فصل: تفسير الآيات رقم (55- 70)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 70‏]‏

‏{‏إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ‏(‏55‏)‏ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ‏(‏56‏)‏ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ‏(‏57‏)‏ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ‏(‏58‏)‏ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏59‏)‏ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏60‏)‏ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏61‏)‏ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ‏(‏62‏)‏ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏63‏)‏ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏64‏)‏ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏65‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ‏(‏66‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ ‏(‏67‏)‏ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ‏(‏68‏)‏ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ ‏(‏69‏)‏ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

لما ذكر الله سبحانه حال الكافرين أتبعه بحكاية حال عباده الصالحين‏.‏ وجعله من جملة ما يقال للكفار يومئذٍ زيادة لحسرتهم، وتكميلاً لجزعهم، وتتميماً لما نزل بهم من البلاء، وما شاهدوه من الشقاء، فإذا رأوا ما أعدّه الله لهم من أنواع العذاب، وما أعدّه لأوليائه من أنواع النعيم، بلغ ذلك من قلوبهم مبلغاً عظيماً، وزاد في ضيق صدورهم زيادة لا يقادر قدرها‏.‏ والمعنى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أصحاب الجنة‏}‏ في ذلك ‏{‏اليوم فِى شُغُلٍ‏}‏ بما هم فيه من اللذات، التي هي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، عن الاهتمام بأمر الكفار، ومصيرهم إلى النار، وإن كانوا من قراباتهم‏.‏ والأولى عدم تخصيص الشغل بشيء معين‏.‏ وقال قتادة، ومجاهد‏:‏ شغلهم ذلك اليوم بافتضاض العذارى‏.‏ وقال وكيع‏:‏ شغلهم بالسماع‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ بزيارة بعضهم بعضاً، وقيل‏:‏ شغلهم كونهم ذلك اليوم في ضيافة الله‏.‏ قرأ الكوفيون وابن عامر‏:‏ ‏{‏شغل‏}‏ بضمتين‏.‏ وقرأ الباقون بضم الشين، وسكون الغين‏:‏ وهما لغتان كما قال الفراء‏.‏ وقرأ مجاهد، وأبو السماك بفتحتين‏.‏ وقرأ النحوي، وابن هبيرة بفتح الشين، وسكون الغين‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏فاكهون‏}‏ بالرفع على أنه خبر إنّ، و‏{‏في شغل‏}‏ متعلق به، أو في محل نصب على الحال، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر إنّ، و‏{‏فاكهون‏}‏ خبر ثانٍ‏.‏ وقرأ الأعمش، وطلحة بن مصرف «فاكهين» بالنصب على أنه حال، و‏{‏في شغل‏}‏ هو‏:‏ الخبر‏.‏ وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وأبو حيوة، وأبو رجاء، وشيبة، وقتادة، ومجاهد «فكهون» قال الفراء‏:‏ هما لغتان كالفاره، والفره، والحاذر، والحذر‏.‏ وقال الكسائي، وأبو عبيدة الفاكه‏:‏ ذو الفاكهة مثل تامر ولابن، والفكه‏:‏ المتفكه، والمتنعم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الفكهون‏:‏ المعجبون‏.‏ وقال أبو زيد‏:‏ يقال رجل فكه‏:‏ إذا كان طيب النفس ضحوكاً‏.‏ وقال مجاهد والضحاك كما قال قتادة‏.‏ وقال السدّي كما قال الكسائي‏.‏

‏{‏هُمْ وأزواجهم فِى ظلال عَلَى الأرائك مُتَّكِئُونَ‏}‏ هذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان كيفية شغلهم، وتفكههم، وتكميلها بما يزيدهم سروراً، وبهجة من كون أزواجهم معهم على هذه الصفة من الاتكاء على الأرائك، فالضمير، وهو‏:‏ ‏{‏هم‏}‏ مبتدأ، ‏{‏وأزواجهم‏}‏ معطوف عليه، والخبر ‏{‏متكئون‏}‏، ويجوز أن يكون هم تأكيداً للضمير في ‏{‏فاكهون‏}‏، وأزواجهم معطوف على ذلك الضمير، وارتفاع متكئون على أنه خبر لمبتدأ محذوف، و‏{‏في ظلال‏}‏ متعلق به أو حال، وكذا على الأرائك، وجوّز، أبو البقاء‏:‏ أن يكون ‏{‏فِى ظلال‏}‏ هو‏:‏ الخبر، و‏{‏على الأرائك‏}‏ مستأنف‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏في ظلال‏}‏ بكسر الظاء، وبالألف، وهو‏:‏ جمع ظلّ‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وعبيد بن عمير، والأعمش، ويحيى بن وثاب، وحمزة، والكسائي، وخلف «في ظلل» بضم الظاء من غير ألف جمع ظلة، وعلى القراءتين، فالمراد‏:‏ الفرش، والستور التي تظللهم كالخيام، والحجال، والأرائك جمع أريكة، كسفائن جمع سفينة، والمراد بها‏:‏ السرر التي في الحجال‏.‏

قال أحمد بن يحيى ثعلب‏:‏ الأريكة لا يكون إلا سريراً في قبة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ إن المراد بالظلال أكنان القصور‏.‏

وجملة ‏{‏لَهُمْ فِيهَا فاكهة‏}‏ مبينة لما يتمتعون به في الجنة من المآكل، والمشارب، ونحوها‏.‏ والمراد فاكهة كثيرة من كل نوع من أنواع الفواكه ‏{‏وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ‏}‏ «ما» هذه هي‏:‏ الموصولة، والعائد محذوف، أو موصوفة، أو مصدرية، و‏{‏يدّعون‏}‏ مضارع ادّعى‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ يدّعون‏:‏ يتمنون، والعرب تقول‏:‏ ادّع عليّ ما شئت‏:‏ أي تمنّ، وفلان في خير ما يدّعي أي‏:‏ ما يتمنى‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو من الدعاء، أي‏:‏ ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم، من دعوت غلامي، فيكون الافتعال بمعنى‏:‏ الفعل كالاحتمال بمعنى‏:‏ الحمل، والارتحال بمعنى‏:‏ الرحل‏.‏ وقيل‏:‏ افتعل بمعنى‏:‏ تفاعل، أي‏:‏ ما يتداعونه كقولهم‏:‏ ارتموا، وتراموا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ إن من ادّعى منهم شيئاً، فهو له، لأن الله قد طبعهم على أن لا يدّعي أحد منهم شيئاً إلاّ وهو يحسن ويجمل به أن يدّعيه، «وما» مبتدأ، وخبرها ‏{‏لهم‏}‏، والجملة معطوفة على ما قبلها‏.‏ وقرئ «يدعون» بالتخفيف، ومعناها واضح‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ والوقف على يدّعون وقف حسن، ثم يبتدئ ‏{‏سلام‏}‏ على معنى‏:‏ لهم سلام، وقيل‏:‏ إن سلام هو خبر «ما» أي‏:‏ مسلم خالص، أو ذو سلامة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ سلام مرفوع على البدل من «ما» أي‏:‏ ولهم أن يسلم الله عليهم، وهذا مني أهل الجنة، والأولى أن يحمل قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ‏}‏ على العموم، وهذا السلام يدخل تحته دخولاً أوّلياً، ولا وجه لقصره على نوع خاص، وإن كان أشرف أنواعه تحقيقاً لمعنى العموم، ورعاية لما يقتضيه النظم القرآني‏.‏ وقيل‏:‏ إن سلام مرتفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي‏:‏ سلام يقال لهم ‏{‏قَوْلاً‏}‏، وقيل‏:‏ إن سلام مبتدأ، وخبره الناصب ل ‏{‏قولا‏}‏‏:‏ أي سلام يقال لهم قولاً، وقيل‏:‏ خبره من ربّ العالمين، وقيل‏:‏ التقدير‏:‏ سلام عليكم هذا على قراءة الجمهور، وقرأ أبيّ، وابن مسعود، وعيسى «سلاماً» بالنصب إما على المصدرية، أو على الحالية بمعنى‏:‏ خالصاً، والسلام‏:‏ إما من التحية، أو من السلامة‏.‏ وقرأ محمد بن كعب القرظي «سلم» كأنه قال‏:‏ سلم لهم لا يتنازعون فيه، وانتصاب ‏{‏قولاً‏}‏ على المصدرية بفعل محذوف على معنى‏:‏ قال الله لهم ذلك قولاً، أو يقوله لهم قولاً، أو يقال لهم قولاً‏:‏ ‏{‏مّن رَّبّ رَّحِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ من جهته‏.‏ قيل‏:‏ يرسل الله سحابة إليهم بالسلام‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ إن الملائكة تدخل على أهل الجنة من كل باب يقولون‏:‏ سلام عليكم يا أهل الجنة من ربّ رحيم‏.‏

‏{‏وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون‏}‏ هو على إضمار القول مقابل ما قيل للمؤمنين أي‏:‏ ويقال للمجرمين‏:‏ امتازوا أي‏:‏ انعزلوا، من مازه غيره، يقال‏:‏ مزت الشيء من الشيء‏:‏ إذا عزلته عنه، ونحيته‏.‏ قال مقاتل‏:‏ معناه اعتزلوا اليوم- يعني‏:‏ في الآخرة- من الصالحين‏.‏ وقال السدّي‏:‏ كونوا على حدة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ انفردوا عن المؤمنين‏.‏ وقال قتادة‏:‏ عزلوا عن كل خير‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يمتاز المجرمون بعضهم من بعض، فيمتاز اليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة‏.‏ وقال داود بن الجراح‏:‏ يمتاز المسلمون من المجرمين إلا أصحاب الأهواء، فإنهم يكونون مع المجرمين‏.‏

ثم وبخهم الله سبحانه، وقرعهم بقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان‏}‏، وهذا من جملة ما يقال لهم‏.‏ والعهد‏:‏ الوصية، أي‏:‏ ألم أوصكم، وأبلغكم على ألسن رسلي‏:‏ أن لا تعبدوا الشيطان أي‏:‏ لا تطيعوه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ ألم أتقدّم إليكم على لسان الرسل يا بني آدم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ الذين أمروا بالاعتزال‏.‏ قال الكسائي‏:‏ لا للنهي، وقيل‏:‏ المراد بالعهد هنا‏:‏ الميثاق المأخوذ عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما نصبه الله لهم من الدلائل العقلية التي في سماواته، وأرضه، وجملة ‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ تعليل لما قبلها من النهي عن طاعة الشيطان، وقبول وسوسته، وجملة ‏{‏وَأَنِ اعبدونى‏}‏ عطف على ‏{‏أن لا تعبدوا‏}‏، وأن‏:‏ في الموضعين هي المفسرة للعهد الذي فيه معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية فيهما أي‏:‏ لم أعهد إليكم بأن لا تعبدوا بأن اعبدوني، أو ألم أعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان، وفي عبادتي ‏{‏هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ عبادة الله، وتوحيده، أو الإشارة إلى دين الإسلام‏.‏

ثم ذكر سبحانه عداوة الشيطان لبني آدم، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً‏}‏ اللام هي‏:‏ الموطئة للقسم، والجملة مستأنفة للتقريع والتوبيخ، أي‏:‏ والله لقد أضلّ إلخ‏.‏ قرأ نافع، وعاصم ‏{‏جبلاً‏}‏ بكسر الجيم، والباء، وتشديد اللام، وقرأ أبو عمرو، وابن عامر بضم الجيم، وسكون الباء، وقرأ الباقون بضمتين مع تخفيف اللام، وقرأ ابن أبي إسحاق، والزهري، وابن هرمز بضمتين مع تشديد اللام، وكذلك قرأ الحسن، وعيسى بن عمر، والنضر بن أنس، وقرأ أبو يحيى، وحماد بن سلمة، والأشهب العقيلي بكسر الجيم، وإسكان الباء، وتخفيف اللام قال النحاس‏:‏ وأبينها القراءة الأولى‏.‏ والدليل على ذلك أنهم قد قرءوا جميعاً ‏{‏والجبلة الأوّلين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 184‏]‏ بكسر الجيم، والباء، وتشديد اللام‏.‏ فيكون جبلاً جمع جبلة، واشتقاق الكل من جبل الله الخلق أي‏:‏ خلقهم، ومعنى الآية‏:‏ أن الشيطان قد أغوى خلقاً كثيراً كما قال مجاهد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ جموعاً كثيرة، وقال الكلبي‏:‏ أمماً كثيرة‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ والقراءات كلها بمعنى‏:‏ الخلق، وقرئ «جيلاً» بالجيم، والياء التحتية‏.‏

قال الضحاك‏:‏ الجيل الواحد عشرة آلاف، والكثير ما يحصيه إلا الله عزّ وجلّ، ورويت هذه القراءة عن عليّ بن أبي طالب، والهمزة في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ‏}‏ للتقريع، والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدّر يقتضيه المقام كما تقدّم في نظائره أي‏:‏ أتشاهدون آثار العقوبات‏؟‏ أفلم تكونوا تعقلون‏؟‏ أو أفلم تكونوا تعقلون عداوة الشيطان لكم‏؟‏ أو أفلم تكونوا تعقلون شيئاً أصلاً‏؟‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أفلم تكونوا تعقلون‏}‏ بالخطاب، وقرأ طلحة، وعيسى بالغيبة‏.‏

‏{‏هذه جَهَنَّمُ التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ ويقال لهم عند أن يدنوا من النار‏:‏ هذه جهنم التي كنتم توعدون بها في الدنيا على ألسنة الرسل، والقائل لهم الملائكة، ثم يقولون لهم‏:‏ ‏{‏اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ قاسوا حرّها اليوم، وادخلوها، وذوقوا أنواع العذاب فيها بما كنتم تكفرون أي‏:‏ بسبب كفركم بالله في الدنيا، وطاعتكم للشيطان، وعبادتكم للأوثان، وهذا الأمر أمر تنكيل، وإهانة كقوله‏:‏ ‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 49‏]‏ ‏{‏اليوم نَخْتِمُ على أفواههم‏}‏ اليوم ظرف لما بعده، وقرئ «يختم» على البناء للمفعول، والنائب الجار والمجرور بعده‏.‏ قال المفسرون‏:‏ إنهم ينكرون الشرك، وتكذيب الرسل كما في قولهم‏:‏ ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏، فيختم الله على أفواههم ختماً لا يقدرون معه على الكلام، وفي هذا التفات من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأن أفعالهم القبيحة مستدعية للإعراض عن خطابهم، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ أي‏:‏ تكلمت أيديهم بما كانوا يفعلونه، وشهدت أرجلهم عليهم بما كانوا يعملون‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏تكلمنا‏}‏ و‏{‏تشهد‏}‏، وقرأ طلحة بن مصرف «ولتكلمنا» و«لتشهد» بلام كي‏.‏ وقيل‏:‏ سبب الختم على أفواههم ليعرفهم أهل الموقف‏.‏ وقيل‏:‏ ختم على أفواههم لأجل أن يكون الإقرار من جوارحهم؛ لأن شهادة غير الناطق أبلغ في الحجة من شهادة الناطق لخروجه مخرج الإعجاز‏.‏ وقيل‏:‏ ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعواناً لهم في معاصي الله صارت شهوداً عليهم، وجعل ما تنطق به الأيدي كلاماً، وإقراراً؛ لأنها كانت المباشرة لغالب المعاصي، وجعل نطق الأرجل شهادة؛ لأنها حاضرة عند كل معصية، وكلام الفاعل إقرار، وكلام الحاضر شهادة، وهذا اعتبار بالغالب، وإلا فالأرجل قد تكون مباشرة للمعصية كما تكون الأيدي مباشرة لها‏.‏

‏{‏وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ أذهبنا أعينهم، وجعلناها بحيث لا يبدو لها شقّ، ولا جفن‏.‏ قال الكسائي‏:‏ طمس يطمس، ويطمس، والمطموس، والطميس عند أهل اللغة الذي ليس في عينيه شقّ كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ومفعول المشيئة محذوف أي‏:‏ لو نشاء أن نطمس على أعينهم لطمسنا‏.‏ قال السدّي، والحسن‏:‏ المعنى‏:‏ لتركناهم عمياً يتردّدون لا يبصرون طريق الهدى، واختار هذا ابن جرير ‏{‏فاستبقوا الصراط‏}‏ معطوف على ‏{‏لطمسنا‏}‏ أي‏:‏ تبادروا إلى الطريق ليجوزوه، ويمضوا فيه، والصراط منصوب بنزع الخافض أي‏:‏ فاستبقوا إليه، وقال عطاء، ومقاتل، وقتادة‏:‏ المعنى‏:‏ لو نشاء لفقأنا أعينهم، وأعميناهم عن غيهم، وحوّلنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى، فأبصروا رشدهم، واهتدوا، وتبادروا إلى طريق الآخرة، ومعنى ‏{‏فأنى يُبْصِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ كيف يبصرون الطريق، ويحسنون سلوكه، ولا أبصار لهم‏.‏

وقرأ عيسى بن عمر «فاستبقوا» على صيغة الأمر، أي‏:‏ فيقال لهم‏:‏ استبقوا، وفي هذا تهديد لهم‏.‏

ثم كرّر التهديد لهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم على مكانتهم‏}‏ المسخ‏:‏ تبديل الخلقة إلى حجر، أو غيره من الجماد، أو بهيمة، والمكانة‏:‏ المكان، أي‏:‏ لو شئنا لبدّلنا خلقهم على المكان الذي هم فيه‏.‏ قيل‏:‏ والمكانة أخص من المكان كالمقامة، والمقام‏.‏ قال الحسن‏:‏ أي‏:‏ لأقعدناهم ‏{‏فَمَا استطاعوا مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يقدرون على ذهاب، ولا مجيء‏.‏ قال الحسن‏:‏ فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم؛ ولا يرجعوا وراءهم، وكذلك الجماد لا يتقدّم، ولا يتأخر‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم، وقيل‏:‏ لمسخناهم في المكان الذي فعلوا فيه المعصية‏.‏ وقال يحيى بن سلام‏:‏ هذا كله يوم القيامة‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏على مكانتهم‏}‏ بالإفراد‏.‏ وقرأ الحسن، والسلمي، وزرّ بن حبيش، وأبو بكر عن عاصم «مكاناتهم» بالجمع‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏مضياً‏}‏ بضم الميم، وقرأ أبو حيوة «مضياً» بفتحها، وروي عنه‏:‏ أنه قرأ بكسرها، ورويت هذه القراءة عن الكسائي‏.‏ قيل‏:‏ والمعنى‏:‏ ولا يستطيعون رجوعاً، فوضع الفعل موضع المصدر لمراعاة الفاصلة، يقال‏:‏ مضى يمضي مضياً‏:‏ إذا ذهب في الأرض، ورجع يرجع رجوعاً‏:‏ إذا عاد من حيث جاء‏.‏

‏{‏وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِى الخلق‏}‏ قرأ الجمهور ‏{‏ننكسه‏}‏ بفتح النون الأولى، وسكون الثانية، وضم الكاف مخففة‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة بضم النون الأولى، وفتح الثانية، وكسر الكاف مشدّدة‏.‏ والمعنى‏:‏ من نطل عمره نغير خلقه، ونجعله على عكس ما كان عليه أوّلاً من القوّة والطراوة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ من أطلنا عمره نكسنا خلقه، فصار بدل القوّة الضعف، وبدل الشباب الهرم، ومثل هذه الآية قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 5‏]‏، ومعنى ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏‏:‏ أفلا تعلمون بعقولكم أن من قدر على ذلك قدر على البعث، والنشور‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ «يعقلون» بالتحتية‏.‏ وقرأ نافع، وابن ذكوان بالفوقية على الخطاب‏.‏

ولما قال كفار مكة‏:‏ إن القرآن شعر، وإن محمداً شاعر، ردّ الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا علمناه الشعر‏}‏، والمعنى‏:‏ نفى كون القرآن شعراً، ثم نفى أن يكون النبيّ شاعراً، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا يَنبَغِى لَهُ‏}‏ أي‏:‏ لا يصح له الشعر، ولا يتأتى منه، ولا يسهل عليه لو طلبه، وأراد أن يقوله، بل كان إذا أراد أن ينشد بيتاً قد قاله شاعر متمثلاً به كسر وزنه، فإنه لما أنشد بيت طرفة بن العبد المشهور، وهو قوله‏:‏

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا *** ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

قال‏:‏ ويأتيك من لم تزوّده بالأخبار، وأنشد مرّة أخرى قول العباس بن مرداس السلمي‏:‏

أتجعل نهبي ونهب العبي *** د بين عيينة والأقرع

فقال‏:‏ بين الأقرع وعيينة، وأنشد أيضاً‏:‏

كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً *** فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، إنما قال الشاعر‏:‏

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً *** فقال‏:‏ أشهد أنك رسول الله، يقول الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وَمَا علمناه الشعر وَمَا يَنبَغِى لَهُ‏}‏ وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم كثير من مثل هذا‏.‏ قال الخليل‏:‏ كان الشعر أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى منه‏.‏ انتهى‏.‏ ووجه عدم تعليمه الشعر، وعدم قدرته عليه‏.‏ التكميل للحجة، والدحض للشبهة، كما جعله الله أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وأما ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏

هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت

وقوله‏:‏

أنا النبيّ لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب

ونحو ذلك، فمن الاتفاق الوارد من غير قصد كما يأتي ذلك في بعض آيات القرآن، وليس بشعر، ولا مراد به الشعر، بل اتفق ذلك اتفاقاً كما يقع في كثير من كلام الناس، فإنهم قد يتكلمون بما لو اعتبره معتبر لكان على وزن الشعر، ولا يعدّونه شعراً، وذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 92‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 13‏]‏ على أنه قد قال الأخفش إن قوله‏:‏

أنا النبيّ لا كذب *** ليس بشعر‏.‏ وقال الخليل في كتاب العين‏:‏ إن ما جاء من السجع على جزأين لا يكون شعراً‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والأظهر من حاله أنه قال‏:‏ لا كذب برفع الباء من كذب، وبخفضها من عبد المطلب‏.‏ قال النحاس‏:‏ قال بعضهم‏:‏ إنما الرواية بالإعراب، وإذا كانت بالإعراب لم يكن شعراً، لأنه إذا فتح الباء من الأوّل، أو ضمهما، أو نوّنها، وكسر الباء من الثاني خرج عن وزن الشعر‏.‏ وقيل‏:‏ إن الضمير في ‏{‏له‏}‏ عائد إلى القرآن أي‏:‏ وما ينبغي للقرآن أن يكون شعراً ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ‏}‏ أي‏:‏ ما القرآن إلا ذكر من الأذكار، وموعظة من المواعظ ‏{‏وَقُرْآنٌ مُّبِين‏}‏ أي‏:‏ كتاب من كتب الله السماوية مشتمل على الأحكام الشرعية ‏{‏لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً‏}‏ أي‏:‏ لينذر القرآن من كان حياً، أي‏:‏ قلبه صحيح يقبل الحق، ويأبى الباطل، أو لينذر الرسول من كان حياً‏.‏ قرأ الجمهور بالياء التحتية، وقرأ نافع، وابن عامر بالفوقية، فعلى القراءة الأولى المراد‏:‏ القرآن، وعلى الثانية المراد‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين‏}‏ أي‏:‏ وتجب كلمة العذاب على المصرّين على الكفر الممتنعين من الإيمان بالله، وبرسله‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فِى شُغُلٍ فاكهون‏}‏ قال‏:‏ في افتضاض الأبكار‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن مسعود في الآية قال‏:‏ شغلهم‏:‏ افتضاض العذارى‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة، وقتادة مثله‏.‏ وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن عمر قال‏:‏ إن المؤمن كلما أراد زوجة وجدها عذراء‏.‏ وقد روي نحوه مرفوعاً عن أبي سعيد، مرفوعاً عند الطبراني في الصغير، وأبي الشيخ في العظمة‏.‏ وروي أيضاً نحوه عن أبي هريرة مرفوعاً عند الضياء المقدسي في صفة الجنة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فِى شُغُلٍ فاكهون‏}‏ قال‏:‏ ضرب الأوتار‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ هذا لعله خطأ من المستمع، وإنما هو افتضاض الأبكار‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ ‏{‏فاكهون‏}‏‏:‏ فرحون‏.‏ وأخرج ابن ماجه، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة، والبزار، وابن أبي حاتم، والأجرّي في الرؤية، وابن مردويه عن جابر قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربّ قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال‏:‏ السلام عليكم يا أهل الجنة، وذلك قول الله‏:‏ ‏{‏سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ‏}‏ قال‏:‏ فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره، وبركته عليهم في ديارهم» قال ابن كثير‏:‏ في إسناده نظر‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ إن الله هو يسلم عليهم‏.‏

وأخرج أحمد، ومسلم، والنسائي، والبزار، وابن أبي الدنيا في التوبة، واللفظ له، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أنس في قوله‏:‏ ‏{‏اليوم نَخْتِمُ على أفواههم‏}‏ قال‏:‏ كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت نواجذه، قال‏:‏ «أتدرون مما ضحكت‏؟‏» قلنا‏:‏ لا يا رسول الله، قال‏:‏ «من مخاطبة العبد ربه يقول‏:‏ يا ربّ ألم تجرني من الظلم‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى، فيقول‏:‏ إني لا أجيز عليّ إلا شاهداً مني، فيقول‏:‏ كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فيه‏.‏ ويقال لأركانه‏:‏ انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه، وبين الكلام، فيقول‏:‏ بعداً لكنّ، وسحقاً، فعنكن كنت أناضل»

وأخرج مسلم، والترمذي، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي سعيد، وأبي هريرة قالا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يلقى العبد ربه، فيقول الله‏:‏ قل‏:‏ ألم أكرمك، وأسوّدك، وأزوّجك، وأسخر لك الخيل، والإبل، وأذرك ترأس، وترتع‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى أي ربّ، فيقول‏:‏ أفظننت أنك ملاقيّ‏؟‏ فيقول‏:‏ لا، فيقول‏:‏ إني أنساك كما نسيتني‏.‏ ثم يلقى الثاني، فيقول مثل ذلك، ثم يلقى الثالث، فيقول له مثل ذلك، فيقول‏:‏ آمنت بك، وبكتابك، وبرسولك، وصليت، وصمت، وتصدّقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول‏:‏ ألا نبعث شاهدنا عليك، فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليّ، فيختم على فيه، ويقال لفخذه‏:‏ انطقي، فتنطق فخذه، وفمه، وعظامه بعمله ما كان، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط عليه» وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث أبي موسى نحوه‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ أعميناهم، وأضللناهم عن الهدى ‏{‏فأنى يُبْصِرُونَ‏}‏ فكيف يهتدون‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم‏}‏ قال‏:‏ أهلكناهم ‏{‏على مكانتهم‏}‏ قال‏:‏ في مساكنهم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم قال‏:‏ بلغني أنه قيل لعائشة‏:‏ هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر‏؟‏ قالت‏:‏ كان أبغض الحديث إليه، غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس، فيجعل أوّله آخره يقول‏:‏ ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار، فقال أبو بكر‏:‏ ليس هكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إني والله ما أنا بشاعر، ولا ينبغي لي» وهذا يردُّ ما نقلناه عن الخليل سابقاً أن الشعر كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام، وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر تمثل ببيت طرفة‏:‏

ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد *** وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل من الأشعار‏:‏

ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد *** وأخرج البيهقي في سننه عن عائشة قالت‏:‏ ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط إلا بيتاً واحداً‏:‏

تفاءل بما تهوى يكن فلقلما *** يقال لشيء‏:‏ كان، إلا تحقق

قالت عائشة‏:‏ ولم يقل تحققاً لئلا يعربه، فيصير شعراً، وإسناده هكذا‏:‏ قال‏:‏ أخبرنا أبو عبيد الله الحافظ‏:‏ يعني‏:‏ الحاكم حدّثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن نعيم، حدّثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير، حدّثنا علي بن عمرو الأنصاري، حدّثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، فذكره‏.‏ وقد سئل المزّي عن هذا الحديث فقال‏:‏ هو منكر، ولم يعرف شيخ الحاكم، ولا الضرير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 83‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ‏(‏71‏)‏ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ‏(‏72‏)‏ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏74‏)‏ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ‏(‏75‏)‏ فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏76‏)‏ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏77‏)‏ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ‏(‏78‏)‏ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ‏(‏80‏)‏ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ‏(‏81‏)‏ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏82‏)‏ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

ثم ذكر سبحانه قدرته العظيمة، وإنعامه على عبيده، وجحد الكفار لنعمه، فقال‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعاما‏}‏ والهمزة للإنكار، والتعجيب من حالهم، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره، والرؤية هي القلبية أي‏:‏ أو لم يعلموا بالتفكر، والاعتبار ‏{‏أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم‏}‏ أي‏:‏ لأجلهم ‏{‏مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا‏}‏ أي‏:‏ مما أبدعناه، وعملناه من غير واسطة، ولا شركة، وإسناد العمل إلى الأيدي مبالغة في الاختصاص، والتفرّد بالخلق كما يقول الواحد منا‏:‏ عملته بيدي للدلالة على تفرّده بعمله، «وما» بمعنى‏:‏ الذي، وحذف العائد لطول الصلة، ويجوز أن تكون مصدرية، والأنعام جمع نعم، وهي‏:‏ البقر، والغنم، والإبل، وقد سبق تحقيق الكلام فيها‏.‏ ثم ذكر سبحانه المنافع المترتبة على خلق الأنعام، فقال‏:‏ ‏{‏فَهُمْ لَهَا مالكون‏}‏ أي‏:‏ ضابطون قاهرون يتصرفون بها كيف شاءوا، ولو خلقناها وحشية لنفرت عنهم، ولم يقدروا على ضبطها، ويجوز أن يكون المراد‏:‏ أنها صارت في أملاكهم، ومعدودة من جملة أموالهم المنسوبة إليهم نسبة الملك‏.‏

‏{‏وذللناها لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ جعلناها لهم مسخرة لا تمتنع مما يريدون منها من منافعهم حتى الذبح، ويقودها الصبيّ، فتنقاد له، ويزجرها، فتنزجر، والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ‏}‏ لتفريع أحكام التذليل عليه أي‏:‏ فمنها مركوبهم الذي يركبونه كما يقال‏:‏ ناقة حلوب أي‏:‏ محلوبة‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏ركوبهم‏}‏ بفتح الراء‏.‏ وقرأ الأعمش، والحسن، وابن السميفع بضم الراء على المصدر‏.‏ وقرأ أبيّ، وعائشة «ركوبتهم»، والركوب والركوبة واحد، مثل الحلوب والحلوبة، والحمول والحمولة‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الركوبة تكون للواحدة والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة‏.‏ وزعم أبو حاتم‏:‏ أنه لا يجوز، فمنها ركوبهم بضم الراء؛ لأنه مصدر، والركوب ما يركب، وأجاز ذلك الفراء كما يقال‏:‏ فمنها أكلهم، ومنها شربهم، ومعنى ‏{‏وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ‏}‏‏:‏ ما يأكلونه من لحمها، و«من» للتبعيض ‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ‏}‏ أي‏:‏ لهم في الأنعام منافع غير الركوب لها، والأكل منها، وهي ما ينتفعون به من أصوافها، وأوبارها، وأشعارها، وما يتخذونه من الأدهان من شحومها، وكذلك الحمل عليها، والحراثة بها ‏{‏ومشارب‏}‏ أي‏:‏ ولهم فيها مشارب مما يحصل من ألبانها ‏{‏أَفَلاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ الله على هذه النعم، ويوحدونه، ويخصونه بالعبادة‏.‏

ثم ذكر سبحانه جهلهم، واغترارهم، ووضعهم كفران النعم مكان شكرها، فقال‏:‏ ‏{‏واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً‏}‏ من الأصنام، ونحوها يعبدونها، ولا قدرة لها على شيء، ولم يحصل لهم منها فائدة، ولا عاد عليهم من عبادتها عائدة ‏{‏لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ رجاء أن ينصروا من جهتهم إن نزل بهم عذاب، أو دهمهم أمر من الأمور، وجملة ‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ‏}‏ مستأنفة لبيان بطلان ما رجوه منها، وأملوه من نفعها، وجمعهم بالواو، والنون جمع العقلاء بناء على زعم المشركين أنهم ينفعون، ويضرون، ويعقلون ‏{‏وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ والكفار جند للأصنام محضرون أي‏:‏ يحضرونهم في الدنيا‏.‏

قال الحسن‏:‏ يمنعون منهم، ويدفعون عنهم، وقال قتادة‏:‏ أي‏:‏ يغضبون لهم في الدنيا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ينتصرون للأصنام، وهي لا تستطيع نصرهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى يعبدون الآلهة، ويقومون بها، فهم لهم بمنزلة الجند، هذه الأقوال على جعل ضمير ‏"‏ هم ‏"‏ للمشركين، وضمير ‏"‏ لهم ‏"‏ للآلهة، وقيل‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ أي‏:‏ الآلهة لهم أي‏:‏ للمشركين ‏{‏جند محضرون‏}‏ معهم في النار، فلا يدفع بعضهم عن بعض‏.‏ وقيل‏:‏ معناه وهذه الأصنام لهؤلاء الكفار جند الله عليهم في جهنم؛ لأنهم يلعنونهم، ويتبرءون منهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ إن الكفار يعتقدون أن الأصنام جند لهم يحضرون يوم القيامة لإعانتهم‏.‏

ثم سلى سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ‏}‏ هذا القول هو ما يفيده قوله‏:‏ ‏{‏واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً‏}‏ فإنهم لا بدّ أن يقولوا‏:‏ هؤلاء آلهتنا، وإنها شركاء لله في المعبودية، ونحو ذلك‏.‏ وهو نهي للرسول صلى الله عليه وسلم عن التأثر بذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إنه نهي لهم عن الأسباب التي تحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن التأثر لما يصدر منهم هو من باب‏:‏ «لا أرينك ها هنا» فإنه يراد به نهي من خاطبه عن الحضور لديه، لا نهي نفسه عن الرؤية، وهذا بعيد، والأوّل أولى، والكلام من باب التسلية كما ذكرنا، ويجوز أن يكون المراد بالقول المذكور هو‏:‏ قولهم إنه ساحر، وشاعر، ومجنون‏.‏ وجملة ‏{‏إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ لتعليل ما تقدّم من النهي، فإن علمه سبحانه بما يظهرون، ويضمرون مستلزم المجازاة لهم بذلك‏.‏ وأن جميع ما صدر منهم لا يعزب عنه سواء كان خافياً، أو بادياً سرًّا، أو جهراً مظهراً، أو مضمراً‏.‏ وتقديم السرّ على الجهر للمبالغة في شمول علمه لجميع المعلومات‏.‏

وجملة ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ‏}‏ مستأنفة مسوقة لبيان إقامة الحجة على من أنكر البعث، وللتعجيب من جهله، فإن مشاهدة خلقهم في أنفسهم على هذه الصفة من البداية إلى النهاية مستلزمة للاعتراف بقدرة القادر الحكيم على ما هو دون ذلك من بعث الأجسام، وردّها كما كانت، والإنسان المذكور في الآية المراد به‏:‏ جنس الإنسان كما في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 67‏]‏، ولا وجه لتخصيصه بإنسان معين كما قيل‏:‏ إنه عبد الله بن أبيّ، وأنه قيل له ذلك لما أنكر البعث‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو‏:‏ أمية بن خلف‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو‏:‏ العاص بن وائل السهمي‏.‏

وقال قتادة، ومجاهد‏:‏ هو‏:‏ أبيّ بن خلف الجمحي، فإن أحد هؤلاء، وإن كان سبباً للنزول، فمعنى الآية‏:‏ خطاب الإنسان من حيث هو، لا إنسان معين، ويدخل من كان سبباً للنزول تحت جنس الإنسان دخولاً أوّلياً، والنطفة هي‏:‏ اليسير من الماء، وقد تقدّم تحقيق معناها ‏{‏فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ‏}‏ هذه الجملة معطوفة على الجملة المنفية قبلها داخلة معها في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام، و«إذا» هي‏:‏ الفجائية أي‏:‏ ألم يرَ الإنسان أنا خلقناه من أضعف الأشياء، ففجأ خصومتنا في أمر قد قامت فيه عليه حجج الله، وبراهينه، والخصيم‏:‏ الشديد الخصومة الكثير الجدال، ومعنى المبين‏:‏ المظهر لما يقوله الموضح له بقوّة عارضته، وطلاقة لسانه، وهكذا جملة‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ‏}‏ معطوفة على الجملة المنفية داخلة في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام، فهي تكميل للتعجيب من حال الإنسان، وبيان جهله بالحقائق، وإهماله في نفسه فضلاً عن التفكر في سائر مخلوقات الله، ويجوز أن تكون جملة ‏{‏فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ‏}‏ معطوفة على خلقنا، وهذه معطوفة عليها أي‏:‏ أورد في شأننا قصة غريبة كالمثل‏:‏ وهي إنكاره أحياناً للعظام، ونسي خلقه، أي‏:‏ خلقنا إياه، وهذه الجملة معطوفة على ضرب، أو في محلّ نصب على الحال بتقدير قد‏.‏

وجملة ‏{‏قَالَ مَن يُحييِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ‏}‏ استئناف جواباً عن سؤال مقدّر كأنه قيل‏:‏ ما هذا المثل الذي ضربه‏؟‏ فقيل‏:‏ قال‏:‏ من يحيي العظام، وهي رميم، وهذا الاستفهام للإنكار؛ لأنه قاس قدرة الله على قدرة العبد، فأنكر أن الله يحيي العظام البالية حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر، يقال‏:‏ رمّ العظم يرمّ رماً إذا بلي، فهو رميم، ورمام، وإنما قال‏:‏ ‏{‏رميم‏}‏، ولم يقل‏:‏ «رميمة» مع كونه خبراً للمؤنث؛ لأنه اسم لما بلي من العظام غير صفة كالرمة والرفات‏.‏ وقيل‏:‏ لكونه معدولاً عن فاعلة، وكل معدول عن وجهه يكون مصروفاً عن إعرابه كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 28‏]‏؛ لأنه مصروف عن باغية، كذا قال البغوي، والقرطبي، وقال بالأوّل صاحب الكشاف‏.‏ والأولى أن يقال‏:‏ إنه فعيل بمعنى‏:‏ فاعل، أو مفعول، وهو يستوي فيه المذكر، والمؤنث كما قيل في جريح، وصبور‏.‏

ثم أجاب سبحانه عن الضارب لهذا المثل، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ يُحْيِيهَا الذى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ ابتدأها، وخلقها أوّل مرة من غير شيء، ومن قدر على النشأة الأولى قدر على النشأة الثانية ‏{‏وَهُوَ بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏ لا يخفى عليه خافية، ولا يخرج عن علمه خارج كائناً ما كان‏.‏ وقد استدلّ أبو حنيفة، وبعض أصحاب الشافعي بهذه الآية على أن العظام مما تحله الحياة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا تحله الحياة، وأن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏مَن يُحىِ العظام‏}‏ من يحيي أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف، وردّ بأن هذا التقدير خلاف الظاهر ‏{‏الذى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الأخضر نَاراً‏}‏ هذا رجوع منه سبحانه إلى تقرير ما تقدّم من دفع استبعادهم، فنبه سبحانه على وحدانيته، ودل على قدرته على إحياء الموات بما يشاهدونه من إخراج النار المحرقة من العود النديّ الرطب، وذلك أن الشجر المعروف بالمرخ، والشجر المعروف بالعفار إذا قطع منهما عودان، وضرب أحدهما على الآخر انقدحت منهما النار، وهما أخضران‏.‏

وقيل‏:‏ المرخ هو‏:‏ الذكر، والعفار هو‏:‏ الأنثى، ويسمى الأوّل الزند، والثاني الزندة، وقال‏:‏ ‏{‏الأخضر‏}‏، ولم يقل‏:‏ «الخضراء» اعتباراً باللفظ‏.‏ وقرئ «الخضر» اعتباراً بالمعنى، وقد تقرّر أنه يجوز تذكير اسم الجنس، وتأنيثه كما في قوله‏:‏ ‏{‏نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 20‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏نَخْلٍ خَاوِيَةٍ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 7‏]‏ فبنو تميم، ونجد يذكَّرونه، وأهل الحجاز يؤنثونه إلا نادراً، والموصول بدل من الموصول الأوّل ‏{‏فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ‏}‏ أي‏:‏ تقدحون منه النار، وتوقدونها من ذلك الشجر الأخضر‏.‏

ثم ذكر سبحانه ما هو أعظم خلقاً من الإنسان، فقال‏:‏ ‏{‏أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم‏}‏ والهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدّر كنظائره، ومعنى الآية‏:‏ أن من قدر على خلق السماوات، والأرض- وهما في غاية العظم، وكبر الأجزاء- يقدر على إعادة خلق البشر الذي هو صغير الشكل ضعيف القوّة، كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏ قرأ الجمهور ‏{‏بقادر‏}‏ بصيغة اسم الفاعل‏.‏ وقرأ الجحدري، وابن أبي إسحاق، والأعرج، وسلام بن المنذر، وأبو يعقوب الحضرمي «يقدر» بصيغة الفعل المضارع‏.‏ ثم أجاب سبحانه عما أفاده الاستفهام من الإنكار التقريريّ بقوله‏:‏ ‏{‏بلى وَهُوَ الخلاق العليم‏}‏ أي‏:‏ بلى هو قادر على ذلك، وهو المبالغ في الخلق، والعلم على أكمل وجه، وأتمه‏.‏ وقرأ الحسن، والجحدري، ومالك بن دينار «وهو الخالق»‏.‏

ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته، وتيسر المبدأ، والإعادة عليه، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ أي‏:‏ إنما شأنه سبحانه إذا تعلقت إرادته بشيء من الأشياء أن يقول له‏:‏ احدث، فيحدث من غير توقف على شيء آخر أصلاً، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة النحل، وفي البقرة‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏فيكون‏}‏ بالرفع على الاستئناف‏.‏ وقرأ الكسائي بالنصب عطفاً على ‏{‏يقول‏}‏‏.‏ ثم نزّه سبحانه نفسه عن أن يوصف بغير القدرة، فقال‏:‏ ‏{‏فسبحان الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَئ‏}‏، والملكوت في كلام العرب لفظ مبالغة في الملك كالجبروت، والرحموت كأنه قال‏:‏ فسبحان الذي بيده مالكية الأشياء الكلية‏.‏ قال قتادة‏:‏ ملكوت كلّ شيء‏:‏ مفاتح كلّ شيء‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏ملكوت‏}‏ وقرأ الأعمش، وطلحة بن مصرف، وإبراهيم التيمي «ملكة» بزنة شجرة، وقرئ «مملكة» بزنة مفعلة، وقرئ «ملك»، والملكوت أبلغ من الجميع‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ بالفوقية على الخطاب مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ السلمي، وزر بن حبيش، وأصحاب ابن مسعود بالتحتية على الغيبة مبنياً للمفعول أيضاً‏.‏ وقرأ زيد بن عليّ على البناء للفاعل أي‏:‏ ترجعون إليه لا إلى غيره وذلك في الدار الآخرة بعد البعث‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في معجمه، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث والضياء في المختارة عن ابن عباس قال‏:‏ جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل، ففته بيده، فقال‏:‏ يا محمد أيحيي الله هذا بعد ما أرم‏؟‏ قال‏:‏ «نعم يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم» فنزلت الآيات من آخر ياس ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه قال‏:‏ جاء عبد الله بن أبيّ في يده عظم حائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وذكر مثل ما تقدّم قال ابن كثير‏:‏ وهذا منكر؛ لأن السورة مكية، وعبد الله بن أبيّ إنما كان بالمدينة‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ جاء أبيّ بن خلف الجمحي، وذكر نحو ما تقدّم‏.‏ وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال‏:‏ نزلت في أبي جهل، وذكر نحو ما تقدّم‏.‏

سورة الصافات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 19‏]‏

‏{‏وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ‏(‏1‏)‏ فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ‏(‏2‏)‏ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏3‏)‏ إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ‏(‏4‏)‏ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ‏(‏5‏)‏ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ‏(‏6‏)‏ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ‏(‏7‏)‏ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ‏(‏8‏)‏ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ‏(‏9‏)‏ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ‏(‏10‏)‏ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ‏(‏11‏)‏ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ ‏(‏13‏)‏ وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ‏(‏14‏)‏ وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏16‏)‏ أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ‏(‏17‏)‏ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏والصافات صَفَّا‏}‏ قرأ أبو عمرو، وحمزة، وقيل‏:‏ حمزة فقط، بإدغام التاء من الصافات في صاد صفاً، وإدغام التاء من الزاجرات في زاي زجراً، وإدغام التاء من التاليات في ذال ذكراً، وهذه القراءة قد أنكرها أحمد بن حنبل لما سمعها‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهي بعيدة في العربية من ثلاثة جهات‏:‏ الجهة الأولى أن التاء ليست من مخرج الصاد، ولا من مخرج الزاي، ولا من مخرج الدال، ولا من أخواتهن‏.‏ الجهة الثانية أن التاء في كلمة، وما بعدها في كلمة أخرى‏.‏ الثالثة أنك إذا أدغمت جمعت بين ساكنين من كلمتين، وإنما يجوز الجمع بين ساكنين في مثل هذا إذا كانا في كلمة واحدة‏.‏ وقال الواحدي‏:‏ إدغام التاء في الصاد حسن لمقاربة الحرفين، ألا ترى أنهما من طرف اللسان‏.‏ وقرأ الباقون بإظهار جميع ذلك، والواو للقسم، والمقسم به‏:‏ الملائكة‏:‏ الصافات، والزاجرات، والتاليات‏.‏ والمراد ب ‏{‏الصافات‏}‏‏:‏ التي تصفّ في السماء من الملائكة كصفوف الخلق في الدنيا، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة‏.‏ وقيل‏:‏ إنها تصفّ أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ صفاً كصفوفهم عند ربهم في صلاتهم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالصافات هنا‏:‏ الطير كما في قوله‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صافات‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 19‏]‏ والأوّل أولى، والصفّ‏:‏ ترتيب الجمع على خطّ كالصفّ في الصلاة‏.‏ وقيل‏:‏ الصافات جماعة الناس المؤمنين إذا قاموا صفاً في الصلاة، أو في الجهاد، ذكره القشيري‏.‏ والمراد ب ‏{‏الزاجرات‏}‏ الفاعلات للزجر من الملائكة، إما لأنها تزجر السحاب كما قال السدّي، وإما لأنها تزجر عن المعاصي بالمواعظ، والنصائح‏.‏ وقال قتادة‏:‏ المراد بالزاجرات‏:‏ الزواجر من القرآن، وهي كل ما ينهى، ويزجر عن القبيح، والأوّل أولى‏.‏ وانتصاب ‏{‏صفا‏}‏ و‏{‏زجراً‏}‏ على المصدرية لتأكيد ما قبلهما‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالزاجرات‏:‏ العلماء؛ لأنهم هم الذين يزجرون أهل المعاصي‏.‏ والزجر في الأصل‏:‏ الدفع بقوّة، وهو هنا قوّة التصويت، ومنه قول الشاعر‏:‏

زجر أبي عروة السباع إذا *** أشفق أن يختلطن بالغنم

ومنه زجرت الإبل، والغنم‏:‏ إذا أفزعتها بصوتك، والمراد ب ‏{‏التاليات ذِكْراً‏}‏ الملائكة التي تتلو القرآن كما قال ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن جبير، والسدّي‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ جبريل وحده، فذكر بلفظ الجمع تعظيماً له مع أنه لا يخلو من أتباع له من الملائكة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ المراد كل من تلا ذكر الله، وكتبه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ آيات القرآن، ووصفها بالتلاوة، وإن كانت متلوّة كما في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 76‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ لأن بعضها يتلو بعضاً، ويتبعه‏.‏ وذكر الماوردي‏:‏ أن التاليات هم‏:‏ الأنبياء يتلون الذكر على أممهم، وانتصاب ‏{‏ذكراً‏}‏ على أنه مفعول به، ويجوز أن يكون مصدراً كما قبله من قوله ‏{‏صفاً‏}‏، و‏{‏زجراً‏}‏‏.‏

قيل‏:‏ وهذه الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فالزاجرات‏}‏، ‏{‏فالتاليات‏}‏ إما لترتب الصفات أنفسها في الوجود، أو لترتب موصوفاتها في الفضل، وفي الكلّ نظر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ‏}‏ جواب القسم، أي‏:‏ أقسم الله بهذه الأقسام إنه واحد ليس له شريك‏.‏ وأجاز الكسائي فتح «إن» الواقعة في جواب القسم ‏{‏رَبّ السموات والأرض‏}‏ يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون بدلاً من ‏{‏لواحد‏}‏، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ الوقف على ‏{‏لواحد‏}‏ وقف حسن، ثم يبتدئ ‏{‏ربّ السماوات، والأرض‏}‏ على معنى‏:‏ هو ربّ السماوات، والأرض‏.‏ قال النحاس‏:‏ ويجوز أن يكون بدلاً من ‏{‏لواحد‏}‏‏.‏ والمعنى في الآية‏:‏ أن وجود هذه المخلوقات على هذا الشكل البديع من أوضح الدلائل على وجود الصانع، وقدرته، وأنه ربّ ذلك كله، أي‏:‏ خالقه، ومالكه‏.‏ والمراد بما بينهما‏:‏ ما بين السماوات، والأرض من المخلوقات‏.‏ والمراد ب ‏{‏المشارق‏}‏ مشارق الشمس‏.‏ قيل‏:‏ إن الله سبحانه خلق للشمس كل يوم مشرقاً، ومغرباً بعدد أيام السنة، تطلع كل يوم من واحد منها، وتغرب من واحد، كذا قال ابن الأنباري، وابن عبد البرّ‏.‏ وأما قوله في سورة الرحمن‏:‏ ‏{‏رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 17‏]‏ فالمراد بالمشرقين‏:‏ أقصى مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال، وأقصر يوم في الأيام القصار، وكذلك في المغربين‏.‏ وأما ذكر المشرق، والمغرب بالإفراد، فالمراد به‏:‏ الجهة التي تشرق منها الشمس، والجهة التي تغرب منها، ولعله قد تقدّم لنا في هذا كلام أوسع من هذا‏.‏

‏{‏إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب‏}‏ المراد بالسماء الدنيا‏:‏ التي تلي الأرض، من الدنوّ، وهو‏:‏ القرب، فهي أقرب السموات إلى الأرض‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏بزينة الكواكب‏}‏ بإضافة زينة إلى الكواكب‏.‏ والمعنى‏:‏ زيناها بتزيين الكواكب، أي‏:‏ بحسنها‏.‏ وقرأ مسروق، والأعمش، والنخعي، وحمزة بتنوين ‏{‏زينة‏}‏، وخفض ‏{‏الكواكب‏}‏ على أنها بدل من الزينة‏:‏ على أن المراد بالزينة الاسم لا المصدر‏.‏ والتقدير بعد طرح المبدل منه‏:‏ إنا زينا السماء بالكواكب، فإن الكواكب في أنفسها زينة عظيمة؛ فإنها في أعين الناظرين لها كالجواهر المتلألئة‏.‏ وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بتنوين «زينة»، ونصب «الكواكب» على أن الزينة مصدر، وفاعله محذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ بأن الله زين الكواكب بكونها مضيئة حسنة في أنفسها، أو تكون الكواكب منصوبة بإضمار أعني، أو بدلاً من السماء بدل اشتمال، وانتصاب ‏{‏حفظاً‏}‏ على المصدرية بإضمار فعل، أي‏:‏ حفظناها حفظاً، أو على أنه مفعول لأجله، أي‏:‏ زيناها بالكواكب للحفظ، أو بالعطف على محل زينة كأنه قال‏:‏ إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء‏.‏ ‏{‏وَحِفْظاً مّن كُلّ شيطان مَّارِدٍ‏}‏ أي‏:‏ متمرّد خارج عن الطاعة يرمى بالكواكب، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين‏}‏

‏[‏الملك‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى‏}‏ مستأنفة لبيان حالهم بعد حفظ السماء منهم‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ أي‏:‏ لئلا يسمعوا، ثم حذف «إن» فرفع الفعل، وكذا قال الكلبي، والملأ الأعلى‏:‏ أهل السماء الدنيا فما فوقها، وسمى الكلّ منهم أعلى بإضافته إلى ملإ الأرض، والضمير في ‏{‏يسمعون‏}‏ إلى الشياطين‏.‏ وقيل‏:‏ إن جملة ‏{‏لا يسمعون‏}‏ صفة لكل شيطان، وقيل‏:‏ جواباً عن سؤال مقدّر كأنه قيل‏:‏ فما كان حالهم بعد حفظ السماء عنهم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْمَعُونَ إِلا الملإ الأعلى‏}‏ قرأ الجمهور «يسمعون» بسكون السين، وتخفيف الميم‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص عنه بتشديد الميم، والسين، والأصل يتسمعون، فأدغم التاء في السين، فالقراءة الأولى تدلّ على انتفاء سماعهم دون استماعهم، والقراءة الثانية تدلّ على انتفائهما، وفي معنى القراءة الأولى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 212‏]‏ قال مجاهد‏:‏ كانوا يتسمعون، ولكن لا يسمعون‏.‏ واختار أبو عبيدة القراءة الثانية، قال‏:‏ لأن العرب لا تكاد تقول‏:‏ سمعت إليه، وتقول‏:‏ تسمعت إليه ‏{‏وَيُقْذَفُونَ مِن كُلّ جَانِبٍ * دُحُوراً‏}‏ أي‏:‏ يرمون من كلّ جانب من جوانب السماء بالشهب إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع، وانتصاب ‏{‏دحوراً‏}‏ على أنه مفعول لأجله‏.‏ والدحور‏:‏ الطرد، تقول‏:‏ دحرته دحراً، ودحوراً‏:‏ طردته‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏دحوراً‏}‏ بضم الدال، وقرأ عليّ، والسلمي، ويعقوب الحضرمي، وابن أبي عبلة بفتحها‏.‏ وروي عن أبي عمرو‏:‏ أنه قرأ «يقذفون» مبنياً للفاعل، وهي قراءة غير مطابقة لما هو المراد من النظم القرآني، وقيل‏:‏ إن انتصاب ‏{‏دحوراً‏}‏ على الحال، أي‏:‏ مدحورين، وقيل‏:‏ هو جمع داحر نحو قاعد، وقعود، فيكون حالاً أيضاً‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مصدر لمقدّر، أي‏:‏ يدحرون دحوراً‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إن المعنى‏:‏ يقذفون بما يدحرهم، أي‏:‏ بدحور، ثم حذفت الباء، فانتصب بنزع الخافض‏.‏

واختلف هل كان هذا الرمي لهم بالشهب قبل المبعث، أو بعده‏؟‏ فقال بالأوّل طائفة‏.‏ وبالآخر آخرون‏.‏ وقالت طائفة بالجمع بين القولين‏:‏ إن الشياطين لم تكن ترمى قبل المبعث رمياً يقطعها عن السمع، ولكن كانت ترمى وقتاً، ولا ترمى وقتاً آخر، وترمى من جانب، ولا ترمى من جانب آخر، ثم بعد المبعث رميت في كلّ وقت، ومن كلّ جانب حتى صارت لا تقدر على استراق شيء من السمع إلا من اختطف الخطفة، فأتبعه شهاب ثاقب، ومعنى ‏{‏وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ‏}‏‏:‏ ولهم عذاب دائم لا ينقطع، والمراد به‏:‏ العذاب في الآخرة غير العذاب الذي لهم في الدنيا من الرمي بالشهب‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ دائماً إلى النفخة الأولى، والأوّل أولى‏.‏ وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن الواصب‏:‏ الدائم‏.‏ وقال السدّي، وأبو صالح، والكلبي‏:‏ هو الموجع الذي يصل وجعه إلى القلب، مأخوذ من الوصب، وهو‏:‏ المرض، وقيل‏:‏ هو الشديد، والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة‏}‏ هو من قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏، أو من قوله‏:‏ ‏{‏وَيَقْذِفُونَ‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ الاستثناء راجع إلى غير الوحي لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 212‏]‏ بل يخطف الواحد منهم خطفة مما يتفاوض فيه الملائكة، ويدور بينهم مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض‏.‏ والخطف‏:‏ الاختلاس مسارقة، وأخذ الشيء بسرعة‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏خطف‏}‏ بفتح الخاء، وكسر الطاء مخففة، وقرأ قتادة، والحسن بكسرهما، وتشديد الطاء، وهي لغة تميم بن مرّ، وبكر بن وائل‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر بفتح الخاء، وكسر الطاء مشددة‏.‏ وقرأ ابن عباس بكسرهما مع تخفيف الطاء، وقيل‏:‏ إن الاستثناء منقطع ‏{‏فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ‏}‏ أي‏:‏ لحقه، وتبعه شهاب ثاقب‏:‏ نجم مضيء، فيحرقه، وربما لا يحرقه فيلقي إلى إخوانه ما خطفه، وليست الشهب التي يرجم بها هي من الكواكب الثوابت بل من غير الثوابت، وأصل الثقوب‏:‏ الإضاءة‏.‏ قال الكسائي‏:‏ ثقبت النار تثقب ثقابة، وثقوباً‏:‏ إذا اتقدت، وهذه الآية هي كقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 18‏]‏‏.‏

‏{‏فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا‏}‏ أي‏:‏ اسأل الكفار المنكرين للبعث أهم أشدّ خلقاً، وأقوى أجساماً، وأعظم أعضاء، أم من خلقنا من السماوات، والأرض، والملائكة‏؟‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ فاسألهم سؤال تقرير أهم أشدّ خلقاً، أي‏:‏ أحكم صنعة أم من خلقنا قبلهم من الأمم السالفة‏؟‏ يريد أنهم ليسوا بأحكم خلقاً من غيرهم من الأمم، وقد أهلكناهم بالتكذيب فما الذي يؤمنهم من العذاب‏؟‏ ثم ذكر خلق الإنسان، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا خلقناهم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ‏}‏ أي‏:‏ إنا خلقناهم في ضمن خلق أبيهم آدم من طين لازب، أي‏:‏ لاصق، يقال‏:‏ لزب يلزب لزوباً‏:‏ إذا لصق‏.‏ وقال قتادة، وابن زيد‏:‏ اللازب‏:‏ اللازق‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ اللازب‏:‏ اللزج‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ اللازب‏:‏ الجيد الذي يلصق باليد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو اللازم، والعرب تقول‏:‏ طين لازب، ولازم تبدل الباء من الميم، واللازم‏:‏ الثابت كما يقال‏:‏ صار الشيء ضربة لازب، ومنه قول النابغة‏:‏

ولا تحسبون الخير لا شرّ بعده *** ولا تحسبون الشرّ ضربة لازب

وحكى الفراء عن العرب‏:‏ طين لاتب بمعنى‏:‏ لازم، واللاتب الثابت‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ واللاتب اللاصق مثل اللازب‏.‏ والمعنى في الآية‏:‏ أن هؤلاء كيف يستبعدون المعاد، وهم مخلقون من هذا الخلق الضعيف، ولم ينكره من هو مخلوق خلقاً أقوى منهم، وأعظم، وأكمل، وأتمّ‏.‏ وقيل‏:‏ اللازب هو‏:‏ المنتن قاله مجاهد، والضحاك‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏أم من خلقنا‏}‏ بتشديد الميم، وهي‏:‏ أم المتصلة، وقرأ الأعمش بالتخفيف، وهو استفهام ثان على قراءته‏.‏ قيل‏:‏ وقد قرئ لازم، ولاتب، ولا أدري من قرأ بذلك‏.‏

ثم أضرب سبحانه عن الكلام السابق، فقال‏:‏ ‏{‏بَلْ عَجِبْتَ‏}‏ يا محمد من قدرة الله سبحانه ‏{‏وَيَسْخُرُونَ‏}‏ منك بسبب تعجبك، أو ويسخرون منك بما تقوله من إثبات المعاد‏.‏

قرأ الجمهور بفتح التاء من ‏{‏عجبت‏}‏ على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي بضمها‏.‏ ورويت هذه القراءة عن عليّ، وابن مسعود، وابن عباس، واختارها أبو عبيد، والفراء‏.‏ قال الفراء‏:‏ قرأها الناس بنصب التاء، ورفعها، والرفع أحبّ إليّ؛ لأنها عن عليّ، وعبد الله، وابن عباس‏.‏ قال‏:‏ والعجب أن أسند إلى الله، فليس معناه من الله كمعناه من العباد‏.‏ قال الهروي‏:‏ وقال بعض الأئمة‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ عَجِبْتَ‏}‏ بل جازيتهم على عجبهم؛ لأن الله أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الخلق كما قال‏:‏ ‏{‏وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 4‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا لَشَئ عُجَابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 2‏]‏ وقال عليّ بن سليمان‏:‏ معنى القراءتين واحد، والتقدير‏:‏ قل‏:‏ يا محمد‏:‏ بل عجبت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بالقرآن‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا قول حسن، وإضمار القول كثير‏.‏ وقيل‏:‏ إن معنى الإخبار من الله سبحانه عن نفسه بالعجب أنه ظهر من أمره، وسخطه على من كفر به ما يقوم مقام العجب من المخلوقين‏.‏ قال الهروي‏:‏ ويقال‏:‏ معنى عجب ربكم، أي‏:‏ رضي ربكم وأثاب، فسماه عجباً، وليس بعجب في الحقيقة، فيكون معنى ‏{‏عجبت‏}‏ هنا‏:‏ عظم فعلهم عندي‏.‏ وحكى النقاش‏:‏ أن معنى ‏{‏بل عجبت‏}‏‏:‏ بل أنكرت‏.‏ قال الحسن بن الفضل‏:‏ التعجب من الله‏:‏ إنكار الشيء وتعظيمه، وهو لغة العرب، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ أنه بلغ في كمال قدرته، وكثرة مخلوقاته إلى حيث عجب منها، وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها، والواو في ‏{‏وَيَسْخُرُونَ‏}‏ للحال، أي‏:‏ بل عجبت، والحال أنهم يسخرون، ويجوز أن تكون للاستئناف‏.‏

‏{‏وَإِذَا ذُكّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ وإذا وعظوا بموعظة من مواعظ الله، أو مواعظ رسوله لا يذكرون، أي‏:‏ لا يتعظون بها، ولا ينتفعون بما فيها‏.‏ قال سعيد بن المسيب، أي‏:‏ إذا ذكر لهم ما حلّ بالمكذبين ممن كان قبلهم أعرضوا عنه ولم يتدبروا ‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً‏}‏ أي‏:‏ معجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏يَسْتَسْخِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يبالغون في السخرية‏.‏ قال قتادة‏:‏ يسخرون، ويقولون‏:‏ إنها سخرية، يقال‏:‏ سخر، واستسخر بمعنى‏:‏ مثل قرّ واستقرّ، وعجب واستعجب‏.‏ والأوّل أولى، لأن زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏يستسخرون‏}‏‏:‏ يستدعون السخرى من غيرهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يستهزئون ‏{‏وَقَالُواْ إِن هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ ما هذا الذي تأتينا به إلا سحر واضح ظاهر ‏{‏أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما‏}‏ الاستفهام للإنكار، أي‏:‏ أنبعث إذا متنا‏؟‏، فالعامل في «إذا» هو ما دلّ عليه ‏{‏أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ‏}‏، وهو أنبعث، لأنفس مبعوثون، لتوسط ما يمنع من عمله فيه، وهذا الإنكار للبعث منهم هو السبب الذي لأجله كذبوا الرسل، وما نزل عليهم، واستهزءوا بما جاءوا به من المعجزات، وقد تقدّم تفسير معنى هذه الآية في مواضع‏.‏

‏{‏أَوَ ءابَاؤُنَا الأولون‏}‏ هو مبتدأ، وخبره محذوف، أي‏:‏ أو آباؤنا الأوّلون مبعوثون، وقيل‏:‏ معطوف على محل إن واسمها، وقيل‏:‏ على الضمير في ‏{‏مبعوثون‏}‏ لوقوع الفصل بينهما، والهمزة للإنكار داخلة على حرف العطف، ولهذا قرأ الجمهور بفتح الواو، وقرأ ابن عامر، وقالون بسكونها على أن، «أو» هي العاطفة، وليست الهمزة للاستفهام‏.‏ ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب عنهم تبكيتاً لهم، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ داخرون‏}‏ أي‏:‏ نعم تبعثون، وأنتم صاغرون ذليلون‏.‏ قال الواحدي‏:‏ والدخور أشدّ الصغار، وجملة ‏{‏وأنتم داخرون‏}‏ في محل نصب على الحال‏.‏ ثم ذكر سبحانه‏:‏ أن بعثهم يقع بزجرة واحدة، فقال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة‏}‏ الضمير للقصة، أو البعثة المفهومة مما قبلها، أي‏:‏ إنما قصة البعث، أو البعثة زجرة واحدة، أي‏:‏ صيحة واحدة من إسرافيل بنفخه في الصور عند البعث‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ‏}‏ أي يبصرون ما يفعل الله بهم من العذاب‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هي‏:‏ النفخة الثانية، وسميت الصيحة زجرة؛ لأن المقصود منها الزجر، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏ينظرون‏}‏‏:‏ ينتظرون ما يفعل بهم‏.‏ والأوّل أولى‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني، والحاكم وصححه من طرق عن ابن مسعود ‏{‏والصافات صَفَّا‏}‏ قال‏:‏ الملائكة ‏{‏فالزجرات زَجْراً‏}‏ قال‏:‏ الملائكة ‏{‏فالتاليات ذِكْراً‏}‏ قال‏:‏ الملائكة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد، وعكرمة مثله‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس مثله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه أنه كان يقرأ «لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى» مخففة، وقال‏:‏ إنهم كانوا يتسمعون، ولكن لا يسمعون‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏عَذابٌ وَاصِبٌ‏}‏ قال‏:‏ دائم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عنه أيضاً‏:‏ إذا رمي الشهاب لم يخط من رمي به، وتلا ‏{‏فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً ‏{‏فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ‏}‏ قال‏:‏ لا يقتلون بالشهاب، ولا يموتون، ولكنها تحرق وتخبل وتجرح في غير قتل‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏مِن طين لاَّزِبٍ‏}‏ قال‏:‏ ملتصق‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً ‏{‏مّن طِينٍ لاَّزِبٍ‏}‏ قال‏:‏ اللزج الجيد‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ اللازب، والحمأ، والطين واحد‏:‏ كان أوّله تراباً، ثم صار حمأ منتناً، ثم صار طيناً لازباً، فخلق الله منه آدم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال‏:‏ اللازب‏:‏ الذي يلصق بعضه إلى بعض‏.‏ وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن مسعود‏:‏ أنه كان يقرأ «بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ» بالرفع للتاء من عجبت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 49‏]‏

‏{‏وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏20‏)‏ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏21‏)‏ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ‏(‏22‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ‏(‏23‏)‏ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ‏(‏24‏)‏ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ‏(‏25‏)‏ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ‏(‏26‏)‏ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏27‏)‏ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ‏(‏28‏)‏ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏29‏)‏ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ‏(‏30‏)‏ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ‏(‏31‏)‏ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ‏(‏32‏)‏ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏34‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏35‏)‏ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ‏(‏36‏)‏ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏37‏)‏ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ ‏(‏38‏)‏ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏39‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏40‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ‏(‏41‏)‏ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ‏(‏42‏)‏ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏43‏)‏ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏44‏)‏ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ‏(‏45‏)‏ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ‏(‏46‏)‏ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ‏(‏47‏)‏ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ‏(‏48‏)‏ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ ياويلنا‏}‏ أي‏:‏ قال أولئك المبعوثون لما عاينوا البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا‏:‏ يا ويلنا، دعوا بالويل على أنفسهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة، وقال الفراء‏:‏ إن أصله‏:‏ يا وي لنا، ووي بمعنى‏:‏ الحزن كأنه قال‏:‏ يا حزن لنا‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولو كان كما قال لكان منفصلاً، وهو في المصحف متصل، ولا نعلم أحداً يكتبه إلا متصلاً، وجملة ‏{‏هذا يَوْمُ الدين‏}‏ تعليل لدعائهم بالويل على أنفسهم، والدين‏:‏ الجزاء، فكأنهم قالوا‏:‏ هذا اليوم الذي نجازى فيه بأعمالنا من الكفر، والتكذيب للرسل، فأجاب عليهم الملائكة بقولهم‏:‏ ‏{‏هذا يَوْمُ الفصل الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ‏}‏، ويجوز أن يكون هذا من قول بعضهم لبعض، والفصل‏:‏ الحكم، والقضاء؛ لأنه يفصل فيه بين المحسن، والمسيء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم‏}‏ هو أمر من الله سبحانه للملائكة بأن يحشروا المشركين، وأزواجهم، وهم‏:‏ أشباههم في الشرك، والمتابعون لهم في الكفر، والمشايعون لهم في تكذيب الرسل، كذا قال قتادة، وأبو العالية‏.‏ وقال الحسن، ومجاهد‏:‏ المراد بأزواجهم‏:‏ نساؤهم المشركات الموافقات لهم على الكفر، والظلم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أزواجهم قرناؤهم من الشياطين يحشر كلّ كافر مع شيطانه، وبه قال مقاتل ‏{‏وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ من الأصنام، والشياطين، وهذا العموم المستفاد من «ما» الموصولة، فإنها عبارة عن المعبودين، لا عن العابدين، كما قيل- مخصوص؛ لأن من طوائف الكفار من عبد المسيح، ومنهم من عبد الملائكة، فيخرجون بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏، ووجه حشر الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل هو زيادة التبكيت لعابديها، وتخجيلهم، وإظهار أنها لا تنفع، ولا تضرّ‏.‏ ‏{‏فاهدوهم إلى صراط الجحيم‏}‏ أي‏:‏ عرّفوا هؤلاء المحشورين طريق النار، وسوقوهم إليها، يقال‏:‏ هديته الطريق، وهديته إليها، أي‏:‏ دللته عليها، وفي هذا تهكم بهم‏.‏

‏{‏وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ‏}‏ أي‏:‏ احبسوهم، يقال‏:‏ وقفت الدابة أقفها وقفاً، فوقفت هي وقوفاً يتعدّى، ولا يتعدّى، وهذا الحبس لهم يكون قبل السوق إلى جهنم، أي‏:‏ وقفوهم للحساب، ثم سوقوهم إلى النار بعد ذلك، وجملة ‏{‏إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ‏}‏ تعليل للجملة الأولى‏.‏ قال الكلبي‏:‏ أي‏:‏ مسئولون عن أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ عن خطاياهم، وقيل‏:‏ عن لا إله إلاّ الله، وقيل‏:‏ عن ظلم العباد، وقيل‏:‏ هذا السؤال هو المذكور بعد هذا بقوله‏:‏ ‏{‏مَا لَكُمْ لاَ تناصرون‏}‏ أي‏:‏ أيّ شيء لكم لا ينصر بعضكم بعضاً كما كنتم في الدنيا، وهذا توبيخ لهم، وتقريع وتهكم بهم، وأصله تتناصرون، فطرحت إحدى التاءين تخفيفاً‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ‏}‏ بكسر الهمزة، وقرأ عيسى بن عمر بفتحها‏.‏

قال الكسائي‏:‏ أي‏:‏ لأنهم، أو بأنهم، وقيل‏:‏ الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏مَا لَكُمْ لاَ تناصرون‏}‏ إلى قول أبي جهل يوم بدر‏:‏ ‏{‏نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 44‏]‏‏.‏ ثم أضرب سبحانه عما تقدّم إلى بيان الحالة التي هم عليها هنالك، فقال‏:‏ ‏{‏بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ منقادون لعجزهم عن الحيلة‏.‏ قال قتادة‏:‏ مستسلمون في عذاب الله‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ ملقون بأيديهم، يقال‏:‏ استسلم للشيء‏:‏ إذا انقاد له وخضع‏.‏

‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ أي‏:‏ أقبل بعض الكفار على بعض يتساءلون‏.‏ قيل‏:‏ هم الأتباع، والرّؤساء يسأل بعضهم بعضاً سؤال توبيخ وتقريع ومخاصمة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو قول الكفار للشياطين‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو قول الإنس للجنّ، والأوّل أولى لقوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين‏}‏ أي‏:‏ كنتم تأتوننا في الدنيا عن اليمين، أي‏:‏ من جهة الحقّ، والدين، والطاعة، وتصدّونا عنها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ كنتم تأتوننا من قبل الدين، فتروننا أن الدين، والحق ما تضلوننا به، واليمين عبارة عن الحق، وهذا كقوله تعالى إخباراً عن إبليس‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 17‏]‏ قال الواحدي‏:‏ قال أهل المعاني‏:‏ إن الرّؤساء كانوا قد حلفوا لهؤلاء الأتباع أن ما يدعونهم إليه هو الحق، فوثقوا بأيمانهم‏:‏ فمعنى ‏{‏تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين‏}‏ أي‏:‏ من ناحية الأيمان التي كنتم تحلفونها، فوثقنا بها‏.‏ قال‏:‏ والمفسرون على القول الأوّل‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ تأتوننا عن اليمين التي نحبها، ونتفاءل بها، لتغرّونا بذلك عن جهة النصح، والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين، وتسميه السانح‏.‏ وقيل‏:‏ اليمين بمعنى‏:‏ القوّة، أي‏:‏ تمنعوننا بقوّة، وغلبة، وقهر كما في قوله‏:‏ ‏{‏فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 93‏]‏ أي‏:‏ بالقوّة، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر، وكذلك جملة ‏{‏قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ فإنها مستأنفة جواب سؤال مقدّر؛ والمعنى‏:‏ أنه قال الرؤساء، أو الشياطين لهؤلاء القائلين‏:‏ كنتم تأتوننا عن اليمين بل لم تكونوا مؤمنين، ولم نمنعكم من الإيمان‏.‏ والمعنى‏:‏ أنكم لم تكونوا مؤمنين قطّ حتى ننقلكم عن الإيمان إلى الكفر، بل كنتم من الأصل على الكفر، فأقمتم عليه‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سلطان‏}‏ من تسلط بقهر، وغلبة حتى ندخلكم في الإيمان، ونخرجكم من الكفر ‏{‏بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طاغين‏}‏ أي‏:‏ متجاوزين الحدّ في الكفر، والضلال، وقوله‏:‏ ‏{‏فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ‏}‏ من قول المتبوعين، أي‏:‏ وجب علينا، وعليكم، ولزمنا قول ربنا، يعنون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏ إنا لذائقو العذاب، أي‏:‏ إنا جميعاً لذائقو العذاب الذي ورد به الوعيد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ إن المضلّ، والضّال في النار ‏{‏فأغويناكم‏}‏ أي‏:‏ أضللناكم عن الهدى، ودعوناكم إلى ما كنا فيه من الغيّ، وزينا لكم ما كنتم عليه من الكفر ‏{‏إِنَّا كُنَّا غاوين‏}‏ فلا عتب علينا في تعرّضنا لإغوائكم؛ لأنا أردنا أن تكونوا أمثالنا في الغواية؛ ومعنى الآية‏:‏ أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية، فأقرّوا ها هنا بأنهم تسببوا لإغوائهم، لكن لا بطريق القهر، والغلبة، ونفوا عن أنفسهم فيما سبق أنهم قهروهم، وغلبوهم، فقالوا‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سلطان‏}‏‏.‏

ثم أخبر الله سبحانه عن الأتباع، والمتبوعين بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ‏}‏ كما كانوا مشتركين في الغواية ‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين‏}‏ أي‏:‏ إنا نفعل مثل ذلك الفعل بالمجرمين، أي‏:‏ أهل الإجرام، وهم المشركون كما يفيده قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ إذا قيل لهم‏:‏ قولوا‏:‏ لا إله إلاّ الله يستكبرون عن القبول، ومحل يستكبرون النصب على أنه خبر كان، أو الرفع على أنه خبر إن، وكان ملغاة ‏{‏وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ‏}‏ يعنون‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم، أي‏:‏ لقول شاعر مجنون، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ جَاء بالحق‏}‏ يعني‏:‏ القرآن المشتمل على التوحيد، والوعد، والوعيد ‏{‏وَصَدَّقَ المرسلين‏}‏ أي‏:‏ صدّقهم فيما جاءوا به من التوحيد، والوعيد، وإثبات الدار الآخرة، ولم يخالفهم، ولا جاء بشيء لم تأت به الرسل قبله ‏{‏إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم‏}‏ أي‏:‏ إنكم بسبب شرككم، وتكذيبكم لذائقوا العذاب الشديد الألم‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏لذائقوا‏}‏ بحذف النون، وخفض العذاب، وقرأ أبان بن ثعلب عن عاصم، وأبو السماك بحذفها، ونصب العذاب، وأنشد سيبويه في مثل هذه القراءة بالحذف للنون، والنصب للعذاب قول الشاعر‏:‏

فألفيته غير مستعتب *** ولا ذاكر الله إلا قليلاً

وأجاز سيبويه أيضاً‏:‏ «والمقيمي الصلاة» بنصب الصلاة على هذا التوجيه‏.‏ وقد قرئ بإثبات النون، ونصب العذاب على الأصل‏.‏ ثم بيّن سبحانه‏:‏ أن ما ذاقوه من العذاب ليس إلا بسبب أعمالهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ إلا جزاء ما كنتم تعملون من الكفر، والمعاصي، أو إلا بما كنتم تعملون‏.‏ ثم استثنى المؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين‏}‏‏.‏ قرأ أهل المدينة، والكوفة ‏{‏المخلصين‏}‏ بفتح اللام، أي‏:‏ الذين أخلصهم الله لطاعته، وتوحيده‏.‏ وقرأ الباقون بكسرها، أي‏:‏ الذين أخلصوا لله العبادة، والتوحيد، والاستثناء إما متصل على تقدير تعميم الخطاب في ‏{‏تجزون‏}‏ لجميع المكلفين‏.‏ أو منقطع، أي‏:‏ لكن عباد الله المخلصين لا يذوقون العذاب، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إلى المخلصين، وهو‏:‏ مبتدأ، وخبره قوله‏:‏ ‏{‏لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ‏}‏ أي‏:‏ لهؤلاء المخلصين رزق يرزقهم الله إياه معلوم في حسنه، وطيبه، وعدم انقطاعه‏.‏ قال قتادة‏:‏ يعني‏:‏ الجنة، وقيل‏:‏ معلوم الوقت، وهو أن يعطوا منه بكرة، وعشية كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 62‏]‏ وقيل‏:‏ هو المذكور في قوله بعده‏:‏ ‏{‏فواكه‏}‏ فإنه بدل من ‏{‏رزق‏}‏، أو خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ هو فواكه، وهذا هو الظاهر‏.‏

والفواكه جمع الفاكهة، وهي‏:‏ الثمار كلها رطبها، ويابسها، وخصص الفواكه بالذكر؛ لأن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه كذا قيل‏.‏ والأولى أن يقال‏:‏ إن تخصيصها بالذكر؛ لأنها أطيب ما يأكلونه، وألذّ ما تشتهيه أنفسهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الفواكه من أتباع سائر الأطعمة، فذكرها يغني عن ذكر غيرها، وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُم مُّكْرَمُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال، أي‏:‏ ولهم من الله عزّ وجلّ إكرام عظيم برفع درجاتهم عنده، وسماع كلامه، ولقائه في الجنة‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏مكرمون‏}‏ بتخفيف الراء‏.‏ وقرأ أبو مقسم بتشديدها، وقوله‏:‏ ‏{‏فِي جنات النعيم‏}‏ يجوز أن يتعلق ب ‏{‏مكرمون‏}‏، وأن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً، وقوله‏:‏ ‏{‏على سُرُرٍ‏}‏ يحتمل أن يكون حالاً، وأن يكون خبراً ثالثاً، وانتصاب ‏{‏متقابلين‏}‏ على الحالية من الضمير في ‏{‏مكرمون‏}‏، أو من الضمير في متعلق على ‏{‏سرر‏}‏‏.‏ قال عكرمة، ومجاهد‏:‏ معنى التقابل‏:‏ أنه لا ينظر بعضهم في قفا بعض، وقيل‏:‏ إنها تدور بهم الأسرّة كيف شاءوا، فلا يرى بعضهم قفا بعض‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏سرر‏}‏ بضم الراء‏.‏ وقرأ أبو السماك بفتحها، وهي لغة بعض تميم‏.‏

ثم ذكر سبحانه صفة أخرى لهم، فقال‏:‏ ‏{‏يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ‏}‏، ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة جواباً عن سؤال مقدّر، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير ‏{‏متقابلين‏}‏، والكأس عند أهل اللغة اسم شامل لكلّ إناء فيه الشراب، فإن كان فارغاً، فليس بكأس‏.‏ وقال الضحاك، والسدّي‏:‏ كل كأس في القرآن، فهي الخمر‏.‏ قال النحاس‏:‏ وحكى من يوثق به من أهل اللغة‏:‏ أن العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر‏:‏ كأس، فإذا لم يكن فيه خمر، فهو قدح كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام‏:‏ مائدة، فإذا لم يكن عليه طعام‏:‏ لم يقل له مائدة، و‏{‏من معين‏}‏ متعلق بمحذوف هو‏:‏ صفة لكأس‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ‏{‏بكأس من معين‏}‏، أي‏:‏ من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض‏.‏ والمعين‏:‏ الماء الجاري، وقوله‏:‏ ‏{‏بَيْضَاء لَذَّةٍ للشاربين‏}‏ صفتان لكأس‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ ذات لذّة، فحذف المضاف، ويجوز أن يكون الوصف بالمصدر لقصد المبالغة في كونها لذّة، فلا يحتاج إلى تقدير المضاف‏.‏ قال الحسن‏:‏ خمر الجنة أشدّ بياضاً من اللبن له لذّة لذيذة، يقال‏:‏ شراب لذّ، ولذيذ كما يقال‏:‏ نبات غضّ وغضيض، ومنه قول الشاعر‏:‏

بحديثها اللذّ الذي لو كلمت *** أسد الفلاة به أتين سراعا

واللذيذ‏:‏ كل شيء مستطاب، وقيل‏:‏ البيضاء‏:‏ هي‏:‏ التي لم يعتصرها الرجال‏.‏ ثم وصف هذه الكأس من الخمر بغير ما يتصف به خمر الدنيا، فقال‏:‏ ‏{‏لاَ فِيهَا غَوْلٌ‏}‏ أي‏:‏ لا تغتال عقولهم، فتذهب بها، ولا يصيبهم منها مرض، ولا صداع ‏{‏وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ‏}‏ أي‏:‏ يسكرون، يقال‏:‏ نزف الشارب، فهو منزوف، ونزيف إذا سكر، ومنه قول امرئ القيس‏:‏

وإذا هي تمشي كمشي النزي *** ف يصرعه بالكثيب البهر

وقال أيضاً‏:‏

نزيف إذا قامت لوجه تمايلت *** ومنه قول الآخر‏:‏

فلثمت فاها آخذاً بقرونها *** شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

قال الفراء‏:‏ العرب تقول‏:‏ ليس فيها غيلة، وغائلة، وغول سواء‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الغول أن تغتال عقولهم، وأنشد قول مطيع بن إياس‏:‏

وما زالت الكأس تغتالهم *** وتذهب بالأوّل الأوّل

وقال الواحدي‏:‏ الغول حقيقته‏:‏ الإهلاك، يقال‏:‏ غاله غولاً، واغتاله، أي‏:‏ أهلكه، والغول كل ما اغتالك، أي‏:‏ أهلكك‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏ينزفون‏}‏ بضم الياء، وفتح الزاي مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي بضم الياء، وكسر الزاي من أنزف الرجل‏:‏ إذا ذهب عقله من السكر فهو‏:‏ نزيف، ومنزوف، ومنزف، يقال‏:‏ أحصد الزرع‏:‏ إذا حان حصاده، وأقطف الكرم‏:‏ إذا حان قطافه‏.‏ قال الفراء‏:‏ من كسر الزاي، فله معنيان، يقال‏:‏ أنزف الرجل‏:‏ إذا فنيت خمره، وأنزف‏:‏ إذا ذهب عقله من السكر، وتحمل هذه القراءة على معنى‏:‏ لا ينفد شرابهم لزيادة الفائدة‏.‏ قال النحاس‏:‏ والقراءة الأولى أبين، وأصحّ في المعنى؛ لأن معنى ‏{‏لا ينزفون‏}‏ عند جمهور المفسرين‏:‏ لا تذهب عقولهم، فنفى الله عزّ وجلّ عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع، والسكر‏.‏ وقال الزجاج، وأبو علي الفارسي‏:‏ معنى لا ينزفون بكسر الزاي‏:‏ لا يسكرون‏.‏ قال المهدوي‏:‏ لا يكون معنى ينزفون‏:‏ يسكرون، لأن قبله ‏{‏لاَ فِيهَا غَوْلٌ‏}‏ أي‏:‏ لا تغتال عقولهم، فيكون تكريراً، وهذا يقوّي ما قاله قتادة‏:‏ إن الغول وجع البطن، وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إن الغول الصداع‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ هو‏:‏ المغص، فيكون معنى الآية‏:‏ لا فيها نوع من أنواع الفساد المصاحبة لشرب الخمر في الدنيا من مغص، أو وجع بطن، أو صداع، أو عربدة، أو لغو، أو تأثيم، ولا هم يسكرون منها‏.‏ ويؤيد هذا أن أصل الغول‏:‏ الفساد الذي يلحق في خفاء، يقال‏:‏ اغتاله اغتيالاً‏:‏ إذا أفسد عليه أمره في خفية، ومنه الغول، والغيلة القتل خفية‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق «ينزفون» بفتح الياء، وكسر الزاي‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرّف بفتح الياء وضم الزاي‏.‏ ولما ذكر سبحانه صفة مشروبهم ذكر عقبه صفة منكوحهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف‏}‏ أي‏:‏ نساء قصرن طرفهنّ على أزواجهنّ، فلا يردن غيرهم، والقصر‏:‏ معناه الحبس، ومنه قول امرئ القيس‏:‏

من القاصرات الطرف لو دب محول *** من الذرّ فوق الأتب منها لأثرا

والمحول الصغير من الذرّ، والأتب القميص، وقيل‏:‏ القاصرات‏:‏ المحبوسات على أزواجهنّ، والأوّل أولى؛ لأنه قال‏:‏ قاصرات الطرف‏.‏ ولم يقل‏:‏ مقصورات‏.‏ والعين‏:‏ عظام العيون جمع عيناء، وهي‏:‏ الواسعة العين‏.‏

قال الزجاج‏:‏ معنى ‏{‏عِينٌ‏}‏ كبار الأعين حسناها‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ العين‏:‏ حسان العيون‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هنّ‏:‏ الشديدات بياض العين الشديدات سوادها‏.‏ والأوّل أولى ‏{‏كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ‏}‏ قال الحسن، وأبو زيد‏:‏ شبههنّ ببيض النعام تكنها النعامة بالريش من الريح، والغبار‏.‏ فلونه أبيض في صفرة، وهو أحسن ألوان النساء‏.‏ وقال سعيد بن جبير، والسدّي‏:‏ شبههنّ ببطن البيض قبل أن يقشر، وتمسه الأيدي، وبه قال ابن جرير، ومنه قول امرئ القيس‏:‏

وبيضة خدر لا يرام خباؤها *** تمتعت من لهو بها غير معجل

قال المبرد‏:‏ وتقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن، والنظافة كأنه بيض النعام المغطى بالريش‏.‏ وقيل‏:‏ المكنون‏:‏ المصون عن الكسر، أي‏:‏ إنهنّ عذارى، وقيل‏:‏ المراد بالبيض‏:‏ اللؤلؤ كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَحُورٌ عِينٌ * كأمثال اللؤلؤ المكنون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 22، 23‏]‏ ومثله قول الشاعر‏:‏

وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغوّا *** ص ميزت من جوهر مكنون

والأوّل أولى، وإنما قال‏:‏ ‏{‏مكنون‏}‏، ولم يقل‏:‏ مكنونات؛ لأنه وصف البيض باعتبار اللفظ‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم‏}‏ قال‏:‏ تقول الملائكة للزبانية هذا القول‏.‏ وأخرج عبد الرّزّاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، وابن منيع في مسنده، وعبد بن حميد، وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث من طريق النعمان بن بشير، عن عمر بن الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم‏}‏ قال‏:‏ أمثالهم الذين هم مثلهم، يجيء أصحاب الرّبا مع أصحاب الرّبا، وأصحاب الزّنا مع أصحاب الزّنا، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر، أزواج في الجنة، وأزواج في النار‏.‏ وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم‏}‏ قال‏:‏ أشباههم، وفي لفظ‏:‏ نظراءهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏فاهدوهم إلى صراط الجحيم‏}‏ قال‏:‏ وجهوهم، وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ دلوهم ‏{‏إلى صراط الجحيم‏}‏ قال‏:‏ طريق النار‏.‏ وأخرج عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ‏}‏ قال‏:‏ احبسوهم إنهم محاسبون‏.‏ وأخرج البخاري في تاريخه، والدارمي، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفاً معه يوم القيامة لازماً به لا يفارقه، وإن دعا رجل رجلاً» ثم قرأ ‏{‏وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُون‏}‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ قال‏:‏ ذلك إذا بعثوا في النفخة الثانية‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه في قوله‏:‏ ‏{‏كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ قال‏:‏ كانوا إذا لم يشرك بالله يستنكفون، ‏{‏وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ‏}‏ لا يعقل، قال‏:‏ فحكى الله صدقه، فقال‏:‏ ‏{‏بَلْ جَاء بالحق وَصَدَّقَ المرسلين‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلاّ الله، فمن قال‏:‏ لا إله إلاّ الله، فقد عصم مني ماله، ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله» وأنزل الله في كتابه، وذكر قوماً استكبروا، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 26‏]‏ وهي‏:‏ لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، استكبر عنها المشركون يوم الحديبية يوم كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية الهدنة‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ‏}‏ قال‏:‏ الخمر ‏{‏لاَ فِيهَا غَوْلٌ‏}‏ قال‏:‏ ليس فيها صداع ‏{‏وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ‏}‏ قال‏:‏ لا تذهب عقولهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه قال‏:‏ في الخمر أربع خصال‏:‏ السكر، والصداع، والقيء، والبول، فنزّه الله خمر الجنة عنها، فقال‏:‏ ‏{‏لاَ فِيهَا غَوْلٌ‏}‏ لا تغول عقولهم من السكر ‏{‏وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ‏}‏ قال‏:‏ يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس ‏{‏لاَ فِيهَا غَوْلٌ‏}‏ قال‏:‏ هي‏:‏ الخمر ليس فيها وجع بطن‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف‏}‏ يقول‏:‏ من غير أزواجهنّ ‏{‏كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ‏}‏ قال‏:‏ اللؤلؤ المكنون‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه في قوله‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ‏}‏ قال‏:‏ بياض البيضة ينزع عنها فوفها، وغشاؤها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 74‏]‏

‏{‏فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏50‏)‏ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ‏(‏51‏)‏ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ‏(‏52‏)‏ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ‏(‏53‏)‏ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ‏(‏54‏)‏ فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏55‏)‏ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ‏(‏56‏)‏ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ‏(‏57‏)‏ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ‏(‏58‏)‏ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏59‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏60‏)‏ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ‏(‏61‏)‏ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ‏(‏62‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ‏(‏63‏)‏ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ‏(‏64‏)‏ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ‏(‏65‏)‏ فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ‏(‏66‏)‏ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ‏(‏67‏)‏ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ‏(‏68‏)‏ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ‏(‏69‏)‏ فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ‏(‏70‏)‏ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏71‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ‏(‏72‏)‏ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏73‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ معطوف على يطاف، أي‏:‏ يسأل هذا ذاك، وذاك هذا حال شربهم عن أحوالهم التي كانت في الدنيا، وذلك من تمام نعيم الجنة، والتقدير‏:‏ فيقبل بعضهم على بعض، وإنما عبر عنه بالماضي للدلالة على تحقق وقوعه ‏{‏قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ قال قائل من أهل الجنة في حال إقبال بعضهم على بعض بالحديث، وسؤال بعضهم لبعض ‏{‏إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ‏}‏ أي‏:‏ صاحب ملازم لي في الدنيا كافر بالبعث منكر له كما يدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏أَءنَّكَ لَمِنَ المصدقين‏}‏ يعني‏:‏ بالبعث، والجزاء، وهذا الاستفهام من القرين لتوبيخ‏:‏ ذلك المؤمن، وتبكيته بإيمانه، وتصديقه بما وعد الله به من البعث، وكان هذا القول منه في الدنيا‏.‏ ثم ذكر ما يدلّ على الاستبعاد للبعث عنده، وفي زعمه، فقال‏:‏ ‏{‏أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَدِينُونَ‏}‏ أي‏:‏ مجزيون بأعمالنا، ومحاسبون بها بعد أن صرنا تراباً، وعظاماً، وقيل‏:‏ معنى مدينون‏:‏ مسوسون، يقال دانه‏:‏ إذا ساسه‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ قرينه شريكه، وقيل‏:‏ أراد بالقرين الشيطان الذي يقارنه، وأنه كان يوسوس إليه بإنكار البعث، وقد مضى ذكر قصتهما في سورة الكهف، والاختلاف في اسميهما، قرأ الجمهور ‏{‏لمن المصدقين‏}‏ بتخفيف الصاد من التصديق، أي‏:‏ لمن المصدّقين بالبعث، وقرئ بتشديدها، ولا أدري من قرأ بها، ومعناها بعيد؛ لأنها من التصدّق لا من التصديق، ويمكن تأويلها بأنه أنكر عليه التصدّق بماله لطلب الثواب، وعلل ذلك باستبعاد البعث‏.‏

وقد اختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة، فقرأ نافع الأولى، والثانية بالاستفهام بهمزة، والثالثة بكسر الألف من غير استفهام‏.‏ ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين، وابن عامر الأولى، والثالثة بهمزتين، والثانية بكسر الألف من غير استفهام، والباقون بالاستفهام في جميعها‏.‏ ثم اختلفوا، فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطوّلة، وبعده ساكنة خفيفة، وأبو عمرو مطوّلة، وعاصم، وحمزة بهمزتين‏.‏

‏{‏قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ‏}‏ القائل‏:‏ هو المؤمن الذي في الجنة بعد ما حكى لجلسائه فيها ما قاله له قرينه في الدنيا، أي‏:‏ هل أنتم مطلعون إلى أهل النار‏؟‏ لأريكم ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة كيف منزلته في النار‏؟‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ والاستفهام هو‏:‏ بمعنى الأمر أي‏:‏ اطلعوا، وقيل القائل‏:‏ هو الله سبحانه، وقيل‏:‏ الملائكة، والأوّل أولى ‏{‏فاطلع فَرَءاهُ فِى سَوَاء الجحيم‏}‏ أي‏:‏ فاطلع على النار ذلك المؤمن الذي صار يحدث أصحابه في الجنة بما قال له قرينه في الدنيا، فرأى قرينه في وسط الجحيم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ سواء كل شيء وسطه‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏مطلعون‏}‏ بتشديد الطاء مفتوحة، وبفتح النون، فاطلع ماضياً مبنياً للفاعل من الطلوع‏.‏

وقرأ ابن عباس، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو «مطلعون» بسكون الطاء، وفتح النون «فأطلع» بقطع الهمزة مضمومة، وكسر اللام ماضياً مبنياً للمفعول‏.‏ قال النحاس‏:‏ فأطلع فيه قولان على هذه القراءة‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون فعلاً مستقبلاً، أي‏:‏ فأطلع أنا، ويكون منصوباً على أنه جواب الاستفهام‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أن يكون فعلاً ماضياً، وقرأ حماد بن أبي عمار «مطلعون» بتخفيف الطاء، وكسر النون، فاطلع مبنياً للمفعول، وأنكر هذه القراءة أبو حاتم، وغيره‏.‏ قال النحاس‏:‏ هي‏:‏ لحن، لأنه لا يجوز الجمع بين النون، والإضافة، ولو كان مضافاً لقال‏:‏ هل أنتم مطلعيّ، وإن كان سيبويه، والفراء قد حكيا مثله، وأنشدا‏:‏

هم القائلون الخير والآمرونه *** إذا ما خشوا من محدث الدهر معظما

ولكنه شاذ خارج عن كلام العرب ‏{‏قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ‏}‏ أي‏:‏ قال ذلك الذي من أهل الجنة لما اطلع على قرينه، ورآه في النار‏:‏ ‏{‏تالله إن كدت لتردين‏}‏ أي‏:‏ لتهلكني بالإغواء‏.‏ قال الكسائي‏:‏ لتردين‏:‏ لتهلكني، والردي‏:‏ الهلاك‏.‏ قال المبرد‏:‏ لو قيل‏:‏ لتردين‏:‏ لتوقعني في النار لكان جائزاً‏.‏ قال مقاتل‏:‏ المعنى‏:‏ والله لقد كدت أن تغويني، فأنزل منزلتك، والمعنى متقارب، فمن أغوى إنساناً، فقد أهلكه ‏{‏وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى لَكُنتُ مِنَ المحضرين‏}‏ أي‏:‏ لولا رحمة ربي، وإنعامه عليّ بالإسلام، وهدايتي إلى الحقّ، وعصمتي عن الضلال لكنت من المحضرين معك في النار‏.‏ قال الفراء‏:‏ أي‏:‏ لكنت معك في النار محضراً‏.‏ قال الماوردي‏:‏ وأحضر لا يستعمل إلا في الشرّ‏.‏ ولما تمم كلامه مع ذلك القرين، الذي هو في النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة، فقال‏:‏ ‏{‏أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ‏}‏، والهمزة للاستفهام التقريري، وفيها معنى‏:‏ التعجيب، والفاء للعطف على محذوف كما في نظائره، أي‏:‏ أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين ‏{‏إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى‏}‏ التي كانت في الدنيا، وقوله هذا كان على طريقة الابتهاج، والسرور بما أنعم الله عليهم من نعيم الجنة الذي لا ينقطع، وأنهم مخلدون لا يموتون أبداً، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ هو من تمام كلامه، أي‏:‏ وما نحن بمعذبين كما يعذب الكفار‏.‏ ثم قال مشيراً إلى ما هم فيه من النعيم‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم‏}‏ أي‏:‏ إن هذا الأمر العظيم، والنعيم المقيم، والخلود الدائم الذي نحن فيه لهو الفوز العظيم الذي لا يقادر قدره، ولا يمكن الإحاطة بوصفه، وقوله‏:‏ ‏{‏لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون‏}‏ من تمام كلامه، أي‏:‏ لمثل هذا العطاء، والفضل العظيم، فليعمل العاملون، فإن هذه هي التجارة الرابحة، لا العمل للدنيا الزائلة، فإنها صفقة خاسرة نعيمها منقطع، وخيرها زائل، وصاحبها عن قريب منها راحل‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا من قول الله سبحانه، وقيل‏:‏ من قول الملائكة، والأوّل أولى‏.‏

قرأ الجمهور ‏{‏بميتين‏}‏، وقرأ زيد بن عليّ «بمايتين»، وانتصاب ‏{‏إلا موتتنا‏}‏ على المصدرية، والاستثناء مفرّغ، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً‏.‏ أي‏:‏ لكن الموتة الأولى التي كانت في الدنيا ‏{‏أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم‏}‏ الإشارة بقوله ذلك‏:‏ إلى ما ذكره من نعيم الجنة، وهو‏:‏ مبتدأ، وخبره ‏{‏خير‏}‏، و‏{‏نزلاً‏}‏ تمييز، والنزل في اللغة‏:‏ الرزق الذي يصلح أن ينزلوا معه، ويقيموا فيه، والخيرية بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غيره‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أذلك خير في باب الإنزال التي يبقون بها نزلاً، أم نزل أهل النار، وهو قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ شَجَرَةُ الزقوم‏}‏، وهو ما يكره تناوله‏.‏ قال الواحدي‏:‏ وهو شيء مرّ كريه يكره أهل النار على تناوله، فهم يتزقمونه، وهي على هذا مشتقة من التزقم، وهو البلع على جهد لكراهتها، ونتنها‏.‏ واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا التي يعرفها العرب أم لا‏؟‏ على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها معروفة من شجر الدنيا، فقال قطرب‏:‏ إنها شجرة مرّة تكون بتهامة من أخبث الشجر‏.‏ وقال غيره‏:‏ بل هو كلّ نبات قاتل‏.‏ القول الثاني‏:‏ أنها غير معروفة في شجر الدنيا‏.‏ قال قتادة‏:‏ لما ذكر الله هذه الشجرة افتتن بها الظلمة، فقالوا‏:‏ كيف تكون في النار شجرة‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين‏}‏ قال الزجاج‏:‏ حين افتتنوا بها، وكذبوا بوجودها‏.‏ وقيل‏:‏ معنى جعلها فتنة لهم‏:‏ أنها محنة لهم لكونهم يعذبون بها، والمراد بالظالمين هنا‏:‏ الكفار، أو أهل المعاصي الموجبة للنار‏.‏

ثم بين سبحانه أوصاف هذه الشجرة ردًّا على منكريها، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الجحيم‏}‏ أي‏:‏ في قعرها، قال الحسن‏:‏ أصلها في قعر جهنم، وأغصانها ترفع إلى دركاتها، ثم قال‏:‏ ‏{‏طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشياطين‏}‏ أي‏:‏ ثمرها، وما تحمله كأنه في تناهي قبحه، وشناعة منظره رؤوس الشياطين، فشبه المحسوس بالمتخيل، وإن كان غير مرئيّ، للدلالة على أنه غاية في القبح كما تقول في تشبيه من يستقبحونه‏:‏ كأنه شيطان، وفي تشبيه من يستحسنونه‏:‏ كأنه ملك، كما في قوله‏:‏ ‏{‏مَا هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 31‏]‏، ومنه قول امرئ القيس‏:‏

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي *** ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وقال الزجاج، والفراء‏:‏ الشياطين‏:‏ حيات لها رءوس، وأعراف، وهي من أقبح الحيات، وأخبثها، وأخفها جسماً‏.‏ وقيل‏:‏ إن رؤوس الشياطين اسم لنبت قبيح معروف باليمن يقال له‏:‏ الأستن، ويقال له‏:‏ الشيطان‏.‏ قال النحاس‏:‏ وليس ذلك معروفاً عند العرب‏.‏ وقيل‏:‏ هو شجر خشن منتن مرّ منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس الشياطين‏.‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ من الشجرة، أو من طلعها، والتأنيث لاكتساب الطلع التأنيث من إضافته إلى الشجرة ‏{‏فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون‏}‏ وذلك أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلئ بطونهم، فهذا طعامهم، وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة ‏{‏ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا‏}‏ بعد الأكل منها ‏{‏لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ‏}‏ الشوب‏:‏ الخلط‏.‏

قال الفراء‏:‏ يقال‏:‏ شاب طعامه، وشرابه‏:‏ إذا خلطهما بشيء يشوبهما شوباً وشيابة، والحميم‏:‏ الماء الحارّ‏.‏ فأخبر سبحانه‏:‏ أنه يشاب لهم طعامهم من تلك الشجرة بالماء الحارّ، ليكون أفظع لعذابهم، وأشنع لحالهم كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏ قرأ الجمهور ‏{‏شوباً‏}‏ بفتح الشين، وهو‏:‏ مصدر، وقرأ شيبان النحوي بالضم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المفتوح مصدر، والمضموم اسم بمعنى‏:‏ المشوب، كالنقص بمعنى‏:‏ المنقوص‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم‏}‏ أي‏:‏ مرجعهم بعد شرب الحميم، وأكل الزقوم إلى الجحيم، وذلك أنهم يوردون الحميم لشربه، وهو خارج الجحيم كما تورد الإبل، ثم يردّون إلى الجحيم كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن الزقوم، والحميم نزل يقدّم إليهم قبل دخولها‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ثم بمعنى‏:‏ الواو، وقرأ ابن مسعود ‏"‏ ثم إن منقلبهم لإلى الجحيم ‏"‏، وجملة ‏{‏إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ‏}‏ أي‏:‏ وجدوا ‏{‏آباءهم ضالين‏}‏ تعليل لاستحقاقهم ما تقدّم ذكره، أي‏:‏ صادفوهم كذلك، فاقتدوا بهم تقليداً، وضلالة لا لحجة أصلاً ‏{‏فَهُمْ على ءاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ‏}‏ الإهراع‏:‏ الإسراع‏.‏ قال الفراء‏:‏ الإهراع‏:‏ الإسراع برعدة‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ ‏{‏يهرعون‏}‏‏:‏ يستحثون من خلفهم، يقال‏:‏ جاء فلان يهرع إلى النار‏:‏ إذا استحثه البرد إليها‏.‏ وقال المفضل يزعجون من شدّة الإسراع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هرع، وأهرع‏:‏ إذا استحثّ، وانزعج، والمعنى‏:‏ يتبعون آباءهم في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم ‏{‏وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين‏}‏ أي‏:‏ ضلّ قبل هؤلاء المذكورين أكثر الأوّلين من الأمم الماضية ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ أرسلنا في هؤلاء الأوّلين رسلاً أنذروهم العذاب، وبينوا لهم الحقّ، فلم ينجع ذلك فيهم ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين‏}‏ أي‏:‏ الذين أنذرتهم الرسل، فإنهم صاروا إلى النار‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يقول‏:‏ كان عاقبتهم العذاب، يحذر كفار مكة، ثم استثنى عباده المؤمنين، فقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين‏}‏ أي‏:‏ إلا من أخلصهم الله بتوفيقهم إلى الإيمان، والتوحيد، وقرئ ‏"‏ المخلصين ‏"‏ بكسر اللام، أي‏:‏ الذين أخلصوا لله طاعاتهم، ولم يشوبوها بشيء مما يغيرها‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وهناد، وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏فاطلع فَرَءاهُ فِى سَوَاء الجحيم‏}‏ قال‏:‏ اطلع، ثم التفت إلى أصحابه، فقال‏:‏ لقد رأيت جماجم القوم تغلي‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال‏:‏ قول الله لأهل الجنة‏:‏ ‏{‏كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 19‏]‏ قال ‏{‏هنيئاً‏}‏ أي‏:‏ لا تموتون فيها، فعند ذلك قالوا‏:‏ ‏{‏أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم‏}‏ قال‏:‏ هذا قول الله‏:‏ ‏{‏لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون‏}‏‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال‏:‏ «كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في يدي، فرأى جنازة فأسرع المشي حتى أتى القبر، ثم جثى على ركبتيه، فجعل يبكي حتى بلّ الثرى، ثم قال‏:‏ ‏{‏لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون‏}‏‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن أنس قال‏:‏ دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم على مريض يجود بنفسه، فقال‏:‏ ‏{‏لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون‏}‏‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ مرّ أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس، فلما بعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 34، 35‏]‏، فلما سمع أبو جهل قال‏:‏ من توعد يا محمد‏؟‏ قال‏:‏ «إياك» قال‏:‏ بما توعدني‏؟‏ قال‏:‏ «أوعدك بالعزيز الكريم» فقال أبو جهل‏:‏ أليس أنا العزيز الكريم‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏شَجَرَةُ الزقوم *طَعَامُ الأثيم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 43-49‏]‏ فلما بلغ أبا جهل ما نزل فيه جمع أصحابه، فأخرج إليهم زبداً، وتمراً، فقال‏:‏ تزقموا من هذا، فوالله ما يتوعدكم محمد إلا بهذا، فأنزل الله ‏{‏إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الجحيم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال‏:‏ لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الأرض لأفسدت على الناس معايشهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً ‏{‏ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً‏}‏ قال‏:‏ لمزجاً‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ‏}‏ يخالط طعامهم، ويشاب بالحميم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال‏:‏ لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء، ويقيل هؤلاء أهل الجنة، وأهل النار، وقرأ‏:‏ «ثم إن منقلبهم لإلى الجحيم»‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءابَاءهُمْ ضَالّينَ‏}‏ قال‏:‏ وجدوا آباءهم‏.‏