباب المعاش، فعمروا الأرض بالأبنية والزراعة والغرس ‏{‏وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم‏}‏ بالبينات، أي المعجزات‏.‏ وقيل‏:‏ بالأحكام الشرعية ‏{‏فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ‏}‏ بتعذيبهم على غير ذنب ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ بالكفر والتكذيب‏.‏

‏{‏ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين أَسَاءُواْ‏}‏ أي عملوا السيئات من الشرك والمعاصي ‏{‏السُوأَى‏}‏ هي فعلى من السوء ثأنيث الأسوأ، وهو‏:‏ الأقبح، أي كان عاقبتهم العقوبة التي هي أسوأ العقوبات‏.‏ وقيل‏:‏ هي اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة، ويجوز أن تكون مصدراً كالبشرى والذكرى، وصفت به العقوبة مبالغة‏.‏ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو‏:‏ «عاقبة» بالرفع على أنها اسم كان، وتذكير الفعل لكون تأنيثها مجازياً، والخبر السوأى، أي الفعلة أو الخصلة أو العقوبة السوأى أو الخبر ‏{‏أَن كَذَّبُواْ‏}‏ أي‏:‏ كان آخر أمرهم التكذيب، وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏عاقبة‏}‏ بالنصب على خبر كان، والاسم السوأى، أو أن كذبوا، ويكون التقدير‏:‏ ثم كان التكذيب عاقبة الذين أساؤوا، والسوأى مصدر أساؤوا، أو صفة لمحذوف‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏أَن كَذَّبُواْ‏}‏ في محل نصب على العلة، أي لأن كذبوا بآيات الله التي أنزلها على رسله، أو بأن كذبوا، ومن القائلين بأن السوأى‏:‏ جهنم، الفراء والزجاج وابن قتيبة وأكثر المفسرين، وسميت‏:‏ سوأى لكونها تسوء صاحبها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ ثم كان عاقبة الذين أشركوا النار بتكذيبهم آيات الله واستهزائهم، وجملة‏:‏ ‏{‏وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئونَ‏}‏ عطف على كذبوا، داخلة معه في حكم العلية على أحد القولين، أو في حكم الاسمية لكان، أو الخبرية لها على القول الآخر‏.‏

وقد أخرج أحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم، والطبراني في الكبير، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏الم * غُلِبَتِ الروم‏}‏ قال‏:‏ كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم، لأنهم كانوا أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أصحاب كتاب، فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«أما إنهم سيغلبون» فذكره أبو بكر لهم، فقالوا‏:‏ اجعل بيننا وبينك أجلاً فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل بينهم أجلاً خمس سنين فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ «ألا جعلته»- أراه قال-‏:‏ دون العشر، فظهرت الروم بعد ذلك، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏الم غُلِبَتِ الروم‏}‏ فغلبت، ثم غلبت بعد بقول الله‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله‏}‏ قال سفيان‏:‏ سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر‏.‏ وأخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن البراء بن عازب نحوه، وزاد‏:‏ أنه لما مضى الأجل ولم تغلب الروم فارس، ساء النبيّ ما جعله أبو بكر من المدّة وكرهه وقال‏:‏ «ما دعاك إلى هذا‏؟‏» قال‏:‏ تصديقاً لله ولرسوله فقال‏:‏ «تعرّض لهم وأعظم الخطة واجعله إلى بضع سنين»، فأتاهم أبو بكر فقال‏:‏ هل لكم في العود، فإن العود أحمد‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارس، وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا رومية، فقمر أبو بكر، فجاء به أبو بكر يحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ «هذا السحت تصدّق به»‏.‏ وأخرج الترمذي وصححه، والدارقطني في الأفراد، والطبراني وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل، والبيهقي في الشعب عن نيار ابن مكرم الأسلمي قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏الم * غُلِبَتِ الروم‏}‏ الآية كانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين الروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم، لأنهم وإياهم أهل الكتاب، وفي ذلك يقول الله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله‏}‏ وكانت قريش تحبّ ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا أهل كتاب ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة‏:‏ ‏{‏الم * غُلِبَتِ الروم فِي أَدْنَى الأرض وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ‏}‏ فقال ناس من قريش لأبي بكر‏:‏ ذلك بيننا وبينكم يزعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك‏؟‏ قال‏:‏ بلى، وذلك قبل تحريم الرهان، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان، وقالوا لأبي بكر‏:‏ لم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسم بيننا وبينك وسطاً ننتهي إليه، قال‏:‏ فسموا بينهم ستّ سنين، فمضت الستّ قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم، فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ستّ سنين؛ لأن الله قال‏:‏ ‏{‏فِي بِضْعِ سِنِينَ‏}‏ فأسلم عند ذلك ناس كثير‏.‏

وأخرج الترمذي وحسنه، وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر‏:‏ «لا احتطت يا أبا بكر، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع» وأخرج البخاري عنه في تاريخه نحوه‏.‏ وأخرج الفريابي، والترمذي وحسنه، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال‏:‏ لما كان يوم بدر ظهر الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين، فنزلت‏:‏ «الم * غُلِبَتِ الروم» قرأها بالنصب يعني للغين على البناء للفاعل إلى قوله‏:‏ ‏{‏يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله‏}‏‏.‏ قال‏:‏ ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس، وهذه الرواية مفسرة لقراءة أبي سعيد ومن معه‏.‏

وأخرج الحاكم وصححه عن أبي الدرداء قال‏:‏ سيجيء أقوام يقرؤون‏:‏ «الم * غَلِبَتِ الروم» يعني‏:‏ بفتح الغين، وإنما هي ‏{‏غلبت‏}‏‏:‏ يعني‏:‏ بضمها، وفي الباب روايات وما ذكرناه يغني عما سواه‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا‏}‏ يعني‏:‏ معايشهم، متى يغرسون‏؟‏ ومتى يزرعون‏؟‏ ومتى يحصدون‏؟‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله‏:‏ ‏{‏كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً‏}‏ قال‏:‏ كان الرجل ممن كان قبلكم بين منكبيه ميل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 27‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏13‏)‏ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ‏(‏15‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ‏(‏16‏)‏ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ‏(‏17‏)‏ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ‏(‏18‏)‏ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ‏(‏19‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ‏(‏20‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ‏(‏22‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏23‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏24‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ‏(‏25‏)‏ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ‏(‏26‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ أي يخلقهم أوّلاً، ثم يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ إلى موقف الحساب، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيئ بإساءته، وأفرد الضمير في‏:‏ ‏{‏يعيده‏}‏ باعتبار لفظ الخلق، وجمعه في‏:‏ ‏{‏ترجعون‏}‏ باعتبار معناه‏.‏ قرأ أبو بكر وأبو عمرو‏:‏ ‏"‏ يرجعون ‏"‏ بالتحتية‏.‏ وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب والالتفات المؤذن بالمبالغة‏.‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يبلس‏}‏ على البناء للفاعل‏.‏ وقرأ السلمي على البناء للمفعول، يقال‏:‏ أبلس الرجل‏:‏ إذا سكت وانقطعت حجته‏.‏ قال الفراء والزجاج‏:‏ المبلس‏:‏ الساكت المنقطع في حجته الذي أيس أن يهتدي إليها، ومنه قول العجاج‏:‏

يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا *** قال‏:‏ نعم أعرفه وأبلسا

وقال الكلبي‏:‏ أي‏:‏ يئس المشركون من كل خير حين عاينوا العذاب، وقد قدّمنا تفسير الإبلاس عند قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 44‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء‏}‏ أي لم يكن للمشركين يوم تقوم الساعة من شركائهم الذين عبدوهم من دون الله شفعاء يجيرونهم من عذاب الله ‏{‏وَكَانُواْ‏}‏ في ذلك الوقت ‏{‏بِشُرَكَائِهِمْ‏}‏ أي بآلهتهم الذين جعلوهم شركاء لله ‏{‏كافرين‏}‏ أي‏:‏ جاحدين لكونهم آلهة؛ لأنهم علموا إذ ذاك أنهم لا ينفعون ولا يضرون وقيل‏:‏ إن معنى الآية‏:‏ كانوا في الدنيا كافرين بسبب عبادتهم، والأوّل أولى‏.‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ‏}‏ أي يتفرّق جميع الخلق المدلول عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏الله يَبْدَأُ الخلق‏}‏ والمراد بالتفرّق‏:‏ أن كل طائفة تنفرد، فالمؤمنون يصيرون إلى الجنة، والكافرون إلى النار، وليس المراد تفرّق كلّ فرد منهم عن الآخر، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 7‏]‏ وذلك بعد تمام الحساب، فلا يجتمعون أبداً‏.‏

ثم بيّن سبحانه كيفية تفرّقهم، فقال‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ‏}‏ قال النحاس‏:‏ سمعت الزجاج يقول‏:‏ معنى «أما»‏:‏ دع ما كنا فيه، وخذ في غيره، وكذا قال سيبويه‏:‏ إن معناها‏:‏ مهما يكن من شيء فخذ في غير ما كنا فيه‏.‏ والروضة كل أرض ذات نبات‏.‏ قال المفسرون‏:‏ والمراد بها هنا‏:‏ الجنة، ومعنى ‏{‏يحبرون‏}‏‏:‏ يسرون، والحبور والحبرة‏:‏ السرور، أي فهم في رياض الجنة ينعمون‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ الروضة ما كان في سفل، فإذا كان مرتفعاً فهو‏:‏ ترعة‏.‏ وقال غيره‏:‏ أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في مكان مرتفع، ومنه قول الأعشى‏:‏

ما روضة من رياض الحزن معشبة *** خضراء جاد عليها مسبل هطل

وقيل‏:‏ معنى ‏{‏يحبرون‏}‏‏:‏ يكرمون‏.‏ قال النحاس‏:‏ حكى الكسائي حبرته، أي أكرمته، ونعمته، والأولى تفسير يحبرون بالسرور كما هو المعنى العربيّ، ونفس دخول الجنة يستلزم الإكرام والنعيم، وفي السرور زيادة على ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ التحبير التحسين، فمعنى ‏{‏يحبرون‏}‏ يحسن إليهم، وقيل‏:‏ هو السماع الذي يسمعونه في الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ غير ذلك، والوجه ما ذكرناه‏.‏ ‏{‏وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ‏}‏ بالله ‏{‏وَكَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ وكذبوا ب ‏{‏لِقَاء الآخرة‏}‏ أي البعث والجنة والنار، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏فأولئك‏}‏ إلى المتصفين بهذه الصفات، وهو مبتدأ وخبره‏:‏ ‏{‏فِي العذاب مُحْضَرُونَ‏}‏ أي مقيمون فيه‏.‏ وقيل‏:‏ مجموعون‏.‏ وقيل‏:‏ نازلون‏.‏ وقيل‏:‏ معذبون، والمعاني متقاربة، والمراد دوام عذابهم‏.‏

ثم لما بيّن عاقبة طائفة المؤمنين وطائفة الكافرين أرشد المؤمنين إلى ما فيه الأجر الوافر، والخير العام فقال‏:‏ ‏{‏فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ‏}‏ والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي‏:‏ فإذا علمتم ذلك فسبحوا الله، أي نزهوه عما لا يليق به في وقت الصباح والمساء وفي العشي، وفي وقت الظهيرة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالتسبيح هنا الصلوات الخمس‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏حين تمسون‏}‏‏:‏ صلاة المغرب والعشاء، وقوله‏:‏ ‏{‏وحين تصبحون‏}‏‏:‏ صلاة الفجر، وقوله‏:‏ ‏{‏وعشيا‏}‏ صلاة العصر، وقوله‏:‏ ‏{‏وحين تظهرون‏}‏‏:‏ صلاة الظهر، وكذا قال الضحاك وسعيد بن جبير وغيرهما‏.‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ إن معنى ‏{‏فسبحان الله‏}‏‏:‏ فصلوا لله‏.‏ قال النحاس‏:‏ أهل التفسير على أن هذه الآية في الصلوات قال‏:‏ وسمعت محمد بن يزيد يقول‏:‏ حقيقته عندي‏:‏ فسبحوا الله في الصلوات؛ لأن التسبيح يكون في الصلاة‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الحمد فِي السموات والأرض‏}‏ معترضة مسوقة للإرشاد إلى الحمد، والإيذان بمشروعية الجمع بينه وبين التسبيح كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 98‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏وله الحمد‏}‏ أي الاختصاص له بالصلاة التي يقرأ فيها الحمد، والأول أولى‏.‏ وقرأ عكرمة‏:‏ «حينا تمسون وحينا تصبحون»، والمعنى‏:‏ حينا تمسون فيه، وحينا تصبحون فيه‏.‏ والعشيّ‏:‏ من صلاة المغرب إلى العتمة‏.‏ قاله الجوهري، وقال قوم‏:‏ هو من زوال الشمس إلى طلوع الفجر، ومنه قول الشاعر‏:‏

غدونا غدوة سحرا بليل *** عشيا بعد ما انتصف النهار

وقوله‏:‏ ‏{‏عشيا‏}‏ معطوف على حين ‏{‏وفي السماوات‏}‏ متعلق بنفس الحمد، أي الحمد له يكون في السماوات والأرض ‏{‏يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت‏}‏ كالإنسان من النطفة والطير من البيضة ‏{‏وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي‏}‏ كالنطفة والبيضة من الحيوان‏.‏ وقد سبق بيان هذا في سورة آل عمران‏.‏ وقيل‏:‏ ووجه تعلق هذه الآية بالتي قبلها أن الإنسان عند الصباح يخرج من شبه الموت وهو النوم إلى شبه الوجود وهو اليقظة، وعند العشاء يخرج من اليقظة إلى النوم ‏{‏وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ أي يحييها بالنبات بعد موتها باليباس، وهو شبيه بإخراج الحيّ من الميت ‏{‏وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ‏}‏ أي ومثل ذلك الإخراج تخرجون من قبوركم‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تخرجون‏}‏ على البناء للمفعول‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي على البناء للفاعل، فأسند الخروج إليهم كقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 43‏]‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ‏}‏ أي من آياته الباهرة الدالة على البعث أن خلقكم، أي خلق أباكم آدم من تراب، وخلقكم في ضمن خلقه؛ لأن الفرع مستمد من الأصل ومأخوذ منه، وقد مضى تفسير هذا في الأنعام، و‏"‏ أن ‏"‏ في موضع رفع بالابتداء، و‏{‏من آياته‏}‏ خبره ‏{‏ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ‏}‏ ‏"‏ إذا ‏"‏ هي الفجائية، أي ثم فاجأتم بعد ذلك وقت كونكم بشراً تنتشرون في الأرض‏.‏

وإذا الفجائية، وإن كانت أكثر ما تقع بعد الفاء، لكنها وقعت هنا بعد ثم بالنسبة إلى ما يليق بهذه الحالة الخاصة، وهي أطوار الإنسان كما حكاه الله في مواضع‏:‏ من كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً مكسوّاً لحماً فاجأ البشرية، والانتشار، ومعنى ‏{‏تنتشرون‏}‏‏:‏ تنصرفون فيما هو قوام معايشكم‏.‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا‏}‏ أي ومن علاماته ودلالاته الدالة على البعث أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً، أي من جنسكم في البشرية والإنسانية‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ حوّاء، فإنه خلقها من ضلع آدم ‏{‏لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا‏}‏ أي تألفوها وتميلوا إليها، فإن الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر ولا يميل قلبه إليه ‏{‏وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً‏}‏ أي وداداً وتراحماً بسبب عصمة النكاح يعطف به بعضكم على بعض من غير أن يكون بينكم قبل ذلك معرفة، فضلاً عن مودّة ورحمة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المودّة‏:‏ الجماع، والرحمة الولد، وبه قال الحسن‏.‏ وقال السديّ‏:‏ المودّة‏:‏ المحبة، والرحمة‏:‏ الشفقة‏.‏ وقيل‏:‏ المودّة حبّ الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها من أن يصيبها بسوء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أن خلق لكم‏}‏ في موضع رفع على الابتداء، و‏{‏من آياته‏}‏ خبره ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ‏}‏ المذكور سابقاً‏.‏ ‏{‏لآيَاتٍ‏}‏ عظيمة الشأن بديعة البيان واضحة الدلالة على قدرته سبحانه على البعث والنشور ‏{‏لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏، لأنهم الذين يقتدرون على الاستدلال لكون التفكر مادّة له يتحصل عنه، وأما الغافلون عن التفكر فما هم إلاّ كالأنعام‏.‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السموات والأرض‏}‏ فإن من خلق هذه الأجرام العظيمة، التي هي أجرام السماوات والأرض، وجعلها باقية ما دامت هذه الدار، وخلق فيها من عجائب الصنع وغرائب التكوين، ما هو عبرة للمعتبرين، قادر على أن يخلقكم بعد موتكم وينشركم من قبوركم ‏{‏واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ‏}‏ أي لغاتكم من عرب وعجم، وترك، وروم، وغير ذلك من اللغات ‏{‏وألوانكم‏}‏ من البياض، والسواد، والحمرة، والصفرة، والزرقة، والخضرة مع كونكم أولاد رجل واحد وأم واحدة، ويجمعكم نوع واحد وهو الإنسانية، وفصل واحد وهو الناطقية، حتى صرتم متميزين في ذات بينكم لا يلتبس هذا بهذا، بل في كل فرد من أفرادكم ما يميزه عن غيره من الأفراد، وفي هذا من بديع القدرة ما لا يعقله إلاّ العالمون، ولا يفهمه إلاّ المتفكرون ‏{‏إِنَّ فِي ذلك لآيات للعالمين‏}‏ الذين هم من جنس هذا العالم من غير فرق بين برّ وفاجر، قرأ الجمهور بفتح لام العالمين، وقرأ حفص وحده بكسرها‏.‏

قال الفراء‏:‏ وله وجه جيد لأنه قد قال‏:‏ ‏{‏لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏{‏لآيات لأُوْلِي الألباب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 190‏]‏ ‏{‏وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 43‏]‏‏.‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته مَنَامُكُم باليل والنهار وابتغاؤكم مّن فَضْلِهِ‏}‏ قيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير‏:‏ ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى صحيح من دون تقديم وتأخير، أي ومن آياته العظيمة أنكم تنامون بالليل، وتنامون بالنهار في بعض الأحوال للاستراحة كوقت القيلولة، وابتغاؤكم من فضله فيهما، فإن كل واحد منهما يقع فيه ذلك، وإن كان ابتغاء الفضل في النهار أكثر‏.‏ والأوّل هو المناسب لسائر الآيات الواردة في هذا المعنى، والآخر هو المناسب للنظم القرآني ها هنا‏.‏ ووجه ذكر النوم والابتغاء ها هنا، وجعلهما من جملة الأدلة على البعث‏:‏ أن النوم شبيه بالموت، والتصرّف في الحاجات والسعي في المكاسب شبيه بالحياة بعد الموت ‏{‏إِنَّ فِي ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ‏}‏ أي يسمعون الآيات والمواعظ سماع متفكّر متدبر، فيستدلون بذلك على البعث ‏{‏وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً‏}‏ المعنى‏:‏ أن يريكم، فحذف ‏"‏ أن ‏"‏ لدلالة الكلام عليه كما قال طرفة‏:‏

ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى *** وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي‏؟‏

والتقدير‏:‏ أن أحضر، فلما حذف الحرف في الآية والبيت بطل عمله، ومنه المثل المشهور‏:‏ «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» وقيل‏:‏ هو على التقديم، والتأخير، أي ويريكم البرق من آياته، فيكون من عطف جملة فعلية على جملة اسمية، ويجوز أن يكون ‏{‏يريكم‏}‏ صفة لموصوف محذوف، أي ومن آياته آية يريكم بها، وفيها البرق، وقيل‏:‏ التقدير، ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً من آياته‏.‏ قال الزجاج‏:‏ فيكون من عطف جملة على جملة‏.‏ قال قتادة‏:‏ خوفاً للمسافر، وطمعاً للمقيم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ خوفاً من الصواعق، وطمعاً في الغيث‏.‏ وقال يحيى بن سلام‏:‏ خوفاً من البرد أن يهلك الزرع، وطمعاً في المطر أن يحيي الزرع‏.‏ وقال ابن بحر‏:‏ خوفاً أن يكون البرق برقاً خلباً لا يمطر، وطمعاً أن يكون ممطراً، وأنشد‏:‏

لا يكن برقك برقاً خلبا *** إن خير البرق ما الغيث معه

وانتصاب ‏{‏خوفاً‏}‏ و‏{‏طمعاً‏}‏ على العلة ‏{‏وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مَاء فَيُحْىِ بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ أي يحييها بالنبات بعد موتها باليباس ‏{‏إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ فإن من له نصيب من العقل يعلم أن ذلك آية يستدلّ بها على القدرة الباهرة‏.‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته أَن تَقُومَ السماء والأرض بِأَمْرِهِ‏}‏ أي قيامهما واستمساكهما بإرادته سبحانه وقدرته بلا عمد يعمدها، ولا مستقرّ يستقران عليه‏.‏ قال الفراء‏:‏ يقول‏:‏ أن تدوما قائمتين بأمره ‏{‏ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الأرض إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ‏}‏ أي ثم بعد موتكم ومصيركم في القبور، إذا دعاكم دعوة واحدة فاجأتم الخروج منها بسرعة، من غير تلبث ولا توقف، كما يجيب المدعو المطيع دعوة الداعي المطاع‏.‏

و ‏{‏من الأرض‏}‏ متعلق ب «دعا»، أي دعاكم من الأرض التي أنتم فيها، كما يقال‏:‏ دعوته من أسفل الوادي فطلع إليّ، أو متعلق بمحذوف هو صفة لدعوة، أو متعلق بمحذوف يدلّ عليه تخرجون، أي خرجتم من الأرض، ولا يجوز أن يتعلق ب ‏{‏تخرجون‏}‏؛ لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها، وهذه الدعوة هي نفخة إسرافيل الآخرة في الصور على ما تقدّم بيانه، وقد أجمع القراء على فتح التاء في ‏{‏تخرجون‏}‏ هنا، وغلط من قال إنه قرئ هنا بضمها على البناء للمفعول، وإنما قرئ بضمها في الأعراف‏.‏

‏{‏وَلَهُ مَن فِي السموات والأرض‏}‏ من جميع المخلوقات ملكاً وتصرّفاً وخلقاً، ليس لغيره في ذلك شيء ‏{‏كُلٌّ لَّهُ قانتون‏}‏ أي مطيعون طاعة انقياد‏.‏ وقيل‏:‏ مقرّون بالعبودية‏.‏ وقيل‏:‏ مصلون‏.‏ وقيل‏:‏ قائمون يوم القيامة كقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 6‏]‏ أي للحساب‏.‏ وقيل‏:‏ بالشهادة أنهم عباده‏.‏ وقيل‏:‏ مخلصون ‏{‏وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ بعد الموت فيحييه الحياة الدائمة ‏{‏وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ أي هين عليه لا يستصعبه، أو أهون عليه بالنسبة إلى قدرتكم، وعلى ما يقوله بعضكم لبعض، وإلاّ فلا شيء في قدرته بعضه أهون من بعض، بل كل الأشياء مستوية يوجدها بقوله‏:‏ كن فتكون‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ من جعل أهون عبارة عن تفضيل شيء على شيء، فقوله مردود بقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 30‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ والعرب تحمل أفعل على فاعل كثيراً، كما في قول الفرزدق‏:‏

إن الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتاً دعائمه أعزّ وأطول

أي عزيزة طويلة، وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب على ذلك‏:‏

تمنى رجال أن أموت وإن أمت *** فتلك سبيل لست فيها بأوحد

أي لست بواحد، ومثله قول الآخر‏:‏

لعمرك إن الزبرقان لباذل *** لمعروفه عند السنين وأفضل

أي وفاضل، وقرأ عبد الله بن مسعود‏:‏ «وهو عليه هين»‏.‏ وقال مجاهد وعكرمة والضحاك‏:‏ إن الإعادة أهون عليه، أي على الله من البداية، أي أيسر، وإن كان جميعه هيناً‏.‏ وقيل‏:‏ المراد أن الإعادة فيما بين الخلق أهون من البداية، وقيل‏:‏ الضمير في‏:‏ ‏{‏عليه‏}‏ للخلق، أي وهو أهون على الخلق؛ لأنه يصاح بهم صيحة واحدة فيقومون، ويقال لهم‏:‏ كونوا فيكونون، فلذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى آخر النشأة ‏{‏وَلَهُ المثل الأعلى‏}‏ قال الخليل‏:‏ المثل الصفة، أي وله الوصف الأعلى ‏{‏فِي السموات والأرض‏}‏ كما قال‏:‏

‏{‏مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 35‏]‏ أي صفتها‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المثل الأعلى قول‏:‏ لا إله إلاّ الله، وبه قال قتادة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏وَلَهُ المثل الأعلى فِي السموات والأرض‏}‏ أي قوله‏:‏ ‏{‏وهو أهون عليه‏}‏ قد ضربه لكم مثلاً فيما يصعب ويسهل‏.‏ وقيل‏:‏ المثل الأعلى هو أنه ليس كمثله شيء، وقيل‏:‏ هو أن ما أراده كان بقول‏:‏ كن، و‏{‏في السماوات والأرض‏}‏ متعلق بمضمون الجملة المتقدّمة، والمعنى‏:‏ أنه سبحانه عرف بالمثل الأعلى، ووصف به في السماوات والأرض، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الأعلى، أو المثل، أو من الضمير في الأعلى ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ في ملكه، القادر الذي لا يغالب ‏{‏الحكيم‏}‏ في أقواله وأفعاله‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يُبْلِسُ‏}‏ قال‏:‏ يبتئس‏.‏ وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم‏:‏ ‏{‏يُبْلِسُ‏}‏ قال‏:‏ يكتئب، وعنه‏:‏ الإبلاس‏:‏ الفضيحة‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يُحْبَرُونَ‏}‏ قال‏:‏ يكرمون‏.‏ وأخرج الديلمي عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا كان يوم القيامة قال الله‏:‏ أين الذين كانوا ينزّهون أسماعهم، وأبصارهم عن مزامير الشيطان‏؟‏ ميزوهم، فيميزون في كثب المسك والعنبر؛ ثم يقول للملائكة‏:‏ أسمعوهم من تسبيحي وتحميدي وتهليلي، قال‏:‏ فيسبحون بأصوات لم يسمع السامعون بمثلها قط» وأخرج الدينوري في المجالسة عن مجاهد قال‏:‏ ينادي مناد يوم القيامة‏.‏‏.‏‏.‏ فذكر نحوه، ولم يسمّ من رواه له عن رسول الله‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي، والأصبهاني في الترغيب عن محمد بن المنكدر نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا والضياء المقدسي كلاهما في صفة الجنة، قال السيوطي‏:‏ بسند صحيح، عن ابن عباس قال‏:‏ «في الجنة شجرة على ساق قدر ما يسير الراكب المجدّ في ظلها مائة عام، فيخرج أهل الجنة أهل الغرف، وغيرهم فيتحدّثون في ظلها، فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا، فيرسل الله ريحاً من الجنة فتحرّك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا» وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه‏.‏

وأخرج الفريابي وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ «كل تسبيح في القرآن فهو صلاة» وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، والحاكم وصححه عن أبي رزين قال‏:‏ جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس، فقال‏:‏ هل تجد الصلوات الخمس في القرآن‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فقرأ‏:‏ ‏{‏فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ‏}‏‏:‏ صلاة المغرب ‏{‏وَحِينَ تُصْبِحُونَ‏}‏‏:‏ صلاة الصبح ‏{‏وَعَشِيّاً‏}‏‏:‏ صلاة العصر ‏{‏وَحِينَ تُظْهِرُونَ‏}‏‏:‏ صلاة الظهر، وقرأ‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ صلاة العشاء‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 58‏]‏‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عنه قال‏:‏ جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة‏:‏ ‏{‏فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ‏}‏ قال‏:‏ المغرب والعشاء ‏{‏وَحِينَ تُصْبِحُونَ‏}‏‏:‏ الفجر ‏{‏وَعَشِيّاً‏}‏‏:‏ العصر ‏{‏وَحِينَ تُظْهِرُونَ‏}‏‏:‏ الظهر‏.‏

وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني في عمل يوم وليلة، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدعوات عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفّى‏؟‏ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى‏:‏ سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون‏.‏ وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون» وفي إسناده ابن لهيعة‏.‏ وأخرج أبو داود والطبراني وابن السني وابن مردويه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من قال حين يصبح‏:‏ ‏{‏سبحان الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الحمد فِي السموات والأرض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَيُحْييِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ‏}‏ أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته» وإسناده ضعيف‏.‏

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كُلٌّ لَّهُ قانتون‏}‏ يقول‏:‏ مطيعون‏:‏ يعني‏:‏ الحياة والنشور والموت وهم له عاصون فيما سوى ذلك من العبادة‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ قال‏:‏ أيسر‏.‏ وأخرج ابن الأنباري عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ قال‏:‏ الإعادة أهون على المخلوق، لأنه يقول له يوم القيامة‏:‏ كن فيكون، وابتدأ الخلقة من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ المثل الأعلى‏}‏ يقول‏:‏ ليس كمثله شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 37‏]‏

‏{‏ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏28‏)‏ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏29‏)‏ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏30‏)‏ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏31‏)‏ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏32‏)‏ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏33‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏34‏)‏ أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ‏(‏35‏)‏ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ‏(‏36‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً‏}‏ قد تقدّم تحقيق معنى المثل، و‏"‏ من ‏"‏ في‏:‏ ‏{‏مّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏ لابتداء الغاية وهي ومجرورها في محلّ نصب صفة لمثلاً، أي مثلاً منتزعاً، ومأخوذاً من أنفسكم، فإنها أقرب شيء منكم، وأبين من غيرها عندكم، فإذا ضرب لكم المثل بها في بطلان الشرك كان أظهر دلالة وأعظم وضوحاً‏.‏ ثم بين المثل المذكور فقال‏:‏ ‏{‏هَلْ لَّكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء فِى مَا رزقناكم‏}‏‏.‏ «من» في ‏{‏مما ملكت‏}‏ للتبعيض، وفي‏:‏ ‏{‏من شركاء‏}‏ زائدة للتأكيد، والمعنى‏:‏ هل لكم شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكت أيمانكم‏؟‏ وهم‏:‏ العبيد والإماء، والاستفهام للإنكار، وجملة‏:‏ ‏{‏فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء‏}‏ جواب للاستفهام الذي بمعنى النفي، ومحققه لمعنى الشركة بينهم وبين العبيد والإماء المملوكين لهم في أموالهم، أي هل ترضون لأنفسكم- والحال أن عبيدكم وإماءكم أمثالكم في البشرية- أن يساووكم في التصرّف بما رزقناكم من الأموال، ويشاركوكم فيها من غير فرق بينكم وبينهم‏؟‏ ‏{‏تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ الكاف نعت مصدر محذوف، أي تخافونهم خيفة كخيفتكم أنفسكم، أي كما تخافون الأحرار المشابهين لكم في الحرية وملك الأموال وجواز التصرف، والمقصود نفي الأشياء الثلاثة‏:‏ الشركة بينهم وبين المملوكين، والاستواء معهم، وخوفهم إياهم‏.‏ وليس المراد ثبوت الشركة ونفي الاستواء والخوف كما قيل في قولهم‏:‏ ما تأتينا فتحدّثنا‏.‏ والمراد‏:‏ إقامة الحجة على المشركين فإنهم لا بدّ أن يقولوا‏:‏ لا نرضى بذلك، فيقال لهم‏:‏ فكيف تنزّهون أنفسكم عن مشاركة المملوكين لكم وهم أمثالكم في البشرية، وتجعلون عبيد الله شركاء له‏؟‏ فإذا بطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة؛ بطلت الشركة بين الله وبين أحد من خلقه، والخلق كلهم عبيد الله تعالى، ولم يبق إلاّ أنه الربّ وحده لا شريك له‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏أنفسكم‏}‏ بالنصب على أنه معمول المصدر المضاف إلى فاعله، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على إضافة المصدر إلى مفعوله ‏{‏كذلك نُفَصّلُ الآيات‏}‏ تفصيلاً واضحاً وبياناً جلياً ‏{‏لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ لأنهم الذين ينتفعون بالآيات التنزيلية والتكوينية باستعمال عقولهم في تدبرها والتفكر فيها‏.‏

ثم أضرب سبحانه عن مخاطبة المشركين وإرشادهم إلى الحق بما ضربه لهم من المثل، فقال‏:‏ ‏{‏بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ أي لم يعقلوا الآيات، بل اتبعوا أهواءهم الزائغة، وآراءهم الفاسدة الزائفة، ومحل ‏{‏بغير علم‏}‏ النصب على الحال، أي جاهلين بأنهم على ضلالة ‏{‏فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله‏}‏ أي لا أحد يقدر على هدايته؛ لأن الرشاد والهداية بتقدير الله وإرادته ‏{‏وَمَا لَهُم مّن ناصرين‏}‏ أي ما لهؤلاء الذين أضلهم الله من ناصرين ينصرونهم، ويحولون بينهم وبين عذاب الله سبحانه‏.‏

ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتوحيده وعبادته كما أمره فقال‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً‏}‏ شبه الإقبال على الدين بتقويم وجهه إليه، وإقباله عليه‏.‏ وانتصاب ‏{‏حنيفاً‏}‏ على الحال من فاعل أقم أو من مفعوله، أي مائلاً إليه مستقيماً عليه غير ملتفت إلى غيره من الأديان الباطلة‏.‏

‏{‏فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا‏}‏ الفطرة في الأصل‏:‏ الخلقة، والمراد بها هنا‏:‏ الملة، وهي الإسلام والتوحيد‏.‏ قال الواحدي‏:‏ هذا قول المفسرين في فطرة الله، والمراد بالناس هنا‏:‏ الذين فطرهم الله على الإسلام؛ لأن المشرك لم يفطر على الإسلام، وهذا الخطاب وإن كان خاصاً برسول الله فأمته داخلة معه فيه‏.‏ قال القرطبي باتفاق من أهل التأويل‏:‏ والأولى حمل الناس على العموم من غير فرق بين مسلمهم وكافرهم، وأنهم جميعاً مفطورون على ذلك لولا عوارض تعرض لهم فيبقون بسببها على الكفر كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة» وفي رواية‏:‏ «على هذه الملة- ولكن أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء‏؟‏» ثم يقول أبو هريرة‏:‏ واقرؤوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله‏}‏‏.‏ وفي رواية «حتى تكونوا أنتم تجدعونها» وسيأتي في آخر البحث ما ورد معاضداً لحديث أبي هريرة هذا، فكل فرد من أفراد الناس مفطور، أي مخلوق على ملة الإسلام، ولكن لا اعتبار بالإيمان والإسلام الفطريين، وإنما يعتبر الإيمان والإسلام الشرعيان، وهذا قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم، وقول جماعة من المفسرين، وهو‏:‏ الحق‏.‏ والقول بأن المراد بالفطرة هنا‏:‏ الإسلام هو مذهب جمهور السلف‏.‏ وقال آخرون‏:‏ هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها، فإنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة‏.‏ والفاطر في كلام العرب هو المبتدئ، وهذا مصير من القائلين به إلى معنى الفطرة لغة، وإهمال معناها شرعاً‏.‏ والمعنى الشرعيّ مقدّم على المعنى اللغوي باتفاق أهل الشرع، ولا ينافي ذلك ورود الفطرة في الكتاب أو السنة في بعض المواضع مراداً بها المعنى اللغوي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ فَاطِرِ السموات والأرض‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 1‏]‏ أي خالقهما، ومبتديهما، وكقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 22‏]‏ إذ لا نزاع في أن المعنى اللغوي هو هذا، ولكن النزاع في المعنى الشرعي للفطرة، وهو ما ذكره الأوّلون كما بيناه، وانتصاب ‏{‏فطرة‏}‏ على أنها مصدر مؤكد للجملة التي قبلها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ فطرة منصوب بمعنى‏:‏ اتبع فطرة الله، قال‏:‏ لأن معنى ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ‏}‏‏:‏ اتبع الدين واتبع فطرة الله‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ هي مصدر من معنى ‏{‏فأقم وجهك‏}‏ لأن معنى ذلك‏:‏ فطرة الله الناس على الدين‏.‏

وقيل‏:‏ هي منصوبة على الإغراء، أي الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله، وردّ هذا الوجه أبو حيان وقال‏:‏ إن كلمة الإغراء لا تضمر إذ هي عوض عن الفعل، فلو حذفها لزم حذف العوض، والمعوّض عنه وهو إجحاف‏.‏ وأجيب بأن هذا رأي البصريين، وأما الكسائي وأتباعه فيجيزون ذلك‏.‏

وجملة ‏{‏لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله‏}‏ تعليل لما قبلها من الأمر بلزوم الفطرة، أي هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لها من جهة الخالق سبحانه‏.‏ وقيل‏:‏ هو نفي معناه النهي، أي لا تبدّلوا خلق الله‏.‏ قال مجاهد وإبراهيم النخعي‏:‏ معناه‏:‏ لا تبديل لدين الله‏.‏ قال قتادة وابن جبير والضحاك وابن زيد‏:‏ هذا في المعتقدات‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ إن المعنى‏:‏ لا تغيير لخلق في البهائم بأن تخصى فحولها ‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏ أي ذلك الدين المأمور بإقامة الوجه له هو الدين القيم، أو لزوم الفطرة هو الدين القيم ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك حتى يفعلوه ويعملوا به‏.‏ ‏{‏مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ‏}‏ أي راجعين إليه بالتوبة والإخلاص، ومطيعين له في أوامره ونواهيه‏.‏ ومنه قول أبي قيس بن الأسلت‏:‏

فإن تابوا فإن بني سليم *** وقومهم هوازن قد أنابوا

قال الجوهري‏:‏ أناب إلى الله‏:‏ أقبل وتاب، وانتصابه على الحال من فاعل أقم‏.‏ قال المبرد‏:‏ لأن معنى ‏{‏أقم وجهك‏}‏‏:‏ أقيموا وجوهكم‏.‏ قال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ فأقم وجهك ومن معك منيبين، وكذا قال الزجاج، وقال‏:‏ تقديره‏:‏ فأقم وجهك وأمتك، فالحال من الجميع‏.‏ وجاز حذف المعطوف لدلالة منيبين عليه‏.‏ وقيل‏:‏ هو منصوب على القطع، وقيل‏:‏ على أنه خبر لكان، محذوفة، أي وكونوا منيبين إليه لدلالة ‏{‏ولا تكونوا من المشركين‏}‏ على ذلك، ثم أمرهم سبحانه بالتقوى بعد أمرهم بالإنابة فقال‏:‏ ‏{‏واتقوه‏}‏ أي باجتناب معاصيه، وهو معطوف على الفعل المقدر ناصباً لمنيبين ‏{‏وَأَقِيمُواْ الصلاة‏}‏ التي أمرتم بها ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين‏}‏ بالله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً‏}‏ هو بدل مما قبله بإعادة الجار، والشيع‏:‏ الفرق، أي لا تكونوا من الذين تفرقوا فرقاً في الدين يشايع بعضهم بعضاً من أهل البدع والأهواء‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالذين فرّقوا دينهم شيعاً‏:‏ اليهود والنصارى‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ «فارقوا دينهم» ورويت هذه القراءة عن علي بن أبي طالب، أي فارقوا دينهم الذي يجب اتباعه، وهو التوحيد‏.‏ وقد تقدّم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنعام ‏{‏كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ أي كل فريق بما لديهم من الدين المبني على غير الصواب مسرورون مبتهجون يظنون أنهم على الحق، وليس بأيديهم منه شيء‏.‏ وقال الفراء‏:‏ يجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً‏}‏ مستأنفاً كما يجوز أن يكون متصلاً بما قبله ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ‏}‏ أي قحط وشدّة ‏{‏دَعَوْاْ رَبَّهُمْ‏}‏ أن يرفع ذلك عنهم واستغاثوا به ‏{‏مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ‏}‏ أي راجعين إليه ملتجئين به لا يعوّلون على غيره‏.‏

وقيل‏:‏ مقبلين عليه بكل قلوبهم ‏{‏ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً‏}‏ بإجابة دعائهم ورفع تلك الشدائد عنهم ‏{‏إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏"‏ إذا ‏"‏ هي الفجائية وقعت جواب الشرط لأنها كالفاء في إفادة التعقيب، أي فاجأ فريق منهم الإشراك وهم الذين دعوه، فخلصهم مما كانوا فيه‏.‏ وهذا الكلام مسوق للتعجيب من أحوالهم وما صاروا عليه من الاعتراف بوحدانية الله سبحانه عند نزول الشدائد والرجوع إلى الشرك عند رفع ذلك عنهم، واللام في ‏{‏لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم‏}‏ هي لام كي‏.‏ وقيل‏:‏ لام الأمر لقصد الوعيد والتهديد، وقيل‏:‏ هي لام العاقبة‏.‏ ثم خاطب سبحانه هؤلاء الذين وقع منهم ما وقع فقال‏:‏ ‏{‏فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ما يتعقب هذا التمتع الزائل من العذاب الأليم‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فتمتعوا‏}‏ على الخطاب‏.‏ وقرأ أبو العالية بالتحتية على البناء للمفعول، وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «فليتمتعوا»‏.‏

‏{‏أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا‏}‏ أم هي المنقطعة، والاستفهام للإنكار والسلطان الحجة الظاهرة ‏{‏فَهُوَ يَتَكَلَّمُ‏}‏ أي يدل كما في قوله‏:‏ ‏{‏هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 29‏]‏ قال الفراء‏:‏ إن العرب تؤنث السلطان، يقولون‏:‏ قضت به عليك السلطان، فأما البصريون فالتذكير عندهم أفصح، وبه جاء القرآن، والتأنيث عندهم جائز لأنه بمعنى الحجة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالسلطان هنا الملك ‏{‏بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ‏}‏ أي ينطق بإشراكهم بالله سبحانه، ويجوز أن تكون الباء سببية، أي بالأمر الذي بسببه يشركون ‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً‏}‏ أي خصباً ونعمة وسعة وعافية ‏{‏فَرِحُواْ بِهَا‏}‏ فرح بطر وأشر، لا فرح شكر بها وابتهاج بوصولها إليهم ‏{‏قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 58‏]‏‏.‏ ثم قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ‏}‏ شدة على أي صفة ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ أي بسبب ذنوبهم ‏{‏إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ‏}‏ القنوط‏:‏ الإياس من الرحمة، كذا قال الجمهور‏.‏ وقال الحسن‏:‏ القنوط‏:‏ ترك فرائض الله سبحانه‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏"‏ يقنطون ‏"‏ بضم النون‏.‏ وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب بكسرها‏.‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء‏}‏ من عباده ويوسع له ‏{‏وَيَقْدِرُ‏}‏ أي يضيق على من يشاء لمصلحة في التوسيع لمن وسع له، وفي التضييق على من ضيق عليه ‏{‏إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ فيستدلون على الحق لدلالتها على كمال القدرة وبديع الصنع، وغريب الخلق‏.‏

وقد أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ كان يلبي أهل الشرك‏:‏ لبيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏هَلْ لَّكُمْ مّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال‏:‏ هي في الآلهة، وفيه يقول‏:‏ تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله‏}‏ قال‏:‏ دين الله ‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏ قال‏:‏ القضاء القيم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن الأسود ابن سريع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خيبر فقاتلوا المشركين، فانتهى القتل إلى الذرية، فلما جاؤوا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما حملكم على قتل الذرية‏؟‏» قالوا‏:‏ يا رسول الله، إنما كانوا أولاد المشركين، قال‏:‏ «وهل خياركم إلاّ أولاد المشركين‏؟‏ والذي نفسي بيده ما من نسمة تولد إلاّ على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها» وأخرج أحمد من حديث جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه، فإذا عبر عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً» رواه أحمد عن الربيع بن أنس عن الحسن عن جابر‏.‏ وقال الإمام أحمد في المسند‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا هشام، حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حماد‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوماً، فقال في خطبته حاكياً عن الله سبحانه‏:‏ «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم» الحديث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 46‏]‏

‏{‏فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ‏(‏39‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏40‏)‏ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏41‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ‏(‏42‏)‏ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ‏(‏43‏)‏ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ‏(‏44‏)‏ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏45‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

لما بيّن سبحانه كيفية التعظيم لأمر الله أشار إلى ما ينبغي من مواساة القرابة، وأهل الحاجات ممن بسط الله له في رزقه، فقال‏:‏ ‏{‏فَئَاتِ ذَا القربى حَقَّهُ‏}‏ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته أسوته، أو لكل مكلف له مال وسع الله به عليه، وقدم الإحسان إلى القرابة لأن خير الصدقة ما كان على قريب، فهو صدقة مضاعفة وصلة رحم مرغب فيها، والمراد‏:‏ الإحسان إليهم بالصدقة والصلة والبر ‏{‏والمساكين وابن السبيل‏}‏ أي وآت المسكين وابن السبيل حقهما الذي يستحقانه‏.‏ ووجه تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر أنهم أولى من سائر الأصناف بالإحسان، ولكون ذلك واجباً لهم على كل من له مال فاضل عن كفايته وكفاية من يعول‏.‏

وقد اختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة‏؟‏ قيل‏:‏ هي منسوخة بآية المواريث‏.‏ وقيل‏:‏ محكمة وللقريب في مال قريبه الغنيّ حقّ واحب، وبه قال مجاهد وقتادة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ لا تقبل صدقة من أحد، ورحمه محتاج‏.‏ قال مقاتل‏:‏ حق المسكين أن يتصدّق عليه، وحق ابن السبيل الضيافة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالقربى‏:‏ قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال القرطبي‏:‏ والأوّل أصح، فإن حقهم مبين في كتاب الله عزّ وجلّ في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ وقال الحسن‏:‏ إن الأمر في إيتاء ذي القربى للندب ‏{‏ذَلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله‏}‏ أي ذلك الإيتاء أفضل من الإمساك لمن يريد التقرّب إلى الله سبحانه ‏{‏وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ أي الفائزون بمطلوبهم حيث أنفقوا لوجه الله امتثالاً لأمره‏.‏

‏{‏وَمَا ءَاتَيْتُمْ مّن رِباً‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏آتيتم‏}‏ بالمدّ بمعنى أعطيتم، وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير بالقصر بمعنى ما فعلتم، وأجمعوا على القراءة بالمدّ في قوله‏:‏ ‏{‏وما آتيتم من زكاة‏}‏ وأصل الربى‏:‏ الزيادة، وقراءة القصر تؤول إلى قراءة المدّ؛ لأن معناها‏:‏ ما فعلتم على وجه الإعطاء، كما تقول‏:‏ أتيت خطأ وأتيت صواباً؛ والمعنى في الآية‏:‏ ما أعطيتم من زيادة خالية عن العوض ‏{‏لّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس‏}‏ أي ليزيد ويزكو في أموالهم ‏{‏فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله‏}‏ أي لا يبارك الله فيه‏.‏ قال السديّ‏:‏ الربا في هذا الموضع‏:‏ الهدية يهديها الرجل لأخيه يطلب المكافأة؛ لأن ذلك لا يربو عند الله، لا يؤجر عليه صاحبه، ولا إثم عليه، وهكذا قال قتادة والضحاك‏.‏ قال الواحدي‏:‏ وهذا قول جماعة المفسرين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يعني‏:‏ دفع الإنسان الشيء ليعوّض أكثر منه وذلك ليس بحرام، ولكنه لا ثواب فيه؛ لأن الذي يهبه يستدعي به ما هو أكثر منه‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ معنى الآية‏:‏ أن ما خدم به الإنسان أحداً، لينتفع به في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزي به الخدمة لا يربو عند الله‏.‏

وقيل‏:‏ هذا كان حراماً على النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 6‏]‏ ومعناها‏:‏ أن تعطي فتأخذ أكثر منه عوضاً عنه‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذه الآية نزلت في هبة الثواب‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وما يجري مجراه مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه‏.‏ قال عكرمة‏:‏ الربا ربوان‏:‏ فربا حلال، وربا حرام‏.‏ فأما الربا الحلال فهو الذي يهدي يلتمس ما هو أفضل منه‏:‏ يعني كما في هذه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا الذي في هذه الآية هو الربا المحرّم، فمعنى لا يربو عند الله على القول لا يحكم به، بل هو للمأخوذ منه‏.‏

قال المهلب‏:‏ اختلف العلماء فيمن وهب هبة يطلب بها الثواب، فقال مالك‏:‏ ينظر فيه، فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له فله ذلك، مثل هبة الفقير للغنيّ، وهبة الخادم للمخدوم، وهبة الرجل لأميره، وهو أحد قولي الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يكون له ثواب إذا لم يشترط، وهو قول الشافعي الآخر‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ليربوا‏}‏ بالتحتية على أن الفعل مسند إلى ضمير الربا‏.‏ وقرأ نافع ويعقوب بالفوقية مضمومة خطاباً للجماعة بمعنى‏:‏ لتكونوا ذوي زيادات‏.‏ وقرأ أبو مالك‏:‏ ‏{‏لتربوها‏}‏ ومعنى الآية‏:‏ أنه لا يزكو عند الله، ولا يثيب عليه؛ لأنه لا يقبل إلاّ ما أريد به وجهه خالصاً له ‏{‏وَمَا آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله‏}‏ أي وما أعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة، وإنما تقصدون بها ما عند الله ‏{‏فأولئك هُمُ المضعفون‏}‏ المضعف دون الأضعاف من الحسنات الذين يعطون بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف‏.‏ قال الفراء‏:‏ هو نحو قولهم‏:‏ مسمن ومعطش ومضعف إذا كانت له إبل سمان، أو عطاش، أو ضعيفة‏.‏ وقرأ أبيّ‏:‏ «المضعفون» بفتح العين اسم مفعول‏.‏

‏{‏الله الذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَيْء‏}‏ عاد سبحانه إلى الاحتجاج على المشركين، وأنه الخالق الرازق المميت المحيي، ثم قال على جهة الاستفهام‏:‏ ‏{‏هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَيْء‏}‏ ومعلوم أنهم يقولون ليس فيهم من يفعل شيئاً من ذلك، فتقوم عليهم الحجة، ثم نزّه سبحانه نفسه، فقال‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ أي نزّهوه تنزيهاً، وهو متعال عن أن يجوز عليه شيء من ذلك، وقوله‏:‏ ‏{‏من شركائكم‏}‏ خبر مقدّم ومن للتبعيض، والمبتدأ هو الموصول، أعني‏:‏ من يفعل، و‏{‏من ذلكم‏}‏ متعلق بمحذوف؛ لأنه حال من ‏{‏شيء‏}‏ المذكور بعده، ومن في‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ مزيدة للتوكيد، وأضاف الشركاء إليهم؛ لأنهم كانوا يسمونهم آلهة، ويجعلون لهم نصيباً من أموالهم‏.‏

‏{‏ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس‏}‏ بيّن سبحانه‏:‏ أن الشرك والمعاصي سبب لظهور الفساد في العالم‏.‏

واختلف في معنى ظهور الفساد المذكور، فقيل‏:‏ هو القحط وعدم النبات، ونقصان الرزق، وكثرة الخوف ونحو ذلك، وقال مجاهد، وعكرمة‏:‏ فساد البرّ‏:‏ قتل ابن آدم أخاه‏:‏ يعني‏:‏ قتل قابيل لهابيل، وفي البحر‏:‏ الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً‏.‏ وليت شعري أيّ دليل دلهما على هذا التخصيص البعيد والتعيين الغريب، فإن الآية نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم، والتعريف في الفساد يدلّ على الجنس، فيعم كل فساد واقع في حيزي البرّ والبحر‏.‏ وقال السديّ‏:‏ الفساد الشرك، وهو أعظم الفساد‏.‏ ويمكن أن يقال‏:‏ إن الشرك وإن كان الفرد الكامل في أنواع المعاصي، ولكن لا دليل على أنه المراد بخصوصه‏.‏ وقيل‏:‏ الفساد كساد الأسعار وقلة المعاش‏.‏ وقيل‏:‏ الفساد‏:‏ قطع السبل والظلم، وقيل‏:‏ غير ذلك مما هو تخصيص لا دليل عليه‏.‏ والظاهر من الآية ظهور ما يصح إطلاق اسم الفساد عليه سواء كان راجعاً إلى أفعال بني آدم من معاصيهم واقترافهم السيئات، وتقاطعهم وتظالمهم وتقاتلهم، أو راجعاً إلى ما هو من جهة الله سبحانه بسبب ذنوبهم كالقحط وكثرة الخوف والموتان ونقصان الزرائع ونقصان الثمار‏.‏ والبرّ والبحر هما المعروفان المشهوران‏.‏ وقيل‏:‏ البرّ‏:‏ الفيافي، والبحر‏:‏ القرى التي على ماء قاله عكرمة، والعرب تسمي الأمصار‏:‏ البحار‏.‏ قال مجاهد‏:‏ البرّ‏:‏ ما كان من المدن والقرى على غير نهر، والبحر‏:‏ ما كان على شط نهر‏.‏ والأوّل أولى‏.‏ ويكون معنى البرّ‏:‏ مدن البرّ، ومعنى البحر‏:‏ مدن البحر، وما يتصل بالمدن من مزارعها ومراعيها‏.‏ والباء في ‏{‏بما كسبت‏}‏ للسببية، «ما» إما موصولة أو مصدرية ‏{‏لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ‏}‏ اللام متعلقة بظهر، وهي لام العلة، أي ليذيقهم عقاب بعض عملهم أو جزاء بعض عملهم ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ عما هم فيه من المعاصي ويتوبون إلى الله‏.‏

‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلُ‏}‏ لما بين سبحانه ظهور الفساد بما كسبت أيدي المشركين والعصاة بيّن لهم ضلال أمثالهم من أهل الزمن الأوّل، وأمرهم بأن يسيروا لينظروا آثارهم ويشاهدوا كيف كانت عاقبتهم، فإن منازلهم خاوية وأراضيهم مقفرة موحشة كعاد وثمود ونحوهم من طوائف الكفار‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ‏}‏ مستأنفة لبيان الحالة التي كانوا عليها، وإيضاح السبب الذي صارت عاقبتهم به إلى ما صارت إليه ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ القيم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ‏}‏ هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمته أسوته فيه، كأن المعنى‏:‏ إذا قد ظهر الفساد بالسبب المتقدّم فأقم وجهك يا محمد إلخ‏.‏ قال الزجاج‏:‏ اجعل جهتك اتباع الدين القيم، وهو‏:‏ الإسلام المستقيم ‏{‏من قبل أن يأتي يوم‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة ‏{‏ا مردّ له‏}‏ لا يقدر أحد على ردّه، والمردّ مصدر ردّ، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أوضح الحق، وبالغ في الأعذار، و‏{‏مِنَ الله‏}‏ يتعلق ب ‏{‏يأتي‏}‏ أو بمحذوف يدل عليه المصدر، أي لا يردّه من الله أحد‏.‏

وقيل‏:‏ يجوز أن يكون المعنى‏:‏ لا يردّه الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه، وفيه من الضعف وسوء الأدب مع الله ما لا يخفى ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ‏}‏ أصله يتصدعون، والتصدع التفرق، يقال‏:‏ تصدع القوم إذا تفرقوا، ومنه قول الشاعر‏:‏

وكنا كندماني جذيمة برهة *** من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا

والمراد بتفرقهم هاهنا أن أهل الجنة يصيرون إلى الجنة، وأهل النار يصيرون إلى النار‏.‏ ‏{‏مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ‏}‏ أي جزاء كفره، وهو النار ‏{‏وَمَنْ عَمِلَ صالحا فَلأِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ‏}‏ أي يوطئون لأنفسهم منازل في الجنة بالعمل الصالح، والمهاد‏:‏ الفراش، وقد مهدت الفراش مهداً‏:‏ إذا بسطته ووطأته، فجعل الأعمال الصالحة التي هي سبب لدخول الجنة كبناء المنازل في الجنة وفرشها‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ فعلى أنفسهم يشفقون، من قولهم في المشفق‏:‏ أمٌّ فرشت فأنامت، وقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏فلأنفسهم يمهدون‏}‏ في القبر، واللام في ‏{‏لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ‏}‏ متعلقة ب ‏{‏يصدّعون‏}‏، أو ‏{‏يمهدون‏}‏، أي يتفرّقون ليجزي الله المؤمنين بما يستحقونه ‏{‏مِن فَضْلِهِ‏}‏ أو يمهدون لأنفسهم بالأعمال الصالحة ليجزيهم‏.‏ وقيل‏:‏ يتعلق بمحذوف‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ تقديره ذلك ليجزي، وتكون الإشارة إلى ما تقدّم من قوله‏:‏ ‏{‏من عمل‏}‏ و‏{‏من كفر‏}‏‏.‏ وجعل أبو حيان قسيم قوله‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ محذوفاً لدلالة قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين‏}‏ عليه؛ لأنه كناية عن بغضه لهم الموجب لغضبه سبحانه، وغضبه يستتبع عقوبته‏.‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته أَن يُرْسِلَ الرياح مبشرات‏}‏ أي ومن دلالات بديع قدرته إرسال الرياح مبشرات بالمطر؛ لأنها تتقدّمه كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 63‏]‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏الرياح‏}‏ وقرأ الأعمش‏:‏ «الريح» بالإفراد على قصد الجنس لأجل قوله‏:‏ ‏{‏مبشرات‏}‏، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ‏}‏ متعلقة ب ‏{‏يرسل‏}‏، أي يرسل الرياح مبشرات ويرسلها ليذيقكم من رحمته، يعني‏:‏ الغيث والخصب‏.‏ وقيل‏:‏ هو متعلق بمحذوف، أي وليذيقكم أرسلها‏.‏ وقيل‏:‏ الواو مزيدة على رأي من يجوز ذلك، فتتعلق اللام ب ‏{‏يرسل‏}‏ ‏{‏وَلِتَجْرِيَ الفلك بِأَمْرِهِ‏}‏ معطوف على ‏{‏ليذيقكم من رحمته‏}‏ أي يرسل الرياح لتجري الفلك في البحر عند هبوبها، ولما أسند الجري إلى الفلك عقبه بقوله‏:‏ ‏{‏بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ‏}‏ أي تبتغوا الرزق بالتجارة التي تحملها السفن ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ هذه النعم فتفردون الله بالعبادة، وتستكثرون من الطاعة‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا ءَاتَيْتُمْ مّن رِباً‏}‏ الآية قال‏:‏ الربا ربوان‏:‏ ربا لا بأس به وربا لا يصلح‏.‏ فأما الربا الذي لا بأس به فهدية الرجل إلى الرجل يريد فضلها، وأضعافها‏.‏

وأخرج البيهقي عنه قال‏:‏ هذا هو الربا الحلال، أن يهدي يريد أكثر منه وليس له أجر ولا وزر، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏وَمَا ءَاتَيْتُمْ مّن زَكَاةٍ‏}‏ قال‏:‏ هي الصدقة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر‏}‏ قال‏:‏ البر‏:‏ البرية التي ليس عندها نهر، والبحر‏:‏ ما كان من المدائن والقرى على شط نهر‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ قال‏:‏ من الذنوب‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏يَصَّدَّعُونَ‏}‏ قال‏:‏ يتفرقون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 60‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ‏(‏49‏)‏ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏50‏)‏ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ‏(‏51‏)‏ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏53‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ‏(‏54‏)‏ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ‏(‏55‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏56‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏57‏)‏ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ‏(‏58‏)‏ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏59‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ‏}‏ كما أرسلناك إلى قومك ‏{‏فَجَاءُوهُم بالبينات‏}‏ أي بالمعجزات، والحجج النيرات ‏{‏فانتقمنا‏}‏‏:‏ أي فكفروا فانتقمنا ‏{‏مِنَ الذين أَجْرَمُواْ‏}‏ أي فعلوا الإجرام، وهي الآثام ‏{‏وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين‏}‏ هذا إخبار من الله سبحانه بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه، وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد، وفيه تشريف للمؤمنين ومزيد تكرمة لعباده الصالحين، ووقف بعض القراء على ‏{‏حقاً‏}‏ وجعل اسم كان ضميراً فيها وخبرها حقاً، أي وكان الانتقام حقاً‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف، والصحيح أن نصر المؤمنين اسمها وحقاً خبرها وعلينا متعلق ب ‏{‏حقاً‏}‏، أو بمحذوف هو صفة له‏.‏ ‏{‏الله الذي يُرْسِلُ الرياح‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وابن كثير وابن محيصن‏:‏ «يرسل الريح» بالإفراد‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏الرياح‏}‏ قال أبو عمرو‏:‏ كل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع، وما كان بمعنى العذاب فهو موحد، وهذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما سبق من أحوال الرياح، فتكون على هذا جملة‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وكان حقاً علينا نصر المؤمنين‏}‏ معترضة ‏{‏فَتُثِيرُ سحابا‏}‏ أي تزعجه من حيث هو ‏{‏فَيَبْسُطُهُ فِي السماء كَيْفَ يَشَاء‏}‏ تارة سائراً وتارة واقفاً، وتارة مطبقاً، وتارة غير مطبق، وتارة إلى مسافة بعيدة، وتارة إلى مسافة قريبة، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة وفي سورة النور ‏{‏وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً‏}‏ تارة أخرى، أو يجعله بعد بسطه قطعاً متفرقة، والكسف جمع كسفة‏.‏ والكسفة‏:‏ القطعة من السحاب‏.‏ وقد تقدم تفسيره واختلاف القراءة فيه ‏{‏فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ‏}‏ الودق‏:‏ المطر، و‏{‏من خلاله‏}‏‏:‏ من وسطه‏.‏ وقرأ أبو العالية والضحاك‏:‏ «يخرج من خلله»‏.‏ ‏{‏فَإِذَا أَصَابَ بِهِ‏}‏ أي بالمطر ‏{‏مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ أي بلادهم وأرضهم ‏{‏إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ إذا هي‏:‏ الفجائية، أي فاجؤوا الاستبشار بمجيء المطر، والاستبشار‏:‏ الفرح‏.‏

‏{‏وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي من قبل أن ينزل عليهم المطر، وإن هي المخففة، وفيها ضمير شأن مقدر هو اسمها، أي وإن الشأن كانوا من قبل أن ينزل عليهم، وقوله‏:‏ ‏{‏مِن قَبْلِهِ‏}‏ تكرير للتأكيد، قاله الأخفش وأكثر النحويين كما حكاه عنهم النحاس‏.‏ وقال قطرب‏:‏ إن الضمير في‏:‏ ‏{‏قبله‏}‏ راجع إلى المطر، أي وإن كانوا من قبل التنزيل من قبل المطر‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ من قبل تنزيل الغيث عليهم من قبل الزرع والمطر‏.‏ وقيل‏:‏ من قبل أن ينزل عليهم من قبل السحاب، أي من قبل رؤيته، واختار هذا النحاس‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير عائد إلى الكسف‏.‏ وقيل‏:‏ إلى الإرسال‏.‏ وقيل‏:‏ إلى الاستبشار‏.‏ والراجح الوجه الأول، وما بعده من هذه الوجوه كلها ففي غاية التكلف والتعسف، وخبر كان ‏{‏لَمُبْلِسِينَ‏}‏ أي آيسين أو بائسين‏.‏

وقد تقدّم تحقيق الكلام في هذا‏.‏

‏{‏فانظر إلى أَثَرِ رَحْمَتَ الله‏}‏ الناشئة عن إنزال المطر من النبات والثمار والزرائع التي بها يكون الخصب ورخاء العيش، أي انظر نظر اعتبار واستبصار لتستدلّ بذلك على توحيد الله، وتفرده بهذا الصنع العجيب‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ «أثر» بالتوحيد‏.‏ وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏آثار‏}‏ بالجمع ‏{‏كَيْفَ يُحْييِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ فاعل الإحياء ضمير يعود إلى الله سبحانه، وقيل‏:‏ ضمير يعود إلى الأثر، وهذه الجملة في محل نصب بانظر، أي انظر إلى كيفية هذا الإحياء البديع للأرض‏.‏ وقرأ الجحدري، وأبو حيوة‏:‏ ‏"‏ تحيي ‏"‏ بالفوقية على أن فاعله ضمير يعود إلى الرحمة، أو إلى الآثار على قراءة من قرأ بالجمع، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ إلى الله سبحانه، أي إن الله العظيم الشأن المخترع لهذه الأشياء المذكورة ‏{‏لَمُحْييِ الموتى‏}‏ أي لقادر على إحيائهم في الآخرة، وبعثهم، ومجازاتهم كما أحيا الأرض الميتة بالمطر ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ أي عظيم القدرة كثيرها‏.‏

‏{‏وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً‏}‏ الضمير في‏:‏ ‏{‏فرأوه‏}‏ يرجع إلى الزرع، والنبات الذي كان من أثر رحمة الله، أي فرأوه مصفراً من البرد الناشئ عن الريح التي أرسلها الله بعد اخضراره‏.‏ وقيل‏:‏ راجع إلى الريح، وهو يجوز تذكيره وتأنيثه‏.‏ وقيل‏:‏ راجع إلى الأثر المدلول عليه بالآثار‏.‏ وقيل‏:‏ راجع إلى السحاب لأنه إذا كان مصفراً لم يمطر، والأول أولى‏.‏ واللام هي الموطئة، وجواب القسم ‏{‏لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ‏}‏، وهو يسدّ مسد جواب الشرط‏.‏ والمعنى‏:‏ ولئن أرسلنا ريحاً حارة أو باردة، فضربت زرعهم بالصفار لظلوا من بعد ذلك يكفرون بالله، ويجحدون نعمه، وفي هذا دليل على سرعة تقلبهم وعدم صبرهم، وضعف قلوبهم، وليس كذا حال أهل الإيمان‏.‏ ثم شبههم بالموتى وبالصم فقال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى‏}‏ إذا دعوتهم، فكذا هؤلاء لعدم فهمهم للحقائق ومعرفتهم للصواب ‏{‏وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء‏}‏ إذا دعوتهم إلى الحق، ووعظتهم بمواعظ الله وذكرتهم الآخرة وما فيها، وقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ‏}‏ بيان لإعراضهم عن الحق بعد بيان كونهم كالأموات وكونهم صمّ الآذان، قد تقدّم تفسير هذا في سورة النمل‏.‏ ثم وصفهم بالعمى فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ بِهَادِ العمى عَن ضلالتهم‏}‏ لفقدهم للانتفاع بالأبصار كما ينبغي‏.‏ أو لفقدهم للبصائر ‏{‏إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا‏}‏ أي ما تسمع إلاّ هؤلاء لكونهم أهل التفكر والتدبر والاستدلال بالآثار على المؤثر ‏{‏فَهُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ أي منقادون للحق متبعون له‏.‏

‏{‏الله الذي خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ‏}‏ ذكر سبحانه استدلالاً آخر على كمال قدرته، وهو خلق الإنسان نفسه على أطوار مختلفة، ومعنى من ضعف‏:‏ من نطفة‏.‏

قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ من نطفة، والمعنى‏:‏ من ذي ضعف‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ حال الطفولية والصغر ‏{‏ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ‏}‏، وهي قوّة الشباب، فإنه إذ ذاك تستحكم القوّة وتشتدّ الخلقة إلى بلوغ النهاية ‏{‏ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً‏}‏ أي عند الكبر والهرم ‏{‏وَشَيْبَةً‏}‏ الشيبة هي‏:‏ تمام الضعف ونهاية الكبر‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ «ضعف» بضم الضاد في هذه المواضع‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة بفتحها‏.‏ وقرأ الجحدري بالفتح في الأوّلين والضم في الثالث‏.‏ قال الفراء‏:‏ الضم لغة قريش والفتح لغة تميم‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الضعف والضعف خلاف القوّة، وقيل‏:‏ هو بالفتح في الرأي، وبالضم في الجسم ‏{‏يَخْلُقُ مَا يَشَاء‏}‏ يعني‏:‏ من جميع الأشياء، ومن جملتها القوّة والضعف في بني آدم ‏{‏وَهُوَ العليم‏}‏ بتدبيره ‏{‏القدير‏}‏ على خلق ما يريده، وأجاز الكوفيون‏:‏ ‏"‏ من ضعف ‏"‏ بفتح الضاد والعين‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة‏}‏ أي‏:‏ القيامة، وسميت ساعة لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا ‏{‏يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ‏}‏ أي يحلفون ما لبثوا في الدنيا، أو في قبورهم غير ساعة، فيمكن أن يكونوا استقلوا مدّة لبثهم، واستقرّ ذلك في أذهانهم، فحلفوا عليه وهم يظنون أن حلفهم مطابق للواقع‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ إنهم كذبوا في هذا الوقت كما كانوا يكذبون من قبل، وهذا هو الظاهر؛ لأنهم إن أرادوا لبثهم في الدنيا، فقد علم كل واحد منهم مقداره، وإن أرادوا لبثهم في القبور فقد حلفوا على جهالة إن كانوا لا يعرفون الأوقات في البرزخ ‏{‏كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ‏}‏ يقال‏:‏ أفك الرجل‏:‏ إذا صرف عن الصدق، فالمعنى‏:‏ مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون‏.‏ وقيل‏:‏ المراد يصرفون عن الحق‏.‏ وقيل‏:‏ عن الخير، والأوّل أولى، وهو دليل على أن حلفهم كذب‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله إلى يَوْمِ البعث‏}‏ اختلف في تعيين هؤلاء الذين أوتوا العلم، فقيل‏:‏ الملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ الأنبياء‏.‏ وقيل‏:‏ علماء الأمم‏.‏ وقيل‏:‏ مؤمنو هذه الأمة، ولا مانع من الحمل على الجميع‏.‏ ومعنى في كتاب الله‏:‏ في علمه وقضائه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ في علم الله المثبت في اللوح المحفوظ‏.‏ قال الواحدي‏:‏ والمفسرون حملوا هذا على التقديم والتأخير على تقدير‏:‏ وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله، وكان ردّ الذين أوتوا العلم عليهم باليمين للتأكيد، أو للمقابلة لليمين باليمين، ثم نبهوهم على طريقة التبكيت بأن ‏{‏هذا‏}‏ الوقت الذي صاروا فيه هو ‏{‏يَوْمُ البعث ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أنه حق، بل كنتم تستعجلونه تكذيباً واستهزاء‏.‏ ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يَنفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ‏}‏ أي لا ينفعهم الاعتذار يومئذ ولا يفيدهم علمهم بالقيامة‏.‏ وقيل‏:‏ لما ردّ عليهم المؤمنون سألوا الرجوع إلى الدنيا واعتذروا فلم يعذروا‏.‏

قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لا تنفع‏}‏ بالفوقية، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتحتية ‏{‏وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ‏}‏ يقال‏:‏ استعتبته فأعتبني، أي استرضيته، فأرضاني، وذلك إذا كنت جانياً عليه، وحقيقة أعتبته أزلت عتبه، والمعنى‏:‏ أنهم لا يدعون إلى إزالة عتبهم من التوبة والطاعة كما دعوا إلى ذلك في الدنيا‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ‏}‏ أي من كلّ مثل من الأمثال التي تدلهم على توحيد الله وصدق رسله واحتججنا عليهم بكل حجة تدل على بطلان الشرك ‏{‏وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِئَايَةٍ‏}‏ من آيات القرآن الناطقة بذلك، أو لئن جئتهم بآية كالعصا واليد ‏{‏لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ‏}‏ أي ما أنت يا محمد وأصحابك إلاّ مبطلون أصحاب أباطيل تتبعون السحر وما هو مشاكل له في البطلان ‏{‏كذلك يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الفاقدين للعلم النافع الذي يهتدون به إلى الحق، وينجون به من الباطل‏.‏ ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر معللاً لذلك بحقية وعد الله وعدم الخلف فيه، فقال‏:‏ ‏{‏فاصبر‏}‏ على ما تسمعه منهم من الأذى وتنظره من الأفعال الكفرية فإن الله قد وعدك بالنصر عليهم وإعلاء حجتك وإظهار دعوتك ووعده حق لا خلف فيه ‏{‏وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ‏}‏ أي لا يحملنك على الخفة، ويستفزنك عن دينك، وما أنت عليه، الذين لا يوقنون بالله، ولا يصدقون أنبياءه، ولا يؤمنون بكتبه، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، يقال‏:‏ استخف فلان فلاناً، أي استجهله حتى حمله على اتباعه في الغيّ‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يستخفنك‏}‏ بالخاء المعجمة والفاء، وقرأ يعقوب وابن أبي إسحاق بحاء مهملة وقاف من الاستحقاق، والنهي في الآية من باب‏:‏ لا أرينك هاهنا‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «مامن مسلم يردّ عن عرض أخيه إلاّ كان حقاً على الله أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة»، ثم تلا‏:‏ ‏{‏وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين‏}‏‏.‏ وهو من طريق شهر بن حوشب عن أمّ الدرداء عن أبي الدرداء‏.‏ وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً‏}‏ قال‏:‏ قطعاً بعضها فوق بعض ‏{‏فَتَرَى الودق‏}‏ قال‏:‏ المطر ‏{‏يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ‏}‏ قال‏:‏ من بينه‏.‏ وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت هذه الآية ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء‏}‏ في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بدر، والإسناد ضعيف‏.‏ والمشهور في الصحيحين وغيرهما أن عائشة استدلت بهذه الآية على ردّ رواية من روى من الصحابة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أهل قليب بدر، وهو من الاستدلال بالعام على ردّ الخاص، فقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قيل له‏:‏ إنك تنادي أجساداً بالية‏:‏ «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» وفي مسلم من حديث أنس‏:‏ أن عمر بن الخطاب لما سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يناديهم، فقال‏:‏ يا رسول الله، تناديهم بعد ثلاث، وهل يسمعون‏؟‏ يقول الله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى‏}‏، فقال‏:‏ «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم، ولكنهم لا يطيقون أن يجيبوا»‏.‏

سورة لقمان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏3‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏10‏)‏ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏الم * تِلْكَ ءايات الكتاب‏}‏ قد تقدم الكلام على أمثال فاتحة هذه السورة ومحلها من الإعراب مستوفى فلا نعيده، وبيان مرجع الإشارة أيضاً، و‏{‏الحكيم‏}‏ إما أن يكون بمعنى مفعل، أو بمعنى فاعل، أو بمعنى ذي الحكمة أو الحكيم قائله، و‏{‏هُدًى وَرَحْمَةً‏}‏ منصوبان على الحال على قراءة الجمهور‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة، وقرأ حمزة‏:‏ «ورحمة» بالرفع على أنهما خبر مبتدأ محذوف، أي هو هدى ورحمة، ويجوز أن يكونا خبر تلك‏.‏ والمحسن‏:‏ العامل للحسنات، أو من يعبد الله كأنه يراه كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح لما سأله جبريل عن الإحسان‏:‏ فقال‏:‏ «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، ثم بين عمل المحسنين فقال‏:‏ ‏{‏الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ والموصول في محل جر على الوصف للمحسنين، أو في محل رفع، أو نصب على المدح أو القطع، وخص هذه العبادات الثلاث؛ لأنها عمدة العبادات ‏{‏أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ قد تقدم تفسير هذا في أوائل سورة البقرة، والمعنى هنا‏:‏ أن أولئك المتصفين بالإحسان وفعل تلك الطاعات التي هي أمهات العبادات هم على طريقة الهدى، وهم الفائزون بمطالبهم الظافرون بخيري الدارين‏.‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث‏}‏‏:‏ محل ‏{‏ومن الناس‏}‏ الرفع على الابتداء كما تقدم بيانه في سورة البقرة، وخبره ‏{‏من يشتري لهو الحديث‏}‏، و«من» إما موصولة أو موصوفة، و‏{‏لهو الحديث‏}‏‏:‏ كل ما يلهي عن الخير من الغناء والملاهي والأحاديث المكذوبة وكل ما هو منكر، والإضافة بيانية‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ شراء القينات المغنيات والمغنين، فيكون التقدير‏:‏ ومن يشتري أهل لهو الحديث‏.‏ قال الحسن‏:‏ لهو الحديث‏:‏ المعازف والغناء‏.‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ هو الكفر والشرك‏.‏ قال القرطبي‏:‏ إن أولى ما قيل في هذا الباب هو‏:‏ تفسير لهو الحديث بالغناء، قال‏:‏ وهو قول الصحابة والتابعين، واللام في ‏{‏لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ للتعليل‏.‏ قرأ الجمهور بضم الياء من ‏{‏ليضل‏}‏ أي ليضل غيره عن طريق الهدى ومنهج الحق، وإذا أضل غيره فقد ضل في نفسه‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وحميد، وورش وابن أبي إسحاق بفتح الياء‏.‏ أي ليضل هو في نفسه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من قرأ بضم الياء، فمعناه‏:‏ ليضل غيره، فإذا أضل غيره فقد ضل هو، ومن قرأ بفتح الياء فمعناه‏:‏ ليصير أمره إلى الضلال، وهو وإن لم يكن يشتري للضلالة، فإنه يصير أمره إلى ذلك، فأفاد هذا التعليل أنه إنما يستحق الذم من اشترى لهو الحديث لهذا المقصد، ويؤيد هذا سبب نزول الآية وسيأتي‏.‏

قال الطبري‏:‏ قد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه، وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبد الله العنبري‏.‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته إذ ليس شيء منها عليه حرام لا من ظاهرها ولا من باطنها، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها‏؟‏ قلت‏:‏ قد جمعت رسالة مشتملة على أقوال أهل العلم في الغناء وما استدل به المحللون له والمحرمون له، وحققت هذا المقام بما لا يحتاج من نظر فيها وتدبر معانيها إلى النظر في غيرها، وسميتها‏:‏ ‏[‏إبطال دعوى الإجماع، على تحريم مطلق السماع‏]‏ فمن أحب تحقيق المقام كما ينبغي فليرجع إليها‏.‏

ومحل قوله‏:‏ ‏{‏بغير علم‏}‏ النصب على الحال، أي حال كونه غير عالم بحال ما يشتريه، أو بحال ما ينفع من التجارة، وما يضر، فلهذا استبدل بالخير ما هو شر محض ‏{‏وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً‏}‏ قرأ الجمهور برفع‏:‏ «يتخذها» عطفاً على ‏{‏يشتري‏}‏ فهو من جملة الصلة‏.‏ وقيل‏:‏ الرفع على الاستئناف والضمير المنصوب في ‏{‏يتخذها‏}‏ يعود إلى الآيات المتقدم ذكرها، والأول أولى‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي والأعمش‏:‏ ‏{‏ويتخذها‏}‏ بالنصب عطفاً على ‏{‏يضل‏}‏، والضمير المنصوب راجع إلى السبيل، فتكون على هذه القراءة من جملة التعليل للتحريم، والمعنى‏:‏ أنه يشتري لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله واتخاذ السبيل هزواً، أي مهزوءاً به، والسبيل يذكر ويؤنث، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ إلى من، والجمع باعتبار معناها، كما أن الإفراد في الفعلين باعتبار لفظها، والعذاب المهين‏:‏ هو الشديد الذي يصير به من وقع عليه مهيناً‏.‏

‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا‏}‏ أي وإذا تتلى آيات القرآن على هذا المستهزئ ‏{‏ولى مُسْتَكْبِراً‏}‏ أي أعرض عنها حال كونه مبالغاً في التكبر، وجملة‏:‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا‏}‏ في محل نصب على الحال، أي كأن ذلك المعرض المستكبر لم يسمعها مع أنه قد سمعها، ولكن أشبهت حاله حال من لم يسمع، وجملة‏:‏ ‏{‏كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً‏}‏ حال ثانية، أو بدل من التي قبلها، أو حال من ضمير يسمعها، ويجوز أن تكون مستأنفة‏.‏ والوقر‏:‏ الثقل، وقد تقدم بيانه، وفيه مبالغة في إعراض ذلك المعرض ‏{‏فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ أي أخبره بأن له العذاب البليغ في الألم، ثم لما بيّن سبحانه حال من يعرض عن الآيات بيّن حال من يقبل عليها، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ أي آمنوا بالله وبآياته ولم يعرضوا عنها بل قبلوها وعملوا بها ‏{‏لَهُمْ جنات النعيم‏}‏ أي‏:‏ نعيم الجنات فعكسه للمبالغة، جعل لهم جنات النعيم كما جعل للفريق الأول العذاب المهين، وانتصاب ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ على الحال‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ «خالدون فيها» على أنه خبر ثان لأن ‏{‏وَعْدَ الله حَقّا‏}‏ هما مصدران الأول مؤكد لنفسه، أي وعد الله وعداً‏.‏

والثاني مؤكد لغيره، وهو مضمون الجملة الأولى وتقديره‏:‏ حق ذلك حقاً‏.‏ والمعنى‏:‏ أن وعده كائن لا محالة ولا خلف فيه ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ الذي لا يغلبه غالب ‏{‏الحكيم‏}‏ في كل أفعاله وأقواله‏.‏

ثم بيّن سبحانه عزته وحكمته بقوله‏:‏ ‏{‏خلِقَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا‏}‏ العمد‏:‏ جمع عماد، وقد تقدم الكلام فيه في سورة الرعد‏.‏ و‏{‏ترونها‏}‏ في محل جرّ صفة ل ‏{‏عمد‏}‏ فيمكن أن تكون ثمّ عمد، ولكن لا ترى‏.‏ ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال، أي ولا عمد ألبتة‏.‏ قال النحاس‏:‏ وسمعت علي بن سليمان يقول‏:‏ الأولى أن يكون مستأنفاً، أي ولا عمد ثم ‏{‏وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ‏}‏ أي جبالاً ثوابت ‏{‏أَن تَمِيدَ بِكُمْ‏}‏ في محل نصب على العلة، أي كراهة أن تميد بكم‏.‏ والكوفيون يقدّرونه‏:‏ لئلا تميد، والمعنى‏:‏ أنها خلقها وجعلها مستقرّة ثابتة لا تتحرّك بجبال جعلها عليها وأرساها على ظهرها ‏{‏وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ‏}‏ أي من كلّ نوع من أنواع الدوابّ، وقد تقدّم بيان معنى البثّ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ‏}‏ أي أنزلنا من السماء مطراً فأنبتنا فيها بسبب إنزاله من كلّ زوج، أي من كل صنف، ووصفه بكونه كريماً؛ لحسن لونه وكثرة منافعه‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد بذلك‏:‏ الناس، فالكريم منهم من يصير إلى الجنة، واللئيم من يصير إلى النار‏.‏ قاله الشعبي، وغيره، والأوّل أولى‏.‏ والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ إلى ما ذكر في خلق السموات والأرض، وهو مبتدأ وخبره ‏{‏خَلْقُ الله‏}‏ أي مخلوقه ‏{‏فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ‏}‏ من آلهتكم التي تعبدونها، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، والمعنى‏:‏ فأروني أيّ شيء خلقوا مما يحاكي خلق الله أو يقاربه، وهذا الأمر لهم لقصد التعجيز والتبكيت‏.‏ ثم أضرب عن تبكيتهم بما ذكر إلى الحكم عليهم بالضلال الظاهر فقال‏:‏ ‏{‏بَلِ الظالمون فِي ضلال‏}‏ فقرّر ظلمهم أوّلاً وضلالهم ثانياً، ووصف ضلالهم بالوضوح والظهور، ومن كان هكذا فلا يعقل الحجة ولا يهتدي إلى الحق‏.‏

وقد أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث‏}‏ يعني‏:‏ باطل الحديث‏.‏ وهو النضر بن الحارث بن علقمة اشترى أحاديث الأعاجم وصنيعهم في دهرهم‏.‏ وكان يكتب الكتب من الحيرة إلى الشام ويكذب بالقرآن‏.‏ وأخرج الفريابي وابن جرير وابن مردويه عنه في الآية قال‏:‏ باطل الحديث وهو‏:‏ الغناء ونحوه ‏{‏لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ قال‏:‏ قراءة القرآن وذكر الله، نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية‏.‏ وأخرج البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في السنن عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ هو الغناء وأشباهه‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ الجواري الضاريات‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن أبي الصهباء قال‏:‏ سألت عبد الله بن مسعود عن قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث‏}‏ قال‏:‏ هو والله الغناء‏.‏ ولفظ ابن جرير‏:‏ هو الغناء، والله الذي لا إله إلاّ هو، يردّدها ثلاث مرات‏.‏ وأخرج سعيد ابن منصور وأحمد والترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهنّ، ولا خير في تجارة فيهنّ وثمنهنّ حرام» في مثل هذا أنزلت هذه الآية ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث‏}‏ الآية، وفي إسناده عبيد بن زحر عن عليّ بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمن وفيهم ضعف‏.‏

وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، وابن مردويه عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله حرّم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها»، ثم قرأ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي في السنن عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل» وروياه عنه موقوفاً‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن أبي أمامة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما رفع أحد صوته بغناء إلاّ بعث الله إليه شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك» وفي الباب أحاديث في كل حديث منها مقال‏.‏ وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث‏}‏ قال‏:‏ الرجل يشتري جارية تغنيه ليلاً ونهاراً‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن عمر؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث‏}‏‏:‏ «إنما ذلك شراء الرجل اللعب والباطل» وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن نافع قال‏:‏ كنت أسير مع عبد الله بن عمر في طريق، فسمع زمارة فوضع أصبعيه في أذنيه، ثم عدل عن الطريق، فلم يزل يقول‏:‏ يا نافع، أتسمع‏؟‏ قلت‏:‏ لا، فأخرج أصبعيه من أذنيه‏.‏ وقال‏:‏ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن عوف‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين‏:‏ صوت عند نغمة لهو ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان»‏.‏