فصل: تفسير الآيات رقم (186- 186)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏186- 186‏]‏

‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ‏(‏186‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي‏}‏ يحتمل أن السؤال عن القرب والبعد كما يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنّي قَرِيبٌ‏}‏ ويحتمل أن السؤال عن إجابة الدعاء، كما يدل على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع‏}‏ ويحتمل أن السؤال عما هو أعمّ من ذلك، وهذا هو الظاهر، مع قطع النظر عن السبب الذي سيأتي بيانه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنّي قَرِيبٌ‏}‏ قيل‏:‏ بالإجابة‏.‏ وقيل‏:‏ بالعلم‏.‏ وقيل‏:‏ بالإنعام‏.‏ وقيل في الكشاف‏:‏ إنه تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه، وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بمن قرب مكانه، فإذا دعى أسرعت تلبيته‏.‏

ومعنى الإجابة‏:‏ هو معنى ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ أقبل عبادة من عبدني بالدعاء، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من «أن الدعاء هو‏:‏ العبادة،» كما أخرجه أبو داود، وغيره من حديث النعمان بن بشير، والظاهر أن الإجابة هنا هي باقية على معناها اللغوي؛ وكون الدعاء من العبادة لا يستلزم أن الإجابة هي‏:‏ القبول للدّعاء‏:‏ أي‏:‏ جعله عبادة متقبلة، فالإجابة أمر آخر غير قبول هذه العبادة‏.‏ والمراد‏:‏ أنه سبحانه يجيب بما شاء، وكيف شاء، فقد يحصل المطلوب قريباً، وقد يحصل بعيداً، وقد يدفع عن الداعي من البلاء ما لا يعلمه بسبب دعائه، وهذا مقيد بعدم اعتداء الداعي في دعائه، كما في قوله سبحانه ‏{‏ادعوا ربكم تضرّعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 55‏]‏ ومن الاعتداء أن يطلب ما لا يستحقه، ولا يصلح له، كمن يطلب منزلة في الجنة مساوية لمنزلة الأنبياء، أو فوقها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى‏}‏ أي‏:‏ كما أجبتهم إذا دعوني، فليستجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعات، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ أنهم يطلبون إجابة الله سبحانه لدعائهم باستجابتهم له‏:‏ أي‏:‏ القيام بما أمرهم به، والترك لما نهاهم عنه‏.‏ والرشد خلاف الغيّ، رشد يرشد رَشَداً‏.‏ ورُشداً‏.‏ قال الهروي‏:‏ الرُّشد، والرَّشَد، والرشاد‏:‏ الهدى، والاستقامة‏.‏ قال‏:‏ ومنه هذه الآية‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه من طريق الصلب بن حكيم عن رجل من الأنصار عن أبيه عن جدّه؛ قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله أقريب ربنا، فنناجيه أم بعيد، فنناديه‏؟‏ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن الحسن قال‏:‏ سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أين ربنا‏؟‏ فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن أنس أنه سأل أعرابيّ النبي صلى الله عليه وسلم أين ربنا‏؟‏ فنزلت‏.‏ وأخرج ابن عساكر في تاريخه، عن علي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لا تعجزوا عن الدعاء، فإن الله أنزل عليَّ» ‏{‏ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ فقال رجل‏:‏ يا رسول الله ربنا يسمع الدعاء أم كيف ذلك، فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عطاء أنه بلغه لما نزلت ‏{‏ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ قالوا‏:‏ لو نعلم أيّ ساعة ندعو، فنزلت‏.‏

وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال‏:‏ إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدّخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها» وثبت في الصحيح أيضاً من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَل، يقول دعوت، فلم يستجب لي» وأخرج ابن أبي حاتم، عن أنس في قوله‏:‏ ‏{‏فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى‏}‏ قال‏:‏ ليدعوني‏:‏ ‏{‏وَلْيُؤْمِنُواْ بِى‏}‏ أي‏:‏ أنهم إذا دعوني استجبت لهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن مجاهد قال‏:‏ ‏{‏فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى‏}‏ أي‏:‏ فليطيعوني‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن الربيع بن أنس في قوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ‏}‏ قال‏:‏ يهتدون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏187- 187‏]‏

‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏187‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمُ‏}‏ فيه دلالة على أن هذا الذي أحله الله كان حراماً عليهم، وهكذا كان كما يفيده السبب لنزول الآية، وسيأتي‏.‏ والرفث‏:‏ كناية عن الجماع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وكذا قال الأزهري، ومنه قول الشاعر‏:‏

ويُرَيْنَ من أنْس الحَدِيثِ زَوَانياً *** وبهنَّ عَنْ رَفَث الرجالِ نِفَارُ

وقيل‏:‏ الرفث‏:‏ أصله قول الفحش، رفث وأرفث‏:‏ إذا تكلم بالقبيح، وليس هو المراد هنا، وعدّى الرفث بإلى لتضمينه معنى الإمضاء‏.‏ وجعل النساء لباساً للرجال؛ والرجال لباساً لهنّ لامتزاج كل واحد منهما بالآخر عند الجماع كالامتزاج الذي يكون بين الثوب، ولابسه‏.‏ قال أبو عبيدة، وغيره‏:‏ يقال للمرأة لباس، وفراش، وإزار‏.‏ وقيل‏:‏ إنما جل كل واحد منهما لباساً للآخر، لأنه يستره عند الجماع، عن أعين الناس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ تخونونها بالمباشرة في ليالي الصوم، يقال خان، واختان بمعنى، وهما من الخيانة‏.‏ قال القتيبي‏:‏ أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء، فلا يؤدي الأمانة فيه‏.‏ انتهى‏.‏ وإنما سماهم خائنين لأنفسهم؛ لأن ضرر ذلك عائد عليهم، وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم، والآخر التخفيف عنهم بالرخصة، والإباحة كقوله‏:‏ ‏{‏عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏ يعني‏:‏ تخفف عنكم، وكقوله‏:‏ ‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏ يعني تخفيفاً، وهكذا قوله‏:‏ ‏{‏الضر عَنْكُمْ‏}‏ يحتمل العفو من الذنب، ويحتمل التوسعة، والتسهيل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وابتغوا‏}‏ قيل‏:‏ هو الولد، أي‏:‏ ابتغوا بمباشرة نسائكم حصول ما هو معظم المقصود من النكاح، وهو حصول النسل‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه، قاله الزجاج وغير‏.‏ وقيل‏:‏ ابتغوا الرخصة، والتوسعة‏.‏ وقيل‏:‏ ابتغوا ما كتب لكم من الإماء، والزوجات‏.‏ وقيل‏:‏ غير ذلك مما لا يفيده النظم القرآني، ولا دل عليه دليل آخر‏.‏ وقرأ الحسن البصري‏:‏ «واتبعوا» بالعين المهملة من الإتباع‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر‏}‏ هو‏:‏ تشبيه بليغ، والمراد هنا بالخيط الأبيض هو‏:‏ المعترض في الأفق، لا الذي هو كذَنَب السِّرْحان، فإنه الفجر الكذاب، الذي لا يحلّ شيئاً، ولا يحرمه‏.‏ والمراد بالخيط الأسود‏:‏ سواد الليل، والتبين‏:‏ أن يمتاز أحدهما عن الآخر، وذلك لا يكون إلا عند دخول وقت الفجر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل‏}‏ فيه التصريح بأن للصوم غاية هي الليل، فعند إقبال الليل من المشرق، وإدبار النهار من المغرب يفطر الصائم، ويحلّ له الأكل، والشرب وغيرهما‏.‏ وقول‏:‏ ‏{‏وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد‏}‏ قيل‏:‏ المراد‏:‏ بالمباشرة هنا الجماع‏.‏ وقيل‏:‏ تشمل التقبيل، واللمس إذا كانا لشهوة لا إذا كانا لغير شهوة، فهما جائزان كما قاله عطاء، والشافعي، وابن المنذر، وغيرهم، وعلى هذا يحتمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على أن المعتكف لا يباشر، ولا يقبل، فتكون هذه الحكاية للإجماع مقيدة بأن يكونا لشهوة، والاعتكاف في اللغة‏:‏ الملازمة، يقال عكف على الشيء‏:‏ إذا لازمه، ومنه قول الشاعر‏:‏

وَظَلَّ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلي عُكَّفاً *** عُكُوفَ البَواكِي حَوْلَهُنَّ صَرِيع

ولما كان المعتكف يلازم المسجد قيل له‏:‏ عاكف في المسجد، ومعتكف فيه؛ لأنه يحبس نفسه لهذه العبادة في المسجد، والاعتكاف في الشرع‏:‏ ملازمة طاعة مخصوصة على شرط مخصوص‏.‏ وقد وقع الإجماع على أنه ليس بواجب، وعلى أنه لا يكون إلا في مسجد، وللاعتكاف أحكام مستوفاة في كتب الفقه، وشروح الحديث‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏ أي‏:‏ هذه الأحكام حدود الله، وأصل الحدّ‏:‏ المنع، ومنه سمي البواب، والسجان‏:‏ حداداً، وسميت الأوامر والنواهي حدود الله؛ لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها، وأن يخرج عنها ما هو منها، ومن ذلك سميت الحدود حدوداً؛ لأنها تمنع أصحابها من العود‏.‏ ومعنى النهي عن قربانها‏:‏ النهي عن تعدّيها بالمخالفة لها، وقيل‏:‏ إن حدود الله هي محارمه فقط، ومنها المباشرة من المعتكف، والإفطار في رمضان لغير عذر، وغير ذلك مما سبق النهي عنه، ومعنى النهي عن قربانها على هذا واضح‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك يُبَيّنُ الله آيَاتِهِ‏}‏ أي‏:‏ كما بين لكم هذه الحدود يبين لكم العلامات الهادية إلى الحق‏.‏

وقد أخرج البخاري، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم عن البراء بن عازب؛ قال‏:‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً، فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته، ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صِرْمَة الأنصاري كان صائماً، فكان يومه ذلك يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال‏:‏ هل عندك طعام‏؟‏ قالت لا، ولكن أنطلق، فأطلب لك، فغلبته عينه، فنام، وجاءت امرأته، فلما رأته نائماً قالت‏:‏ خيبة لك أنمت‏؟‏ فلما انتصف النهار غُشِي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الفجر‏}‏ ففرحوا بها فرحاً شديداً‏.‏ وأخرج البخاري أيضاً من حديثه قال‏:‏ لما نزل صوم شهر رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، فكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ الآية‏.‏ وقد روى في بيان سبب نزول هذه الآية أحاديث عن جماعة من الصحابة نحو ما قاله البراء‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ كان الناس أوّل ما أسلموا إذا صام أحدهم يصوم يومه حتى إذا أمسى طعم من الطعام، ثم قال‏:‏ وإن عمر بن الخطاب أتى امرأته، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول إني أعتذر إلى الله، وإليك من نفسي، وذكر ما وقع منه، فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه قال‏:‏ إن المسلمين كانوا في شهر رمضان، إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء، والطعام والشراب إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناساً من المسلمين أصابوا النساء، والطعام في رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق، عن ابن عباس قال‏:‏ الرفث الجماع‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن عمر مثله‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال‏:‏ الدخول، والتفشي، والإفضاء، والمباشرة، والرفث، واللمس، والمس هذا الجماع؛ غير أن الله حَيِي كريم يكني بما شاء عما شاء‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ‏}‏ قال‏:‏ هنّ سكن لكم، وأنتم سكن لهنّ‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ قال‏:‏ تظلمون أنفسكم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فالن باشروهن‏}‏ قال‏:‏ انكحوهنّ‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ‏}‏ قال‏:‏ الولد‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد، وقتادة والضحاك مثله‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى ‏{‏وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ‏}‏ قال‏:‏ ليلة القدر‏.‏ وأخرج البخاري في تاريخه، عن أنس مثله‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، عن قتادة قال‏:‏ ‏{‏وابتغوا‏}‏ الرخصة التي كتب الله لكم‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن سهل بن سعد‏.‏ قال‏:‏ أنزلت‏:‏ ‏{‏وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود‏}‏ ولم ينزل‏:‏ ‏{‏مِنَ الفجر‏}‏ فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض، والخيط الأسود، فلا يزال يأكل، ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏مِنَ الفجر‏}‏ فعلموا أنه يعني الليل والنهار‏.‏ وفي الصحيحين، وغيرهما عن عديّ بن حاتم، أنه جعل تحت وساده خيطين أبيض وأسود، وجعل ينظر إليهما فلا يتبين له الأبيض من الأسود، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال‏:‏ «إن وسادك إذا لعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل» وفي رواية في البخاري، وغيره‏.‏ إنه قال له‏:‏ «إنك لعريض القفا»‏.‏ وفي رواية عند ابن جرير، وابن أبي حاتم‏:‏ أنه ضحك منه‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، عن الضحاك قال‏:‏ كانوا يجامعون، وهم معتكفون حتى نزلت‏:‏ ‏{‏وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الربيع نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن ابن عباس قال‏:‏ «إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه ويستأنف»‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏ قال‏:‏ يعني طاعة الله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك قال‏:‏ ‏{‏حُدُودَ الله‏}‏ معصية الله‏:‏ يعني المباشرة في الاعتكاف‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل أنها الجماع‏.‏ وأخرج أيضاً عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ يعني‏:‏ هكذا يبين الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏188- 188‏]‏

‏{‏وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏188‏)‏‏}‏

هذا يعم جميع الأمة، وجميع الأموال، لا يخرج عن ذلك إلا ماورد دليل الشرع بأنه يجوز أخذه، فإنه مأخوذ بالحق لا بالباطل، ومأكول بالحل لا بالإثم، وإن كان صاحبه كارهاً كقضاء الدين إذا امتنع منه مَنْ هو عليه، وتسليم ما أوجبه الله من الزكاة ونحوها، ونفقة من أوجب الشرع نفقته‏.‏ والحاصل أن ما لم يبح الشرع أخذه من مالكه، فهو مأكول بالباطل، وإن طابت به نفس مالكه‏:‏ كمهر البغيّ، وحلوان الكاهن، وثمن الخمر‏.‏ والباطل في اللغة‏:‏ الذاهب الزائل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتُدْلُواْ‏}‏ مجزوم عطفاً على تأكلوا، فهو من جملة المنهي عنه، يقال أدلى الرجل بحجته، أو بالأمر الذي يرجو النجاح به تشبيهاً بالذي يرسل الدلو في البئر، يقال أدلى دلوه‏:‏ أرسلها، والمعنى أنكم لا تجمعوا بين أكل الأموال بالباطل، وبين الإدلاء بها إلى الحكام بالحجج الباطلة، وفي هذه الآية دليل أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام، ولا يحرم الحلال من غير فرق بين الأموال والفروج، فمن حكم له القاضي بشيء مستنداً في حكمه إلى شهادة زور أو يمين فجور، فلا يحلّ له أكله، فإن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، وهكذا إذا أرشى الحاكم، فحكم له بغير الحق، فإنه من أكل أموال الناس بالباطل‏.‏ ولا خلاف بين أهل العلم ان حكم الحاكم لا يحلل الحرام، ولا يحرم الحلال‏.‏ وقد روى عن أبي حنيفة ما يخالف ذلك، وهو مردود لكتاب الله تعالى، ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أم سلمة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» وهو في الصحيحين، وغيرهما‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَرِيقاً‏}‏ أي‏:‏ قطعة أو جزءاً أو طائفة، فعبر بالفريق عن ذلك، وأصل الفريق‏:‏ القطة من الغنم تشذ عن معظمها‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير والتقدير‏:‏ لتأكلوا أموال فريق من الناس بالإثم، وسمي الظلم، والعدوان إثماً باعتبار تعلقه بفاعله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ حال كونكم عالمين أن ذلك باطل ليس من الحق في شيء، وهذا أشدّ لعقابهم‏.‏ وأعظم لجرمهم‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم‏}‏ الآية، قال‏:‏ هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه بينة، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه‏.‏ وروى سعيد بن منصور وعبد بن حميد، عن مجاهد قال‏:‏ معناها‏:‏ لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير؛ أن امْرَأ القيس بن عابس، وعيدان بن أشوع الحضرمي اختصما في أرض، وأراد امرؤ القيس أن يحلف، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏189- 189‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏189‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ‏}‏ سيأتي بيان من هم السائلون له صلى الله عليه وسلم، و‏{‏الأهلة‏}‏ جمع هلال، وجمعها باعتبار هلال كل شهر أو كل ليلة، تنزيلاً لاختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات، والهلال‏:‏ اسم لما يبدو في أوّل الشهر، وفي آخره‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ هو هلال حتى يستدير، وقيل‏:‏ هو‏:‏ هلال حتى ينير بضوئه السماء، وذلك ليلة السابع‏.‏ وإنما قيل له‏:‏ هلال؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه عند رؤيته، ومنه استهلّ الصبي‏:‏ إذا صاح، واستهلّ وجهه، وتهلل إذا ظهر فيه السرور‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج‏}‏ فيه بيان وجه الحكمة في زيادة الهلال، ونقصانه، وأن ذلك لأجل بيان المواقيت التي يوقت الناس عباداتهم، ومعاملاتهم بها كالصوم، والفطر، والحج، ومدّة الحمل، والعدّة، والإجارات، والأيمان، وغير ذلك، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏ والمواقيت جمع الميقات، وهو الوقت‏.‏ وقراءة الجمهور‏:‏ ‏{‏والحج‏}‏ بفتح الحاء‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها في جميع القرآن‏.‏ قال سيبويه‏:‏ الحج بالفتح كالردّ والشدّ، وبالكسر كالذكر مصدران بمعنى، وقيل‏:‏ بالفتح مصدر، وبالكسر الاسم‏.‏ وإنما أفرد سبحانه الحج بالذكر؛ لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، ولا يجوز فيه النسيء، عن وقته، ولعظم المشقة على من التبس عليه وقت مناسكه، أو أخطأ وقتها، أو وقت بعضها‏.‏ وقد جعل بعض علماء المعاني هذا الجواب، أعني قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ‏}‏ من الأسلوب الحكيم، وهو‏:‏ تلقي المخاطب بغير ما يترقب، تنبيهاً على أنه الأولى بالقصد، ووجه ذلك أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار زيادتها، ونقصانها، فأجيبوا بالحكمة التي كانت تلك الزيادة، والنقصان لأجلها لكون ذلك أولى بأن يقصد السائل وأحق بأن يتطلع لعلمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا‏}‏ وجه اتصال هذا بالسؤال عن الأهلة، والجواب بأنها مواقيت للناس، والحج أن الأنصار كانوا إذا حجوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم إذا رجع أحدهم إلى بيته بعد إحرامه قبل تمام حجه؛ لأنهم يعتقدون أن المحرم لا يجوز أن يحول بينه، وبين السماء حائل، وكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ إن هذا من ضرب المثل، والمعنى‏:‏ ليس البرّ أن تسألوا الجهال، ولكن البرّ التقوى، واسألوا العلماء كما تقول‏:‏ أتيت هذا الأمر من بابه‏.‏ وقيل‏:‏ هو مثل في جماع النساء، وأنهم أمروا بإتيانهنّ في القبل لا في الدبر‏.‏ وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏ والبيوت جمع بيت، وقرئ بضم الباء، وكسرها‏.‏ وقد تقدّم تفسير التقوى والفلاح، وسبق أيضاً أن التقدير في مثل قوله‏:‏ ‏{‏ولكن البر مَنِ اتقى‏}‏ ولكن البرّ برّ من اتقى‏.‏

وقد أخرج ابن عساكر بسند ضعيف، عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة‏}‏ قال‏:‏ نزلت في معاذ بن جبل، وثعلبة بن عثمة‏.‏

وهما رجلان من الأنصار قالا‏:‏ يا رسول الله ما بال الهلال يبدو، ويطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم، ويستوي، ثم لا يزال ينقص، ويدقّ حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ‏}‏ في حلّ دَيْنهم، ولصومهم ولفطرهم، وعدد نسائهم، والشروط التي إلى أجل‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة قال‏:‏ سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، عن الأهلة لم جُعِلت‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة‏}‏ الآية، فجعلها لصوم المسلمين، ولإفطارهم، ولمناسكهم، وحجهم، وعدد نسائهم، ومَحلِّ ديَنْهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية نحوه‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن الربيع بن أنس نحوه‏.‏ وقد روى ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس نحوه‏.‏ وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «جعل الله الأهلة مواقيت للناس، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم، فعدّوا ثلاثين يوماً» وأخرج أحمد، والطبراني، وابن عدي، والدارقطني بسند ضعيف، عن طَلْق بن عليّ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث ابن عمر‏.‏ وأخرج البخاري، وغيره، عن البراء قال‏:‏ كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها فنزلت‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ البر‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن جابر قال‏:‏ كانت قريش تدعي الحُمْس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار، وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينا رسول الله في بستان إذ خرج من بابه، وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري، فقالوا‏:‏ يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر، وإنه خرج معك من الباب، فقال له‏:‏ «ما حملك على ما صنعت‏؟‏» قال‏:‏ رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت، فقال‏:‏ إني رجل أحمسي، قال‏:‏ فإن ديني دينك، فأنزل الله الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس نحوه‏.‏ وقد ورد هذا المعنى عن جماعة من الصحابة، والتابعين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏190- 193‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏190‏)‏ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏191‏)‏ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏192‏)‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏193‏)‏‏}‏

لا خلاف بين أهل العلم أن القتال كان ممنوعاً قبل الهجرة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعف عَنْهُمْ واصفح‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 13‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 10‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 22‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 96‏]‏ ونحو ذلك مما نزل بمكة؛ فلما هاجر إلى المدينة أمره الله سبحانه بالقتال، ونزلت هذه الآية، وقيل‏:‏ إن أوّل ما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يقاتلون بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏ فلما نزلت الآية كان صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله، ويكفّ عمن كفّ عنه حتى نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏افاقتلوا المشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وقال جماعة من السلف‏:‏ إن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يقاتلونكم‏}‏ من عدا النساء، والصبيان، والرهبان، ونحوهم، وجعلوا هذه الآية محكمة غير منسوخة، والمراد بالاعتداء عند أهل القول الأوّل هو‏:‏ مقاتلة من يقاتل من الطوائف الكفرية‏.‏ والمراد به على القول الثاني‏:‏ مجاوزة قتل من يستحق القتل إلى قتل من لا يستحقه ممن تقدّم ذكره‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ‏}‏ يقال ثقف يثقف ثقفاً، ورجل ثقيف‏:‏ إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة، ومنه رجل ثقف‏:‏ سريع الأخذ لأقرانه‏.‏ انتهى‏.‏ ومنه قول حسان‏:‏

فإما يثقفنّ بني لؤى *** جذيمة إنّ قتلهم دواء

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ‏}‏ أي‏:‏ مكة‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ الخطاب للمهاجرين، والضمير لكفار قريش‏.‏ انتهى‏.‏ وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فأخرج من مكة مَن لم يُسلم عند أن فتحها الله عليه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل‏}‏ أي‏:‏ الفتنة التي أرادوا أن يفتنوكم، وهي‏:‏ رجوعكم إلى الكفر أشدّ من القتل‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالفتنة‏:‏ المحنة التي تنزل بالإنسان في نفسه، أو ماله، أو اهله، أو عرضه، وقيل‏:‏ إن المراد بالفتنة‏:‏ الشرك الذي عليه المشركون؛ لأنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم، فأخبرهم الله أن الشرك الذي هم عليه أشدّ مما يستعظمونه، وقيل‏:‏ المراد فتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام اشدّ من قتلكم إياهم في الحرم، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم‏.‏ والظاهر أن المراد‏:‏ الفتنة في الدين بأيّ سبب كان، وعلى أيّ صورة اتفقت، فإنها أشدّ من القتل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام‏}‏ الآية‏.‏ اختلف أهل العلم في ذلك، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة، وأنه لا يجوز القتال في الحرم، إلا بعد أن يتعدّى بالقتال فيه، فإنه يجوز دفعه بالمقاتلة له، وهذا هو الحق‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏ ويجاب عن هذا الاستدلال بأن الجمع ممكن ببناء العام على الخاص، فيقتل المشرك حيث وجد إلا بالحرم، ومما يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«إنها لم تحلّ لأحد قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار» وهو في الصحيح‏.‏ وقد احتجَ القائلون بالنسخ بقتله صلى الله عليه وسلم لابن خَطَل، وهو متعلق بأستار الكعبة‏:‏ ويجاب عنه، بأنه وقع في تلك الساعة التي أحلّ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْاْ‏}‏ أي‏:‏ عن قتالكم، ودخلوا في الإسلام‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية هي أن لا تكون فتنة، وأن يكون الدين لله، وهو الدخول في الإسلام، والخروج عن سائر الأديان المخالفة له، فمن دخل في الإسلام، وأقلع عن الشرك لم يحلّ قتاله‏.‏ قيل‏:‏ المراد بالفتنة هنا‏:‏ الشرك، والظاهر أنها الفتنة في الدين على عمومها كما سلف‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين‏}‏ أي‏:‏ لا تعتدوا إلا على من ظلم، وهو من لم ينته عن الفتنة، ولم يدخل في الإسلام، وإنما سمي جزاء الظالمين عدواناً مشاكلة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله‏}‏ الآية أنها أوّل آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله، ويكفّ عمن كفّ عنه، حتى نزلت سورة براءة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد في هذه الآية قال‏:‏ إن أصحاب محمد أمروا بقتال الكفار‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْتَدُواْ‏}‏ يقول لا تقتلوا النساء، والصبيان، والشيخ الكبير، ولا من ألقى السلم وكفّ يده، فإن فعلتم، فقد اعتديتم‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر بن عبد العزيز؛ أنه قال‏:‏ إن هذه الآية في النساء، والذرية‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل‏}‏ يقول‏:‏ الشرك أشدّ من القتل‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في الآية قال‏:‏ ارتداد المؤمن إلى الوثن أشدّ عليه من أن يقتل محقاً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فِيهِ‏}‏ قال‏:‏ حتى يبدءوا بالقتال، ثم نسخ بعد ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه عن قتادة أن قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏ فكان كذلك حتى نسخ هاتين الآيتين جميعاً في براءة قوله‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً كَمَا يقاتلونكم كَافَّةً‏}‏

‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏ وأخرج ابن جرير، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْاْ‏}‏ قال‏:‏ فإن تابوا‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ يقول‏:‏ شرك بالله‏:‏ ‏{‏وَيَكُونَ الدّينُ‏}‏ ويخلص التوحيد لله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في الآية، قال‏:‏ الشرك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنِ انتهوا فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين‏}‏ قال‏:‏ لا تقاتلوا إلا من قاتلكم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَكُونَ الدين للَّهِ‏}‏ يقول‏:‏ حتى لا تعبدوا إلا الله‏.‏ وأخرج أيضاً عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين‏}‏ قال‏:‏ هم من أبى يقول لا إله إلا الله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة نحوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏194- 194‏]‏

‏{‏الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏194‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏الشهر الحرام بالشهر الحرام‏}‏ أي‏:‏ إذا قاتلوكم في الشهر الحرام، وهتكوا حرمته قاتلتموهم في الشهر الحرام مكافأة لهم، ومجازاة على فعلهم‏.‏ ‏{‏والحرمات‏}‏ جمع حرمة، كالظلمات جمع ظلمة، وإنما جمع الحرمات؛ لأنه أراد الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام، والحرمة‏:‏ ما منع الشرع من انتهاكه‏.‏ والقصاص‏:‏ المساواة، والمعنى‏:‏ أن كل حرمة يجري فيها القصاص، فمن هتك حرمة عليكم، فلكم أن تهتكوا حرمة عليه قصاصاً، قيل وهذا كان في أوّل الإسلام، ثم نسخ بالقتال، وقيل‏:‏ إنه ثابت بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم ينسخ، ويجوز لمن تعدّى عليه في مال، أو بدن، أن يتعدّى بمثل ما تُعُدِّى عليه، وبهذا قال الشافعي، وغيره‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إن أمور القصاص مقصورة على الحكام، وهكذا الأموال لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» أخرجه الدارقطني، وغيره، وبه قال أبو حنيفة، وجمهور المالكية، وعطاء الخراساني؛ والقول الأوّل أرجح، وبه قال ابن المنذر، واختاره ابن العربي والقرطبي، وحكاه الداودي عن مالك، ويؤيده إذنه صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي سفيان أن تأخذ من ماله ما يكفيها، وولدها، وهو في الصحيح، ولا أصرح ولا أوضح من قوله تعالى‏:‏ في هذه الآية ‏{‏فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ‏}‏ وهذه الجملة في حكم التأكيد للجملة الأولى، أعني قوله‏:‏ ‏{‏والحرمات قِصَاصٌ‏}‏ وإنما سمي المكافأة اعتداء مشاكلة كما تقدم‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً في سنة ستّ من الهجرة، وحبسه المشركون، عن الدخول، والوصول إلى البيت، وصدّوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة، وهو شهر حرام قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية هو، ومن كان معه من المسلمين، وأقصه الله منهم نزلت في ذلك هذه الآية‏:‏ ‏{‏الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد نحوه أيضاً‏.‏ وأخرجا أيضاً عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج نحوه‏.‏

وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ‏}‏ الآية، وقوله ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ‏}‏ الآية، ‏[‏الشورى‏:‏ 41‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ‏}‏ الآية ‏[‏النحل‏:‏ 126‏]‏ قال‏:‏ هذا ونحوه نزل بمكة، والمسلمون يومئذ قليل ليس لهم سلطان يقهر المشركين، فكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى، فأمر الله المسلمين من يتجازى منهم أن يتجازى بمثل ما أوتي إليه، أو يصبروا، ويعفوا؛ فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأعزّ الله سلطانه، أمر الله المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم، ولا يعدو بعضهم على بعض كأهل الجاهلية، فقال

‏{‏وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 33‏]‏، يقول‏:‏ ينصره السلطان حتى ينصفه على من ظلمه، ومن انتصر لنفسه دون السلطان، فهو عاص مسرف قد عمل بحمية الجاهلية، ولم يرض بحكم الله تعالى‏.‏ انتهى‏.‏ وأقول‏:‏ هذه الآية التي جعلها ابن عباس رضي الله عنه ناسخةً مؤيدة لما تدل عليه الآيات التي جعلها منسوخة، ومؤكدة له، فإن الظاهر من قوله‏:‏ ‏{‏فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا‏}‏ أي جعل السلطان له، أي‏:‏ جعل له تسلطاً يتسلط به على القاتل، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَلاَ يُسْرِف فّى القتل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 33‏]‏ ثم لو سلمنا أن معنى الآية كما قاله لكان ذلك مخصصاً للقتل من عموم الآيات المذكورة لا ناسخاً لها، فإنه لم ينص في هذه الآية إلا على القتل وحده، وتلك الآيات شاملة له ولغيره، وهذا معلوم من لغة العرب التي هي‏:‏ المرجع في تفسير كلام الله سبحانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏195- 195‏]‏

‏{‏وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏195‏)‏‏}‏

في هذه الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله، وهو الجهاد، واللفظ يتناول غيره مما يصدق عليه أنه من سبيل الله، والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بِأَيْدِيكُمْ‏}‏ زائدة، والتقدير‏:‏ ولا تلقوا أيديكم، ومثله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 14‏]‏ وقال المبرد‏:‏ ‏{‏بِأَيْدِيكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بأنفسكم تعبيراً بالبعض عن الكل، كقوله‏:‏ ‏{‏فبِمَا كَسَبَتْ * أَيْدِيكُم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏ وقيل‏:‏ هذا مثل مضروب، يقال فلان ألقى بيده في أمر كذا‏:‏ إذا استسلم؛ لأن المستسلم في القتال يلقى سلاحه بيديه، فكذلك فعل كل عاجز في أيّ فعل كان‏.‏ وقال قوم‏:‏ التقدير‏:‏ ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم‏.‏

والتهلكة‏:‏ مصدر من هلك يهلك هلاكاً وهلكاً وتهلكة، أي‏:‏ لا تأخذوا فيما يهلككم‏.‏ وللسلف في معنى الآية أقوال سيأتي بيانها، وبيان سبب نزول الآية‏.‏ والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين، أو الدنيا، فهو داخل في هذا، وبه قال ابن جرير الطبري‏.‏ ومن جملة ما يدخل تحت الآية، أن يقتحم الرجل في الحرب، فيحمل على الجيش مع عدم قدرته على التخلص، وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين، ولا يمنع من دخول هذا تحت الآية إنكار من أنكره من الذين رأوا السبب، فإنهم ظنوا أن الآية لا تجاوز سببها، وهو ظنّ تدفعه لغة العرب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَحْسِنُواْ‏}‏ أي‏:‏ في الإنفاق في الطاعة، أو أحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، والبخاري، والبيهقي في سننه، عن حذيفة في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏ قال‏:‏ نزلت في النفقة‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال‏:‏ هو ترك النفقة في سبيل الله مخافة العيلة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والبيهقي، عن ابن عباس نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن عكرمة نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الحسن نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والبيهقي في الشعب عنه قال‏:‏ هو البخل‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم في الآية قال‏:‏ كان رجال يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير نفقة، فإما يقطع لهم، وإما كانوا عيالاً، فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله، ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، والتهلكة‏:‏ أن تُهْلَك رجالٌ من الجوع، والعطش، ومن المشي‏.‏ وقال لمن بيده فضل‏:‏ ‏{‏وَأَحْسِنُواْ إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو يعلى، وابن جرير، والبغوي في معجمه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وابن مانع، والطبراني، عن الضحاك بن أبي جبير؛ أن الأنصار كانوا ينفقون في سبيل الله، ويتصدّقون، فأصابتهم سنة، فساء ظنهم، وأمسكوا عن ذلك، فأنزل الله الآية‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن أسلم بن عمران قال‏:‏ كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد، فخرج صفّ عظيم من الروم، فصففنا لهم، فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس، وقالوا‏:‏ سبحان الله‏!‏ يلقي بيده إلى التهلكة‏؟‏ فقام أبو أيوب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا أيها الناس، إنكم تؤوّلون الآية هذا التأويل‏.‏ وإنما أنزلت فينا هذه الآية معشر الأنصار، إنا لما أعزّ الله دينه، وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سرّاً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أموال الناس قد ضاعت، وإن الله قد أعزّ الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها‏؟‏ فأنزل الله على نبيه يردّ علينا‏:‏ ‏{‏وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏ فكانت التهلكة الإقامة في الأموال، وإصلاحها، وترك الغزو‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وصححه، والبيهقي، عن البراء بن عازب، قال في تفسير الآية‏:‏ هو‏:‏ الرجل يذنب الذنب، فيلقي بيديه، فيقول‏:‏ لا يغفر الله لي أبداً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والطبراني، والبيهقي في الشعب، عن النعمان بن بشير نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، قال في تفسير الآية‏:‏ إنه القنوط‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ التهلكة عذاب الله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، أنهم حاصروا دمشق، فأسرع رجل إلى العدوّ وحده، فعاب ذلك عليه المسلمون، ورفع حديثه إلى عمرو بن العاص، فأرسل إليه فردّه، وقال‏:‏ قال الله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن رجل من الصحابة في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَحْسِنُواْ‏}‏ قال‏:‏ أدّو الفرائض‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن أبي إسحاق مثله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن عكرمة قال‏:‏ أحسنوا الظنّ بالله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏196‏]‏

‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏196‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّواْ الحج‏}‏ اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج، والعمرة لله، فقيل‏:‏ أداؤهما، والإتيان بهما، من دون أن يشوبهما شيء مما هو محظور، ولا يخلّ بشرط، ولا فرض لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَتَمَّهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ إتمامهما أن تخرج لهما لا لغيرهما، وقيل‏:‏ إتمامهما أن تفرد كل واحد منهما من غير تمتُّعٍ، ولا قِرَان، وبه قال ابن حبيب‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ إتمامهما ألا يَسْتَحِلوا فيهما ما لا ينبغي لهم، وقيل‏:‏ إتمامهما أن يُحِرْم لهما من دُوَيْرة أهله، وقيل‏:‏ أن ينفق في سفرهما الحلال الطيب، وسيأتي بيان سبب نزول الآية، وما هو مرويّ عن السلف في معنى إتمامهما‏.‏

وقد استُدِل بهذه الآية على وجوب العمرة؛ لأن الأمر بإتمامهما أمر بها، وبذلك قال عليّ، وابن عمر، وابن عباس، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، وسعيد بن جبير، ومسروق، وعبد الله بن شدّاد، والشافعي، وأحمد‏.‏ وإسحاق، وأبو عبيد، وابن الجهم من المالكية‏.‏ وقال مالك والنخعي وأصحاب الرأي كما حكاه ابن المنذر عنهم‏:‏ أنها سنة‏.‏ وحكى عن أبي حنيفة أنه يقول بالوجوب‏.‏ ومن القائلين بأنها سنة ابن مسعود وجابر بن عبد الله‏.‏ ومن جملة ما استدل به الأوّلون ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال لأصحابه‏:‏ «من كان معه هَدي فلْيُهِلِّ بحج وعمرة» وثبت عنه أيضاً في الصحيح أنه قال‏:‏ «دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة» وأخرج الدارقطني، والحاكم من حديث زيد بن ثابت قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الحجّ والعمرة فريضتان لا يضرّك بأيهما بدأت» واستدل الآخرون بما أخرجه الشافعي في الآية، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، عن أبي صالح الحنفي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الحجّ جهاد، والعمرة تطوّع» وأخرج ابن ماجه عن طلحة بن عبيد الله مرفوعاً مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه عن جابر‏:‏ أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي‏؟‏ قال‏:‏ «لا، وأن تعتمروا خير لكم» وأجابوا عن الآية، وعن الأحاديث المصرحة بأنها فريضة بحمل ذلك على أنه قد وقع الدخول فيها، وهي بعد الشروع فيها واجبة بلا خلاف،

وهذا، وإن كان فيه بُعْدٌ، لكنه يجب المصير إليه؛ جمعاً بين الأدلة، ولا سيما بعد تصريحه صلى الله عليه وسلم بما تقدّم في حديث جابر من عدم الوجوب، وعلى هذا يحمل ما ورد مما فيه دلالة على وجوبها، كما أخرجه الشافعي في الأم، أن في الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم‏:‏

‏"‏ إن العمرة هي الحج الأصغر ‏"‏ وكحديث ابن عمر عند البيهقي في الشعب قال‏:‏ «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أوصني، ‏"‏ فقال‏:‏ تعبد الله، ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحجّ وتعتمر، وتسمع وتطيع، وعليك بالعلانية، وإياك والسرّ ‏"‏ وهكذا ينبغي حمل ما ورد من الأحاديث التي قرن فيها بين الحج والعمرة في أنهما من أفضل الأعمال، وأنهما كفارة لما بينهما، وأنهما يهدمان ما كان قبلهما ونحو ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ‏}‏ الحصر‏:‏ الحبس‏.‏ قال أبو عبيدة، والكسائي، والخليل‏:‏ إنه يقال أحُصِر بالمرض، وحُصِر بالعدّو‏.‏ وفي المجمل لابن فارس العكس، يقال‏:‏ أحصر بالعدّو، وحُصر بالمرض‏.‏ ورجح الأوّل ابن العربي، وقال‏:‏ هو رأي أكثر أهل اللغة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أنه كذلك عند جميع أهل اللغة، وقال الفراء‏:‏ هما بمعنى واحد في المرض، والعدّو‏.‏ ووافقه على ذلك أبو عمرو الشيباني فقال‏:‏ حصرني الشي، وأحصرني‏:‏ أي‏:‏ حبسني‏.‏ وبسبب هذا الاختلاف بين أهل اللغة اختلف أئمة الفقه في معنى الآية، فقالت الحنفية‏:‏ المحصر من يصير ممنوعاً من مكة بعد الإحرام بمرض، أو عدوّ أو غيره‏.‏ وقالت الشافعية، وأهل المدينة المراد بالآية‏:‏ حصر العدّو‏.‏ وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن المحصر بعدوّ يحل حيث أحصر، وينحر هديه إن كان ثمّ هدي، ويحلق رأسه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هو، وأصحابه في الحديبية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا استيسر مِنَ الهدى‏}‏ «ما» في موضع رفع على الابتداء، أو الخبر، أي‏:‏ فالواجب أو فعليكم، ويحتمل أن يكون في موضع نصب، أي‏:‏ فانحروا، أو فاهدوا ما استيسر أي‏:‏ ما تيسر، يقال يَسُر الأمر، واستيسر، كما يقال صَعُب واستصعب، والهَديُّ، والهَدْي لغتان، وهما جمع هدية، وهي ما يهدى إلى البيت من بدنة، أو غيرها‏.‏ قال الفراء‏:‏ أهل الحجاز وبنو أسد يخففون الهدي، وتميم، وسفلي قيس يثقلون‏.‏ قال الشاعر‏:‏

حَلْفتُ بِربّ كعبة والمصلى *** وأعْناقِ الْهَدِىّ مُقَلَّداتِ

قال‏:‏ وواحد الهدي هدية، ويقال في جمع الهديّ‏:‏ أهد‏.‏ واختلف أهل العلم في المراد بقوله‏:‏ ‏{‏مَا استيسر‏}‏ فذهب الجمهور إلى أنه شاة‏.‏ وقال ابن عمر وعائشة، وابن الزبير‏:‏ جمل أو بقرة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أعلا الهدي بَدَنَة، وأوسطه بقرة، وأدناه شاة،

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدى مَحِلَّهُ‏}‏ هو خطاب لجميع الأمة من غير فرق بين مُحْصَر، وغير مُحَصر، وإليه ذهب جمع من أهل العلم، وذهبت طائفة إلى أنه خطاب للمُحْصَرين خاصة‏:‏ أي‏:‏ لا تحلوا من الإحرام حتى تعلموا أن الهدى الذي بعثتموه إلى الحرم قد بلغ مَحِلَّه، وهو الموضع الذي يحلّ فيه ذبحُه‏.‏

واختلفوا في تعيينه، فقال مالك، والشافعي‏:‏ هو موضع الحصر، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أحصر في عام الحديبية‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ هو‏:‏ الحرم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 33‏]‏ وأجيب عن ذلك بأن المخاطب به هو الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت‏.‏ وأجاب الحنفية عن نحره صلى الله عليه وسلم في الحديبية بأن طرف الحديبية الذي إلى أسفل مكة هو من الحرم‏.‏ ورُدَّ بأن المكان الذي وقع فيه النحر ليس هو من الحرم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا‏}‏ الآية، المراد بالمرض هنا‏:‏ ما يصدق عليه مسمى المرض لغة‏.‏ والمراد بالأذى من الرأس‏:‏ ما فيه من قمل، أو جراح، ونحو ذلك، ومعنى الآية‏:‏ أن من كان مريضاً، أو به أذى من رأسه، فحلق فعليه فدية‏.‏ وقد بينت السنة ما أطلق هنا من الصيام، والصدقة، والنسك، فثبت في الصحيح‏:‏ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى كعب بن عَجْرَة، وهو مُحْرِم، وقملهُ يتساقط على وجهه، ‏"‏ فقال‏:‏ أيؤذيك هَوَامُّ رأسك‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ نعم، ‏"‏ فأمره أن يحلق، ويطعم ستة مساكين، أو يُهْدِي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام ‏"‏ وقد ذكر ابن عبد البرّ أنه لا خلاف بين العلماء أن النسك هنا هو‏:‏ شاة‏.‏

وحكى عن الجمهور أن الصوم المذكور في الآية ثلاثة أيام، والإطعام لستة مساكين‏.‏ وروى عن الحسن وعكرمة ونافع أنهم قالوا‏:‏ الصوم في فدية الأذى عشرة أيام، والإطعام عشرة مساكين‏.‏ والحديث الصحيح المتقدّم يردّ عليهم، ويبطل قولهم‏.‏ وقد ذهب مالك والشافعي وأبو حنيف وأصحابهم وداود إلى أن الإطعام في ذلك مُدَّان بمُدّ النبي صلى الله عليه وسلم أي‏:‏ لكل مسكين، وقال الثوري‏:‏ نصف صاع من برّ، أو صاع من غيره‏.‏ وروى ذلك عن أبي حنيفة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وهذا غلط؛ لأن في بعض أخبار كعب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏"‏ تصدق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين ‏"‏ واختلفت الرواية عن أحمد بن حنبل، فروى عنه مثل قول مالك، والشافعي، وروي عنه أنه إن أطعم بُرّاً، فمدٌّ لكل مسكين، وإن أطعم تمراً، فنصف صاع‏.‏ واختلفوا في مكان هذه الفدية، فقال عطاء‏:‏ ما كان من دم، فبمكة، وما كان من طعام، أو صيام، فحيث شاء‏.‏ وبه قال أصحاب الرأي‏.‏ وقال طاوس، والشافعي‏:‏ الإطعام، والدم لا يكونان إلا بمكة، والصوم حيث شاء‏.‏ وقال مالك ومجاهد‏:‏ حيث شاء في الجميع، وهو‏:‏ الحق لعدم الدليل على تعيين المكان‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدى‏}‏ أي‏:‏ برأتم من المرض‏.‏ وقيل‏:‏ من خوفكم من العدّو على الخلاف السابق، ولكن الأمن من العدوّ أظهر من استعمال أمنتم في ذهاب المرض، فيكون مقوّياً لقول من قال إن قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ‏}‏ المراد به‏:‏ الإحصار من العدّو، كما أن قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا‏}‏ يقوّي قول من قال بذلك لإفراد عذر المرض بالذكر‏.‏

وقد وقع الخلاف‏:‏ هل المخاطب بهذا هم المحصرون خاصة أم جميع الأمة على حسب ما سلف‏؟‏ والمراد بالتمتع المذكور في الآية‏:‏ أن يحرم الرجل بعمرة، ثم يقيم حلالاً بمكة إلى أن يحرم بالحج، فقد استباح بذلك ما لا يحلّ للمُحْرِم استباحته، وهو معنى‏:‏ تمتع واستمتع، ولا خلاف بين أهل العلم في جواز التمتع، بل هو عندي أفضل أنواع الحج كما حررته في شرحي على المنتقى‏.‏ وقد تقدّم الخلاف في معنى قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا استيسر مِنَ الهدى‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ‏}‏ الآية، أي‏:‏ فمن لم يجد الهدي، إما لعدم المال، أو لعدم الحيوان، صام ثلاثة أيام في الحج، أي‏:‏ في أيام الحج، وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر‏.‏ وقيل‏:‏ يصوم قبل يوم التروية يوماً، ويوم التروية، ويوم عرفة‏.‏ وقيل‏:‏ ما بين أن يحرم بالحج إلى يوم عرفة، وقيل‏:‏ يصومهنّ من أوّل عشر ذي الحجة، وقيل‏:‏ ما دام بمكة‏.‏ وقيل‏:‏ إنه يجوز أن يصوم الثلاث قبل أن يحرم‏.‏ وقد جوز بعض أهل العلم صيام أيام التشريق لمن لم يجد الهدي، ومنعه آخرون‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ‏}‏ قرأه الجمهور بخفض سبعة، وقرأ زيد بن عليّ، وابن أبي عبلة بالنصب على أنه مفعول بفعل مقدّر، أي‏:‏ وصوموا سبعة، وقيل‏:‏ على أنه معطوف على ثلاثة؛ لأنها، وإن كانت مجرورة لفظاً، فهي في محل نصب كأنه قيل‏:‏ فصيام ثلاثة‏.‏ والمراد بالرجوع هنا‏:‏ الرجوع إلى الأوطان‏.‏ قال أحمد وإسحاق‏:‏ يجزيه الصوم في الطريق، ولا يتضيق عليه الوجوب إلا إذا وصل وطنه، وبه قال الشافعي وقتادة والربيع ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وغيرهم‏.‏ وقال مالك‏:‏ إذا رجع من مِنىً، فلا بأس أن يصوم‏.‏ والأوّل أرجح، وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أنه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فمن لم يجد، فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله ‏"‏ فبيَّن صلى الله عليه وسلم أن الرجوع المذكور في الآية هو‏:‏ الرجوع إلى الأهل، وثبت أيضاً في الصحيح من حديث ابن عباس بلفظ‏:‏ «وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم»، وإنما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ‏}‏ مع أن كل أحد يعلم أن الثلاثة، والسبعة عشرة لدفع أن يتوهم متوهم التخيير بين الثلاثة الأيام في الحج، والسبعة إذا رجع‏.‏ قاله الزجاج‏.‏ وقال المبرد‏:‏ ذكر ذلك ليدل على انقضاء العدد لئلا يتوهم متوهّم أنه قد بقي منه شيء بعد ذكر السبعة‏.‏ وقيل‏:‏ هو‏:‏ توكيد كما تقول‏:‏ كتبت بيدي‏.‏ وقد كانت العرب تأتي بمثل هذه الفذلكة فيما دون هذا العدد، كقول الشاعر‏:‏

ثلاث واثنتان فهنَّ خمس *** وسادسة تميل إلى سهامي

وكذا قول الآخر‏:‏

ثلاث بالعداد وذاك حسبي *** وست حين يدركني العشاء

فذلك تسعة في اليوم ريّ *** وشرب المرء فوق الري داء

وقوله‏:‏ ‏{‏كَامِلَةٌ‏}‏ توكيد آخر بعد الفذلكة لزيادة التوصية لصيامها، وأن لا ينقص من عددها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المسجد الحرام‏}‏ الإشارة بقوله‏:‏ ذلك قيل‏:‏ هي راجعة إلى التمتع، فتدل على أنه لا متعة لحاضري المسجد الحرام، كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه‏.‏ قالوا‏:‏ ومن تمتع منهم كان عليه دم، وهو دم جناية لا يأكل منه‏.‏ وقيل‏:‏ إنها راجعة إلى الحكم، وهو وجوب الهدي، والصيام، فلا يجب ذلك على من كان من حاضري المسجد الحرام، كما يقوله الشافعي، ومن وافقه‏.‏ والمراد بمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام‏:‏ من لم يكن ساكناً في الحرم، أو من لم يكن ساكناً في المواقيت، فما دونها على الخلاف في ذلك بين الأئمة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي‏:‏ فيما فرضه عليكم في هذه الأحكام، وقيل هو أمر بالتقوى على العموم، وتحذير من شدّة عقاب الله سبحانه‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الدلائل، وابن عبد البرّ في التمهيد، عن يعلى بن أمية؛ قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بالجِعِرَّانة، وعليه جبة، وعليه أثر خَلُوق، فقال‏:‏ كيف تأمرني يا رسول الله أن أصنع في عمرتي‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أين السائل عن العمرة‏؟‏» فقال‏:‏ ها أنذا، قال‏:‏ «اخلع الجبة، واغسل عنك أثر الخَلُوق، ثم ما كنت صانعاً في حجك، فاصنعه في عمرتك» وقد أخرجه البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديثه، ولكن فيهما أنه نزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي بعد السؤال، ولم يذكر ما هو الذي أنزل عليه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن عليّ في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ‏}‏ قال‏:‏ أن تحرم من دُوُيْرة أهلك‏.‏ وأخرج ابن عديّ، والبيهقي مثله من حديث أبي هريرة مرفوعاً‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، عن ابن عمر قال‏:‏ من تمامهما أن يُفْرِد كل واحد منهما عن الآخر، وأن يعتمر في غير أشهر الحجّ‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس قال‏:‏ تمام الحجّ يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة، وزار البيت، فقد حلّ، وتمام العمرة إذا طاف بالبيت، وبالصفا، والمروة، فقد حلّ‏.‏ وقد ورد في فضل الحج، والعمرة أحاديث كثيرة، ليس هذا موطن ذكرها‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ‏}‏ يقول‏:‏ من أحرم بحج، أو عمرة، ثم حبس عن البيت بمرض يجهده، أو عدوّ يحبسه، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي شاة فما فوقها، وإن كانت حجة الإسلام، فعليه قضاؤها، وإن كانت بعد حجة الفريضة، فلا قضاء عليه، وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ‏}‏ يقول‏:‏ الرجل إذا أهلّ بالحج، فأحصر بعث بما استيسر من الهدي فإن كان عجل قبل أن يبلغ الهدي محله، فحلق رأسه، أو مس طيباً، أو تداوى بدواء، كان عليه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك، فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة ثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والنسك شاة ‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ‏}‏ يقول‏:‏ فإذا بريء، فمضى من وجهه ذلك إلى البيت أحلّ من حجته بعمرة، وكان عليه الحجّ من قابل، فإن هو رجع، ولم يتمّ من وجهه ذلك إلى البيت كان عليه حجة، وعمرة، فإن هو رجع متمتعاً في أشهر الحج كان عليه ما استيسر من الهدى شاة، فإن هو لم يجد، فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع‏.‏

قال إبراهيم‏:‏ فذكرت هذا الحديث لسعيد بن جبير فقال‏:‏ هكذا قال ابن عباس في هذا الحديث كله‏.‏ وأخرج مالك، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن عليّ في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا استيسر مِنَ الهدى‏}‏ قال‏:‏ شاة‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس مثله‏.‏ وأخرج الشافعي في الأم، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي ‏[‏عن ابن عمر‏]‏‏:‏ ‏{‏فَمَا استيسر مِنَ الهدى‏}‏ قال‏:‏ بقرة، أو جزور؛ قيل‏:‏ أوما يكفيه شاة‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، عن ابن عباس قال في تفسير‏:‏ ‏{‏مَا * استيسر‏}‏ ما يجد‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ إن كان موسراً، فمن الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق القاسم، عن عائشة، وابن عمر أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل، والبقر‏.‏ وكان ابن عباس يقول‏:‏ ما استيسر من الهدي شاة‏.‏

وأخرج الشافعي في الأم، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس؛ قال‏:‏ لا حصر إلا حصر العدوّ، فأما من أصابه مرض، أو وجع، أو ضلال؛ فليس عليه شيء، إنما قال الله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ‏}‏ فلا يكون الأمن إلا من الخوف، وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عمر قال‏:‏ لا إحصار إلا من عدوّ‏.‏

وأخرج أيضاً، عن الزهري نحوه‏.‏ وأخرج أيضاً، عن عطاء قال‏:‏ لا إحصار إلا من مرض، أو عدوّ، أو أمر حادث‏.‏ وأخرج أيضاً، عن عروة قال‏:‏ كل شيء حبس المحرم، فهو إحصار‏.‏

وأخرج البخاري، عن المُسور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك‏.‏ وأخرج أبو داود في ناسخه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدى مَحِلَّهُ‏}‏ ثم استثنى فقال‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج الترمذي، وابن جرير، عن كعب بن عجرة قال‏:‏ لفيّ نزلت، وإياي عني بها ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مّن رَّأْسِهِ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا‏}‏ يعني من اشتدّ مرضه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن المنذر عنه‏.‏ قال‏:‏ يعني بالمرض أن يكون برأسه أذى، أو قروح، أو به أذى من رأسه، قال‏:‏ الأذى‏:‏ هو القمل‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ النسك المذكور في الآية شاة‏.‏ وروى أيضاً، عن علي مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج‏}‏ يقول‏:‏ من أحرم بالعمرة في أشهر الحج‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن الضحاك نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم أن ابن الزبير كان يقول‏:‏ إنما المتعة لمن أحصر، وليست لمن خُلِّي سبيله‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هي لمن أحصر، ومن خُلِّي سبيله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن عليّ في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج‏}‏ قال فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحجّ، فعليه الهدي‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن عليّ بن أبي طالب في قوله‏:‏ ‏{‏فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ‏}‏ قال‏:‏ قبل التروية يوم، ويوم التروية، ويوم عرفة، فإن فاتته صامهنّ أيام التشريق‏.‏ وأخرج هؤلاء إلا ابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عمر مثله إلا أنه قال‏:‏ وإذا فاته صام أيام منى، فإنهنّ من الحج‏.‏ وأخرج ابن جرير، والدارقطني، والبيهقي، عن ابن عمر نحوه مرفوعاً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن علقمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ الصيام للمتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ إذا لم يجد المتمتع بالعمرة هدياً، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، وإن كان يوم عرفة الثالث، فقد تمّ صومه، وسبعة إذا رجع إلى أهله‏.‏

وأخرج الدارقطني عن عائشة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

‏"‏ من لم يكن معه هدى، فليصم ثلاثة أيام قبل يوم النحر، ومن لم يكن صام تلك الثلاثة الأيام، فليصم أيام التشريق ‏"‏ وأخرج أيضاً عن عبد الله بن حُذَافة‏:‏ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره في رهط أن يطوفوا في منى في حجة الوداع، فينادوا‏:‏ إن هذه أيام أكل، وشرب، وذكر الله، فلا نصوم فيهنّ إلا صوماً في هدي»‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، عن عطاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المسجد الحرام‏}‏ قال‏:‏ ست قريات‏:‏ عرفة، وعرنة، والرجيع والنخلتان، ومرّ الظهران، وضجنان، وقال مجاهد‏:‏ هم أهل الحرم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس‏.‏ قال‏:‏ هم أهل الحرم‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن عمر مثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏197- 198‏]‏

‏{‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏197‏)‏ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏198‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏الحج أَشْهُرٌ‏}‏ فيه حذف، والتقدير‏:‏ وقت الحج أشهر، أي‏:‏ وقت عمل الحج‏.‏ وقيل التقدير‏:‏ الحج في أشهر، وفيه أنه يلزم النصب مع حذف حرف الجر لا الرفع‏.‏ قال الفراء‏:‏ الأشهر رفع؛ لأن معناه وقت الحج أشهر معلومات، وقيل التقدير‏:‏ الحج حج أشهر معلومات‏.‏ وقد اختلف في الأشهر المعلومات، فقال ابن مسعود، وابن عمر، وعطاء، والربيع، ومجاهد، والزهري‏:‏ هي شوّال، وذو القعدة، وذو الحجة كله، وبه قال مالك‏.‏ وقال ابن عباس، والسدي، والشعبي، والنخعي‏:‏ هي شوّال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وغيرهم‏.‏ وقد روي أيضاً عن مالك‏.‏ ويظهر فائدة الخلاف فيما وقع من أعمال الحج بعد يوم النحر، فمن قال إن ذا الحجة كله من الوقت لم يلزمه دم التأخير، ومن قال‏:‏ ليس إلا العشر منه، قال يلزم دم التأخير‏.‏

وقد استدل بهذه الآية من قال‏:‏ إنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، وهو عطاء، وطاوس، ومجاهد، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور قالوا‏:‏ فمن أحرم بالحج قبلها أحلّ بعمرة، ولا يجزيه عن إحرام الحج، كمن دخل في صلاة قبل وقتها، فإنها لا تجزيه‏.‏ وقال أحمد، وأبو حنيفة‏:‏ إنه مكروه فقط‏.‏ وروي نحوه عن مالك، والمشهور عنه جواز الإحرام بالحج في جميع السنة من غير كراهة‏.‏ وروي مثله عن أبي حنيفة‏.‏ وعلى هذا القول ينبغي أن ينظر في فائدة توقيت الحج بالأشهر المذكورة في الآية‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن النص عليها لزيادة فضلها‏.‏ وقد روي القول بجواز الإحرام في جميع السنة عن إسحاق بن راهويه، وإبراهيم النخعي، والثوري، والليث بن سعد، واحتج لهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج‏}‏ فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج، ولم يخص الثلاثة الأشهر، ويجاب بأن هذه الآية عامة، وتلك خاصة، والخاص مقدّم على العام‏.‏

ومن جملة ما احتجوا به القياس للحج على العمرة، فكما يجوز الإحرام للعمرة في جميع السنة، كذلك يجوز للحج، ولا يخفى أن هذا القياس مصادم للنصّ القرآني، فهو باطل، فالحق ما ذهب إليه الأوّلون، إن كانت الأشهر المذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏الحج أَشْهُرٌ‏}‏ مختصة بالثلاثة المذكورة بنص، أو إجماع، فإن لم يكن كذلك، فالأشهر جمع شهر، وهو من جموع القلة يتردد ما بين الثلاثة إلى العشرة، والثلاثة هي المتيقنة، فيجب الوقوف عندها‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏معلومات‏}‏ أن الحج في السنة مرة واحدة في أشهر معلومات من شهورها، ليس كالعمرة، أو المراد معلومات ببيان النبي صلى الله عليه وسلم، أو معلومات عند المخاطبين لا يجوز التقدّم عليها، ولا التأخير عنها،

قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج‏}‏ أصل الفرض في اللغة‏:‏ الحزّ والقطع، ومنه فرضة القوس، والنهر، والجبل، ففرضية الحج لازمة للعبد الحر، كلزوم الحزّ للقوس‏.‏

وقيل‏:‏ معنى فرض‏:‏ أبان، وهو أيضاً يرجع إلى القطع؛ لأن من قطع شيئاً فقد أبانه عن غيره‏.‏ والمعنى في الآية‏:‏ فمن ألزم نفسه فيهنّ الحج بالشروع فيه بالنية قصداً باطناً، وبالإحرام فعلاً ظاهراً، وبالتلبية نطقاً مسموعاً‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن إلزامه نفسه يكون بالتلبية، أو بتقليد الهدي، وسوقه، وقال الشافعي‏:‏ تكفي النية في الإحرام بالحج‏.‏

والرفث‏:‏ قال‏:‏ ابن عباس، وابن جبير، والسدي، وقتادة، والحسن، وعكرمة، والزهري، ومجاهد، ومالك‏:‏ هو الجماع‏.‏ وقال ابن عمر، وطاوس، وعطاء، وغيرهم‏:‏ الرفث‏:‏ الإفحاش بالكلام‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الرفث‏:‏ اللغاء من الكلام، وأنشد‏:‏

وربّ أسراب حَجِيج كُظَّم *** عن اللغا وَرَفَث التَّكَلُّم

يقال‏:‏ رفث يرفث بكسر الفاء، وضمها‏.‏

والفسوق‏:‏ الخروج عن حدود الشرع‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذبح للأصنام‏.‏ وقيل‏:‏ التنابز بالألقاب‏.‏ وقيل‏:‏ السباب‏.‏ والظاهر أنه لا يختص بمعصية معينة، وإنما خصصه من خصصه بما ذكر باعتبار أنه قد أطلق، على ذلك الفرد اسم الفسوق، كما قال سبحانه في الذبح للأصنام‏:‏ ‏{‏أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏‏.‏ قال في التنابز‏:‏ ‏{‏بِئْسَ الاسم الفسوق‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم في السباب‏:‏ «سباب المسلم فسوق» ولا يخفى على عارف أن إطلاق اسم الفسوق على فرد من أفراد المعاصي لا يوجب اختصاصه به‏.‏

والجدال مشتق من الجدل، وهو القتل، والمراد به هنا‏:‏ المماراة، وقيل‏:‏ السباب، وقيل‏:‏ الفخر بالآباء، والظاهر الأوّل‏.‏ وقد قرئ بنصب الثلاثة ورفعها، ورفع الأوّلين، ونصب الثالث، وعكس ذلك، ومعنى النفي لهذه الأمور‏:‏ النهي عنها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله‏}‏ حثّ على الخير بعد ذكر الشرّ، وعلى الطاعة بعد ذكر المعصية، وفيه أن كل ما يفعلونه من ذلك، فهو معلوم عند الله لا يفوت منه شيء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَزَوَّدُواْ‏}‏ فيه الأمر باتخاذ الزاد؛ لأن بعض العرب كانوا يقولون كيف نحجّ بيت ربنا، ولا يطعمنا‏؟‏ فكانوا يحجون بلا زاد، ويقولون‏:‏ نحن متوكلون على الله سبحانه، وقيل‏:‏ المعنى تزوّدوا لمعادكم من الأعمال الصالحة ‏{‏فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى‏}‏ والأوّل أرجح كما يدل على ذلك سبب نزول الآية، وسيأتي وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى‏}‏ إخبار بأن خير الزاد اتقاء المنهيات، فكأنه قال‏:‏ اتقوا الله في إتيان ما أمركم به من الخروج بالزاد، فإن خير الزاد التقوى، وقيل‏:‏ المعنى فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة، والحاجة إلى السؤال، والتكفف، وقوله‏:‏ ‏{‏واتقون يأُوْلِي الألباب‏}‏ فيه التخصيص لأولي الألباب بالخطاب بعد حثّ جميع العباد على التقوى؛ لأن أرباب الألباب هم القابلون لأوامر الله الناهضون بها، ولبّ كل شيء خالصه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ‏}‏ فيه الترخيص لمن حجّ في التجارة، ونحوها من الأعمال التي يحصل بها شيء من الرزق، وهو المراد بالفضل هنا، ومنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏فانتشروا فِى الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏ أي‏:‏ لا إثم عليكم في أن تبتغوا فضلاً من ربكم مع سفركم لتأدية ما افترضه عليكم من الحج‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَفَضْتُم‏}‏ أي‏:‏ دفعتم، يقال فاض الإناء‏:‏ إذا امتلأ ماء حتى ينصبّ من نواحيه، ورجل فياض، أي‏:‏ متدفقة يداه بالعطاء، ومعناه‏:‏ أفضتم أنفسكم، فترك ذكر المفعول، كما ترك في قولهم‏:‏ دفعوا من موضع كذا‏.‏

و ‏{‏عرفات‏}‏‏:‏ اسم لتلك البقعة، أي‏:‏ موضع الوقوف‏.‏ وقرأه الجماعة بالتنوين، وليس التنوين هنا للفرق بين ما ينصرف، وما لا ينصرف، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين‏.‏ قال النحاس‏:‏ هذا الجيد، وحكى سيبويه عن العرب حذف التنوين من عرفات قال‏:‏ لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين‏.‏ وحكى الأخفش، والكوفيون فتح التاء تشبيهاً بتاء فاطمة، وأنشدوا‏:‏

تنوّرتها من أذرعات وأهلُها *** بِيَثْربَ أدْنَى دارِها نَظَر عالي

وقال في الكشاف‏:‏ فإن قلت‏:‏ هلا منعت الصرف، وفيها السببان‏:‏ التعريف، والتأنيث، قلت‏:‏ لا يخلو التأنيث، إما أن يكون بالتاء التي في لفظها، وإما بتاء مقدّرة كما في سعاد، فالتي في لفظها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث‏.‏ ولا يصح تقدير التاء فيها؛ لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها، كما لا تقدّر تاء التأنيث في بنت؛ لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث، فأبت تقديرها‏.‏ انتهى‏.‏ وسميت عرفات؛ لأن الناس يتعارفون فيه‏.‏ وقيل‏:‏ إن آدم التقى هو وحواء فيها، فتعارف‏.‏ وقيل‏:‏ غير ذلك، قال ابن عطية‏:‏ والظاهر‏:‏ أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع، واستدل بالآية على وجوب الوقوف بعرفة؛ لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده،

والمراد بذكر الله عند المشعر الحرام‏:‏ دعاؤه، ومنه التلبية والتكبير، وسمي المشعر مشعراً من الشعار، وهو‏:‏ العلامة، والدعاء عنده من شعائر الحج، ووصف بالحرام لحرمته، وقيل‏:‏ المراد بالذكر‏:‏ صلاة المغرب، والعشاء بالمزدلفة جمعاً‏.‏ وقد أجمع أهل العلم على أن السنة أن يجمع الحاجّ بينهما فيها‏.‏ والمشعر‏:‏ هو جبل قزح الذي يقف عليه الإمام‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ‏}‏ الكاف نعت مصدر محذوف، وما مصدرية، أو كافة أي‏:‏ اذكروه ذكراً حسناً، كما هداكم هداية حسنة، وكرّر الأمر بالذكر تأكيداً، وقيل‏:‏ الأول أمر بالذكر عند المشعر الحرام، والثاني أمر بالذكر على حكم الإخلاص، وقيل‏:‏ المراد بالثاني تعديد النعمة عليهم، و«إن» في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ‏}‏ مخففة كما يفيده دخول اللام في الخبر‏.‏ وقيل‏:‏ هي بمعنى قد، أي‏:‏ قد كنتم، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏مِن قَبْلِهِ‏}‏ عائد إلى الهدي، وقيل‏:‏ إلى القرآن‏.‏

وقد أخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه، عن أبي أمامة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحج أَشْهُرٌ معلومات‏}‏ «شوّال، وذو القعدة، وذو الحجة» وأخرج الطبراني في الأوسط أيضاً، عن ابن عمر مرفوعاً مثله‏.‏ وأخرج الخطيب، عن ابن عباس مرفوعاً مثله أيضاً‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، عن عمر بن الخطاب موقوفاً مثله‏.‏ وأخرج الشافعي في الأم، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عمر موقوفاً مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عباس، وعطاء، والضحاك مثله‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه من طرق، عن ابن عمر في قوله‏:‏ ‏{‏الحج أَشْهُرٌ معلومات‏}‏ قال شوّال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة‏.‏ وأخرجوا إلا الحاكم، عن ابن مسعود مثله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي، عن ابن عباس من طرق مثله‏.‏ وأخرج ابن المنذر، والدارقطني، والطبراني، والبيهقي عن عبد الله بن الزبير مثله أيضاً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن الحسن، ومحمد، وإبراهيم مثله‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن حرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عمر في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج‏}‏ قال‏:‏ من أهل فيهن بحج، وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن مسعود قال الفرض‏:‏ الإحرام‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن الزبير قال‏:‏ الإهلال‏.‏ وأخرج عنه ابن المنذر، والدارقطني، والبيهقي قال‏:‏ فرض الحج الإحرام‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال‏:‏ الفرض الإهلال‏.‏ وروى نحو ذلك عن جماعة من التابعين‏.‏ وأخرج الشافعي في الأم، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس؛ قال‏:‏ لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج من أجل قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏الحج أَشْهُرٌ معلومات‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن خزيمة، والحاكم وصححه، والبيهقي عنه نحوه‏.‏ وأخرج الشافعي في الأم، وابن أبي شيبة، وابن مردويه، والبيهقي عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال‏:‏ «لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج» وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ «‏{‏فلا رفث، ولا فسوق، ولا جدال في الحج‏}‏ قال‏:‏ الرفث‏:‏ التعريض للنساء بالجماع، والفسوق‏:‏ المعاصي كلها، والجدال‏:‏ جدال الرجل صاحبه» وأخرج ابن مردويه، والأصبهاني في الترغيب، عن أبي أمامة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فلا رفث‏:‏ لا جماع، ولا فسوق‏:‏ المعاصي والكذب»

وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه من طرق عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ الرفث الجماع، والفسوق‏:‏ المعاصي، والجدال‏:‏ المِرَاء‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، والطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال‏:‏ الرفث‏:‏ غشيان النساء، والفسوق‏:‏ السباب، والجدال‏:‏ المراء‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي عنه نحوه‏.‏ وروى نحو ما تقدّم عن جماعة من التابعين بعبارات مختلفة،

وأخرج عبد بن حميد، والبخاري، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم عن ابن عباس؛ قال‏:‏ كان أهل اليمن يحجون، ولا يتزوّدون، ويقولون نحن متوكلون، ثم يقدمون، فيسألون الناس، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ كان ناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودَةٌ يقولون نحجّ بيت الله، ولا يطعمنا‏؟‏ فنزلت الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عمر قال‏:‏ كانوا إذا أحرموا ومعهم أزوادهم رموا بها، واستأنفوا زاداً آخر، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى‏}‏ فنُهُوا عن ذلك، وأمروا أن يتزوّدوا الكعك، والدقيق، والسويق‏.‏ وأخرج الطبراني عن ابن الزبير قال‏:‏ كان الناس يتوكل بعضهم على بعض في الزاد، فأمرهم الله، أن يتزوّدوا‏.‏ وقد روي عن جماعة من التابعين مثل ما تقدّم عن الصحابة‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو داود، وابن جرير عن ابن عباس؛ قال‏:‏ كانوا يتقون البيوع، والتجارة في الموسم، والحج، ويقولون أيام ذكر الله، فنزلت‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ‏}‏ الآية‏.‏ وقد أخرج نحوه عنه البخاري، وغيره‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي، عن أبي أمامة التميمي؛ قال‏:‏ قلت لابن عمر‏:‏ إنا أناس نُكْرَي، فهل لنا من حجّ‏؟‏ قال‏:‏ أليس تطوفون بالبيت، وبين الصفا والمروة، وتأتون المعرَّف، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم‏؟‏ قلت بلى، فقال ابن عمر‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ‏}‏ فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه الآية، وقال‏:‏ «أنتم حجاج»‏.‏ وأخرج البخاري، وغيره عن ابن عباس أنه كان يقرأ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ‏}‏ في مواسم الحج‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن ابن الزبير أنه قرأها كما قرأها ابن عباس‏.‏

وأخرج ابن أبي داود في المصاحف‏:‏ أن ابن مسعود قرأها كذلك‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس قال‏:‏ إنما سمي عرفات؛ لأن جبريل كان يقول لإبراهيم عليه السلام حين رأى المناسك عرفت‏.‏ وأخرج مثله ابن أبي حاتم، عن ابن عمر‏.‏ وأخرج مثله عبد الرزاق، وابن جرير، عن عليّ‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عمر؛ أنه سئل، عن المشعر الحرام، فسكت، حتى إذا هبطت أيدي الرواحل بالمزدلفة قال‏:‏ هذا المشعر الحرام‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عنه؛ أنه قال‏:‏ المشعر الحرام المزدلفة كلها‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في سننه عنه؛ قال‏:‏ هو‏:‏ الجبل، وما حوله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس مثله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عنه قال‏:‏ ما بين الجبلين الذي بجمع مشعر‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، عن ابن الزبير في قوله‏:‏ ‏{‏واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ‏}‏ قال‏:‏ ليس هذا بعامّ، هذا لأهل البلد كانوا يفيضون من جمع، ويفيض سائر الناس من عرفات، فأبى الله لهم ذلك، فأنزل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس‏}‏ وأخرج عبد بن حميد، عن سفيان في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ‏}‏ قال‏:‏ من قبل القرآن‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضالين‏}‏ قال لمن الجاهلين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏199- 203‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏199‏)‏ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ‏(‏200‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏201‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏202‏)‏ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏203‏)‏‏}‏

قيل‏:‏ الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَفِيضُواْ‏}‏ للحمس من قريش، لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات‏.‏ بل كانوا يقفون بالمزدلفة، وهي من الحرم، فأمروا بذلك، وعلى هذا تكون، ثم لعطف جملة على جملة لا للترتيب، وقيل‏:‏ الخطاب لجميع الأمة، والمراد بالناس إبراهيم، أي‏:‏ ثم أفيضوا من حيث أفاض إبراهيم، فيحتمل أن يكون أمراً لهم بالإفاضة من عرفة‏.‏ ويحتمل أن يكون إفاضة أخرى، وهي التي من المزدلفة، وعلى هذا تكون، «ثم» على بابها أي‏:‏ للترتيب، وقد رجح هذا الاحتمال الأخير ابن جرير الطبري، وإنما أمروا بالاستغفار؛ لأنهم في مساقط الرحمة، ومواطن القبول، ومظنات الإجابة‏.‏ وقيل‏:‏ إن المعنى استغفروا للذي كان مخالفاً لسنة إبراهيم، وهو‏:‏ وقوفكم بالمزدلفة دون عرفة‏.‏

والمراد بالمناسك‏:‏ أعمال الحج، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خذوا عني مناسككم» أي‏:‏ فإذا فرغتم من أعمال الحجّ، فاذكروا الله‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ بالمناسك‏:‏ الذبائح، وإنما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ‏}‏ لأن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم يقفون عند الجمرة، فيذكرون مفاخر آبائهم، ومناقب أسلافهم، فأمرهم الله بذكره مكان ذلك الذكر، ويجعلونه ذكراً مثل ذكرهم لآبائهم، أو أشدّ من ذكرهم لآبائهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ أَشَدَّ‏}‏ في موضع خفض عطفاً على ذكركم، والمعنى، أو كأشدّ ذكراً، ويجوز أن يكون في موضع نصب‏:‏ أي اذكروه أشدّ ذكراً‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ إنه عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله‏:‏ ‏{‏كَذِكْرِكُمْ‏}‏ كما تقول كذكر قريش آباءهم، أو قوم أشدّ منهم ذكراً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ‏}‏ الآية، لما أرشد سبحانه عباده إلى ذكره، وكان الدعاء نوعاً من أنواع الذكر جعل من يدعوه منقسماً إلى قسمين‏:‏ أحدهما‏:‏ يطلب حظ الدنيا، ولا يلتفت إلى حظ الآخرة، والقسم الآخر‏:‏ يطلب الأمرين جميعاً، ومفعول الفعل، أعني قوله‏:‏ ‏{‏أتانا‏}‏ محذوف، أي‏:‏ ما نريد، أو ما نطلب، والواو في قوله‏:‏ ‏{‏وما له‏}‏ واو الحال، والجملة بعدها حالية‏.‏ والخَلاق‏:‏ النصيب، أي‏:‏ وما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب؛ لأن همه مقصور على الدنيا لا يريد غيرها، ولا يطلب سواها‏.‏ وفي هذا الخبر معنى النهي عن الاقتصار على طلب الدنيا، والذمّ لمن جعلها غاية رغبته، ومعظم مقصوده‏.‏

وقد اختلف في تفسير الحسنتين المذكورتين في الآية، فقيل‏:‏ هما ما يطلبه الصالحون في الدنيا من العافية، وما لا بدّ منه من الرزق، وما يطلبونه في الآخرة من نعيم الجنة والرضا؛ وقيل‏:‏ المراد بحسنة الدنيا‏:‏ الزوجة الحسناء، وحسنة الآخرة‏:‏ الحور العين، وقيل‏:‏ حسنة الدنيا‏:‏ العلم والعبادة، وقيل غير ذلك‏.‏ قال القرطبي‏:‏ والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين‏:‏ نعيم الدنيا، والآخرة، قال‏:‏ وهذا هو الصحيح، فإن اللفظ يقتضي هذا كله، فإن حسنة نكرة في سياق الدعاء، فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل، وحسنة الآخرة‏:‏ الجنة بإجماع‏.‏

انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏حَسَنَةً وَقِنَا‏}‏ أصله أوقنا حذفت الواو، كما حذفت في يقي؛ لأنها بين ياء، وكسرة، مثل‏:‏ يعد، هذا قول البصريين‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ حذفت فرقاً بين اللازم، والمتعدّي‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الفريق الثاني ‏{‏لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ‏}‏ جنس ‏{‏مَّا كَسَبُواْ‏}‏ من الأعمال أي‏:‏ من ثوابها، ومن جملة أعمالهم الدعاء، فما أعطاهم الله بسببه من الخير، فهو مما كسبوا، وقيل‏:‏ إن معنى قوله‏:‏ ‏{‏مِمَّا كَسَبُواْ‏}‏ التعليل، أي‏:‏ نصيب من الدنيا، ولا نصيب لهم في الآخرة، وللآخرين نصيب من أجل ما كسبوا، وهو بعيد‏.‏ قيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الفريقين جميعاً‏:‏ أي‏:‏ للأوّلين نصيب مما كسبوا من الدنيا، ولا نصيب لهم في الآخرة، وللآخرين نصيب مما كسبوا في الدنيا، وفي الآخرة‏.‏ وسريع من سَرُع يَسْرُع كعظُم يعظُم سرعاً، وسرعة، والحساب مصدر كالمحاسبة، وأصله العدد، يقال‏:‏ حسب يحسب حساباً، وحسابة، وحسباناً، وحسباً‏.‏ والمراد هنا المحسوب، سمي حساباً تسمية للمفعول بالمصدر، والمعنى‏:‏ أن حسابه لعباده في يوم القيامة سريع مجيئه، فبادروا ذلك بأعمال الخير، أو أنه وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم، وأنه لا يشغله شأن عن شأن، فيحاسبهم في حالة واحدة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 28‏]‏،

قوله‏:‏ ‏{‏فِى أَيَّامٍ معدودات‏}‏ قال القرطبي‏:‏ لا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي‏:‏ أيام منى، وهي أيام التشريق، وهي أيام رمي الجمار‏.‏ وقال الثعلبي‏:‏ قال إبراهيم‏:‏ الأيام المعدودات أيام العشر، والأيام المعلومات‏:‏ أيام النحر‏.‏ وكذا روي عن مكي، والمهدوي‏.‏ قال القرطبي‏:‏ ولا يصح لما ذكرناه من الإجماع على ما نقله أبو عمر بن عبد البرّ، وغيره‏.‏ وروى الطحاوي عن أبي يوسف أن الأيام المعلومات‏:‏ أيام النحر، قال‏:‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَذْكُرُواْ الله فِى أَيَّامٍ معلومات على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الانعام‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 28‏]‏ وحكى الكرخي عن محمد بن الحسن أن الأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة‏:‏ يوم الأضحى، ويومان بعده‏.‏ قال الكيا الطبري‏:‏ فعلى قول أبي يوسف، ومحمد لا فرق بين المعلومات، والمعدودات، لأن المعدودات المذكورة في القرآن أيام التشريق بلا خلاف‏.‏ وروي عن مالك أن الأيام المعدودات، والأيام المعلومات يجمعها أربعة أيام، يوم النحر، وثلاثة أيام بعده، فيوم النحر معلوم غير معدود، واليومان بعده معلومان معدودان، واليوم الرابع معدود لا معلوم، وهو مرويّ عن ابن عمر‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الأيام المعلومات‏:‏ عشر ذي الحجة، وأيام التشريق‏.‏ والمخاطب بهذا الخطاب المذكور في الآية، أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات‏}‏ هو الحاجّ، وغيره كما ذهب إليه الجمهور؛ وقيل‏:‏ هو خاص بالحاج‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في وقته، فقيل من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق؛ وقيل‏:‏ من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر النحر، وبه قال أبو حنيفة، وقيل‏:‏ من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وبه قال مالك، والشافعي، قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن تَعَجَّلَ‏}‏ الآية، اليومان هما‏:‏ يوم ثاني النحر، ويوم ثالثه‏.‏ وقال ابن عباس، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والنخعي‏:‏ من رمى في اليوم الثاني من الأيام المعدودات، فلا حرج، ومن تأخر إلى الثالث، فلا حرج، فمعنى الآية‏:‏ كل ذلك مباح، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماماً، وتأكيداً؛ لأن من العرب من كان يذمّ التعجل، ومنهم من كان يذمّ التأخر، فنزلت الآية رافعة للجناح في كل ذلك‏.‏ وقال عليّ، وابن مسعود‏:‏ معنى الآية‏:‏ من تعجل، فقد غفر له، ومن تأخر، فقد غفر له‏.‏ والآية قد دلّت على أن التعجل، والتأخر مباحان‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لِمَنِ اتقى‏}‏ معناه‏:‏ أن التخيير، ورفع الإثم ثابت لمن اتقى؛ لأن صاحب التقوى يتحرّز، عن كل ما يريبه، فكان أحق بتخصيصه بهذا الحكم‏.‏ قال الأخفش‏:‏ التقدير ذلك لمن اتقى‏.‏ وقيل‏:‏ لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ لمن اتقى قتل الصيد‏.‏ وقيل معناه‏:‏ السلامة لمن اتقى‏.‏ وقيل‏:‏ هو متعلق بالذكر، أي‏:‏ الذكر لمن اتقى‏.‏

وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن عائشة قالت‏:‏ «كانت قريش، ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكانت سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات، ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس‏}‏‏.‏ وأخرجا أيضاً، عنها موقوفاً، نحوه‏.‏ وقد ورد في هذا المعنى روايات، عن الصحابة، والتابعين‏.‏ وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال‏:‏ إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى سماء الدنيا في الملائكة، فيقول لهم‏:‏ عبادي آمنوا بوعدي، وصدّقوا برسلي ما جزاؤهم‏؟‏ فيقال أن تغفر لهم، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏ وقد وردت أحاديث كثيرة في المغفرة لأهل عرفة، ونزول الرحمة عليهم، وإجابة دعائهم‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم‏}‏ قال‏:‏ حجكم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم‏}‏ قال‏:‏ إهراق الدماء ‏{‏فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ‏}‏ قال‏:‏ تفاخر العرب بينها بفعال آبائها يوم النحر حين يفرغون، فأمروا بذكر الله مكان ذلك‏.‏ وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس قال‏:‏ كان المشركون يجلسون في الحج، فيذكرون أيام آبائهم، وما يعدّون من أنسابهم يومهم أجمع، فأنزل الله على رسوله‏:‏ ‏{‏فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا‏}‏‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني عن عبد الله بن الزبير نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ كما يذكر الأبناء الآباء‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس أيضاً أنه قيل له في قوله‏:‏ ‏{‏كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ‏}‏ إن الرجل ليأتي عليه اليوم، وما يذكر أباه‏.‏ فقال‏:‏ إنه ليس بذاك، ولكن يقول‏:‏ تغضب لله إذا عُصِىَ أشدّ من غضبك إذا ذُكر والدك بسوء‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف، فيقولون‏:‏ اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاد حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً، فأنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا وَمَا لَهُ فِى الاخرة مِنْ خلاق‏}‏ ويجئ بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون ‏{‏رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار‏}‏ فأنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ والله سَرِيعُ الحساب‏}‏‏.‏ وأخرج الطبراني، عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ كان الناس في الجاهلية إذا وقفوا عند المشعر الحرام دعوا، فقال أحدهم‏:‏ اللهم ارزقني إبلاً، وقال الآخر‏:‏ اللهمّ ارزقني غنماً، فأنزل الله الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أنس أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، فيدعون‏:‏ اللهم اسقنا المطر، وأعطنا على عدوّنا الظفر، وردّنا صالحين إلى صالحين، فنزلت الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء في قوله‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ‏}‏ قال‏:‏ مما عملوا من الخير‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏سَرِيعُ الحساب‏}‏ قال‏:‏ سريع الإحصاء‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن أبي حاتم، عن عليّ قال‏:‏ الأيام المعدودات ثلاثة أيام‏:‏ يوم الأضحى، ويومان بعده، اذبح في أيها شئت، وأفضلها، أوّلها‏.‏ وأخرج الفريابي، وابن أبي الدنيا، وابن المنذر، عن ابن عمر؛ أنها أيام التشريق الثلاثة، وفي لفظ‏:‏ هذه الأيام الثلاثة بعد يوم النحر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، والضياء في المختارة، عن ابن عباس؛ قال‏:‏ الأيام المعلومات‏:‏ أيام العشر، والأيام المعدودات‏:‏ أيام التشريق‏.‏ وأخرج الطبراني، عن ابن الزبير قال في قوله‏:‏ ‏{‏واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات‏}‏ قال‏:‏ هنّ أيام التشريق، يذكر فيهنّ بتسبيح، وتهليل، وتكبير، وتحميد‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ الأيام المعدودات أربعة أيام‏:‏ يوم النحر، والثلاثة أيام بعده‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر؛ أنه كان يكبر تلك الأيام بمنى، ويقول التكبير واجب، ويتأوّل هذه الآية‏:‏ ‏{‏واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس أنه كان يكبر يوم النحر، ويتلو هذه الآية‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات‏}‏ قال‏:‏ التكبير أيام التشريق‏:‏ يقول في دبر كل صلاة‏:‏ الله أكبر الله أكبر الله أكبر‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن عمر أنه كان يكبر ثلاثاً ثلاثاً وراء الصلوات، ويقول‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير‏.‏ وأخرج المروزي عن الزهري قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر أيام التشريق كلها‏.‏ وأخرج مالك، عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عمر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر بمنى حين ارتفع النهار شيئاً، فكبرَّ، وكبرَّ الناس بتكبيره، ثم خرج الثانية في يومه ذلك بعد ارتفاع النهار، فكبرَّ، وكبرَّ الناس بتكبيره حتى بلغ تكبيرهم البيت، ثم خرج الثالثة من يومه ذلك حين زاغت الشمس، فكبرَّ، وكبرَّ الناس بتكبيره‏.‏ وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرمي الجمار، ويكبر مع كل حصاة‏.‏ وقد روى نحو ذلك من حديث عائشة عند الحاكم وصححه‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ قال‏:‏ في تعجيله‏:‏ ‏{‏وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ قال‏:‏ في تأخيره‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عمر قال‏:‏ النَّفْر في يومين لمن اتقى‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ من غابت له الشمس في اليوم الذي قال الله فيه‏:‏ ‏{‏فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ وهو بمنى، فلا ينفرنّ حتى يرمى الجمار من الغد، وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لِمَنِ اتقى‏}‏ قال‏:‏ لمن اتقى الصيد، وهو محرم‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وأهل السنن، والحاكم وصححه، عن عبد الرحمن بن يَعْمُر الديلي‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وهو واقف بعرفة، وأتاه الناس من أهل مكة، فقالوا‏:‏ يا رسول الله كيف الحج‏؟‏ قال‏:‏ «الحج عرفات، فمن أدرك ليلة جَمْع قبل أن يطلع الفجر، فقد أدرك أيام منى ثلاثة أيام‏:‏ ‏{‏فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ قال‏:‏ مغفوراً له‏:‏ ‏{‏وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ قال مغفوراً له» وأخرج ابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏لِمَنِ اتقى‏}‏ قال‏:‏ لمن اتقى في حجه‏.‏ قال قتادة، وذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول‏:‏ من اتقى في حجه غفر له ما تقدم من ذنبه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتقى‏}‏ قال‏:‏ ذهب إثمه كله إن اتقى فيما بقي من عمره‏.‏