فصل: تفسير الآيات رقم (43- 50)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 50‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏43‏)‏ وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ‏(‏44‏)‏ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏45‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ‏(‏46‏)‏ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏47‏)‏ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏48‏)‏ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ‏(‏49‏)‏ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من أنواع كفرهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏ أي‏:‏ الآيات القرآنية حال كونها ‏{‏بينات‏}‏ واضحات الدلالات ظاهرات المعاني ‏{‏قَالُواْ مَا هذا‏}‏ يعنون‏:‏ التالي لها، وهو النبي ‏{‏إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُم‏}‏ أي‏:‏ أسلافكم من الأصنام التي كانوا يعبدونها ‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ ثانياً ‏{‏مَا هذا‏}‏ يعنون‏:‏ القرآن الكريم ‏{‏إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى‏}‏ أي‏:‏ كذب مختلق ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ ثالثاً ‏{‏لِلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لأمر الدين الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ وهذا الإنكار منهم خاص بالتوحيد، وأما إنكار القرآن، والمعجزة، فكان متفقاً عليه بين أهل الكتاب، والمشركين‏.‏ وقيل‏:‏ أريد بالأوّل، وهو قولهم‏:‏ ‏{‏إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى‏}‏ معناه، وبالثاني، وهو قولهم‏:‏ ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ نظمه المعجز‏.‏ وقيل‏:‏ إن طائفة منهم قالوا‏:‏ إنه إفك، وطائفة قالوا‏:‏ إنه سحر‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم جميعاً قالوا‏:‏ تارة إنه إفك، وتارة إنه سحر، والأوّل أولى‏.‏

‏{‏وَمَا ءاتيناهم مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا‏}‏ أي‏:‏ ما أنزلنا على العرب كتباً سماوية يدرسون فيها ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ‏}‏ يدعوهم إلى الحقّ، وينذرهم بالعذاب، فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول وجه، ولا شبهة يتشبثون بها‏.‏ قال قتادة‏:‏ ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن، ولا بعث إليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال الفرّاء، أي‏:‏ من أين كذبوك، ولم يأتهم كتاب، ولا نذير بهذا الذي فعلوه‏.‏ ثم خوّفهم سبحانه، وأخبر عن عاقبتهم، وعاقبة من كان قبلهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ‏}‏ من القرون الخالية ‏{‏وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم‏}‏ أي‏:‏ ما بلغ أهل مكة من مشركي قريش، وغيرهم من العرب عشر ما آتينا من قبلهم من القوّة، وكثرة المال، وطول العمر، فأهلكهم الله، كعاد، وثمود، وأمثالهم‏.‏ والمعشار‏:‏ هو‏:‏ العشر‏.‏ قال الجوهري‏:‏ معشار الشيء عشره‏.‏ وقيل المعشار‏:‏ عشر العشر، والأوّل أولى‏.‏ وقيل‏:‏ إن المعنى‏:‏ ما بلغ من قبلهم معشار ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى‏.‏ وقيل‏:‏ ما بلغ من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم‏.‏ وقيل‏:‏ ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم، والبيان، والحجة، والبرهان، والأوّل أولى‏.‏ وقيل‏:‏ المعشار عشر العشير، والعشير عشر العشر، فيكون جزءاً من ألف جزء‏.‏ قال الماوردي‏:‏ وهو الأظهر؛ لأن المراد به المبالغة في التقليل، قلت‏:‏ مراعاة المبالغة في التقليل لا يسوغ لأجلها الخروج عن المعنى العربي، وقوله‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبُواْ رُسُلِى‏}‏ عطف على ‏{‏كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ على طريقة التفسير، كقوله‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا‏}‏

‏[‏القمر‏:‏ 9‏]‏ الآية، والأولى أن‏:‏ يكون من عطف الخاص على العام، لأن التكذيب الأول لما حذف منه المتعلق للتكذيب أفاد العموم، فمعناه‏:‏ كذبوا الكتب المنزلة، والرسل المرسلة، والمعجزات الواضحة، وتكذيب الرسل أخص منه، وإن كان مستلزماً له، فقد روعيت الدلالة اللفظية لا الدلالة الالتزامية ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ‏}‏ أي‏:‏ فكيف كان إنكاري لهم بالعذاب، والعقوبة، فليحذر هؤلاء من مثل ذلك‏.‏ قيل‏:‏ وفي الكلام حذف‏.‏ والتقدير‏:‏ فأهلكناهم، فكيف كان نكير، والنكير اسم بمعنى‏:‏ الإنكار‏.‏

ثم أمر سبحانه رسوله‏:‏ أن يقيم عليهم حجة ينقطعون عندها، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة‏}‏ أي‏:‏ أحذركم، وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه، وأوصيكم بخصلة واحدة، وهي‏:‏ ‏{‏أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى‏}‏ هذا تفسير للخصلة الواحدة، أو بدل منها، أي‏:‏ هي قيامكم وتشميركم في طلب الحقّ بالفكرة الصادقة متفرقين اثنين اثنين، وواحداً واحداً، لأن الاجتماع يشوّش الفكر‏.‏ وليس المراد القيام على الرجلين، بل المراد القيام بطلب الحقّ، وإصداق الفكر فيه، كما يقال‏:‏ قام فلان بأمر كذا ‏{‏ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ‏}‏ في أمر النبيّ، وما جاء به من الكتاب، فإنكم عند ذلك تعلمون أن ‏{‏مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ‏}‏، وذلك؛ لأنهم كانوا يقولون‏:‏ إن محمداً مجنون، فقال الله سبحانه‏:‏ قل لهم‏:‏ اعتبروا أمري بواحدة، وهي‏:‏ أن تقوموا لله، وفي ذاته مجتمعين، فيقول الرجل لصاحبه‏:‏ هلمّ، فلنتصادق، هل رأينا بهذا الرجل من جنة، أي‏:‏ جنون، أو جرّبنا عليه كذباً، ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه، فيتفكر، وينظر، فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، وأنه رسول من عند الله، وأنه ليس بكاذب، ولا ساحر، ولا مجنون، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ‏}‏ أي‏:‏ ما هو إلاّ نذير لكم بين يدي الساعة‏.‏ وقيل‏:‏ إن جملة ‏{‏مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ‏}‏ مستأنفة من جهة الله سبحانه مسوقة للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن هذا الأمر العظيم، والدعوى الكبيرة لا يعّرض نفسه له إلاّ مجنون لا يبالي بما يقال فيه، وما ينسب إليه من الكذب، وقد علموا‏:‏ أنه أرجح الناس عقلاً، فوجب‏:‏ أن يصدّقوه في دعواه، لا سيما مع انضمام المعجزة الواضحة، وإجماعهم على أنه لم يكن ممن يفتري الكذب، ولا قد جرّبوا عليه كذباً مدّة عمره، وعمرهم‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز أن تكون «ما» في ‏{‏مَا بصاحبكم‏}‏ استفهامية، أي‏:‏ ثم تتفكروا أيّ شيء به من آثار الجنون‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة‏}‏ هي‏:‏ «لا إله إلاّ الله» كذا قال مجاهد، والسدّي‏.‏ وقيل‏:‏ القرآن؛ لأنه يجمع المواعظ كلها، والأولى ما ذكرناه أوّلاً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إن «أن» في قوله‏:‏ ‏{‏أَن تَقُومُواْ‏}‏ في موضع نصب بمعنى‏:‏ لأن تقوموا‏.‏ وقال السدّي‏:‏ معنى مثنى وفرادى‏:‏ منفرداً برأيه، ومشاوراً لغيره‏.‏

وقال القتيبي‏:‏ مناظراً مع عشيرته، ومفكراً في نفسه‏.‏ وقيل‏:‏ المثنى عمل النهار، والفرادى عمل الليل، قاله الماوردي‏.‏ وما أبرد هذا القول، وأقلّ جدواه‏.‏ واختار أبو حاتم، وابن الأنباري الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ‏}‏، وعلى هذا تكون جملة‏:‏ ‏{‏مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ‏}‏ مستأنفة كما قدّمنا‏.‏ وقيل‏:‏ ليس بوقف، لأن المعنى‏:‏ ثم تتفكروا هل جربتم عليه كذباً، أو رأيتم منه جنة، أو في أحواله من فساد‏.‏

ثم أمر سبحانه أن يخبرهم‏:‏ أنه لم يكن له غرض في الدنيا، ولا رغبة فيها حتى تنقطع عندهم الشكوك، ويرتفع الريب، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما طلبت منكم من جعل تجعلونه لي مقابل الرسالة، فهو لكم إن سألتكموه، والمراد نفي السؤال بالكلية، كما يقول القائل‏:‏ ما أملكه في هذا، فقد وهبته لك، يريد أنه لا ملك له فيه أصلاً، ومثل هذه الآية قوله‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 23‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 57‏]‏‏.‏ ثم بين لهم‏:‏ أن أجره عند الله سبحانه، فقال‏:‏ ‏{‏إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله‏}‏ أي‏:‏ ما أجري إلاّ على الله لا على غيره ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَئ شَهِيدٍ‏}‏ أي‏:‏ مطلع لا يغيب عنه منه شيء‏.‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق‏}‏ القذف الرمي بالسهم، والحصى، والكلام‏.‏ قال الكلبي‏:‏ يرمي على معنى‏:‏ يأتي به، وقال مقاتل‏:‏ يتكلم بالحق، وهو‏:‏ القرآن، والوحي، أي‏:‏ يلقيه إلى أنبيائه‏.‏ وقال قتادة ‏{‏بالحق‏}‏ أي‏:‏ بالوحي، والمعنى‏:‏ أنه يبين الحجة، ويظهرها للناس على ألسن رسله، وقيل‏:‏ يرمي الباطل بالحق، فيدمغه ‏{‏علام الغيوب‏}‏ قرأ الجمهور برفع‏:‏ ‏{‏علام‏}‏ على أنه خبر ثانٍ لإنّ، أو خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من الضمير في يقذف، أو معطوف على محل اسم إن‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الرفع من وجهين على الموضع، لأن الموضع موضع رفع، أو على البدل‏.‏ وقرأ زيد بن علي، وعيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق بالنصب نعتاً لاسم إنّ، أو بدلاً منه، أو على المدح‏.‏ قال الفراء‏:‏ والرفع في مثل هذا أكثر كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 64‏]‏، وقرئ الغيوب بالحركات الثلاث في الغين، وهو‏:‏ جمع غيب، والغيب هو‏:‏ الأمر الذي غاب وخفي جدًّا‏.‏

‏{‏قُلْ جَاء الحق‏}‏ أي‏:‏ الإسلام، والتوحيد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ القرآن‏.‏ وقال النحاس‏:‏ التقدير صاحب الحقّ، أي‏:‏ الكتاب الذي فيه البراهين، والحجج‏.‏

وأقول‏:‏ لا وجه لتقدير المضاف، فإن القرآن قد جاء كما جاء صاحبه‏.‏ ‏{‏وَمَا يُبْدِئ الباطل وَمَا يُعِيدُ‏}‏ أي‏:‏ ذهب الباطل ذهاباً لم يبق منه إقبال، ولا إدبار، ولا إبداء، ولا إعادة‏.‏ قال قتادة‏:‏ الباطل هو‏:‏ الشيطان، أي‏:‏ ما يخلق لشيطان ابتداء، ولا يبعث، وبه قال مقاتل، والكلبي‏.‏

وقيل‏:‏ يجوز أن تكون ما استفهامية، أي‏:‏ أيّ شيء يبديه، وأيّ شيء يعيده‏؟‏ والأوّل أولى‏.‏ ‏{‏قُلْ إِن ضَلَلْتُ‏}‏ عن الطريق الحقة الواضحة ‏{‏فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى‏}‏ أي‏:‏ إثم ضلالتي يكون على نفسي، وذلك أن الكفار قالوا له‏:‏ تركت دين آبائك، فضللت، فأمره الله‏:‏ أن يقول لهم هذا القول‏:‏ ‏{‏وَإِنِ اهتديت فِيمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى‏}‏ من الحكمة، والموعظة، والبيان بالقرآن ‏{‏إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ‏}‏ مني ومنكم يعلم الهدى والضلالة‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ضللت‏}‏ بفتح اللام، وقرأ الحسن، ويحيى بن وثاب بكسر اللام، وهي لغة أهل العالية‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم‏}‏ يقول‏:‏ من القوّة في الدنيا‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في الآية قال‏:‏ يقوم الرجل مع الرجل، أو وحده، فيفكر ما بصاحبه من جنة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة ‏{‏مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ‏}‏ يقول‏:‏ إنه ليس بمجنون‏.‏ وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ‏}‏ أي‏:‏ من جعل، فهو لكم، يقول‏:‏ لم أسألكم على الإسلام جعلاً، وفي قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق‏}‏ قال‏:‏ بالوحي، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُبْدِئ الباطل وَمَا يُعِيدُ‏}‏ قال‏:‏ الشيطان لا يبدئ ولا يعيد إذا هلك‏.‏ وأخرج هؤلاء أيضاً عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُبْدِئ الباطل وَمَا يُعِيدُ‏}‏ قال‏:‏ ما يخلق إبليس شيئاً، ولا يبعثه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن عمر بن سعد في قوله‏:‏ ‏{‏إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى‏}‏ قال‏:‏ إنما أوخذ بجنايتي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 54‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ‏(‏51‏)‏ وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

ثم ذكر سبحانه حالاً من أحوال الكفار، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ‏}‏، والخطاب لرسول الله، أو لكل من يصلح له قيل‏:‏ المراد فزعهم عند نزول الموت بهم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو‏:‏ فزعهم في القبور من الصيحة، وقال قتادة‏:‏ هو‏:‏ فزعهم إذا خرجوا من قبورهم‏.‏ وقال السدّي‏:‏ هو‏:‏ فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة، فلم يستطيعوا فراراً ولا رجوعاً إلى التوبة‏.‏ وقال ابن مغفل‏:‏ هو‏:‏ فزعهم إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو‏:‏ الخسف الذي يخسف بهم في البيداء، فيبقى رجل منهم، فيخبر الناس بما لقي أصحابه، فيفزعون‏.‏ وجواب لو محذوف، أي‏:‏ لرأيت أمراً هائلاً، ومعنى ‏{‏فَلاَ فَوْتَ‏}‏‏:‏ فلا يفوتني أحد منهم، ولا ينجو منهم ناجٍ‏.‏ قال مجاهد‏:‏ فلا مهرب ‏{‏وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ‏}‏ من ظهر الأرض، أو من القبور، أو من موقف الحساب‏.‏ وقيل‏:‏ من حيث كانوا، فهم من الله قريب لا يبعدون عنه، ولا يفوتونه‏.‏ قيل‏:‏ ويجوز أن يكون هذا الفزع هو الفزع الذي بمعنى‏:‏ الإجابة، يقال‏:‏ فزع الرجل‏:‏ إذا أجاب الصارخ الذي يستغيث به كفزعهم إلى الحرب يوم بدر‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ ءامَنَّا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ بمحمد، قاله قتادة، أو بالقرآن‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ بالله عزّوجلّ‏.‏ وقال الحسن‏:‏ بالبعث ‏{‏وأنى لَهُمُ التناوش‏}‏ التناوش التناول، وهو تفاعل من التناوش الذي هو‏:‏ التناول، والمعنى‏:‏ كيف لهم أن يتناولوا الإيمان من بعد، يعني‏:‏ في الآخرة، وقد تركوه في الدنيا، وهو معنى ‏{‏مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ‏}‏‏:‏ وهو تمثيل لحالهم في طلب الخلاص بعد ما فات عنهم‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ يقال‏:‏ للرجل إذا تناول رجلاً ليأخذ برأسه، أو بلحيته ناشه ينوشه نوشاً، وأنشد‏:‏

فهي تنوش الحوض نوشاً من علا *** نوشاً به تقطع أحواز الفلا

أي‏:‏ تناول ماء الحوض من فوق، ومنه المناوشة في القتال، وقيل‏:‏ التناوش الرجعة، أي‏:‏ وأنى لهم الرجعة إلى الدنيا؛ ليؤمنوا، ومنه قول الشاعر‏:‏

تمنى أن تئوب إليّ مي *** وليس إلى تناوشها سبيل

وجملة‏:‏ ‏{‏وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ‏}‏ في محل نصب على الحال، أي‏:‏ والحال أن قد كفروا بما آمنوا به الآن من قبل هذا الوقت، وذلك حال كونهم في الدنيا‏.‏ قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، والأعمش‏:‏ ‏(‏التناؤش‏)‏ بالهمز، وقرأ الباقون بالواو، واستبعد أبو عبيد، والنحاس القراءة الأولى، ولا وجه للاستبعاد، فقد ثبت ذلك في لغة العرب، وأشعارها، ومنه قول الشاعر‏:‏

قعدت زماناً عن طلابك للعلا *** وجئت نئيشاً بعد ما فاتك الخير

أي‏:‏ وجئت أخيراً‏.‏ قال الفراء‏:‏ الهمز، وترك الهمز متقارب ‏{‏وَيَقْذِفُونَ بالغيب‏}‏ أي‏:‏ يرمون بالظنّ، فيقولون‏:‏ لا بعث، ولا نشور، ولا جنة، ولا نار ‏{‏مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ‏}‏ أي‏:‏ من جهة بعيدة ليس فيها مستند لظنهم الباطل‏.‏

وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ يقولون في القرآن أقوال باطلة‏:‏ إنه سحر، وشعر، وأساطير الأوّلين‏.‏ وقيل‏:‏ يقولون في محمد إنه ساحر شاعر كاهن مجنون‏.‏ وقرأ أبو حيوة، ومجاهد، ومحبوب عن أبي عمرو‏:‏ ‏(‏يقذفون‏)‏ مبنياً للمفعول، أي‏:‏ يرجمون بما يسوؤهم من جراء أعمالهم من حيث لا يحتسبون، وفيه تمثيل لحالهم بحال من يرمي شيئاً لا يراه من مكان بعيد لا مجال للوهم في لحوقه، والجملة إما معطوفة على‏:‏ ‏{‏وقد كفروا به‏}‏ على أنها حكاية للحال الماضية، واستحضار لصورتها، أو مستأنفة لبيان تمثيل حالهم‏.‏ ‏{‏وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ‏}‏ من النجاة من العذاب، ومنعوا من ذلك وقيل‏:‏ حيل بينهم، وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم، وأهليهم، أو حيل بينهم، وبين ما يشتهونه من الرجوع إلى الدنيا ‏{‏كَمَا فُعِلَ بأشياعهم مّن قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ بأمثالهم، ونظرائهم من كفار الأمم الماضية، والأشياع جمع شيع، وشيع جمع شيعة، وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكّ مُّرِيبِ‏}‏ تعليل لما قبلها، أي‏:‏ في شك موقع في الريبة، أو ذي ريبة من أمر الرسل، والبعث، والجنة، والنار، أو في التوحيد، وما جاءتهم به الرسل من الدين، يقال‏:‏ أراب الرجل إذا صار ذا ريبة، فهو مريب، وقيل‏:‏ هو من الريب الذي هو الشك، فهو كما يقال عجب عجيب، وشعر شاعر‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ فَوْتَ‏}‏ قال‏:‏ فلا نجاة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ‏}‏ قال‏:‏ هو جيش السفياني قيل‏:‏ من أين أخذوا‏؟‏ قال‏:‏ من تحت أقدامهم‏.‏ وقد ثبت في الصحيح‏:‏ أنه يخسف بجيش في البيداء من حديث حفصة، وعائشة، وخارج الصحيح من حديث أمّ سلمة، وصفية، وأبي هريرة، وابن مسعود، وليس في شيء منها أن ذلك سبب نزول هذه الآية، ولكنه أخرج ابن جرير من حديث حذيفة بن اليمان قصة الخسف هذه مرفوعة، وقال في آخرها‏:‏ فذلك قوله عزّ وجلّ في سورة سبأ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وأنى لَهُمُ التناوش‏}‏ قال‏:‏ كيف لهم الردّ‏؟‏ ‏{‏مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ‏}‏ قال‏:‏ يسألون الردّ، وليس بحين ردّ‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن التيمي قال‏:‏ أتيت ابن عباس قلت‏:‏ ما التناوش‏؟‏ قال‏:‏ تناول الشيء، وليس بحين ذاك‏.‏

سورة فاطر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏3‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏4‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏7‏)‏ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

الفطر‏:‏ الشقّ عن الشيء، يقال‏:‏ فطرته فانفطر، ومنه‏:‏ فطر ناب البعير إذا طلع، فهو بعير فاطر، وتفطر الشيء‏:‏ تشقق، والفطر الابتداء والاختراع، وهو‏:‏ المراد هنا، والمعنى‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ‏}‏ مبدع ‏{‏السموات والأرض‏}‏، ومخترعهما، والمقصود من هذا‏:‏ أن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم، فهو قادر على الإعادة‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فاطر‏}‏ على صيغة اسم الفاعل، وقرأ الزهري، والضحاك‏:‏ ‏(‏فطر‏)‏ على صيغة الفعل الماضي، فعلى القراءة الأولى هو نعت لله؛ لأن إضافته محضة لكونه بمعنى‏:‏ الماضي، وإن كانت غير محضة كان بدلاً، ومثله‏:‏ ‏{‏جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً‏}‏ يجوز فيه الوجهان، وانتصاب رسلاً بفعل مضمر على الوجه الأوّل، لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى‏:‏ الماضي لا يعمل، وجوّز الكسائي عمله‏.‏ وأما على الوجه الثاني، فهو منصوب بجاعل، والرسل من الملائكة هم‏:‏ جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ ‏(‏جاعل‏)‏ بالرفع، وقرأ خليل بن نشيط، ويحيى بن يعمر‏:‏ ‏(‏جعل‏)‏ على صيغة الماضي‏.‏ وقرأ الحسن، وحميد‏:‏ ‏(‏رسلاً‏)‏ بسكون السين، وهي لغة تميم ‏{‏أُوْلِى أَجْنِحَةٍ‏}‏ صفة ل ‏{‏رسلاً‏}‏، والأجنحة جمع جناح ‏{‏مثنى وثلاث وَرُبَاعَ‏}‏ صفة لأجنحة، وقد تقدّم الكلام في مثنى، وثلاث، ورباع في النساء‏.‏ قال قتادة‏:‏ بعضهم له جنحان، وبعضهم ثلاثة، وبعضهم أربعة ينزلون بها من السماء إلى الأض، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء‏.‏ قال يحيى بن سلام‏:‏ يرسلهم الله إلى الأنبياء‏.‏ وقال السدّي‏:‏ إلى العباد بنعمه، أو نقمه، وجملة ‏{‏يَزِيدُ فِى الخلق مَا يَشَاء‏}‏ مستأنفة مقرّرة لما قبلها من تفاوت أحوال الملائكة، والمعنى‏:‏ أنه يزيد في خلق الملائكة ما يشاء، وهو‏:‏ قول أكثر المفسرين، واختاره الفراء، والزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذه الزيادة في الخلق غير خاصة بالملائكة، فقال الزهري، وابن جريج‏:‏ إنها حسن الصوت‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الملاحة في العينين، والحسن في الأنف، والحلاوة في الفم‏.‏ وقيل‏:‏ الوجه الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ الخط الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ الشعر الجعد‏.‏ وقيل‏:‏ العقل والتمييز‏.‏ وقيل‏:‏ العلوم، والصنائع، ولا وجه لقصر ذلك على نوع خاص بل يتناول كل زيادة‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ تعليل لما قبلها من أنه يزيد في الخلق ما يشاء‏.‏

‏{‏مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا‏}‏ أي‏:‏ ما يأتيهم الله به من مطر ورزق لا يقدر أحد أن يمسكه ‏{‏وَمَا يُمْسِكْ‏}‏ من ذلك لا يقدر أحد أن يرسله من بعد إمساكه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ إن الرسل بعثوا رحمة للناس، فلا يقدر على إرسالهم غير الله‏.‏ وقيل‏:‏ هو الدعاء‏.‏ وقيل‏:‏ التوبة‏.‏ وقيل‏:‏ التوفيق، والهداية‏.‏ ولا وجه لهذا التخصيص بل المعنى‏:‏ كل ما يفتحه الله للناس من خزائن رحمته، فيشمل كل نعمة ينعم الله بها على خلقه، وهكذا الإمساك يتناول كل شيء يمنعه الله من نعمه، فهو سبحانه المعطي المانع القابض الباسط لا معطي سواه، ولا منعم غيره‏.‏

ثم أمر الله سبحانه عباده أن يتذكروا نعمه الفائضة عليهم التي لا تعدّ ولا تحصى ‏{‏وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏، ومعنى هذا الأمر لهم بالذكر‏:‏ هو إرشادهم إلى الشكر لاستدامتها، وطلب المزيد منها ‏{‏هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله‏}‏‏:‏ ‏"‏ من ‏"‏ زائدة، وخالق مبتدأ، وغير الله صفة له‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ورفع غير على معنى هل خالق غير الله؛ لأن «من» زيادة مؤكدة، ومن خفض غير جعلها صفة على اللفظ‏.‏ قرأ الجمهور برفع‏:‏ ‏"‏ غير ‏"‏، وقرأ حمزة، والكسائي بخفضها، وقرأ الفضل بن إبراهيم بنصبها على الاستثناء، وجملة‏:‏ ‏{‏يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض‏}‏ خبر المبتدأ‏.‏ أو جملة مستأنفة، أو صفة أخرى لخالق، وخبره محذوف، والرزق من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات، وغير ذلك، وجملة‏:‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ مستأنفة لتقرير النفي المستفاد من الاستفهام ‏{‏فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏ من الأفك بالفتح، وهو الصرف، يقال‏:‏ ما أفكك عن كذا، أي‏:‏ ما صرفك، أي‏:‏ فكيف تصرفون‏.‏ وقيل‏:‏ هو مأخوذ من الإفك بالكسر، وهو الكذب؛ لأنه مصروف عن الصدق‏.‏ قال الزجاج، أي‏:‏ من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله، والبعث، وأنتم مقرّون بأن الله خلقكم ورزقكم‏.‏ ثم عزّى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ‏}‏ ليتأسى بمن قبله من الأنبياء، ويتسلى عن تكذيب كفار العرب له ‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور‏}‏ لا إلى غيره، فيجازي كلاً بما يستحقه‏.‏ قرأ الحسن، والأعرج، ويعقوب، وابن عامر، وأبو حيوة، وابن محيصن، وحميد، والأعمش، ويحيى بن وثاب، وحمزة، والكسائي، وخلف‏:‏ ‏(‏ترجع‏)‏ بفتح الفوقية على البناء للفاعل، وقرأ الباقون بضمها على البناء للمفعول‏.‏ ‏{‏ياأيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ أي‏:‏ وعده بالبعث، والنشور، والحساب، والعقاب، والجنة، والنار، كما أشير إليه بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور‏}‏‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا‏}‏ بزخرفها، ونعيمها‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها، ولذاتها عن عمل الآخرة حتى يقول‏:‏ ‏{‏يَقُولُ ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 24‏]‏ ‏{‏وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور‏}‏ قرأ الجمهور بفتح الغين، أي‏:‏ المبالغ في الغرور، وهو‏:‏ الشيطان‏.‏ قال ابن السكيت، وأبو حاتم‏:‏ الغرور الشيطان، ويجوز‏:‏ أن يكون مصدراً، واستبعده الزجاج، لأن غرر به متعدي، ومصدر المتعدي إنما هو على فعل نحو ضربته ضرباً، إلاّ في أشياء يسيرة معروفة لا يقاس عليها، ومعنى الآية‏:‏ لا يغرنكم الشيطان بالله، فيقول لكم‏:‏ إن الله يتجاوز عنكم، ويغفر لكم لفضلكم، أو لسعة رحمته لكم‏.‏ وقرأ أبو حيوة، وأبو سماك، ومحمد بن السميفع بضم الغين، وهو‏:‏ الباطل‏.‏

قال ابن السكيت‏:‏ والغرور بالضم ما يغرّ من متاع الدنيا‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز‏:‏ أن يكون الغرور جمع غار، مثل قاعد، وقعود‏.‏ قيل‏:‏ ويجوز أن يكون مصدر غرّه كاللزوم، والنهوك، وفيه ما تقدّم عن الزجاج من الاستبعاد‏.‏

ثم حذر سبحانه عباده من الشيطان، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً‏}‏ أي‏:‏ فعادوه بطاعة الله، ولا تطيعوه في معاصي الله‏.‏ ثم بيّن لعباده كيفية عداوة الشيطان لهم، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير‏}‏ أي‏:‏ إنما يدعو أشياعه، وأتباعه، والمطيعين له إلى معاصي الله سبحانه لأجل أن يكونوا من أهل النار، ومحل الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ الرفع على الابتداء، و‏{‏لهم عذاب شديد‏}‏ خبره، أو الرفع على البدل من فاعل ‏{‏يكونوا‏}‏، أو النصب على البدل من ‏{‏حزبه‏}‏، أو النعت له، أو إضمار فعل يدل على الذمّ، والجرّ على البدل من أصحاب، أو النعت له‏.‏ والرفع على الابتداء أقوى هذه الوجوه، لأنه سبحانه بعد ذكر عداوة الشيطان ودعائه لحزبه، ذكر حال الفريقين من المطيعين له، والعاصين عليه، فالفريق الأوّل قال‏:‏ ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏، والفريق الآخر قال فيه‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏ أي يغفر الله لهم بسبب الإيمان والعمل الصالح، ويعطيهم أجراً كبيراً، وهو‏:‏ الجنة‏.‏

‏{‏أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً‏}‏ هذه الجملة مستأنفة لتقرير ما سبق من ذكر التفاوت بين الفريقين، و«من» في موضع رفع بالابتداء، وخبره محذوف‏.‏ قال الكسائي‏:‏ والتقدير ذهبت نفسك عليهم حسرات‏.‏ قال‏:‏ ويدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات‏}‏ قال‏:‏ وهذا كلام عربيّ ظريف لا يعرفه إلاّ القليل‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ تقديره كمن هداه، وقدّره غيرهما كمن لم يزين له، وهذا أولى لموافقته لفظاً، ومعنى، وقد وهم صاحب الكشاف، فحكى عن الزجاج ما قاله الكسائي‏.‏ قال النحاس‏:‏ والذي قاله الكسائي أحسن ما قيل في الآية لما ذكره من الدلالة على المحذوف، والمعنى‏:‏ أن الله عزّ وجلّ نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن شدّة الاغتمام بهم، والحزن عليهم كما قال‏:‏ ‏{‏فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 6‏]‏ وجملة ‏{‏فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ مقرّرة لما قبلها، أي‏:‏ يضلّ من يشاء أن يضله، ويهدي من يشاء أن يهديه ‏{‏فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات‏}‏ قرأ الجمهور بفتح الفوقية، والهاء مسنداً إلى النفس، فتكون من باب‏:‏ لا أرينّك ها هنا‏.‏ وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وابن محيصن، والأشهب بضم التاء، وكسر الهاء، ونصب ‏{‏نفسك‏}‏، وانتصاب ‏{‏حسرات‏}‏ على أنه علة، أي‏:‏ للحسرات، ويجوز‏:‏ أن ينتصب على الحال كأنها صارت كلها حسرات لفرط التحسر كما روي عن سيبويه‏.‏ وقال المبرد‏:‏ إنها تمييز‏.‏

والحسرة شدّة الحزن على ما فات من الأمر ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ‏}‏ لا يخفى عليه من أفعالهم وأقوالهم خافية، والجملة تعليل لما قبلها مع ما تضمنته من الوعيد الشديد‏.‏

وقد أخرج أبو عبيد في فضائله، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس قال‏:‏ كنت لا أدري ما ‏{‏فاطر السماوات والأرض‏}‏ حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما‏:‏ أنا فطرتها، يقول‏:‏ ابتدأتها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال‏:‏ ‏{‏فَاطِرَ السموات‏}‏ بديع السموات‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏يَزِيدُ فِى الخلق مَا يَشَاء‏}‏ قال‏:‏ الصوت الحسن‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ‏}‏ الآية قال‏:‏ ما يفتح الله للناس من باب توبة ‏{‏فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا‏}‏ هم يتوبون إن شاءوا وإن أبوا، وما أمسك من باب توبة ‏{‏فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ‏}‏، وهم لا يتوبون‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم في الآية قال‏:‏ يقول‏:‏ ليس لك من الأمر شيء‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏ قال‏:‏ كل شيء في القرآن لهم مغفرة، وأجر كبير، ورزق كريم، فهو‏:‏ الجنة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة، والحسن في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ‏}‏ قال‏:‏ الشيطان زين لهم، هي والله الضلالات ‏{‏فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات‏}‏ أي‏:‏ لا تحزن عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 14‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ‏(‏9‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ‏(‏10‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏11‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ‏(‏13‏)‏ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

ثم أخبر سبحانه عن نوع من أنواع بديع صنعه، وعظيم قدرته، ليتفكروا في ذلك، وليعتبروا به، فقال‏:‏ ‏{‏والله الذى أَرْسَلَ الرياح‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏الرياح‏}‏، وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، والأعمش، ويحيى بن وثاب، وحمزة، والكسائي ‏(‏الريح‏)‏ بالإفراد ‏{‏فَتُثِيرُ سحابا‏}‏ جاء بالمضارع بعد الماضي استحضاراً للصورة، لأن ذلك أدخل في اعتبار المعتبرين، ومعنى كونها‏:‏ تثير السحاب أنها تزعجه من حيث هو ‏{‏فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيّتٍ‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ سبيله، فتسوقه، لأنه قال‏:‏ ‏{‏فتثير سحاباً‏}‏‏.‏ قيل‏:‏ النكتة في التعبير بالماضيين بعد المضارع‏:‏ الدلالة على التحقق‏.‏ قال المبرد‏:‏ ميت وميّت واحد، وقال‏:‏ هذا قول البصريين، وأنشد‏:‏

ليس من مات فاستراح بميت *** إنما الميت ميت الأحياء

‏{‏فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض‏}‏ أي‏:‏ أحيينا بالمطر الأرض بإنبات ما ينبت فيها، وإن لم يتقدّم ذكر المطر، فالسحاب يدل عليه، أو أحيينا بالسحاب، لأنه سبب المطر ‏{‏بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ أي‏:‏ بعد يبسها، استعار الإحياء للنبات، والموت لليبس ‏{‏كَذَلِكَ النشور‏}‏ أي‏:‏ كذلك يحيي الله العباد بعد موتهم كما أحيا الأرض بعد موتها، والنشور‏:‏ البعث، من نشر الإنسان نشوراً، والكاف في محل رفع على الخيرية، أي‏:‏ مثل إحياء موات الأرض إحياء الأموات، فكيف تنكرونه، وقد شاهدتم غير مرّة ما هو مثله وشبيه به‏؟‏

‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ العزة‏}‏ قال الفرّاء‏:‏ معناه‏:‏ من كان علم العزة لمن هي‏؟‏ فإنها الله جميعاً‏.‏ وقال قتادة‏:‏ من كان يريد العزّة، فليتعزز بطاعة الله، فجعل معنى فللّه العزّة‏:‏ الدعاء إلى طاعة من له العزّة، كما يقال‏:‏ من أراد المال، فالمال لفلان، أي‏:‏ فليطلبه من عنده‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ تقديره من كان يريد بعبادة الله العزّة، والعزّة له سبحانه، فإن الله عزّ وجلّ يعزّه في الدنيا والآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ العزة‏}‏ المشركون، فإنهم كانوا يتعزّزون بعبادة الأصنام‏:‏ كقوله‏:‏ ‏{‏واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 81‏]‏‏.‏ وقيل المراد‏:‏ الذين كانوا يتعزّزون بهم من الذين آمنوا بألسنتهم ‏{‏الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 139‏]‏ الآية‏.‏ ‏{‏فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً‏}‏ أي‏:‏ فليطلبها منه لا من غيره، والظاهر في معنى الآية‏:‏ أن من كان يريد العزّة، ويطلبها، فليطلبها من الله عزّ وجلّ‏:‏ فللّه العزّة جميعاً، ليس لغيره منها شيء، فتشمل الآية كل من طلب العزّة، ويكون المقصود بها التنبيه لذوي الأقدار، وألهمم من أين تنال العزّة، ومن أيّ جهة تطلب‏؟‏

‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ‏}‏ أي‏:‏ إلى الله يصعد لا إلى غيره، ومعنى صعوده إليه‏:‏ قبوله له، أو صعود الكتبة من الملائكة بما يكتبونه من الصحف، وخصّ الكلم الطيب بالذكر لبيان الثواب عليه، وهو يتناول كل كلام يتصف بكونه طيباً من ذكر لله، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وتلاوة، وغير ذلك، فلا وجه لتخصيصه بكلمة التوحيد، أو بالتحميد، والتمجيد‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بصعوده صعوده إلى سماء الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بصعوده علم الله به، ومعنى ‏{‏والعمل الصالح يَرْفَعُهُ‏}‏ أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، كما قال الحسن، وشهر بن حوشب، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، وأبو العالية، والضحاك، ووجهه‏:‏ أنه لا يقبل الكلم الطيب إلاّ مع العمل الصالح‏.‏ وقيل‏:‏ إن فاعل ‏{‏يرفعه‏}‏ هو ‏{‏الكلم الطيب‏}‏، ومفعوله ‏{‏العمل الصالح‏}‏، ووجهه‏:‏ أن العمل الصالح لا يقبل إلاّ مع التوحيد، والإيمان‏.‏ وقيل‏:‏ إن فاعل ‏{‏يرفعه‏}‏ ضمير يعود إلى الله عزّ وجلّ‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله يرفع العمل الصالح على الكلم الطيب، لأن العمل يحقق الكلام‏.‏ وقيل‏:‏ والعمل الصالح يرفع صاحبه، وهو الذي أراد العزّة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ المعنى‏:‏ أن الله يرفع العمل الصالح لصاحبه، أي‏:‏ يقبله، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏والعمل الصالح‏}‏ على هذا مبتدأ خبره يرفعه، وكذا على قول من قال يرفع صاحبه‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يصعد‏}‏ من صعد الثلاثي‏.‏ و‏{‏الكلم الطيب‏}‏ بالرفع على الفاعلية‏.‏ وقرأ علي، وابن مسعود‏:‏ ‏(‏يصعد‏)‏ بضم حرف المضارعة من أصعد، و‏(‏الكلم الطيب‏)‏ بالنصب على المفعولية، وقرأ الضحاك على البناء للمفعول، وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏الكلم‏}‏، وقرأ أبو عبد الرحمن‏:‏ ‏(‏الكلام‏)‏، وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏والعمل الصالح‏}‏ بالرفع على العطف، أو على الابتدا ء‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة، وعيسى بن عمر بالنصب على الاشتغال‏.‏ ‏{‏والذين يَمْكُرُونَ السيئات لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ انتصاب ‏{‏السيئات‏}‏ على أنها صفة لمصدر محذوف‏:‏ أي‏:‏ يمكرون المكرات السيئات، وذلك لأن «مكر» لازم، ويجوز‏:‏ أن يضمن يمكرون معنى‏:‏ يكسبون، فتكون السيئات مفعولاً به‏.‏ قال مجاهد، وقتادة‏:‏ هم‏:‏ أهل الرياء‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ هم الذين مكروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هم الذين يعملون السيئات في الدنيا‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هم‏:‏ المشركون، ومعنى ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏‏:‏ لهم عذاب بالغ الغاية في الشدّة ‏{‏وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ‏}‏ أي‏:‏ يبطل، ويهلك، ومنه ‏{‏وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 12‏]‏‏.‏ والمكر في الأصل‏:‏ الخديعة، والاحتيال، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إلى الذين مكروا السيئات على اختلاف الأقوال في تفسير مكرهم، وجملة‏:‏ ‏{‏يَبُورُ‏}‏ خبر مكر أولئك‏.‏

ثم ذكر سبحانه دليلاً آخر على البعث، والنشور، فقال‏:‏ ‏{‏والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ‏}‏ أي‏:‏ خلقكم ابتداء في ضمن خلق أبيكم آدم من تراب‏.‏ وقال قتادة‏:‏ يعني‏:‏ آدم، والتقدير على هذا‏:‏ خلق أباكم الأوّل، وأصلكم الذي ترجعون إليه من تراب ‏{‏ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ‏}‏ أخرجها من ظهر آبائكم ‏{‏ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا‏}‏ أي‏:‏ زوّج بعضكم ببعض، فالذكر زوج الأنثى، أو جعلكم أصنافاً ذكراناً وإناثاً ‏{‏وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ‏}‏ أي‏:‏ لا يكون حمل، ولا وضع إلاّ والله عالم به، فلا يخرج شيء عن علمه وتدبيره ‏{‏وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب‏}‏ أي‏:‏ ما يطول عمر أحد، ولا ينقص من عمره إلاّ في كتاب، أي‏:‏ في اللوح المحفوظ‏.‏

قال الفرّاء‏:‏ يريد آخر غير الأوّل، فكنى عنه بالضمير كأنه الأوّل‏:‏ لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأوّل كأنه قال‏:‏ ولا ينقص من عمر معمر، فالكناية في عمره ترجع إلى آخر غير الأوّل، ومثله قولك‏:‏ عندي درهم ونصفه، أي‏:‏ نصف آخر‏.‏ قيل‏:‏ إنما سمي معمراً باعتبار مصيره إليه‏.‏ والمعنى‏:‏ وما يمدّ في عمر أحد، ولا ينقص من عمر أحد، لكن لا على معنى‏:‏ لا ينقص من عمره بعد كونه زائداً، بل على معنى‏:‏ أنه لا يجعل من الابتداء ناقصاً إلاّ وهو في كتاب‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ وما يعمر من معمر إلاّ كتب عمره‏:‏ كم هو سنة، كم هو شهراً، كم هو يوماً، كم هو ساعة، ثم يكتب في كتاب آخر نقص من عمره ساعة، نقص من عمره يوم، نقص من عمره شهر، نقص من عمره سنة حتى يستوفي أجله، فما مضى من أجله، فهو‏:‏ النقصان، وما يستقبل، فهو‏:‏ الذي يعمره‏.‏ وقال قتادة‏:‏ المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ إن الله كتب عمر الإنسان كذا إن أطاع، ودونه إن عصى، فأيهما بلغ، فهو في كتاب، والضمير على هذا يرجع إلى معمر‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ وما يعمر من معمر إلى الهرم، ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلاّ في كتاب، أي‏:‏ بقضاء الله قاله الضحاك، واختاره النحاس‏.‏ قال‏:‏ وهو أشبهها بظاهر التنزيل، والأولى أن يقال‏:‏ ظاهر النظم القرآني أن تطويل العمر وتقصيره‏:‏ هما بقضاء الله، وقدره لأسباب تقتضي التطويل، وأسباب تقتضي التقصير‏.‏

فمن أسباب التطويل‏:‏ ما ورد في صلة الرّحم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك‏.‏ ومن أسباب التقصير الاستكثار من معاصي الله عزّ وجلّ، فإذا كان العمر المضروب للرجل مثلاً سبعين سنة، فقد يزيد الله له عليها إذا فعل أسباب الزيادة، وقد ينقصه منها إذا فعل أسباب النقصان، والكلّ في كتاب مبين، فلا تخالف بين هذه الآية، وبين قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 34‏]‏، ويؤيد هذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 39‏]‏، وقد قدّمنا في تفسيرها ما يزيد ما ذكرنا هنا وضوحاً وبياناً‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ينقص‏}‏ مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ يعقوب، وسلام، وروي عن أبي عمرو‏:‏ ‏(‏ينقص‏)‏ مبنياً للفاعل‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏من عمره‏}‏ بضمّ الميم‏.‏ وقرأ الحسن، والأعرج، والزهري بسكونها، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ إلى ما سبق من الخلق، وما بعده ‏{‏عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ لا يصعب عليه منه شيء، ولا يعزب عنه كثير، ولا قليل، ولا كبير، ولا صغير‏.‏

ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من بديع صنعه، وعجيب قدرته، فقال ‏{‏وَمَا يَسْتَوِى البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ‏}‏ فالمراد ب ‏{‏البحران‏}‏ العذب، والمالح، فالعذب الفرات الحلو، والأجاج المرّ، والمراد ب ‏{‏سَائِغٌ شَرَابُهُ‏}‏‏:‏ الذي يسهل انحداره في الحلق لعذوبته‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر‏:‏ ‏(‏سيغ‏)‏ بتشديد الياء، وروي تسكينها عنه‏.‏ وقرأ طلحة، وأبو نهيك‏:‏ ‏(‏ملح‏)‏ بفتح الميم ‏{‏وَمِن كُلّ‏}‏ منهما ‏{‏تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً‏}‏، وهو ما يصاد منهما من حيواناتهما التي تؤكل ‏{‏وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا‏}‏ الظاهر أن المعنى‏:‏ وتستخرجون منهما حلية تلبسونها‏.‏ وقال المبرّد‏:‏ إنما تستخرج الحلية من المالح، وروي عن الزجاج‏:‏ أنه قال‏:‏ إنما تستخرج الحلية منهما إذا اختلطا، لا من كل واحد منهما على انفراده، ورجح النحاس قول المبرّد‏.‏ ومعنى ‏{‏تَلْبَسُونَهَا‏}‏‏:‏ تلبسون كل شيء منها بحسبه، كالخاتم في الأصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق، والخلخال في الرجل، ومما يلبس حلية السلاح الذي يحمل كالسيف، والدرع، ونحوهما ‏{‏وَتَرَى الفلك فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ في كل واحد من البحرين‏.‏ وقال النحاس‏:‏ الضمير يعود إلى الماء المالح خاصة، ولولا ذلك لقال‏:‏ فيهما ‏{‏مَوَاخِرَ‏}‏ يقال‏:‏ مخرت السفينة تمخر‏:‏ إذا شقت الماء‏.‏ فالمعنى‏:‏ وترى السفن في البحرين شواقّ للماء بعضها مقبلة، وبعضها مدبرة بريح واحدة، وقد تقدّم الكلام على هذا في سورة النحل، واللام في ‏{‏لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ‏}‏ متعلقة بما يدل عليه الكلام السابق‏:‏ أي‏:‏ فعل ذلك‏:‏ لتبتغوا، أو بمواخر‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ابتغاء الفضل هو التجارة في البحر إلى البلدان البعيدة في مدّة قريبة كما تقدّم في البقرة ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ الله على ما أنعم عليكم به من ذلك‏.‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ إن المراد من الآية ضرب المثل في حقّ المؤمن والكافر، والكفر والإيمان، فكما لا يستوي البحران كذلك لا يستوي المؤمن والكافر، ولا الكفر والإيمان‏.‏

‏{‏يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل‏}‏ أي‏:‏ يضيف بعض أجزائهما إلى بعض، فيزيد في أحدهما، بالنقص في الآخر، وقد تقدّم تفسيره في آل عمران، وفي مواضع من الكتاب العزيز ‏{‏وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ قدّره الله لجريانهما، وهو‏:‏ يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ هو المدّة التي يقطعان في مثلها الفلك، وهو سنة للشمس، وشهر للقمر‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به جري الشمس في اليوم، والقمر في الليلة‏.‏ وقد تقدّم تفسير هذا مستوفى في سورة لقمان، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ إلى الفاعل لهذه الأفعال، وهو‏:‏ الله سبحانه، واسم الإشارة مبتدأ، وخبره‏:‏ ‏{‏الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك‏}‏ أي‏:‏ هذا الذي من صنعته ما تقدّم‏:‏ هو‏:‏ الخالق المقدّر، والقادر المقتدر المالك للعالم، والمتصرّف فيه، ويجوز‏:‏ أن يكون قوله‏:‏ له الملك جملة مستقلة في مقابلة قوله‏:‏ ‏{‏والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ‏}‏ أي‏:‏ لا يقدرون عليه، ولا على خلقه، والقطمير‏:‏ القشرة الرّقيقة التي تكون بين التمرة والنواة، وتصير على النواة كاللفافة لها‏.‏

وقال المبرّد‏:‏ هو‏:‏ شقّ النواة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو‏:‏ القمع الذي على رأس النواة‏.‏ قال الجوهري‏:‏ ويقال‏:‏ هي‏:‏ النكتة البيضاء التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة‏.‏

ثم بيّن سبحانه حال هؤلاء الذين يدعونهم من دون الله بأنم لا ينفعون ولا يضرّون، فقال‏:‏ ‏{‏إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ‏}‏ أي‏:‏ إن تستغيثوا بهم في النوائب لا يسمعوا دعاءكم، لكونها جمادات لا تدرك شيئاً من المدركات ‏{‏وَلَوْ سَمِعُواْ‏}‏ على طريقة الفرض، والتقدير ‏{‏مَا استجابوا لَكُمْ‏}‏ لعجزهم عن ذلك‏.‏ قال قتادة‏:‏ المعنى ولو سمعوا لم ينفعوكم‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ لو جعلنا لهم سماعاً وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم، ولم يستجيبوا لكم إلى ما دعوتموهم إليه من الكفر ‏{‏وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يتبرّءون من عبادتكم لهم، ويقولون ‏{‏مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 28‏]‏ ويجوز‏:‏ أن يرجع‏:‏ ‏{‏والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 197‏]‏ وما بعده إلى من يعقل ممن عبدهم الكفار، وهم‏:‏ الملائكة، والجنّ، والشياطين‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقاً، وينكرون‏:‏ أنهم أمروكم بعبادتهم ‏{‏وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ‏}‏ أي‏:‏ لا يخبرك مثل من هو خبير بالأشياء عالم بها، وهو‏:‏ الله سبحانه، فإنه لا أحد أخبر بخلقه، وأقوالهم، وأفعالهم منه سبحانه، وهو الخبير بكنه الأمور، وحقائقها‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال‏:‏ يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض، فينفخ فيه، فلا يبقى خلق لله في السماوات والأرض إلاّ من شاء الله إلاّ مات، ثم يرسل الله من تحت العرش منياً كمني الرجال، فتنبت أجسامهم ولحومهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الثرى، ثم قرأ عبد الله ‏{‏الله الذى أَرْسَلَ الرياح‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج أبو داود، والطيالسي، وأحمد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي رزين العقيلي قال‏:‏ «قلت‏:‏ يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ أما مررت بأرض مجدبة، ثم مررت بها مخصبة تهتزّ خضراء‏؟‏ قلت‏:‏ بلى، قال‏:‏ كذلك يحيي الله الموتى، وكذلك النشور ‏"‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود قال‏:‏ إذا حدّثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله، إن العبد المسلم إذا قال‏:‏ سبحان الله، وبحمده، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، وتبارك الله، قبض عليهنّ ملك يضمهنّ تحت جناحه، ثم يصعد بهنّ إلى السماء، فلا يمرّ بهنّ على جمع من الملائكة إلاّ استغفر لقائلهنّ حتى يجيء بهنّ وجه الرحمن، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ‏}‏ قال‏:‏ أداء الفرائض، فمن ذكر الله في أداء فرائضه حمل عمله ذكر الله، فصعد به إلى الله، ومن ذكر الله، ولم يؤدّ فرائضه ردّ كلامه على عمله، وكان عمله أولى به‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ‏}‏ الآية قال‏:‏ يقول ليس أحد قضيت له طول العمر، والحياة إلاّ وهو بالغ ما قدّرت له من العمر وقد قضيت له ذلك، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدّرت له لا يزاد عليه، وليس أحد قضيت له أنه قصير العمر، والحياة ببالغ العمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتب له، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب‏}‏ يقول‏:‏ كل ذلك في كتاب عنده‏.‏ وأخرج أحمد، ومسلم، وأبو عوانة، وابن حبان، والطبراني، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقرّ في الرحم بأربعين، أو بخمسة وأربعين ليلة، فيقول‏:‏ أيّ ربّ أشقي أم سعيد‏؟‏ أذكر أم أنثى‏؟‏ فيقول الله، ويكتبان، ثم يكتب عمله، ورزقه، وأجله، وأثره، ومصيبته، ثم تطوى الصحيفة، فلا يزاد فيها، ولا ينقص» وأخرج ابن أبي شيبة، ومسلم، والنسائي، وأبو الشيخ عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قالت أمّ حبيبة‏:‏ اللهمّ أمتعني بزوجي النبيّ، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنك سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، ولن يعجل الله شيئاً قبل حله، أو يؤخر شيئاً، ولو كنت سألت الله‏:‏ أن يعيذك من عذاب في النار، أو عذاب في القبر كان خيراً وأفضل» وهذه الأحاديث مخصصة بما ورد من قبول الدعاء، وأنه يعتلج هو والقضاء، وبما ورد في صلة الرحم أنها تزيد في العمر، فلا معارضة بين الأدلة كما قدّمنا‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ‏}‏ قال‏:‏ القطمير القشر، وفي لفظ‏:‏ الجلد الذي يكون على ظهر النواة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 26‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏15‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ‏(‏19‏)‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ‏(‏20‏)‏ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ‏(‏21‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏22‏)‏ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ‏(‏23‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ‏(‏24‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

ثم ذكر سبحانه افتقار خلقه إليه، ومزيد حاجتهم إلى فضله، فقال‏:‏ ‏{‏ياأيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله‏}‏ أي‏:‏ المحتاجون إليه في جميع أمور الدين والدنيا، فهم الفقراء إليه على الإطلاق، و‏{‏هُوَ الغنى‏}‏ على الإطلاق ‏{‏الحميد‏}‏ أي‏:‏ المستحقّ للحمد من عباده بإحسانه إليهم‏.‏ ثم ذكر سبحانه نوعاً من الأنواع التي يتحقق عندها افتقارهم إليه، واستغناؤه عنهم، فقال‏:‏ ‏{‏إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ أي‏:‏ إن يشأ يفنكم، ويأت بدلكم بخلق جديد يطيعونه، ولا يعصونه، أو يأت بنوع من أنواع الخلق، وعالم من العالم غير ما تعرفون ‏{‏وَمَا ذلك‏}‏ إلاّ ذهاب لكم، والإتيان بآخرين ‏{‏عَلَى الله بِعَزِيزٍ‏}‏ أي‏:‏ بممتنع، ولا متعسر، وقد مضى تفسير هذا في سورة إبراهيم ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏ أي‏:‏ نفس وازرة، فحذف الموصوف للعلم به، ومعنى تزر‏:‏ تحمل‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تحمل نفس حمل نفس أخرى، أي‏:‏ إثمها بل كل نفس تحمل وزرها، ولا تخالف هذه الآية قوله‏:‏ ‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏؛ لأنهم إنما حملوا أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم، والكلّ من أوزارهم، لا من أوزار غيرهم، ومثل هذا حديث‏:‏ «من سنّ سنة سيئة، فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» فإن الذين سنّ السنة السيئة إنما حمل وزر سنته السيئة، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية مستوفى‏.‏ ‏{‏وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا‏}‏ قال الفرّاء‏:‏ أي‏:‏ نفس مثقلة، قال‏:‏ وهذا يقع للمذكر، والمؤنث‏.‏ قال الأخفش‏:‏ أي وإن تدع مثقلة إنساناً إلى حملها، وهو‏:‏ ذنوبها ‏{‏لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ‏}‏ أي‏:‏ من حملها ‏{‏شَئ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى‏}‏ أي‏:‏ ولو كان الذي تدعوه ذا قرابة لها، لم يحمل من حملها شيئاً‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفساً أخرى إلى حمل شيء من ذنوبها معها لم تحمل تلك المدعوّة من تلك الذنوب شيئاً، ولو كانت قريبة لها في النسب، فكيف بغيرها مما لا قرابة بينها، وبين الداعية لها‏؟‏ وقرئ‏:‏ ‏(‏ذو قربى‏)‏ على أن كان تامة، كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 280‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب‏}‏ مستأنفة مسوقة لبيان من يتعظ بالإنذار، ومعنى ‏{‏يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب‏}‏‏:‏ أنه يخشونه حال كونهم غائبين عن عذابه، أو يخشون عذابه، وهو غائب عنهم، أو يخشونه في الخلوات عن الناس‏.‏ قال الزجاج‏:‏ تأويله أن إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم، فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِىَ الرحمن بالغيب‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 11‏]‏‏.‏ ومعنى ‏{‏وَأَقَامُواْ الصلاة‏}‏‏:‏ أنهم احتفلوا بأمرها، ولم يشتغلوا عنها بشيء مما يلهيهم‏.‏

‏{‏وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ‏}‏ التزكي‏:‏ التطهر من أدناس الشرك، والفواحش، والمعنى‏:‏ أن من تطهر بترك المعاصي، واستكثر من العمل الصالح، فإنما يتطهر لنفسه، لأن نفع ذلك مختصّ به كما أن وزر من تدنس لا يكون إلاّ عليه لا على غيره‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ومن تزكى فإنما يتزكى‏}‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ «فإنما يزكى» بإدغام التاء في الزاي، وقرأ ابن مسعود، وطلحة‏:‏ ‏(‏ومن أزكى فإنما يزكى‏)‏‏.‏ ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏ لا إلى غيره، ذكر سبحانه أوّلاً‏:‏ أنه لا يحمل أحد ذنب أحد، ثم ذكر ثانياً‏:‏ أن المذنب إن دعا غيره، ولو كان من قرابته إلى حمل شيء من ذنوبه لا يحمله، ثم ذكر ثالثاً‏:‏ أن ثواب الطاعة مختصّ بفاعلها ليس لغيره منه شيء‏.‏

ثم ضرب مثلاً للمؤمن، والكافر، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَوِى الأعمى‏}‏ أي‏:‏ المسلوب حاسة البصر ‏{‏والبصير‏}‏ الذي له ملكة البصر، فشبه الكافر بالأعمى، وشبه المؤمن بالبصير ‏{‏وَلاَ الظلمات وَلاَ النور‏}‏ أي‏:‏ ولا تستوي الظلمات ولا النور، فشبه الباطل بالظلمات، وشبه الحقّ بالنور‏.‏ قال الأخفش‏:‏ و‏"‏ لا ‏"‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ولا النور‏}‏، ‏{‏ولا الحرور‏}‏ زائدة، والتقدير وما يستوي الظلمات والنور، ولا الظلّ والحرور، والحرور شدّة حرّ الشمس‏.‏ قال الأخفش‏:‏ والحرور لا يكون إلاّ مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل‏.‏ وقيل‏:‏ عكسه‏.‏ وقال رؤبة بن العجاج‏:‏ الحرور يكون بالليل خاصة، والسموم يكون بالنهار خاصة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ السموم لا يكون إلاّ بالنهار، والحرور يكون فيهما‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا أصح‏.‏ وقال قطرب‏:‏ الحرور الحرّ، والظلّ البرد، والمعنى‏:‏ أنه لا يستوي الظلّ الذي لا حرّ فيه، ولا أذى، والحرّ الذي يؤذي‏.‏ قيل‏:‏ أراد الثواب والعقاب، وسمي الحرّ حروراً مبالغة في شدّة الحرّ، لأن زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ أراد بالظلّ الجنة، وبالحرور النار‏.‏ وقال عطاء‏:‏ يعني‏:‏ ظل الليل، وشمس النهار‏.‏ قيل‏:‏ وإنما جمع الظلمات، وأفرد النور لتعدّد فنون الباطل، واتحاد الحقّ‏.‏

ثم ذكر سبحانه تمثيلاً آخر للمؤمن، والكافر، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَوِى الأحياء وَلاَ الأموات‏}‏، فشبه المؤمنين بالأحياء، وشبه الكافرين بالأموات‏.‏ وقيل‏:‏ أراد تمثيل العلماء، والجهلة‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الأحياء العقلاء، والأموات الجهال‏.‏ قال قتادة‏:‏ هذه كلها أمثال، أي‏:‏ كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن ‏{‏إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء‏}‏ أن يسمعه من أوليائه الذين خلقهم لجنته، ووفقهم لطاعته ‏{‏وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور‏}‏ يعني‏:‏ الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم، أي‏:‏ كما لا تسمع من مات كذلك لا تسمع من مات قلبه، قرأ الجمهور بتنوين‏:‏ ‏{‏مسمع‏}‏ وقطعه عن الإضافة‏.‏ وقرأ الحسن، وعيسى الثقفي، وعمرو بن ميمون بإضافته ‏{‏إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ ما أنت إلاّ رسول منذر ليس عليك إلاّ الإنذار، والتبليغ، والهدى، والضلالة بيد الله عزّ وجلّ‏.‏

‏{‏إِنَّا أرسلناك بالحق‏}‏ يجوز‏:‏ أن يكون ‏{‏بالحقّ‏}‏ في محل نصب على الحال من الفاعل، أي‏:‏ محقين، أو من المفعول، أي‏:‏ محقاً، أو نعت لمصدر محذوف، أي‏:‏ إرسالاً ملتبساً بالحقّ، أو هو متعلق ب ‏{‏بشيراً‏}‏، أي‏:‏ بشيراً بالوعد الحقّ، ونذيراً بالوعد الحقّ، والأولى‏:‏ أن يكون نعتاً للمصدر المحذوف، ويكون معنى بشيراً‏:‏ بشيراً لأهل الطاعة، ونذيراً لأهل المعصية ‏{‏وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ ما من أمة من الأمم الماضية إلاّ مضى فيها نذير من الأنبياء ينذرها، واقتصر على ذكر النذير دون البشير، لأنه ألصق بالمقام‏.‏

ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وعزّاه، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ كذب من قبلهم من الأمم الماضية أنبياءهم ‏{‏جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات‏}‏ أي‏:‏ بالمعجزات الواضحة، والدلالات الظاهرة ‏{‏وبالزبر‏}‏ أي‏:‏ الكتب المكتوبة كصحف إبراهيم ‏{‏وبالكتاب المنير‏}‏ كالتوراة، والإنجيل، قيل‏:‏ الكتاب المنير داخل تحت الزبر، وتحت البينات، والعطف لتغاير المفهومات، وإن كانت متحدة في الصدق، والأولى تخصيص البينات بالمعجزات، والزبر بالكتب التي فيها مواعظ، والكتاب بما فيه شرائع، وأحكام، ‏{‏ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ وضع الظاهر موضع الضمير يفيد التصريح بذمهم بما في حيز الصلة، ويشعر بعلة الأخذ ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ أي‏:‏ فكيف كان نكيري عليهم، وعقوبتي لهم، وقرأ ورش عن نافع وشيبة بإثبات الياء في‏:‏ ‏{‏نكير‏}‏ وصلاً ولا وقفاً، وقد مضى بيان معنى هذا قريباً‏.‏

وقد أخرج أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع‏:‏ «ألا لا يجني جانٍ إلاّ على نفسه، لا يجني والد على ولده، ولا مولود على والده» وأخرج سعيد بن منصور، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن أبي رمثة قال‏:‏ انطلقت مع أبي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته قال لأبي‏:‏ ابنك هذا‏؟‏ قال‏:‏ أي، وربّ الكعبة، قال‏:‏ أما أنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَئ‏}‏ قال‏:‏ يكون عليه وزر لا يجد أحداً يحمل عنه من وزره شيئاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 35‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ‏(‏27‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ‏(‏28‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ‏(‏29‏)‏ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏30‏)‏ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏31‏)‏ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏32‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏33‏)‏ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ‏(‏35‏)‏‏}‏

ثم ذكر سبحانه نوعاً من أنواع قدرته الباهرة، وخلقاً من مخلوقاته البديعة، فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكلّ من يصلح له ‏{‏أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء‏}‏ وهذه الرؤية هي‏:‏ القلبية، أي ألم تعلم، وأن واسمها وخبرها سدّت مسدّ المفعولين ‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ بالماء، والنكتة في هذا الالتفات إظهار كمال العناية بالفعل لما فيه من الصنع البديع، وانتصاب ‏{‏مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا‏}‏ على الوصف لثمرات، والمراد بالألوان الأجناس، والأصناف، أي‏:‏ بعضها أبيض، وبعضها أحمر، وبعضها أصفر، وبعضها أخضر، وبعضها أسود ‏{‏وَمِنَ الجبال جُدَدٌ‏}‏ الجدد جمع جدة، وهي‏:‏ الطريق‏.‏ قال الأخفش‏:‏ ولو كان جمع جديد لقال جدد بضم الجيم والدال، نحو سرير وسرر‏.‏ قال زهير‏:‏

كأنه أسفع الخدين ذو جدد *** طاوٍ ويرتع بعد الصيف أحياناً

وقيل‏:‏ الجدد القطع، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته، حكاه ابن بحر‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الجدة‏:‏ الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه، والجدة الطريقة، والجمع جدد، وجدائد، ومن ذلك قول أبي ذؤيب‏:‏

جون السراة له جدائد أربع *** قال المبرد‏:‏ جدد‏:‏ طرائق وخطوط‏.‏ قال الواحدي‏:‏ ونحو هذا قال المفسرون في تفسير الجدد‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هي‏:‏ الطرق تكون في الجبال كالعروق بيض، وسود، وحمر، واحدها جدة‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله سبحانه أخبر عن جدد الجبال، وهي‏:‏ طرائقها، أو الخطوط التي فيها بأن لون بعضها البياض، ولون بعضها الحمرة، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏جدد‏}‏ بضم الجيم، وفتح الدال‏.‏ وقرأ الزهري بضمهما جمع جديدة، وروي عنه‏:‏ أنه قرأ بفتحهما، وردّها أبو حاتم وصححها غيره، وقال‏:‏ الجدد الطريق الواضح البين ‏{‏وَغَرَابِيبُ سُودٌ‏}‏ الغربيب الشديد السواد الذي يشبه لونه لون الغراب‏.‏ قال الجوهري‏:‏ تقول هذا أسود غربيب، أي‏:‏ شديد السواد، وإذا قلت غرابيب سود جعلت السود بدلاً من غرابيب‏.‏ قال الفراء‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير تقديره‏:‏ وسود غرابيب، لأنه يقال‏:‏ أسود غربيب، وقلّ ما يقال‏:‏ غربيب أسود، وقوله‏:‏ ‏{‏مُّخْتَلِف أَلْوَانُهَا‏}‏ صفة لجدد، وقوله‏:‏ ‏{‏وَغَرَابِيبُ‏}‏ معطوف على جدد على معنى‏:‏ ومن الجبال جدد بيض، وحمر، ومن الجبال غرابيب على لون واحد، وهو‏:‏ السواد، أو على حمر على معنى، ومن الجبال جدد بيض، وحمر، وسود‏.‏ وقيل‏:‏ معطوف على بيض، ولا بدّ من تقدير مضاف محذوف قبل جدد، أي‏:‏ ومن الجبال ذو جدد، لأن الجدد إنما هي في ألوان بعضها‏.‏

‏{‏وَمِنَ الناس والدواب والأنعام مُخْتَلِفٌ ألوانه‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏مختلف‏}‏ صفة لموصوف محذوف، أي‏:‏ ومنهم صنف، أو نوع، أو بعض مختلف ألوانه بالحمرة، والسواد، والبياض، والخضرة، والصفرة‏.‏ قال الفراء، أي‏:‏ خلق مختلف ألوانه كاختلاف الثمرات، والجبال، وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان في هذه الأشياء، لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله، وبديع صنعه، ومعنى ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ مختلفاً مثل ذلك الاختلاف، وهو صفة لمصدر محذوف، والتقدير مختلف ألوانه اختلافاً كائناً كذلك، أي‏:‏ كاختلاف الجبال، والثمار‏.‏

وقرأ الزهري‏:‏ «والدواب» بتخفيف الباء‏.‏ وقرأ ابن السميفع‏:‏ «ألوانها»‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ متعلق بما بعده، أي‏:‏ مثل ذلك المطر، والاعتبار في مخلوقات الله، واختلاف ألوانها يخشي الله من عباده العلماء، وهذا اختاره ابن عطية، وهو مردود بأن ما بعد إنما لا يعمل فيما قبلها‏.‏ والراجح الوجه الأوّل، والوقف على‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ تامّ‏.‏ ثم استؤنف الكلام، وأخبر سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء‏}‏ أو هو من تتمة قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 18‏]‏ على معنى إنما يخشاه سبحانه بالغيب العالمون به، وبما يليق به من صفاته الجليلة، وأفعاله الجميلة، وعلى كل تقدير، فهو‏:‏ سبحانه قد عين في هذه الآية أهل خشيته، وهم‏:‏ العلماء به، وتعظيم قدرته‏.‏ قال مجاهد‏:‏ إنما العالم من خشي الله عزّ وجلّ‏.‏ وقال مسروق‏:‏ كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار جهلاً، فمن كان أعلم بالله كان أخشاهم له‏.‏ قال الربيع بن أنس‏:‏ من لم يخش الله، فليس بعالم‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ العالم من خاف الله، ووجه تقديم المفعول أن المقام مقام حصر الفاعلية، ولو أخر انعكس الأمر‏.‏ وقرأ عمر بن عبد العزيز برفع الاسم الشريف، ونصب العلماء، ورويت هذه القراءة عن أبي حنيفة قال في الكشاف‏:‏ الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى‏:‏ أنه يجلهم، ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس، وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ‏}‏ تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب على معصيته غافر لمن تاب من عباده‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله‏}‏ أي‏:‏ يستمرّون على تلاوته، ويداومونها‏.‏ والكتاب هو‏:‏ القرآن الكريم، ولا وجه لما قيل‏:‏ إن المراد به جنس كتب الله ‏{‏وَأَقَامُواْ الصلاة‏}‏ أي‏:‏ فعلوها في أوقاتها مع كمال أركانها، وأذكارها ‏{‏وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً‏}‏ فيه حثّ على الإنفاق كيف ما تهيأ، فإن تهيأ سرّاً، فهو أفضل، وإلاّ فعلانية، ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء، ويمكن أن يراد بالسرّ صدقة النفل، وبالعلانية صدقة الفرض، وجملة‏.‏ ‏{‏يَرْجُونَ تجارة لَّن تَبُورَ‏}‏ في محل رفع على خبرية إنّ كما قال ثعلب، وغيره، والمراد بالتجارة ثواب الطاعة ومعنى ‏{‏لَّن تَبُورَ‏}‏‏:‏ لن تكسد، ولن تهلك، وهي صفة للتجارة، والإخبار برجائهم لثواب ما عملوا بمنزلة الوعد بحصول مرجوهم‏.‏ واللام في‏:‏ ‏{‏لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ‏}‏ متعلق بلن تبور، على معنى‏:‏ أنها لن تكسد لأجل أن يوفيهم أجور أعمالهم الصالحة، ومثل هذه الآية قوله سبحانه‏:‏

‏{‏فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 173‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن اللام متعلقة بمحذوف دلّ عليه السياق‏:‏ أي‏:‏ فعلوا ذلك ليوفيهم، ومعنى ‏{‏وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ‏}‏ أنّه يتفضل عليهم بزيادة على أجورهم التي هي جزاء أعمالهم، وجملة ‏{‏إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ‏}‏ تعليل لما ذكر من التوفية والزيادة‏:‏ أي‏:‏ غفور لذنوبهم شكور لطاعتهم، وقيل‏:‏ إن هذه الجملة هي‏:‏ خبر إنّ، وتكون جملة يرجون في محل نصب على الحال، والأوّل أولى‏.‏

‏{‏والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ اللوح المحفوظ على أن من تبعيضية، أو ابتدائية، وجملة‏:‏ ‏{‏هُوَ الحق‏}‏ خبر الموصول و‏{‏مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ منتصب على الحال، أي‏:‏ موافقاً لما تقدّمه من الكتب ‏{‏إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ محيط بجميع أمورهم ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ المفعول الأوّل لأورثنا الموصول، والمفعول الثاني الكتاب، وإنما قدّم المفعول الثاني لقصد التشريف، والتعظيم للكتاب، والمعنى‏:‏ ثم أورثنا الذين اصطفيناهم من عبادنا الكتاب، وهو‏:‏ القرآن، أي‏:‏ قضينا، وقدّرنا بأن نورث العلماء من أمتك يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك، ومعنى اصطفائهم‏:‏ اختيارهم، واستخلاصهم، ولا شك أن علماء هذه الأمة من الصحابة، فمن بعدهم قد شرفهم الله على سائر العباد، وجعلهم أمة وسطاً؛ ليكونوا شهداء على الناس، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء، وسيد ولد آدم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ قرآن محمد جعلناه ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا‏.‏ وقيل‏:‏ إن المعنى‏:‏ أورثناه من الأمم السالفة، أي‏:‏ أخرناه عنهم، وأعطيناه الذين اصطفينا، والأوّل أولى‏.‏ ثم قسم سبحانه هؤلاء الذي أورثهم كتابه، واصطفاهم من عباده إلى ثلاثة أقسام، فقال‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ‏}‏ قد استشكل كثير من أهل العلم معنى هذه الآية، لأنه سبحانه جعل هذا القسم الظالم لنفسه من ذلك المقسم، وهو من اصطفاهم من العباد، فكيف يكون من اصطفاه الله ظالماً لنفسه‏؟‏ فقيل‏:‏ إن التقسيم هو راجع إلى العباد، أي‏:‏ فمن عبادنا ظالم لنفسه، وهو‏:‏ الكافر، ويكون ضمير ‏{‏يدخلونها‏}‏ عائداً إلى المقتصد والسابق‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالظالم لنفسه هو‏:‏ المقصر في العمل به، وهو‏:‏ المرجأ لأمر الله، وليس من ضرورة ورثة الكتاب مراعاته حقّ رعايته، لقوله‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 169‏]‏، وهذا فيه نظر، لأن ظلم النفس لا يناسب الاصطفاء‏.‏ وقيل‏:‏ الظالم لنفسه‏:‏ هو‏:‏ الذي عمل الصغائر، وقد روي هذا القول عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وأبي الدرداء، وعائشة، وهذا هو الراجح، لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور من ذهب إلى آخر ما سيأتي‏.‏ ووجه كونه ظالماً لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له، فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات لكان لنفسه فيها من الثواب حظاً عظيماً‏.‏

وقيل‏:‏ الظالم لنفسه هو‏:‏ صاحب الكبائر‏.‏

وقد اختلف السلف في تفسير السابق، والمقتصد، فقال عكرمة، وقتادة، والضحاك‏:‏ إن المقتصد المؤمن العاصي، والسابق التقيّ على الإطلاق، وبه قال الفراء، وقال مجاهد في تفسير الآية‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ‏}‏ أصحاب المشأمة ‏{‏وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ‏}‏‏:‏ أصحاب الميمنة ‏{‏وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات‏}‏‏:‏ السابقون من الناس كلهم‏.‏ وقال المبرد‏:‏ إن المقتصد هو الذي يعطي الدنيا حقها، والآخرة حقها‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الظالم الذي ترجح سيآته على حسناته، والمقتصد الذي استوت حسناته، وسيآته، والسابق من رجحت حسناته على سيآته‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ الظالم لنفسه أصحاب الكبائر من أهل التوحيد، والمقتصد الذي لم يصب كبيرة، والسابق الذي سبق إلى الأعمال الصالحة‏.‏ وحكى النحاس‏:‏ أن الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيآته، فتكون جنات عدن يدخلونها للذين سبقوا بالخيرات لا غير، قال‏:‏ وهذا قول جماعة من أهل النظر، لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى‏.‏ وقال الضحاك‏.‏ فيهم ظالم لنفسه، أي‏:‏ من ذرّيتهم ظالم لنفسه‏.‏ وقال سهل بن عبد الله‏:‏ السابق العالم، والمقتصد المتعلم، والظالم لنفسه الجاهل‏.‏ وقال ذو النون المصري‏:‏ الظالم لنفسه الذاكر لله بلسانه فقط، والمقتصد الذاكر بقلبه، والسابق الذي لا ينساه‏.‏ وقال الأنطاكي‏:‏ الظالم صاحب الأقوال، والمقتصد صاحب الأفعال، والسابق صاحب الأحوال‏.‏ وقال ابن عطاء‏:‏ الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا، والمقتصد الذي يحب الله من أجل العقبى، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحقّ‏.‏ وقيل‏:‏ الظالم الذي يعبد الله خوفاً من النار، والمقتصد الذي يعبده طمعاً في الجنة، والسابق الذي يعبده لا لسبب‏.‏ وقيل‏:‏ الظالم الذي يحبّ نفسه، والمقتصد الذي يحبّ دينه، والسابق الذي يحبّ ربه‏.‏ وقيل‏:‏ الظالم الذي ينتصف ولا ينصف، والمقتصد الذي ينتصف، وينصف، والسابق الذي ينصف ولا ينتصف وقد ذكر الثعلبي، وغيره أقوالاً كثيرة، ولا شك أن المعاني اللغوية للظالم، والمقتصد، والسابق معروفة، وهو يصدق على الظلم للنفس بمجرّد إحرامها للحظ، وتفويت ما هو خير لها، فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه باعتبار ما فوّتها من الثواب، وإن كان قائماً بما أوجب الله عليه تاركاً لما نهاه الله عنه، فهو من هذه الحيثية من اصطفاه الله، ومن أهل الجنة، فلا إشكال في الآية، ومن هذا قول آدم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏، وقول يونس‏:‏ ‏{‏إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏، ومعنى المقتصد‏:‏ هو من يتوسط في أمر الدين، ولا يميل إلى جانب الإفراط، ولا إلى جانب التفريط، وهذا من أهل الجنة، وأما السابق، فهو‏:‏ الذي سبق غيره في أمور الدين، وهو خير الثلاثة‏.‏

وقد استشكل تقديم الظالم على المقتصد، وتقديمهما على السابق مع كون المقتصد أفضل من الظالم لنفسه، والسابق أفضل منهما، فقيل‏:‏ إن التقديم لا يقتضي التشريف كما في قوله‏:‏

‏{‏لاَ يَسْتَوِى أصحاب النار وأصحاب الجنة‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 20‏]‏، ونحوها من الآيات القرآنية التي فيها تقديم أهل الشرّ على أهل الخير، وتقديم المفضولين على الفاضلين‏.‏ وقيل‏:‏ وجه التقديم هنا‏:‏ أن المقتصدين بالنسبة إلى أهل المعاصي قليل، والسابقين بالنسبة إلى الفريقين أقلّ قليل، فقدّم الأكثر على الأقلّ، والأوّل أولى، فإن الكثرة بمجرّدها لا تقتضي تقديم الذكر‏.‏ وقد قيل‏:‏ في وجه التقديم غير ما ذكرنا مما لا حاجة إلى التطويل به‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى توريث الكتاب، والاصطفاء‏.‏ وقيل‏:‏ إلى السبق بالخيرات، والأوّل أولى، وهو مبتدأ، وخبره‏:‏ ‏{‏هُوَ الفضل الكبير‏}‏ أي‏:‏ الفضل الذي لا يقادر قدره‏.‏ وارتفاع ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ على أنها مبتدأ، وما بعدها خبرها، أو على البدل من الفضل، لأنه لما كان هو السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب، وعلى هذا، فتكون جملة‏:‏ ‏{‏يَدْخُلُونَهَا‏}‏ مستأنفة، وقد قدّمنا‏:‏ أن الضمير في يدخلونها يعود إلى الأصناف الثلاثة، فلا وجه لقصره على الصنف الأخير، وقرأ زرّ بن حبيش، والترمذي‏:‏ ‏(‏جنة‏)‏ بالإفراد، وقرأ الجحدري‏:‏ ‏(‏جنات‏)‏ بالنصب على الاشتغال، وجوّز أبو البقاء‏:‏ أن تكون جنات خبراً ثانياً لاسم الإشارة، وقرأ أبو عمرو‏:‏ ‏(‏يدخلونها‏)‏ على البناء للمفعول، وقوله‏:‏ ‏{‏يُحَلَّوْنَ‏}‏ خبر ثان لجنات عدن، أو حال مقدّرة، وهو من حليت المرأة، فهي‏:‏ حال، وفيه إشارة إلى سرعة الدخول، فإن في تحليتهم خارج الجنة تأخيراً للدخول، فلما قال‏:‏ ‏{‏يُحَلَّوْنَ فِيهَا‏}‏ أشار أن دخولهم على وجه السرعة ‏{‏مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ‏}‏ «من» الأولى تبعيضية، والثانية بيانية، أي‏:‏ يحلون بعض أساور كائنة من ذهب، والأساور جمع أسورة جمع سوار، وانتصاب ‏{‏لُؤْلُؤاً‏}‏ بالعطف على محل ‏{‏مِنْ أَسَاوِرَ‏}‏ وقرئ بالجرّ عطفاً على ذهب ‏{‏وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ‏}‏ قد تقدّم تفسير الآية مستوفى في سورة الحج‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏الحزن‏}‏ بفتحتين‏.‏ وقرأ جناح بن حبيش بضمّ الحاء، وسكون الزاي‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم يقولون هذه المقالة إذا دخلوا الجنة‏.‏ قال قتادة‏:‏ حزن الموت‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ حزن السيئات والذنوب، وخوف ردّ الطاعات‏.‏ وقال القاسم‏:‏ حزن زوال النعم، وخوف العاقبة‏.‏ وقيل‏:‏ حزن أهوال يوم القيامة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ همّ الخبز في الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ همّ المعيشة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش، أو معاد‏.‏ وهذا أرجح الأقوال، فإن الدنيا، وإن بلغ نعيمها أيّ بلغ لا تخلو من شوائب ونوائب تكثر لأجلها الأحزان، وخصوصاً أهل الإيمان، فإنهم لا يزالون وجلين من عذاب الله خائفين من عقابه، مضطربي القلوب في كل حين، هل تقبل أعمالهم أو تردّ‏؟‏ حذرين من عاقبة السوء، وخاتمة الشرّ، ثم لا تزال همومهم وأحزانهم حتى يدخلوا الجنة‏.‏

وأما أهل العصيان‏:‏ فهم، وإن نفس عن خناقهم قليلاً في حياة الدنيا التي هي دار الغرور، وتناسوا دار القرار يوماً من دهرهم، فلا بدّ أن يشتدّ وجلهم، وتعظم مصيبتهم، وتغلي مراجل أحزانهم إذا شارفوا الموت، وقربوا من منازل الآخرة، ثم إذا قبضت أرواحهم، ولاح لهم ما يسؤوهم من جزاء أعمالهم ازدادوا غماً، وحزناً، فإن تفضل الله عليهم بالمغفرة، وأدخلهم الجنة، فقد أذهب عنهم أحزانهم، وأزال غمومهم، وهمومهم ‏{‏إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ‏}‏ أي‏:‏ غفور لمن عصاه، شكور لمن أطاعه‏.‏ ‏{‏الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ‏}‏ أي‏:‏ دار الإقامة التي يقام فيها أبداً، ولا ينتقل عنها تفضلاً منه ورحمة‏.‏ ‏{‏لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ‏}‏ أي‏:‏ لا يصيبنا في الجنة عناء، ولا تعب، ولا مشقة ‏{‏وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ‏}‏، وهو‏:‏ الإعياء من التعب، والكلال من النصب‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا‏}‏ قال‏:‏ الأبيض، والأحمر، والأسود، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الجبال جُدَدٌ‏}‏ قال‏:‏ طرائق ‏{‏بَيْضٌ‏}‏ يعني‏:‏ الألوان‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ الغربيب الأسود الشديد السواد‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الجبال جُدَدٌ‏}‏ قال‏:‏ طرائق تكون في الجبل بيض ‏{‏وَحُمْرٌ‏}‏ فتلك الجدد ‏{‏وَغَرَابِيبُ سُودٌ‏}‏ قال‏:‏ جبال سود ‏{‏وَمِنَ الناس والدواب والأنعام‏}‏ قال‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ اختلاف الناس، والدوّابّ، والأنعام كاختلاف الجبال، ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء‏}‏ قال‏:‏ فصل لما قبلها‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء‏}‏ قال‏:‏ العلماء بالله الذين يخافونه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال‏:‏ الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن عدّي عن ابن مسعود قال‏:‏ ليس العلم من كثرة الحديث، ولكن العلم من الخشية‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد، وعبد بن حميد، والطبراني عنه قال‏:‏ كفى بخشية الله علماً، وكفى باغترار بالله جهلاً‏.‏ وأخرج أحمد في الزهد عنه أيضاً قال‏:‏ ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم الخشية‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة قال‏:‏ بحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله‏.‏

وأخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس‏:‏ أن حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف نزلت فيه ‏{‏إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله وَأَقَامُواْ الصلاة‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ قال‏:‏ هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله كل كتاب أنزل، فظالمهم مغفور له، ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب‏.‏

وأخرج الطيالسي، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ أنه قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات‏}‏ قال‏:‏ «هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة، وكلهم يدخلون الجنة» وفي إسناده رجلان مجهولان‏.‏ قال الإمام أحمد في مسنده قال‏:‏ حدّثنا شعبة عن الوليد بن العيزار‏:‏ أنه سمع رجلاً من ثقيف يحدّث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد‏.‏ وأخرج الفريابي، وأحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي الدرداء قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «قال الله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله‏}‏ فأما الذين سبقوا، فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب‏.‏ وأما الذين اقتصدوا، فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً‏.‏ وأما الذين ظلموا أنفسهم، فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته، فهم الذين يقولون‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ‏}‏» إلى آخر الآية‏.‏ قال البيهقي‏:‏ إذا كثرت روايات في حديث ظهر أن للحديث أصلاً‏.‏ ا‏.‏ ه، وفي إسناد أحمد محمد بن إسحاق، وفي إسناد ابن أبي حاتم رجل مجهول، لأنه رواه من طريق الأعمش، عن رجل، عن أبي ثابت، عن أبي الدرداء، ورواه ابن جرير، عن الأعمش قال‏:‏ ذكر أبو ثابت‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني عن عوف بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أمتي ثلاثة أثلاث‏:‏ فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، ثم يدخلون الجنة، وثلث يمحصون، ويكشفون، ثم تأتي الملائكة، فيقولون وجدناهم يقولون‏:‏ لا إله إلاّ الله وحده، فيقول الله‏:‏ أدخلوهم الجنة بقولهم لا إله إلاّ الله وحده، واحملوا خطاياهم على أهل التكذيب، وهي‏:‏ التي قال الله‏:‏ ‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏، وتصديقها في التي ذكر في الملائكة‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ فجعلهم ثلاثة أفواج‏.‏ فمنهم ظالم لنفسه، فهذا الذي يكشف، ويمحص، ومنهم مقتصد، وهو الذي يحاسب حساباً يسيراً‏.‏ ومنهم سابق بالخيرات، فهو الذي يلج الجنة بغير حساب ولا عذاب، بإذن الله يدخلونها جميعاً»

قال ابن كثير بعد ذكر هذا الحديث‏:‏ غريب جدًّا ا ه‏.‏ وهذه الأحاديث يقوّي بعضها بعضاً، ويجب المصير إليها، ويدفع بها قول من حمل الظالم لنفسه على الكافر، ويؤيدها ما أخرجه الطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أسامة بن زيد‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ‏}‏ الآية قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كلهم من هذه الأمة، وكلهم في الجنة» وما أخرجه الطيالسي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والحاكم، وابن مردويه عن عقبة بن صهبان قال‏:‏ قلت لعائشة‏:‏ أرأيت قول الله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب‏}‏ الآية، قالت‏:‏ أما السابق، فمن مضى في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهد له بالجنة‏.‏ وأما المقتصد، فمن تبع آثارهم، فعمل بمثل عملهم حتى لحق بهم‏.‏ وأما الظالم لنفسه، فمثلي، ومثلك، ومن اتبعنا، وكلّ في الجنة‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال‏:‏ هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة‏:‏ ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، وثلث يجيئون بذنوب عظام إلاّ أنهم لم يشركوا، فيقول الربّ‏:‏ أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، والبيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب‏:‏ أنه كان إذا نزع بهذه الآية‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب‏}‏ قال‏:‏ ألا إن سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له‏.‏ وأخرجه العقيلي، وابن مردويه، والبيهقي في البعث من وجه آخر عنه مرفوعاً‏.‏ وأخرجه ابن النجار من حديث أنس مرفوعاً‏.‏ وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال‏:‏ السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله، والظالم لنفسه، وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عثمان بن عفان‏:‏ أنه نزع بهذه الآية، ثم قال‏:‏ ألا إن سابقنا أهل جهادنا، ألا وإن مقتصدنا أهل حضرنا، ألا وإن ظالمنا أهل بدونا‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب في قوله‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ‏}‏ الآية قال‏:‏ أشهد على الله أنه يدخلهم جميعاً الجنة‏.‏ وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن مردويه عنه قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ قال‏:‏ كلهم ناج، وهي هذه الأمة‏.‏ وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ هي مثل التي في الواقعة ‏{‏أصحاب الميمنة‏}‏، و‏{‏أصحاب المشأمة‏}‏‏.‏ و‏{‏السابقون‏}‏‏:‏ صنفان ناجيان، وصنف هالك‏.‏ وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والبيهقي عنه في قوله‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ‏}‏ قال‏:‏ هو الكافر، والمقتصد أصحاب اليمين‏.‏

وهذا المرويّ عنه رضي الله عنه لا يطابق ما هو الظاهر من النظم القرآني، ولا يوافق ما قدّمنا من الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة من الصحابة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن عبد الله بن الحارث‏:‏ أن ابن عباس سأل كعباً عن هذه الآية، فقال‏:‏ نجوا كلهم، ثم قال‏:‏ تحاكت مناكبهم، وربّ الكعبة، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم، وقد قدّمنا عن ابن عباس ما يفيد أن الظالم لنفسه من الناجين، فتعارضت الأقوال عنه‏.‏

وأخرج الترمذي، والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله‏:‏ ‏{‏جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً‏}‏، فقال‏:‏ إن عليهم التيجان، إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ الحمد للَّهِ‏}‏ الآية قال‏:‏ هم قوم في الدنيا يخافون الله، ويجتهدون له في العبادة سرًّا، وعلانية، وفي قلوبهم حزن من ذنوب قد سلفت منهم، فهم خائفون أن لا يتقبل منهم هذا الاجتهاد من الذنوب التي سلفت، فعندها ‏{‏قَالُواْ الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ‏}‏ غفر لنا العظيم، وشكر لنا القليل من أعمالنا‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عنه في الآية قال‏:‏ حزن النار‏.‏