فصل: الجزء الخامس

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


الجزء الخامس

سورة الجاثية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 15‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏5‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏7‏)‏ يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏9‏)‏ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏10‏)‏ هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏حم‏}‏ قد تقدّم الكلام في هذه الفاتحة، وفي إعرابها، في فاتحة سورة «غافر»، وما بعدها، فإن جعل اسماً للسورة، فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ، وإن جعل حروفاً مسرودة على نمط التعديد، فلا محلّ له، وقوله‏:‏ ‏{‏تَنزِيلُ الكتاب‏}‏ على الوجه الأوّل خبر ثان، وعلى الوجه الثاني خبر المبتدأ، وعلى الوجه الثالث خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره ‏{‏مِنَ الله العزيز الحكيم‏}‏ ثم أخبر سبحانه بما يدل على قدرته الباهرة، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى السموات والأرض لآيات لّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ فيها نفسها، فإنها من فنون الآيات، أو في خلقها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويدلّ على أن المعنى في خلق السموات والأرض قوله‏:‏ ‏{‏وَفِى خَلْقِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ في خلقكم أنفسكم على أطوار مختلفة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ من تراب، ثم من نطفة إلى أن يصير إنساناً، ‏{‏وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ءايات‏}‏ أي‏:‏ وفي خلق ما يبثّ من دابة، وارتفاع آيات على أنها مبتدأ مؤخر، وخبره الظرف قبله، وبالرفع قرأ الجمهور، وقرأ حمزة، والكسائي ‏(‏آيات‏)‏ بالنصب عطفاً على اسم إن، والخبر قوله‏:‏ ‏{‏وَفِى خَلْقِكُمْ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ وإن في خلقكم وما يبثّ من دابة آيات، أو على أنها تأكيد لآيات الأولى‏.‏ وقرأ الجمهور أيضاً ‏{‏آيات لقوم يعقلون‏}‏ بالرّفع، وقرأ حمزة، والكسائي بنصبها مع اتفاقهم على الجرّ في اختلاف، أما جرّ «اختلاف»، فهو على تقدير حرف الجرّ أي‏:‏ في ‏{‏لَهُ اختلاف اليل والنهار‏}‏ آيات، فمن رفع آيات، فعلى أنها مبتدأ، وخبرها‏:‏ في اختلاف، وأما النصب فهو من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين‏.‏ قال الفراء‏:‏ الرفع على الاستئناف بعد إنّ، تقول العرب‏:‏ إنّ لي عليك مالاً، وعلى أخيك مال، ينصبون الثاني ويرفعونه، وللنحاة في هذا الموضع كلام طويل‏.‏ والبحث في مسألة العطف على معمولي عاملين مختلفين، وحجج المجوّزين له، وجوابات المانعين له مقرّر في علم النحو مبسوط في مطوّلاته‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏مَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ‏}‏‏:‏ ما يفرقه وينشره ‏{‏واختلاف اليل والنهار‏}‏ تعاقبهما، أو تفاوتهما في الطول والقصر، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنَزَلَ الله مِنَ السماء مَّن رِزْقٍ‏}‏ معطوف على اختلاف، والرزق‏:‏ المطر؛ لأنه سبب لكل ما يرزق الله العباد به، وإحياء الأرض‏:‏ إخراج نباتها، و‏{‏مَوْتِهَا‏}‏‏:‏ خلّوها عن النبات ومعنى ‏{‏وَتَصْرِيفِ الرياح‏}‏‏:‏ أنها تهب تارة من جهة وتارة من أخرى، وتارة تكون حارّة وتارة تكون باردة، وتارة نافعة، وتارة ضارّة ‏{‏تِلْكَ آيات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ هذه الآيات المذكورة هي حجج الله وبراهينه، ومحل‏:‏ ‏{‏نتلوها عليك‏}‏ النصب على الحال، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر اسم الإشارة، وآيات الله بيان له، أو بدل منه، وقوله‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ حال من فاعل نتلو، أو من مفعوله أي‏:‏ محقين، أو ملتبسة بالحقّ، ويجوز أن تكون الباء للسببية، فتتعلق بنفس الفعل ‏{‏فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون‏}‏ أي‏:‏ بعد حديث الله وبعد آياته، وقيل إن المقصود‏:‏ فبأي حديث بعد آيات الله، وذكر الاسم الشريف ليس إلاّ لقصد تعظيم الآيات، فيكون من باب‏:‏ أعجبني زيد، وكرمه‏.‏

وقيل المراد‏:‏ بعد حديث الله، وهو القرآن كما في قوله‏:‏ ‏{‏الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، وهو المراد بالآيات، والعطف لمجرّد التغاير العنواني‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏(‏تؤمنون‏)‏ بالفوقية، وقرأ حمزة، والكسائي بالتحتية‏.‏ والمعنى‏:‏ يؤمنون بأيّ حديث، وإنما قدّم عليه؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام‏.‏ ‏{‏وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ لكل كذاب كثير الإثم مرتكب لما يوجبه، والويل‏:‏ واد في جهنم‏.‏ ثم وصف هذا الأفاك بصفة أخرى، فقال‏:‏ ‏{‏يَسْمَعُ ءايات الله تتلى عَلَيْهِ‏}‏ وقيل‏:‏ إن يسمع في محل نصب على الحال، وقيل‏:‏ استئناف، والأول أولى، وقوله‏:‏ ‏{‏تتلى عَلَيْهِ‏}‏ في محل نصب على الحال ‏{‏ثُمَّ يُصِرُّ‏}‏ على كفره، ويقيم على ما كان عليه حال كونه ‏{‏مُسْتَكْبِراً‏}‏ أي‏:‏ يتمادى على كفره متعظماً في نفسه عن الانقياد للحقّ، والإصرار مأخوذ من إصرار الحمار على العانة وهو أن ينحني عليها صارًّا أذنيه‏.‏ قال مقاتل‏:‏ إذا سمع من آيات القرآن شيئًا اتخذها هزواً، وجملة‏:‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا‏}‏‏:‏ في محل نصب على الحال، أو مستأنفة؛ وأن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف ‏{‏فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ هذا من باب التهكم أي‏:‏ فبشّره على إصراره واستكباره، وعدم استماعه إلى الآيات بعذاب شديد الألم ‏{‏وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً‏}‏ قرأ الجمهور ‏{‏علم‏}‏ بفتح العين، وكسر اللام مخففة على البناء للفاعل‏.‏ وقرأ قتادة، ومطر الورّاق على البناء للمفعول‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه إذا وصل إليه علم شيء من آيات الله ‏{‏اتخذها‏}‏ أي‏:‏ الآيات ‏{‏هُزُواً‏}‏ وقيل‏:‏ الضمير في اتخذها عائد إلى ‏{‏شيئًا‏}‏؛ لأنه عبارة عن الآيات، والأوّل أولى‏.‏ والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إلى كلّ أفاك متصف بتلك الصفات ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ بسبب ما فعلوا من الإصرار، والاستكبار عن سماع آيات الله، واتخاذها هزواً، والعذاب المهين‏:‏ هو المشتمل على الإذلال، والفضيحة ‏{‏مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ‏}‏ أي‏:‏ من وراء ما هم فيه من التعزز بالدنيا، والتكبر عن الحقّ جهنّم؛ فإنها من قدّامهم؛ لأنهم متوجهون إليها، وعبر بالوراء عن القدّام، كقوله‏:‏ ‏{‏مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 16‏]‏ وقول الشاعر‏:‏

أليس ورائي إن تراخت منيتي *** وقيل‏:‏ جعلها باعتبار إعراضهم عنها، كأنها خلفهم ‏{‏وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً‏}‏ أي‏:‏ لا يدفع عنهم ما كسبوا من أموالهم، وأولادهم شيئًا من عذاب الله، ولا ينفعهم بوجه من وجوه النفع ‏{‏وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء‏}‏ معطوف على ما كسبوا أي‏:‏ ولا يغني عنهم ما اتخذوا من دون الله أولياء من الأصنام، و«ما» في الموضعين إما مصدرية، أو موصولة، وزيادة لا في الجملة الثانية للتأكيد ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏ في جهنم التي هي من ورائهم ‏{‏هذا هُدًى‏}‏ جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر، يعني‏:‏ هذا القرآن هدى للمهتدين به ‏{‏والذين كَفَرُواْ بئايات رَبّهِمْ‏}‏ القرآنية ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ‏}‏ الرجز‏:‏ أشدّ العذاب‏.‏

قرأ الجمهور‏:‏ ‏(‏أليم‏)‏ بالجرّ صفة للرّجز‏.‏ وقرأ ابن كثير، وحفص، وابن محيصن بالرفع صفة لعذاب ‏{‏الله الذى سَخَّرَ لَكُمُ البحر‏}‏ أي‏:‏ جعله على صفة تتمكنون بها من الركوب عليه ‏{‏لِتَجْرِىَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ‏}‏ أي‏:‏ بإذنه وإقداره لكم ‏{‏وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ‏}‏ بالتجارة تارة، والغوص للدرّ، والمعالجة للصيد وغير ذلك ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لكي تشكروا النعم التي تحصل لكم بسبب هذا التسخير للبحر ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مّنْهُ‏}‏ أي‏:‏ سخّر لعباده جميع ما خلقه في سماواته، وأرضه مما تتعلق به مصالحهم، وتقوم به معايشهم، ومما سخّره لهم من مخلوقات السموات‏:‏ الشمس والقمر، والنجوم النيرات، والمطر والسحاب والرّياح، وانتصاب ‏{‏جميعاً‏}‏ على الحال من ‏{‏ما في السموات وما في الأرض‏}‏، أو تأكيد له، وقوله‏:‏ ‏{‏منه‏}‏ يجوز أن يتعلق بمحذوف هو صفة ل ‏{‏جميعاً‏}‏ أي‏:‏ كائنة منه، ويجوز أن يتعلق بسخر، ويجوز أن يكون حالاً من ما في السموات، أو خبراً لمبتدأ محذوف، والمعنى‏:‏ أن كل ذلك رحمة منه لعباده ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ المذكور من التسخير ‏{‏لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ وخصّ المتفكرين؛ لأنه لا ينتفع بها إلاّ من تفكر فيها، فإنه ينتقل من التفكر إلى الاستدلال بها على التوحيد‏.‏ ‏{‏قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ‏}‏ أي‏:‏ قل لهم اغفروا يغفروا ‏{‏لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله‏}‏ وقيل‏:‏ هو على حذف اللام، والتقدير‏:‏ قل لهم ليغفروا‏.‏ والمعنى‏:‏ قل لهم يتجاوزوا عن الذين لا يرجون وقائع الله بأعدائه، أي‏:‏ لا يتوقعونها، ومعنى الرجاء هنا‏:‏ الخوف، وقيل‏:‏ هو على معناه الحقيقي‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يرجون ثوابه في الأوقات التي وقّتها الله لثواب المؤمنين، والأوّل أولى، والأيام يعبر بها عن الوقائع كما تقدّم في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 5‏]‏ قال مقاتل‏:‏ لا يخشون مثل عذاب الله للأمم الخالية، وذلك أنهم لا يؤمنون به، فلا يخافون عقابه‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه، وقيل‏:‏ لا يخافون البعث‏.‏ قيل‏:‏ والآية منسوخة بآية السيف ‏{‏لِيَجْزِىَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏(‏لنجزي‏)‏ بالنون أي‏:‏ لنجزى نحن‏.‏ وقرأ باقي السبعة بالتحتية مبنياً للفاعل‏.‏

أي‏:‏ ليجزي الله‏.‏ وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وعاصم بالتحتية مبنياً للمفعول مع نصب قوماً، فقيل‏:‏ النائب عن الفاعل مصدر الفعل، أي‏:‏ ليجزى الجزاء قوماً، وقيل‏:‏ إن النائب الجارّ والمجرور، كما في قول الشاعر‏:‏

ولو ولدت فقيرة جرو كلب *** لسبّ بذلك الجرو الكلابا

وقد أجاز ذلك الأخفش، والكوفيون، ومنعه البصريون، والجملة لتعليل الأمر بالمغفرة، والمراد بالقوم‏:‏ المؤمنون، أمروا بالمغفرة ليجزيهم الله يوم القيامة بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار، والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ليجزي الكفار بما عملوا من السيئات كأنّه قال‏:‏ لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن، والأوّل أولى‏.‏ ثم ذكر المؤمنين وأعمالهم، والمشركين وأعمالهم، فقال‏:‏ ‏{‏مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا‏}‏ والمعنى‏:‏ أن عمل كل طائفة من إحسان، أو إساءة لعامله لا يتجاوزه إلى غيره، وفيه ترغيب وتهديد ‏{‏ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ‏}‏ فيجازي كلاً بعمله إن كان خيراً فخير، وإن كان شرًّا فشرّ‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة من طريق عكرمة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏جَمِيعاً مّنْهُ‏}‏ قال‏:‏ منه النور والشمس والقمر‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال‏:‏ كل شيء هو من الله‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن طاووس قال‏:‏ جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله ممّ خلق الخلق‏؟‏ قال‏:‏ من الماء، والنور والظلمة، والهواء والتراب، قال‏:‏ فمم خلق هؤلاء‏؟‏ قال‏:‏ لا أدري‏.‏ ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير، فسأله، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو، فأتى ابن عباس، فسأله ممّ خلق الخلق‏؟‏ فقال‏:‏ من الماء، والنور والظلمة، والريح والتراب، قال‏:‏ فممّ خلق هؤلاء‏؟‏ فقرأ ابن عباس ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مّنْهُ‏}‏ فقال الرجل‏:‏ ما كان ليأتي بهذا إلاّ رجل من أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ‏}‏ الآية قال‏:‏ كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يعرض عن المشركين إذا آذوه، وكانوا يستهزئون به ويكذبونه، فأمره الله أن يقاتل المشركين كافة، فكان هذا من المنسوخ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 26‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏18‏)‏ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏19‏)‏ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏21‏)‏ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏23‏)‏ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏24‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب والحكم والنبوة‏}‏ المراد بالكتاب‏:‏ التوراة، وبالحكم‏:‏ الفهم والفقه الذي يكون بهما الحكم بين الناس وفصل خصوماتهم، وبالنبوّة‏:‏ من بعثه الله من الأنبياء فيهم ‏{‏وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات‏}‏ أي‏:‏ المستلذات التي أحلها الله لهم، ومن ذلك المنّ والسلوى ‏{‏وفضلناهم عَلَى العالمين‏}‏ من أهل زمانهم حيث آتيناهم ما لم نؤت من عداهم من فلق البحر ونحوه، وقد تقدّم بيان هذا في سورة الدخان ‏{‏وءاتيناهم بينات مّنَ الأمر‏}‏ أي‏:‏ شرائع واضحات في الحلال والحرام، أو معجزات ظاهرات، وقيل‏:‏ العلم بمبعث النبي، وشواهد نبوّته، وتعيين مهاجره‏:‏ ‏{‏فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم‏}‏ أي‏:‏ فما وقع الاختلاف بينهم في ذلك الأمر إلاّ بعد مجيء العلم إليهم ببيانه، وإيضاح معناه، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجباً لثبوته، وقيل‏:‏ المراد بالعلم‏:‏ يوشع بن نون، فإنه آمن به بعضهم وكفر بعضهم، وقيل‏:‏ نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، فاختلفوا فيها حسداً وبغياً، وقيل‏:‏ ‏{‏بَغِيّاً‏}‏ من بعضهم على بعض بطلب الرئاسة ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ من أمر الدين، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته‏.‏ ‏{‏ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ مّنَ الأمر‏}‏ الشريعة في اللغة‏:‏ المذهب، والملة، والمنهاج، ويقال‏:‏ لمشرعة الماء وهي مورد شاربيه‏:‏ شريعة، ومنه الشارع؛ لأنه طريق إلى المقصد، فالمراد بالشريعة هنا‏:‏ ما شرعه الله لعباده من الدين، والجمع شرائع، أي‏:‏ جعلناك يا محمد على منهاج واضح من أمر الدين يوصلك إلى الحق ‏{‏فاتبعها‏}‏‏:‏ فاعمل بأحكامها في أمتك ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ توحيد الله وشرائعه لعباده، وهم كفار قريش ومن وافقهم ‏{‏إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً‏}‏ أي‏:‏ لا يدفعون عنك شيئًا مما أراده الله بك إن اتبعت أهواءهم ‏{‏وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏}‏ أي‏:‏ أنصار ينصر بعضهم بعضاً‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ إن المنافقين أولياء اليهود ‏{‏والله وَلِىُّ المتقين‏}‏ أي‏:‏ ناصرهم، والمراد بالمتقين‏:‏ الذين اتقوا الشرك والمعاصي، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ إلى القرآن، أو إلى اتباع الشريعة، وهو مبتدأ وخبره ‏{‏بَصَائِرَ لِلنَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ براهين ودلائل لهم فيما يحتاجون إليه من أحكام الدين، جعل ذلك بمنزلة البصائر في القلوب، وقرئ‏:‏ ‏(‏هذه بصائر‏)‏ أي‏:‏ هذه الآيات؛ لأن القرآن بمعناها، كما قال الشاعر‏:‏

سائل بني أسد ما هذه الصوت *** لأن الصوت بمعنى الصيحة ‏{‏وهدى‏}‏ أي‏:‏ رشد، وطريق يؤدي إلى الجنة لمن عمل به ‏{‏وَرَحْمَةٌ‏}‏ من الله في الآخرة ‏{‏لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ من شأنهم الإيقان، وعدم الشك، والتزلزل بالشُّبه ‏{‏أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات‏}‏ أم هي المنقطعة المقدرة ببل، والهمزة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني، والهمزة لإنكار الحسبان، والاجتراح‏:‏ الاكتساب، ومنه الجوارح، وقد تقدّم في المائدة، والجملة مستأنفة؛ لبيان تباين حالي المسيئين والمحسنين، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ أي‏:‏ نسوّي بينهم مع اجتراحهم السيئات، وبين أهل الحسنات ‏{‏سَوَاء محياهم ومماتهم‏}‏ في دار الدنيا وفي الآخرة، كلا لا يستوون، فإن حال أهل السعادة فيهما غير حال أهل الشقاوة‏.‏

وقيل المراد‏:‏ إنكار أن يستووا في الممات، كما استووا في الحياة‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏سواء‏}‏ بالرفع على أنه خبر مقدّم، والمبتدأ محياهم ومماتهم والمعنى‏:‏ إنكار حسبانهم أن محياهم ومماتهم، سواء‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص ‏{‏سواء‏}‏ بالنصب على أنه حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور في قوله‏:‏ ‏{‏كالذين ءامَنُواْ‏}‏ أو على أنه مفعول ثان لحسب، واختار قراءة النصب أبو عبيد، وقال معناه‏:‏ نجعلهم سواء، وقرأ الأعمش، وعيسى بن عمر ‏(‏مماتهم‏)‏ بالنصب على معنى‏:‏ سواء في محياهم ومماتهم، فلما سقط الخافض انتصب، أو على البدل من مفعول نجعلهم بدل اشتمال ‏{‏سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ أي‏:‏ ساء حكمهم هذا الذي حكموا به‏.‏ ‏{‏وَخَلَقَ الله السموات والأرض بالحق‏}‏ أي‏:‏ بالحقّ المقتضي للعدل بين العباد، ومحل بالحقّ النصب على الحال من الفاعل، أو من المفعول، أو الباء للسببية، وقوله‏:‏ ‏{‏ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ يجوز أن يكون على الحقّ؛ لأن كلا منهما سبب، فعطف السبب على السبب، ويجوز أن يكون معطوفاً على محذوف، والتقدير‏:‏ خلق الله السموات والأرض؛ ليدلّ بهما على قدرته ولتجزى، ويجوز أن تكون اللام للصيرورة ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ النفوس المدلول عليها بكل نفس لا يظلمون بنقص ثواب، أو زيادة عقاب، ثم عجب سبحانه من حال الكفار، فقال‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ‏}‏ قال الحسن، وقتادة‏:‏ ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئًا إلاّ ركبه، وقال عكرمة‏:‏ يعبد ما يهواه، أو يستحسنه، فإذا استحسن شيئًا، وهواه اتخذه إلها‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر ‏{‏وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ‏}‏ أي‏:‏ على علم قد علمه، وقيل المعنى‏:‏ أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه، وقال مقاتل‏:‏ على علم منه أنه ضالّ؛ لأنه يعلم أن الصنم لا ينفع ولا يضرّ‏.‏ قال الزجاج‏:‏ على سوء في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه، ومحل ‏{‏على علم‏}‏ النصب على الحال من الفاعل، أو المفعول ‏{‏وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ‏}‏ أي‏:‏ طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ، وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى ‏{‏وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة‏}‏ أي‏:‏ غطاء حتى لا يبصر الرشد‏.‏

قرأ الجمهور ‏{‏غشاوة‏}‏ بالألف مع كسر الغين، وقرأ حمزة، والكسائي ‏(‏غشوة‏)‏ بغير ألف مع فتح الغين، ومنه قول الشاعر‏:‏

لئن كنت ألبستني غشوة *** لقد كنت أصفيتك الودّ حينا

وقرأ ابن مسعود، والأعمش كقراءة الجمهور مع فتح الغين وهي لغة ربيعة، وقرأ الحسن، وعكرمة بضمها وهي لغة عكل ‏{‏فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله‏}‏ أي‏:‏ من بعد إضلال الله له ‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ تذكر اعتبار حتى تعلموا حقيقة الحال‏؟‏ ثم بيّن سبحانه بعض جهالاتهم وضلالاتهم فقال‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا‏}‏ أي‏:‏ ما الحياة إلاّ الحياة التي نحن فيها ‏{‏نَمُوتُ وَنَحْيَا‏}‏ أي‏:‏ يصيبنا الموت والحياة فيها، وليس وراء ذلك حياة، وقيل‏:‏ نموت نحن، ويحيا فيها أولادنا، وقيل‏:‏ نكون نطفاً ميتة، ثم نصير أحياء‏.‏ وقيل‏:‏ في الآية تقديم وتأخير، أي‏:‏ نحيا ونموت، وكذا قرأ ابن مسعود، وعلى كل تقدير، فمرادهم بهذه المقالة‏:‏ إنكار البعث وتكذيب الآخرة ‏{‏وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر‏}‏ أي‏:‏ إلاّ مرور الأيام والليالي، قال مجاهد‏:‏ يعني‏:‏ السنين والأيام‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إلاّ العمر، والمعنى واحد‏.‏ وقال قطرب‏:‏ المعنى‏:‏ وما يهلكنا إلاَّ الموت‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ وما يهلكنا إلاّ الله ‏{‏وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ أي‏:‏ ما قالوا هذه المقالة إلاّ شاكين غير عالمين بالحقيقة، ثم بيّن كون ذلك صادراً منهم لا عن علم، فقال‏:‏ ‏{‏إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏}‏ أي‏:‏ ما هم إلاّ قوم غاية ما عندهم الظنّ، فما يتكلمون إلاّ به، ولا يستندون إلاّ إليه‏.‏ ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ إذا تليت آيات القرآن على المشركين حال كونها بينات واضحات ظاهرة المعنى، والدلالة على البعث ‏{‏مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتوا بِئَابَائِنَا إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أنا نبعث بعد الموت‏!‏ أي‏:‏ ما كان لهم حجة، ولا متمسك إلاّ هذا القول الباطل الذي ليس من الحجة في شيء، وإنما سماه حجة تهكماً بهم‏.‏ قرأ الجمهور بنصب ‏{‏حجتهم‏}‏ على أنه خبر كان، واسمها ‏{‏إِلاَّ أَن قَالُواْ‏}‏ وقرأ زيد بن عليّ، وعمرو بن عبيد، وعبيد بن عمرو برفع ‏{‏حجتهم‏}‏ على أنها اسم كان، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يردّ عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏قُلِ الله يُحْيِيكُمْ‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا ‏{‏ثُمَّ يُمِيتُكُمْ‏}‏ عند انقضاء آجالكم ‏{‏ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ بالبعث والنشور ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ في جمعكم؛ لأن من قدر على ابتداء الخلق قدر على إعادته ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ بذلك، فلهذا حصل معهم الشكّ في البعث، وجاءوا في دفعه بما هو أوهن من بيت العنكبوت، ولو نظروا حقّ النظر لحصلوا على العلم اليقين، واندفع عنهم الرّيب وأراحوا أنفسهم من ورطة الشكّ والحيرة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ مّنَ الأمر‏}‏ يقول‏:‏ على هدًى من أمر دينه‏.‏ وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏سَوَاء محياهم ومماتهم‏}‏ قال‏:‏ المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ‏}‏ قال‏:‏ ذاك الكافر اتخذ دينه بغير هدًى من الله، ولا برهان ‏{‏وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ‏}‏ يقول‏:‏ أضله في سابق علمه‏.‏ وأخرج النسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه قال‏:‏ كان الرّجل من العرب يعبد الحجر، فإذا وجد أحسن منه أخذه وألقى الآخر، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي هريرة قال‏:‏ كان أهل الجاهلية يقولون‏:‏ إنما يهلكنا الليل والنهار، فقال الله في كتابه‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر‏}‏ قال الله‏:‏ يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة سمعت رسول الله يقول‏:‏ «قال الله عزّ وجلّ‏:‏ يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 37‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏27‏)‏ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏30‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ‏(‏32‏)‏ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏33‏)‏ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏34‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏35‏)‏ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه ما احتج به المشركون، وما أجاب به عليهم ذكر اختصاصه بالملك، فقال‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض‏}‏ أي‏:‏ هو المتصرف فيهما وحده لا يشاركه أحد من عباده، ثم توعد أهل الباطل، فقال‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون‏}‏ أي‏:‏ المكذبون الكافرون المتعلقون بالأباطيل يظهر في ذلك اليوم خسرانهم؛ لأنهم يصيرون إلى النار، والعامل في ‏{‏يوم‏}‏ هو ‏{‏يخسر‏}‏، و‏{‏يومئذ‏}‏ بدل منه، والتنوين للعوض عن المضاف إليه المدلول عليه بما أضيف إليه المبدل منه، فيكون التقدير‏:‏ ويوم تقوم الساعة يوم تقوم الساعة، فيكون بدلاً توكيدياً، والأولى أن يكون العامل في يوم هو ملك، أي‏:‏ ولله ملك يوم تقوم الساعة؛ ويكون يومئذ معمولاً؛ ل ‏{‏يخسر‏}‏ ‏{‏وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً‏}‏ الخطاب لكل من يصلح له، أو للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والأمة‏:‏ الملة، ومعنى جاثية‏:‏ مستوفزة، والمستوفز‏:‏ الذي لا يصيب الأرض منه إلاّ ركبتاه وأطراف أنامله، وذلك عند الحساب‏.‏ وقيل معنى جاثية‏:‏ مجتمعة، قال الفراء‏:‏ المعنى وترى أهل كلّ ذي دين مجتمعين‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ متميزة عن غيرها‏.‏ وقال مؤرج‏:‏ معناه بلغة قريش‏:‏ خاضعة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ باركة على الركب، والجثو‏:‏ الجلوس على الركب، تقول‏:‏ جثا يجثو ويجثي جثواً وجثياً‏:‏ إذا جلس على ركبتيه، والأوّل أولى‏.‏ ولا ينافيه ورود هذا اللفظ لمعنى آخر في لسان العرب‏.‏ وقد ورد إطلاق الجثوة على الجماعة من كل شيء في لغة العرب، ومنه قول طرفة يصف قبرين‏:‏

ترى جثوتين من تراب عليهما *** صفائح صمّ من صفائح منضد

وظاهر الآية أن هذه الصفة تكون لكل أمة من الأمم من غير فرق بين أهل الأديان المتبعين للرسل، وغيرهم من أهل الشرك‏.‏ وقال يحيى بن سلام‏:‏ هو خاصّ بالكفار، والأوّل أولى‏.‏ ويؤيده قوله‏:‏ ‏{‏كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كتابها‏}‏، ولقوله فيما سيأتي ‏{‏فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ‏}‏‏.‏ ومعنى ‏{‏إلى كتابها‏}‏‏:‏ إلى الكتاب المنزّل عليها، وقيل‏:‏ إلى صحيفة أعمالها، وقيل‏:‏ إلى حسابها، وقيل‏:‏ اللوح المحفوظ، والأوّل أولى‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏كل أمة‏}‏ بالرفع على الابتداء، وخبره‏:‏ ‏{‏تدعى‏}‏، وقرأ يعقوب الحضرمي بالنصب على البدل من ‏{‏كل أمة‏}‏‏.‏ ‏{‏اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ أي يقال لهم‏:‏ اليوم تجزون ما كنتم تعملون من خير وشرّ‏.‏ ‏{‏هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق‏}‏ هذا من تمام ما يقال لهم، والقائل بهذا‏:‏ هم الملائكة وقيل‏:‏ هو من قول الله سبحانه، أي‏:‏ يشهد عليكم، وهو استعارة، يقال‏:‏ نطق الكتاب بكذا، أي‏:‏ بيّن، وقيل‏:‏ إنهم يقرءونه فيذكرون ما عملوا، فكأنه ينطق عليهم بالحق الذي لا زيادة فيه، ولا نقصان، ومحل ‏{‏ينطق‏}‏ النصب على الحال، أو الرفع على أنه خبر آخر لاسم الإشارة، وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ تعليل للنطق بالحقّ، أي‏:‏ نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم، أي‏:‏ بكتبها، وتثبيتها عليكم‏.‏

قال الواحدي‏:‏ وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ، فإن الملائكة تكتب منه كل عام ما يكون من أعمال بني آدم، فيجدون ذلك موافقاً لما يعملونه، قالوا‏:‏ لأن الاستنساخ لا يكون إلاّ من أصل‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ نأمر الملائكة بنسخ ما كنتم تعملون‏.‏ وقيل‏:‏ إن الملائكة تكتب كل يوم ما يعمله العبد، فإذا رجعوا إلى مكانهم نسخوا منه الحسنات والسيئات، وتركوا المباحات‏.‏ وقيل‏:‏ إن الملائكة إذا رفعت أعمال العباد إلى الله سبحانه أمر عزّ وجلّ أن يثبت عنده منها ما فيه ثواب وعقاب، ويسقط منها ما لا ثواب فيه ولا عقاب‏.‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ‏}‏ أي‏:‏ الجنة، وهذا تفصيل لحال الفريقين، فالمؤمنون يدخلهم الله برحمته الجنة ‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ الإدخال في رحمته ‏{‏هُوَ الفوز المبين‏}‏ أي‏:‏ الظاهر الواضح ‏{‏وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءاياتى تتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ فيقال لهم ذلك، وهو استفهام توبيخ؛ لأن الرسل قد أتتهم وتلت عليهم آيات الله، فكذبوها ولم يعملوا بها ‏{‏فاستكبرتم وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ تكبرتم عن قبولها، وعن الإيمان بها، وكنتم من أهل الإجرام، وهي الآثام، والاجترام الاكتساب، يقال‏:‏ فلان جريمة أهله‏:‏ إذا كان كاسبهم، فالمجرم من كسب الآثام بفعل المعاصي ‏{‏وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ أي‏:‏ وعده بالبعث والحساب، أو بجميع ما وعد به من الأمور المستقبلة واقع لا محالة ‏{‏والساعة‏}‏ أي‏:‏ القيامة ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ في وقوعها‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏والساعة‏}‏ بالرفع على الابتداء، أو العطف على موضع اسم إن، وقرأ حمزة بالنصب عطفاً على اسم إن ‏{‏قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا الساعة‏}‏ أي‏:‏ أيّ شيء هي‏؟‏ ‏{‏إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً‏}‏ أي‏:‏ نحدس حدساً ونتوهم توهماً‏.‏ قال المبرد‏:‏ تقديره‏:‏ إن نحن إلاّ نظن ظناً، وقيل التقدير‏:‏ إن نظنّ إلاّ أنكم تظنون ظناً، وقيل‏:‏ إن نظنّ مضمن معنى نعتقد، أي‏:‏ ما نعتقد إلاّ ظناً لا علماً، وقيل‏:‏ إن ظناً له صفة مقدّرة، أي‏:‏ إلاّ ظناً بيناً، وقيل‏:‏ إن الظنّ يكون بمعنى العلم والشكّ، فكأنهم قالوا‏:‏ ما لنا اعتقاد إلاّ الشك ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ لم يكن لنا يقين بذلك، ولم يكن معنا إلاّ مجرّد الظنّ أن الساعة آتية‏.‏ ‏{‏وَبَدَا لَهُمْ سيئات مَا عَمِلُواْ‏}‏ أي‏:‏ ظهر لهم سيئات أعمالهم على الصورة التي هي عليها ‏{‏وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏ أي‏:‏ أحاط بهم، ونزل عليهم جزاء أعمالهم بدخولهم النار ‏{‏وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا‏}‏ أي‏:‏ نترككم في النار كما تركتم العمل لهذا اليوم، وأضاف اللقاء إلى اليوم توسعاً؛ لأنه أضاف إلى الشيء ما هو واقع فيه ‏{‏وَمَأْوَاكُمُ النار‏}‏ أي‏:‏ مسكنكم ومستقرّكم الذين تأوون إليه ‏{‏وَمَا لَكُمْ مّن ناصرين‏}‏ ينصرونكم فيمنعون عنكم العذاب ‏{‏ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم ءايات الله هُزُواً‏}‏ أي‏:‏ ذلكم العذاب بسبب أنكم اتخذتم القرآن هزواً ولعباً ‏{‏وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا‏}‏ أي‏:‏ خدعتكم بزخارفها وأباطيلها، فظننتم أنه لا دار غيرها، ولا بعث ولا نشور ‏{‏فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ من النار‏.‏

قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يخرجون‏}‏ بضم الياء‏.‏ وفتح الراء مبنياً للمفعول، وقرأ حمزة، والكسائي بفتح الياء وضمّ الراء مبنياً للفاعل، والالتفات من الخطاب إلى الغيبة لتحقيرهم ‏{‏وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يسترضون، ويطلب منهم الرجوع إلى طاعة الله؛ لأنه يوم لا تقبل فيه توبة، ولا تنفع فيه معذرة ‏{‏فَلِلَّهِ الحمد رَبّ السموات وَرَبّ الأرض رَبّ العالمين‏}‏ لا يستحقّ الحمد سواه‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏ربّ‏}‏ في المواضع الثلاثة بالجرّ على الصفة للاسم الشريف‏.‏ وقرأ مجاهد، وحميد، وابن محيصن بالرفع في الثلاثة على تقدير مبتدأ، أي‏:‏ هو ربّ السموات إلخ ‏{‏وَلَهُ الكبرياء فِى السموات والأرض‏}‏ أي‏:‏ الجلال والعظمة والسلطان، وخصّ السموات والأرض لظهور ذلك فيهما ‏{‏وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ أي‏:‏ العزيز في سلطانه، فلا يغالبه مغالب، الحكيم في كل أفعاله وأقواله وجميع أقضيته‏.‏

وقد أخرج سعيد بن منصور، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عن عبد الله بن باباه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كأني أراكم بالكوم دون جهنم جاثين» ثم قرأ سفيان ‏(‏ويرى كل أمة جاثية‏)‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله‏:‏ ‏{‏وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً‏}‏ قال‏:‏ كل أمة مع نبيها حتى يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم على كوم قد علا الخلائق، فذلك المقام المحمود‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق‏}‏ قال‏:‏ هو أمّ الكتاب فيه أعمال بني آدم ‏{‏إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ قال‏:‏ هم الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه بمعناه مطوّلاً، فقام رجل فقال‏:‏ يا ابن عباس، ما كنا نرى هذا تكتبه الملائكة في كل يوم وليلة، فقال ابن عباس‏:‏ إنكم لستم قوماً عرباً ‏{‏إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ هل يستنسخ الشيء إلاّ من كتاب‏؟‏ وأخرج ابن جرير عنه نحوه أيضاً، وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب قال‏:‏ إن لله ملائكة ينزلون في كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر نحو ما روي، عن ابن عباس‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ يستنسخ الحفظة من أمّ الكتاب ما يعمل بنو آدم، فإنما يعمل الإنسان ما استنسخ الملك من أمّ الكتاب، وأخرج نحوه الحاكم عنه وصححه‏.‏

وأخرج الطبراني عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ إن الله وكل ملائكته ينسخون من ذلك العام في رمضان ليلة القدر ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة، فيتعارضون به حفظة الله على العباد عشية كل خميس، فيجدون ما رفع الحفظة موافقاً لما في كتابهم ذلك ليس فيه زيادة ولا نقصان‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا‏}‏ قال‏:‏ نترككم‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ «يقول الله تبارك وتعالى‏:‏ الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار»‏.‏

سورة الأحقاف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏4‏)‏ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏8‏)‏ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم‏}‏ قد تقدّم الكلام على هذا في سورة غافر وما بعدها مستوفى، وذكرنا وجه الإعراب، وبيان ما هو الحقّ من أن فواتح السور من المتشابه الذي يجب أن يوكل علمه إلى من أنزله ‏{‏مَا خَلَقْنَا السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ من المخلوقات بأسرها ‏{‏إِلاَّ بالحق‏}‏ هو استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال، أي‏:‏ إلاّ خلقاً ملتبساً بالحقّ الذي تقتضيه المشيئة الإلهية، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَجَلٌ مُّسَمًّى‏}‏ معطوف على الحقّ، أي‏:‏ إلاّ بالحقّ، وبأجل مسمى، على تقدير مضاف محذوف، أي‏:‏ وبتقدير أجل مسمى، وهذا الأجل هو يوم القيامة، فإنها تنتهي فيه السموات والأرض وما بينهما، وتبدّل الأرض غير الأرض والسموات‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالأجل المسمى‏:‏ هو انتهاء أجل كلّ فرد من أفراد المخلوقات، والأوّل أولى، وهذا إشارة إلى قيام الساعة، وانقضاء مدّة الدنيا، وأن الله لم يخلق خلقه باطلاً وعبثاً لغير شيء، بل خلقه للثواب والعقاب‏.‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ‏}‏ أي‏:‏ عما أنذروا وخوّفوا به في القرآن من البعث والحساب والجزاء معرضون مولون غير مستعدّين له، والجملة في محل نصب على الحال، أي‏:‏ والحال أنهم معرضون عنه غير مؤمنين به، و«ما» في قوله‏:‏ ‏{‏مَا أَنْذِرُواْ‏}‏ يجوز أن تكون الموصولة، ويجوز أن تكون المصدرية‏.‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ أي‏:‏ أخبروني ما تعبدون من دون الله من الأصنام ‏{‏أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض‏}‏ أي‏:‏ أيّ شيء خلقوا منها، وقوله‏:‏ ‏{‏أَرُونِىَ‏}‏ يحتمل أن يكون تأكيداً لقوله‏:‏ ‏{‏أَرَءيْتُمْ‏}‏، أي‏:‏ أخبروني أروني، والمفعول الثاني لأرأيتم ‏{‏ماذا خلقوا‏}‏، ويحتمل أن لا يكون تأكيداً، بل يكون هذا من باب التنازع؛ لأن أرأيتم يطلب مفعولاً ثانياً، وأروني كذلك ‏{‏أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السموات‏}‏ أم هذه هي المنقطعة المقدّرة ببل والهمزة، والمعنى‏:‏ بل ألهم شركة مع الله فيها‏؟‏ والاستفهام للتوبيخ والتقريع ‏{‏ائتونى بكتاب مّن قَبْلِ هذا‏}‏ هذا تبكيت لهم، وإظهار لعجزهم، وقصورهم عن الإتيان بذلك، والإشارة بقوله ‏{‏هذا‏}‏ إلى القرآن، فإنه قد صرّح ببطلان الشرك، وأن الله واحد لا شريك له، وأن الساعة حقّ لا ريب فيها، فهل للمشركين من كتاب يخالف هذا الكتاب، أو حجة تنافي هذه الحجة‏.‏ ‏{‏أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ‏}‏‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ ‏{‏أو أثارة من علم‏}‏‏:‏ بقية منه، وكذا الأثرة بالتحريك‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ بقية من علم الأوّلين‏.‏ وقال الفراء، والمبرد‏:‏ يعني‏:‏ ما يؤثر عن كتب الأوّلين‏.‏ قال الواحدي‏:‏ وهو معنى قول المفسرين‏.‏ قال عطاء‏:‏ أو شيء تأثرونه عن نبيّ كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ أو رواية من علم عن الأنبياء‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ أو أثارة أي‏:‏ علامة، والأثارة مصدر كالسماحة والشجاعة، وأصل الكلمة من الأثر، وهي الرواية يقال‏:‏ أثرت الحديث آثره أثرة وأثارة وأثراً‏:‏ إذا ذكرته عن غيرك‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏أثارة‏}‏ على المصدر كالسماحة والغواية‏.‏ وقرأ ابن عباس، وزيد بن علي، وعكرمة، والسلمي، والحسن، وأبو رجاء بفتح الهمزة والثاء من غير ألف‏.‏ وقرأ الكسائي‏:‏ ‏(‏أثرة‏)‏ بضم الهمزة وسكون الثاء ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في دعواكم التي تدّعونها، وهي قولكم إن لله شريكاً، ولم تأتوا بشيء من ذلك، فتبين بطلان قولهم لقيام البرهان العقلي، والنقلي على خلافه‏.‏ ‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ‏}‏ أي‏:‏ لا أحد أضل منه ولا أجهل، فإنه دعا من لا يسمع، فكيف يطمع في الإجابة فضلاً عن جلب نفع، أو دفع ضرّ‏؟‏ فتبين بهذا أنه أجهل الجاهلين وأضلّ الضالين، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، وقوله‏:‏ ‏{‏إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ غاية لعدم الاستجابة ‏{‏وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غافلون‏}‏ الضمير الأوّل للأصنام، والثاني لعابديها، والمعنى‏:‏ والأصنام التي يدعونها عن دعائهم إياها غافلون عن ذلك، لا يسمعون ولا يعقلون لكونهم جمادات، والجمع في الضميرين باعتبار معنى «من»، وأجري على الأصنام ما هو للعقلاء لاعتقاد المشركين فيها أنها تعقل‏.‏ ‏{‏وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء‏}‏ أي‏:‏ إذا حشر الناس العابدين للأصنام كان الأصنام لهم أعداء يتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وقد قيل‏:‏ إن الله يخلق الحياة في الأصنام، فتكذبهم‏.‏ وقيل المراد‏:‏ أنها تكذبهم وتعاديهم بلسان الحال لا بلسان المقال‏.‏ وأما الملائكة، والمسيح، وعزير، والشياطين، فإنهم يتبرّءون ممن عبدهم يوم القيامة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 63‏]‏ ‏{‏وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كافرين‏}‏ أي‏:‏ كان المعبودون بعبادة المشركين إياهم كافرين، أي‏:‏ جاحدين مكذبين، وقيل‏:‏ الضمير في ‏{‏كانوا‏}‏ للعابدين، كما في قوله‏:‏ ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏، والأوّل أولى‏.‏ ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏ أي‏:‏ آيات القرآن حال كونها ‏{‏بينات‏}‏ واضحات المعاني ظاهرات الدلالات ‏{‏قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ‏}‏ أي‏:‏ لأجله وفي شأنه، وهو عبارة عن الآيات ‏{‏لَمَّا جَاءهُمْ‏}‏ أي‏:‏ وقت أن جاءهم ‏{‏هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ ظاهر السحرية ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه‏}‏ أم هي المنقطعة، أي‏:‏ بل أيقولون افتراه‏؟‏ والاستفهام للإنكار والتعجب من صنيعهم، وبل للانتقال عن تسميتهم الآيات سحراً إلى قولهم‏:‏ إن رسول الله افترى ما جاء به، وفي ذلك من التوبيخ والتقريع ما لا يخفى، ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِ افتريته فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ الله شَيْئاً‏}‏ أي‏:‏ قل إن افتريته على سبيل الفرض والتقدير، كما تدّعون، فلا تقدرون على أن تردّوا عني عقاب الله، فكيف أفتري عل الله لأجلكم، وأنتم لا تقدرون على دفع عقابه عني‏؟‏ ‏{‏هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ تخوضون فيه من التكذيب، والإفاضة في الشيء‏:‏ الخوض فيه، والاندفاع فيه، يقال‏:‏ أفاضوا في الحديث، أي‏:‏ اندفعوا فيه، وأفاض البعير‏:‏ إذا دفع جرّته من كرشه، والمعنى‏:‏ الله أعلم بما تقولون في القرآن، وتخوضون فيه من التكذيب له، والقول بأنه سحر وكهانة ‏{‏كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ‏}‏ فإنه يشهد لي بأن القرآن من عنده، وأني قد بلغتكم، ويشهد عليكم بالتكذيب والجحود، وفي هذا وعيد شديد ‏{‏وَهُوَ الغفور الرحيم‏}‏ لمن تاب وآمن، وصدّق بالقرآن وعمل بما فيه، أي‏:‏ كثير المغفرة والرحمة بليغهما‏.‏

‏{‏قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل‏}‏ البدع من كلّ شيء المبدأ، أي‏:‏ ما أنا بأوّل رسول، قد بعث الله قبلي كثيراً من الرسل‏.‏ قيل‏:‏ البدع بمعنى‏:‏ البديع كالخفّ والخفيف، والبديع‏:‏ ما لم ير له مثل، من الابتداع وهو الاختراع، وشيء بدع بالكسر، أي‏:‏ مبتدع، وفلان بدع في هذا الأمر، أي‏:‏ بديع كذا قال الأخفش، وأنشد قطرب‏:‏

فما أنا بدع من حوادث تعتري *** رجالاً غدت من بعد بؤسي وأسعدا

وقرأ عكرمة، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏(‏بدعاً‏)‏ بفتح الدال على تقدير حذف المضاف، أي‏:‏ ما كنت ذا بدع، وقرأ مجاهد بفتح الباء، وكسر الدال على الوصف ‏{‏وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما يفعل بي فيما يستقبل من الزمان هل أبقى في مكة، أو أخرج منها‏؟‏ وهل أموت أو أقتل‏؟‏ وهل تعجل لكم العقوبة أم تمهلون‏؟‏ وهذا إنما هو في الدنيا‏.‏ وأما في الآخرة، فقد علم أنه وأمته في الجنة، وأن الكافرين في النار‏.‏ وقيل‏:‏ إن المعنى‏:‏ ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة، وإنها لما نزلت فرح المشركون، وقالوا‏:‏ كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ولا بنا، وأنه لا فضل له علينا‏؟‏ فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏ والأوّل أولى ‏{‏إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ‏}‏ قرأ الجمهور ‏{‏يوحى‏}‏ مبنياً للمفعول، أي‏:‏ ما أتبع إلاّ القرآن، ولا أبتدع من عندي شيئًا، والمعنى‏:‏ قصر أفعاله صلى الله عليه وسلم على الوحي لا قصر اتباعه على الوحي ‏{‏وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ أنذركم عقاب الله، وأخوّفكم عذابه على وجه الإيضاح‏.‏

وقد أخرج أحمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ابن عباس ‏{‏أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ‏}‏ قال‏:‏ الخط‏.‏ قال سفيان‏:‏ لا أعلم إلاّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني‏:‏ أن الحديث مرفوع لا موقوف على ابن عباس‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن مردويه عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ كان نبيّ من الأنبياء يخط، فمن صادف مثل خطه علم ‏"‏ ومعنى هذا ثابت في الصحيح، ولأهل العلم فيه تفاسير مختلفة‏.‏ ومن أين لنا أن هذه الخطوط الرملية موافقة لذلك الخط‏؟‏ وأين السند الصحيح إلى ذلك النبيّ‏؟‏ أو إلى نبينا صلى الله عليه وسلم أن هذا الخط هو على صورة كذا، فليس ما يفعله أهل الرمل إلاّ جهالات وضلالات‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ‏}‏ قال‏:‏ حسن الخط ‏"‏ وأخرج الطبراني في الأوسط، والحاكم من طريق الشعبي، عن ابن عباس ‏{‏أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ‏}‏ قال‏:‏ خط كان يخطه العرب في الأرض‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس ‏{‏أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ‏}‏ يقول‏:‏ بينة من الأمر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل‏}‏ يقول‏:‏ لست بأوّل الرسل ‏{‏وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ‏}‏ فأنزل الله بعد هذا ‏{‏لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات‏}‏ الآية ‏[‏الفتح‏:‏ 5‏]‏، فأعلم سبحانه نبيه ما يفعل به، وبالمؤمنين جميعاً‏.‏ وأخرج أبو داود في ناسخه عنه أيضاً أن هذه الآية منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏لّيَغْفِرَ لَكَ الله‏}‏ وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أمّ العلاء قالت‏:‏ لما مات عثمان بن مظعون قلت‏:‏ رحمك الله أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ وما يدريك أن الله أكرمه‏؟‏ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم»، قالت أمّ العلاء‏:‏ فوالله لا أزكي بعده أحداً ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 16‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏12‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏13‏)‏ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ أخبروني ‏{‏إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله‏}‏ يعني‏:‏ ما يوحى إليه من القرآن، وقيل المراد‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى‏:‏ إن كان مرسلاً من عند غير الله، وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَفَرْتُمْ بِهِ‏}‏ في محل نصب على الحال بتقدير قد، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِهِ‏}‏ والمعنى‏:‏ أخبروني إن كان ذلك في الحقيقة من عند الله والحال أنكم قد كفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل العالمين بما أنزل الله في التوراة على مثله، أي‏:‏ القرآن من المعاني الموجودة في التوراة، المطابقة له من إثبات التوحيد، والبعث والنشور وغير ذلك، وهذه المثلية هي باعتبار تطابق المعاني، وإن اختلفت الألفاظ‏.‏ وقال الجرجاني‏:‏ مثل صلة، والمعنى‏:‏ وشهد شاهد عليه أنه من عند الله، وكذا قال الواحدي، ‏{‏فَئَامَنَ‏}‏ الشاهد بالقرآن لما تبين له أنه من كلام الله، ومن جنس ما ينزله على رسله، وهذا الشاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام، كما قال الحسن، ومجاهد، وقتادة، وعكرمة وغيرهم، وفي هذا نظر فإن السورة مكية بالإجماع، وعبد الله بن سلام كان إسلامه بعد الهجرة، فيكون المراد بالشاهد‏:‏ رجلاً من أهل الكتاب قد آمن بالقرآن في مكة وصدقه، واختار هذا ابن جرير، وسيأتي في آخر البحث ما يترجح به أنه عبد الله بن سلام، وأن هذه الآية مدنية لا مكية‏.‏ وروي عن مسروق أن المراد بالرجل‏:‏ موسى عليه السلام، وقوله‏:‏ ‏{‏واستكبرتم‏}‏ معطوف على شهد، أي‏:‏ آمن الشاهد، واستكبرتم أنتم عن الإيمان ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ فحرمهم الله سبحانه الهداية؛ لظلمهم لأنفسهم بالكفر بعد قيام الحجة الظاهرة على وجوب الإيمان، ومن فقد هداية الله له ضلّ‏.‏

وقد اختلف في جواب الشرط ماذا هو‏؟‏ فقال الزجاج‏:‏ محذوف، تقديره‏:‏ أتؤمنون، وقيل‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فآمن واستكبرتم‏}‏ وقيل‏:‏ محذوف، تقديره‏:‏ فقد ظلمتم لدلالة ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ عليه، وقيل تقديره‏:‏ فمن أضلّ منكم، كما في قوله‏:‏ ‏{‏أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أضل‏}‏ الآية ‏[‏فصلت‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وقال أبو علي الفارسي تقديره‏:‏ أتأمنون عقوبة الله‏؟‏ وقيل‏:‏ التقدير‏:‏ ألستم ظالمين‏؟‏ ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من أقاويلهم الباطلة فقال‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ أي‏:‏ لأجلهم، ويجوز أن تكون هذه اللام هي لام التبليغ ‏{‏لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ لو كان ما جاء به محمد من القرآن والنبوّة خيراً ما سبقونا إليه؛ لأنهم عند أنفسهم المستحقون للسبق إلى كل مكرمة، ولم يعلموا أن الله سبحانه يختصّ برحمته من يشاء، ويعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء، ويصطفي لدينه من يشاء ‏{‏وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ بالقرآن، وقيل‏:‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ بالإيمان ‏{‏فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ‏}‏، فجاوزوا نفي خيرية القرآن إلى دعوى أنه كذب قديم، كما قالوا أساطير الأوّلين، والعامل في «إذ» مقدّر، أي‏:‏ ظهر عنادهم، ولا يجوز أن يعمل فيه ‏{‏فَسَيَقُولُونَ‏}‏ لتضادّ الزمانين، أعني‏:‏ المضيّ والاستقبال ولأجل الفاء أيضاً، وقيل‏:‏ إن العامل فيه فعل مقدّر من جنس المذكور، أي‏:‏ لم يهتدوا به، وإذ لم يهتدوا به فسيقولون‏:‏ ‏{‏وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى‏}‏ قرأ الجمهور بكسر الميم من ‏(‏من‏)‏ على أنها حرف جرّ، وهي مع مجرورها خبر مقدّم، وكتاب موسى مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب على الحال، أو هي مستأنفة، والكلام مسوق لردّ قولهم‏:‏ ‏{‏هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ‏}‏ فإن كونه قد تقدّم القرآن كتاب موسى، وهو التوراة وتوافقا في أصول الشرائع يدلّ على أنه حقّ، وأنه من عند الله، ويقتضي بطلان قولهم‏.‏

وقرئ بفتح ميم «من» على أنها موصولة ونصب كتاب، أي‏:‏ وآتينا من قبله كتاب موسى، ورويت هذه القراءة عن الكلبي ‏{‏إَمَامًا وَرَحْمَةً‏}‏ أي‏:‏ يقتدى به في الدين، ورحمة من الله لمن آمن به، وهما منتصبان على الحال، قاله الزجاج وغيره‏.‏ وقال الأخفش على القطع، وقال أبو عبيدة‏:‏ أي‏:‏ جعلناه إماماً ورحمة ‏{‏وهذا كتاب مُّصَدّقٌ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن فإنه مصدّق لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة، ولغيره من كتب الله، وقيل‏:‏ مصدّق للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وانتصاب ‏{‏لّسَاناً عَرَبِيّاً‏}‏ على الحال الموطئة، وصاحبها الضمير في مصدّق العائد إلى كتاب، وجوّز أبو البقاء أن يكون مفعولاً لمصدّق، والأوّل أولى، وقيل‏:‏ هو على حذف مضاف أي‏:‏ ذا لسان عربيّ، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم ‏{‏لّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ‏}‏ قرأ الجمهور ‏{‏لينذر‏}‏ بالتحتية على أن فاعله ضمير يرجع إلى الكتاب أي‏:‏ لينذر الكتاب، الذين ظلموا، وقيل‏:‏ الضمير راجع إلى الله، وقيل‏:‏ إلى الرسول، والأوّل أولى‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، والبزي بالفوقية على أن فاعله النبي صلى الله عليه وسلم، واختار هذه القراءة أبو حاتم، وأبو عبيد، وقوله‏:‏ ‏{‏وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ‏}‏ في محل نصب عطفاً على محل ‏{‏لينذر‏}‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الأجود أن يكون في محل رفع أي‏:‏ وهو بشرى، وقيل‏:‏ على المصدرية لفعل محذوف، أي‏:‏ وتبشر بشرى، وقوله‏:‏ ‏{‏لّلْمُحْسِنِينَ‏}‏ متعلق ببشرى ‏{‏إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا‏}‏ أي‏:‏ جمعوا بين التوحيد والاستقامة على الشريعة، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة السجدة ‏{‏فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ الفاء زائدة في خبر الموصول لما فيه من معنى الشرط ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ المعنى‏:‏ أنهم لا يخافون من وقوع مكروه بهم، ولا يحزنون من فوات محبوب، وأن ذلك مستمر دائم‏.‏

‏{‏أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة‏}‏ أي‏:‏ أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب الجنة التي هي دار المؤمنين حال كونهم ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏، وفي هذه الآية من الترغيب أمر عظيم، فإن نفي الخوف والحزن على الدوام، والاستقرار في الجنة على الأبد، مما لا تطلب الأنفس سواه، ولا تتشوّف إلى ما عداه ‏{‏جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ يجزون جزاء بسبب أعمالهم التي عملوها من الطاعات لله، وترك معاصيه‏.‏ ‏{‏وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً‏}‏ قرأ الجمهور ‏{‏حسناً‏}‏ بضم الحاء، وسكون السين‏.‏ وقرأ عليّ، والسلمي بفتحهما، وقرأ ابن عباس، والكوفيون ‏{‏إحساناً‏}‏ وقد تقدّم في سورة العنكبوت‏:‏ ‏{‏وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 8‏]‏ من غير اختلاف بين القراء، وتقدّم في سورة الأنعام، وسورة بني إسرائيل ‏{‏وبالوالدين إحسانا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23، الأنعام‏:‏ 151‏]‏ فلعل هذا هو وجه اختلاف القراء في هذه الآية، وعلى جميع هذه القراءات، فانتصابه على المصدرية، أي‏:‏ وصيناه أن يحسن إليهما حسناً، أو إحساناً، وقيل‏:‏ على أنه مفعول به بتضمين وصينا معنى‏:‏ ألزمنا، وقيل‏:‏ على أنه مفعول له ‏{‏حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً‏}‏ قرأ الجمهور ‏{‏كرها‏}‏ في الموضعين بضم الكاف‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وأهل الحجاز بفتحهما‏.‏ قال الكسائي‏:‏ وهما لغتان بمعنى واحد‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ الكره بالفتح لا يحسن؛ لأنه الغضب والغلبة، واختار أبو عبيد قراءة الفتح قال‏:‏ لأن لفظ الكره في القرآن كله بالفتح إلاّ التي في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏ وقيل‏:‏ إن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره‏.‏ وإنما ذكر سبحانه حمل الأمّ ووضعها تأكيداً لوجوب الإحسان إليها الذي وصى الله به، والمعنى‏:‏ أنها حملته ذات كره، ووضعته ذات كره، ثم بيّن سبحانه مدّة حمله وفصاله فقال‏:‏ ‏{‏وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً‏}‏ أي‏:‏ مدتهما هذه المدّة من عند ابتداء حمله إلى أن يفصل من الرضاع، أي‏:‏ يفطم عنه‏.‏ وقد استدلّ بهذه الآية على أن أقلّ الحمل ستة أشهر؛ لأن مدّة الرضاع سنتان، أي‏:‏ مدّة الرضاع الكامل، كما في قوله‏:‏ ‏{‏حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ فذكر سبحانه في هذه الآية أقل مدّة الحمل، وأكثر مدّة الرضاع‏.‏ وفي هذه الآية إشارة إلى أن حق الأم آكد من حق الأب؛ لأنها حملته بمشقة، ووضعته بمشقة، وأرضعته هذه المدّة بتعب ونصب، ولم يشاركها الأب في شيء من ذلك‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏وفصاله‏}‏ بالألف، وقرأ الحسن، ويعقوب، وقتادة، والجحدري ‏(‏وفصله‏)‏ بفتح الفاء، وسكون الصاد بغير ألف، والفصل والفصال بمعنى‏:‏ كالفطم والفطام، والقطف والقطاف ‏{‏حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ‏}‏ أي‏:‏ بلغ استحكام قوّته وعقله، وقد مضى تحقيق الأشد مستوفى، ولا بدّ من تقدير جملة تكون حتى غاية لها، أي‏:‏ عاش واستمرّت حياته حتى بلغ أشدّه، قيل‏:‏ بلغ عمره ثماني عشرة سنة، وقيل‏:‏ الأشد‏:‏ الحلم قاله الشعبي، وابن زيد‏.‏

وقال الحسن‏:‏ هو بلوغ الأربعين، والأوّل أولى لقوله‏:‏ ‏{‏وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً‏}‏، فإن هذا يفيد أن بلوغ الأربعين هو شيء وراء بلوغ الأشد‏.‏ قال المفسرون‏:‏ لم يبعث الله نبياً قط إلاّ بعد أربعين سنة ‏{‏قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى‏}‏ أي‏:‏ ألهمني‏.‏ قال الجوهري‏:‏ استوزعت الله فأوزعني، أي‏:‏ استلهمته فألهمني ‏{‏أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ‏}‏ أي‏:‏ ألهمني شكر ما أنعمت به عليّ من الهداية، وعلى والديّ من التحنن عليّ منهما حين ربياني صغيراً‏.‏ وقيل‏:‏ أنعمت عليّ بالصحة والعافية، وعلى والديّ بالغنى والثروة، والأولى عدم تقييد النعمة عليه، وعلى أبويه بنعمة مخصوصة ‏{‏وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه‏}‏ أي‏:‏ وألهمني أن أعمل عملاً صالحاً ترضاه مني ‏{‏وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى‏}‏ أي‏:‏ اجعل ذرّيتي صالحين راسخين في الصلاح متمكنين منه‏.‏ وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي لمن بلغ عمره أربعين سنة أن يستكثر من هذه الدعوات، وقد روي أنها نزلت في أبي بكر، كما سيأتي في آخر البحث ‏{‏إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ‏}‏ من ذنوبي ‏{‏وَإِنّى مِنَ المسلمين‏}‏ أي‏:‏ المستسلمين لك المنقادين لطاعتك المخلصين لتوحيدك‏.‏ والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إلى الإنسان المذكور، والجمع لأنه يراد به الجنس، وهو مبتدأ، وخبره‏:‏ ‏{‏الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ‏}‏ من أعمال الخير في الدنيا، والمراد بالأحسن‏:‏ الحسن، كقوله‏:‏ ‏{‏واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 55‏]‏ وقيل‏:‏ إن اسم التفضيل على معناه، ويراد به‏:‏ ما يثاب العبد عليه من الأعمال، لاما لا يثاب عليه كالمباح فإنه حسن، وليس بأحسن ‏{‏وَنَتَجَاوَزُ عَن سيئاتهم‏}‏ فلا نعاقبهم عليها‏.‏ قرأ الجمهور ‏(‏يتقبل، ويتجاوز‏)‏ على بناء الفعلين للمفعول، وقرأ حمزة، والكسائي بالنون فيهما على إسنادهما إلى الله سبحانه، والتجاوز الغفران، وأصله من جزت الشئ‏:‏ إذا لم تقف عليه، ومعنى ‏{‏فِى أصحاب الجنة‏}‏‏:‏ أنهم كائنون في عدادهم منتظمون في سلكهم، فالجارّ والمجرور في محل النصب على الحال كقولك‏:‏ أكرمني الأمير في أصحابه أي‏:‏ كائناً في جملتهم، وقيل‏:‏ إن «في» بمعنى «مع» أي‏:‏ مع أصحاب الجنة، وقيل‏:‏ إنهما خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ هم في أصحاب الجنة ‏{‏وَعْدَ الصدق الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ‏}‏ وعد الصدق مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة؛ لأن قوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ‏}‏ إلخ في معنى الوعد بالتقبل والتجاوز، ويجوز أن يكون مصدراً لفعل محذوف، أي‏:‏ وعدهم الله وعد الصدق الذي كانوا يوعدون به على ألسن الرسل في الدنيا‏.‏

وقد أخرج أبو يعلى، وابن جرير، والطبراني، والحاكم وصححه عن عوف بن مالك الأشجعي‏:‏ انطلق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، يحطّ الله تعالى عن كل يهوديّ تحت أديم السماء الغضب الذي عليه»، فسكتوا، فما أجابه منهم أحد، ثم ردّ عليهم فلم يجبه أحد ثلاثاً، فقال‏:‏ «أبيتم فوالله لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا المقفى آمنتم أو كذبتم»، ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا أن نخرج، فإذا رجل من خلفه، فقال‏:‏ كما أنت يا محمد فأقبل، فقال ذلك الرجل‏:‏ أيّ رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود، فقالوا‏:‏ والله ما نعلم فينا رجلاً أعلم بكتاب الله، ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدّك، قال‏:‏ فإني أشهد بالله أنه النبيّ الذي تجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل، قالوا‏:‏ كذبت، ثم ردّوا عليه وقالوا شراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كذبتم لن يقبل منكم قولكم»، فخرجنا ونحن ثلاثة‏:‏ رسول الله وأنا وابن سلام، فأنزل الله ‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ وصححه السيوطي‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض‏:‏ «إنه من أهل الجنة» إلاّ لعبد الله بن سلام، وفيه نزلت‏:‏ ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِهِ‏}‏ وأخرج الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال‏:‏ نزل فيّ آيات من كتاب الله نزلت فيّ‏:‏ ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل‏}‏، ونزل فيّ ‏{‏قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل‏}‏ قال‏:‏ عبد الله بن سلام‏.‏ وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين‏.‏ وفيه دليل على أن هذه الآية مدنية، فيخصص بها عموم قولهم إن سورة الأحقاف كلها مكية‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال‏:‏ قال ناس من المشركين‏:‏ نحن أعزّ ونحن ونحن، فلو كان خيراً ما سبقنا إليه فلان وفلان، فنزل‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال‏:‏ كانت لعمر بن الخطاب أمة أسلمت قبله‏:‏ يقال لها‏:‏ زنيرة، وكان عمر يضربها على الإسلام، وكان كفار قريش يقولون‏:‏ لو كان خيراً ما سبقتنا إليه زنيرة، فأنزل الله في شأنها‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج الطبراني عن سمرة بن جندب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«بنو غفار وأسلم كانوا لكثير من الناس فتنة، يقولون‏:‏ لو كان خيراً ما جعلهم الله أوّل الناس فيه»‏.‏

وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس قال‏:‏ نزل قوله‏:‏ ‏{‏وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه‏}‏ الآية إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَعْدَ الصدق الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ‏}‏ في أبي بكر الصديق‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن نافع بن جبير أن ابن عباس أخبره قال‏:‏ إني لصاحب المرأة التي أتى بها عمر وضعت لستة أشهر فأنكر الناس ذلك، فقلت لعمر‏:‏ لم تظلم‏؟‏ قال‏:‏ كيف‏؟‏ قلت اقرأ‏:‏ ‏{‏وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً‏}‏ ‏{‏والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ كم الحول‏؟‏ قال‏:‏ سنة، قلت‏:‏ كم السنة‏؟‏ قال‏:‏ اثنا عشر شهراً، قلت‏:‏ فأربعة وعشرون شهراً حولان كاملان؛ ويؤخر الله من الحمل ما شاء، ويقدّم ما شاء، فاستراح عمر إلى قولي‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أنه كان يقول‏:‏ إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهراً، وإذا ولدت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهراً، وإذا وضعت لستة أشهر، فحولان كاملان، لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً‏}‏‏.‏ وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال‏:‏ أنزلت هذه الآية في أبي بكر الصدّيق ‏{‏حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى‏}‏ الآية، فاستجاب الله له، فأسلم والداه جميعاً وإخوته، وولده كلهم، ونزلت فيه أيضاً ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 20‏]‏

‏{‏وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏17‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏18‏)‏ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه من شكر نعمة الله سبحانه عليه، وعلى والديه ذكر من قال لهما قولاً يدلّ على التضجر منهما عند دعوتهما له إلى الإيمان، فقال‏:‏ ‏{‏والذى قَالَ لوالديه أُفّ لَّكُمَا‏}‏ الموصول عبارة عن الجنس القائل ذلك القول، ولهذا أخبر عنه بالجمع، وأفٍّ كلمة تصدر عن قائلها عند تضجره من شيء يرد عليه‏.‏ قرأ نافع وحفص و‏{‏أفٍّ‏}‏ بكسر الفاء مع التنوين‏.‏ وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وابن محيصن بفتحها من غير تنوين، وقرأ الباقون بكسر من غير تنوين وهي لغات‏.‏ وقد مضى بيان الكلام في هذا في سورة بني إسرائيل‏.‏ ‏[‏أي‏:‏ سورة الإِسراء‏]‏، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لَّكُمَا‏}‏ لبيان التأفيف، أي‏:‏ التأفيف لكما، كما في قوله‏:‏ ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏ قرأ الجمهور ‏{‏أتعدانني‏}‏ بنونين مخففتين، وفتح ياءه أهل المدينة ومكة، وأسكنها الباقون‏.‏ وقرأ أبو حيوة، والمغيرة، وهشام بإدغام إحدى النونين في الأخرى، ورويت هذه القراءة عن نافع‏.‏ وقرأ الحسن، وشيبة، وأبو جعفر، وعبد الوارث عن أبي عمرو بفتح النون الأولى، كأنهم فرّوا من توالي مثلين مكسورين‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أن أخرج‏}‏ بضم الهمزة وفتح الراء مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ الحسن، ونصر، وأبو العالية، والأعمش، وأبو معمر بفتح الهمزة وضم الراء مبنياً للفاعل‏.‏ والمعنى‏:‏ أتعدانني أن أبعث بعد الموت، وجملة ‏{‏وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى‏}‏ في محل نصب على الحال، أي‏:‏ والحال أن قد مضت القرون من قبلي فماتوا، ولم يبعث منهم أحد، وهكذا جملة‏:‏ ‏{‏وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ الله‏}‏ في محل نصب على الحال، أي‏:‏ والحال أنهما يستغيثان الله له، ويطلبان منه التوفيق إلى الإيمان، واستغاث يتعدّى بنفسه وبالباء يقال‏:‏ استغاث الله، واستغاث به‏.‏ وقال الرازي‏:‏ معناه يستغيثان بالله من كفره، فلما حذف الجار وصل الفعل، وقيل‏:‏ الاستغاثة‏:‏ الدعاء، فلا حاجة إلى الباء‏.‏ قال الفراء‏:‏ يقال‏:‏ أجاب الله دعاءه وغواثه، وقوله‏:‏ ‏{‏وَيْلَكَ‏}‏ هو بتقدير القول، أي‏:‏ يقولان له‏:‏ ويلك، وليس المراد به‏:‏ الدعاء عليه، بل الحثّ له على الإيمان، ولهذا قالا له‏:‏ ‏{‏آمن إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ أي‏:‏ آمن بالبعث إن وعد الله حقّ لا خلف فيه ‏{‏فَيَقُولُ‏}‏ عند ذلك مكذباً لما قالاه‏:‏ ‏{‏مَا هذا إِلاَّ أساطير الأولين‏}‏ أي‏:‏ ما هذا الذي تقولانه من البعث إلاّ أحاديث الأوّلين، وأباطيلهم التي سطّروها في الكتب‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏إن وعد الله‏}‏ بكسر إن على الاستئناف، أو التعليل، وقرأ عمر بن فايد والأعرج بفتحها، على أنها معمولة لآمن بتقدير الباء، أي‏:‏ آمن بأن وعد الله بالبعث حقّ ‏{‏أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول‏}‏ أي‏:‏ أولئك القائلون هذه المقالات هم الذين حقّ عليهم القول، أي‏:‏ وجب عليهم العذاب بقوله سبحانه لإبليس‏:‏

‏{‏لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏ كما يفيده قوله‏:‏ ‏{‏فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس‏}‏، وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين‏}‏ تعليل لما قبله، وهذا يدفع كون سبب نزول الآية عبد الرحمن بن أبي بكر، وأنه الذي قال لوالديه ما قال، فإنه من أفاضل المؤمنين، وليس ممن حقت عليه كلمة العذاب، وسيأتي بيان سبب النزول في آخر البحث إن شاء الله‏.‏ ‏{‏وَلِكُلّ درجات مّمَّا عَمِلُواْ‏}‏ أي‏:‏ لكلّ فريق من الفريقين المؤمنين، والكافرين من الجنّ والإنس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفلاً، ودرجات أهل الجنة تذهب علوًّا ‏{‏وَلِيُوَفّيَهُمْ أعمالهم‏}‏ أي‏:‏ جزاء أعمالهم‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏(‏لنوفيهم‏)‏ بالنون‏.‏ وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، وعاصم، وأبو عمرو، ويعقوب بالياء التحتية‏.‏ واختار أبو عبيد القراءة الأولى، واختار الثانية أبو حاتم ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يزاد مسيء، ولا ينقص محسن، بل يوفّى كل فريق ما يستحقه من خير وشرّ، والجملة في محلّ نصب على الحال، أو مستأنفة مقررة لما قبلها ‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار‏}‏ الظرف متعلق بمحذوف، أي‏:‏ اذكر لهم يا محمد يوم ينكشف الغطاء، فينظرون إلى النار ويقربون منها، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏يعرضون‏}‏‏:‏ يعذبون، من قولهم‏:‏ عرضه على السيف، وقيل‏:‏ في الكلام قلب‏.‏ والمعنى‏:‏ تعرض النار عليهم ‏{‏أَذْهَبْتُمْ طيباتكم فِى حياتكم الدنيا‏}‏ أي‏:‏ يقال لهم ذلك، قيل‏:‏ وهذا المقدّر هو الناصب للظرف، والأوّل أولى‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏أذهبتم‏}‏ بهمزة واحدة، وقرأ الحسن، ونصر، وأبو العالية، ويعقوب، وابن كثير بهمزتين مخففتين‏.‏ ومعنى الاستفهام‏:‏ التقريع والتوبيخ‏.‏ قال الفراء، والزجاج‏:‏ العرب توبخ بالاستفهام وبغيره، فالتوبيخ كائن على القراءتين‏.‏ قال الكلبي‏:‏ المراد بالطيبات‏:‏ اللذات، وما كانوا فيه من المعايش ‏{‏واستمتعتم بِهَا‏}‏ أي‏:‏ بالطيبات، والمعنى‏:‏ أنهم اتبعوا الشهوات واللذات التي في معاصي الله سبحانه، ولم يبالوا بالذنب تكذيباً منهم لما جاءت به الرّسل من الوعد بالحساب والعقاب والثواب ‏{‏فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون‏}‏ أي‏:‏ العذاب الذي فيه ذلّ لكم، وخزي عليكم‏.‏ قال مجاهد، وقتادة‏:‏ الهون‏:‏ الهوان بلغة قريش ‏{‏بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الحق‏}‏ أي‏:‏ بسبب تكبركم عن عبادة الله، والإيمان به وتوحيده ‏{‏وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ‏}‏ أي‏:‏ تخرجون عن طاعة الله، وتعملون بمعاصيه، فجعل السبب في عذابهم أمرين‏:‏ التكبر عن اتباع الحق، والعمل بمعاصي الله سبحانه وتعالى، وهذا شأن الكفرة، فإنهم قد جمعوا بينهما‏.‏

وقد أخرج البخاري عن يوسف بن ماهك قال‏:‏ كان مروان على الحجاز استعمله معاوية بن أبي سفيان، فخطب، فجعل يذكر يزيد بن معاوية؛ لكي يبايع له بعد أبيه، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئًا، فقال‏:‏ خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه، فقال مروان‏:‏ إن هذا أنزل فيه‏:‏ ‏{‏والذى قَالَ لوالديه أُفّ لَّكُمَا‏}‏ فقالت عائشة‏:‏ ما أنزل الله فينا شيئًا من القرآن إلاّ أن الله أنزل عُذري‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، والنسائي، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن محمد بن زياد قال‏:‏ لما بايع معاوية لابنه، قال مروان‏:‏ سنة أبي بكر، وعمر، فقال عبد الرحمن‏:‏ سنة هرقل، وقيصر، فقال مروان‏:‏ هذا الذي قال الله فيه‏:‏ ‏{‏والذى قَالَ لوالديه أُفّ لَّكُمَا‏}‏ الآية، فبلغ ذلك عائشة فقالت‏:‏ كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته، ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان، ومروان في صلبه، فمروان من لعنه الله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ هذا ابن لأبي بكر‏.‏ وأخرج نحوه أبو حاتم عن السديّ، ولا يصح هذا كما قدّمنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 28‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏21‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏22‏)‏ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏23‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏24‏)‏ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏25‏)‏ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏27‏)‏ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏واذكر أَخَا عَادٍ‏}‏ أي‏:‏ واذكر يا محمد لقومك أخا عاد، وهو هود بن عبد الله بن رباح، كان أخاهم في النسب، لا في الدين، وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ‏}‏ بدل اشتمال منه، أي‏:‏ وقت إنذاره إياهم ‏{‏بالأحقاف‏}‏ وهي ديار عاد، جمع حقف، وهو الرمل العظيم المستطيل المعوج قاله الخليل وغيره، وكانوا قهروا أهل الأرض بقوّتهم، والمعنى‏:‏ أن الله سبحانه أمره أن يذكر لقومه قصتهم؛ ليتعظوا ويخافوا، وقيل‏:‏ أمره بأن يتذكر في نفسه قصتهم مع هود؛ ليقتدي به ويهون عليه تكذيب قومه‏.‏ قال عطاء‏:‏ الأحقاف‏:‏ رمال بلاد الشحر‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هي باليمن في حضرموت، وقال ابن زيد‏:‏ هي رمال مبسوطة مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالاً ‏{‏وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ‏}‏ أي‏:‏ وقد مضت الرسل من قبله ومن بعده، كذا قال الفراء وغيره‏.‏ وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ ‏(‏من بين يديه ومن بعده‏)‏ والجملة في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون معترضة بين إنذار هود، وبين قوله لقومه‏:‏ ‏{‏إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ‏}‏ والأوّل أولى‏.‏ والمعنى‏:‏ أعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله، والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره، ثم رجع إلى كلام هود لقومه، فقال حاكياً عنه‏:‏ ‏{‏إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ وقيل‏:‏ إن جعل تلك الجملة اعتراضية أولى بالمقام، وأوفق بالمعنى ‏{‏قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءالِهَتِنَا‏}‏ أي‏:‏ لتصرفنا عن عبادتها، وقيل‏:‏ لتزيلنا، وقيل‏:‏ لتمنعنا، والمعنى متقارب، ومنه قول عروة بن أذينة‏:‏

إن تك عن حسن الصنيعة مأفو *** كاً ففي آخرين قد أفكوا

يقول‏:‏ إن لم توفق للإحسان، فأنت في قوم قد صرفوا عن ذلك‏.‏ ‏{‏فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا‏}‏ من العذاب العظيم ‏{‏إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ في وعدك لنا به‏.‏ ‏{‏قَالَ إِنَّمَا العلم عِندَ الله‏}‏ أي‏:‏ إنما العلم بوقت مجيئه عند الله لا عندي ‏{‏وَأُبَلّغُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ‏}‏ إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار، فأما العلم بوقت مجيء العذاب، فما أوحاه إليّ ‏{‏ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ‏}‏ حيث بقيتم مصرّين على كفركم، ولم تهتدوا بما جئتكم به، بل اقترحتم عليّ ما ليس من وظائف الرسل‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً‏}‏ الضمير يرجع إلى «ما» في قوله‏:‏ ‏{‏بِمَا تَعِدُنَا‏}‏‏.‏ وقال المبرد، والزجاج‏:‏ الضمير في ‏{‏رَأَوْهُ‏}‏ يعود إلى غير مذكور، وبينه قوله‏:‏ ‏{‏عَارِضاً‏}‏، فالضمير يعود إلى السحاب، أي‏:‏ فلما رأوا السحاب عارضاً، ف ‏{‏عارضاً‏}‏ نصب على التكرير، يعني‏:‏ التفسير، وسمي السحاب عارضاً لأنه يبدو في عرض السماء‏.‏ قال الجوهري‏:‏ العارض‏:‏ السحاب يعترض في الأفق، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا‏}‏ وانتصاب ‏{‏عارضاً‏}‏ على الحال، أو التمييز ‏{‏مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ متوجهاً نحو أوديتهم‏.‏

قال المفسرون‏:‏ كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياماً، فساق الله إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد لهم يقال له‏:‏ المعتب، فلما رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا، و‏{‏قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا‏}‏ أي‏:‏ غيم فيه مطر، وقوله‏:‏ ‏{‏مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ‏}‏ صفة لعارض؛ لأن إضافته لفظية لا معنوية، فصح وصف النكرة به، وهكذا ممطرنا، فلما قالوا ذلك أجاب عليهم هود، فقال‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ من العذاب حيث قالوا‏:‏ ‏{‏فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏رِيحٌ‏}‏ بدل من ما، أو خبر مبتدأ محذوف، وجملة‏:‏ ‏{‏فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ صفة لريح، والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه‏.‏ ‏{‏تُدَمّرُ كُلَّ شَئ بِأَمْرِ رَبّهَا‏}‏ هذه الجملة صفة ثانية لريح، أي‏:‏ تهلك كل شيء مرّت به من نفوس عاد وأموالها، والتدمير‏:‏ الإهلاك، وكذا الدمار، وقرئ ‏(‏يدمر‏)‏ بالتحتية مفتوحة وسكون الدال وضم الميم، ورفع ‏(‏كلّ‏)‏ على الفاعلية من دمر دماراً، ومعنى ‏{‏بِأَمْرِ رَبّهَا‏}‏‏:‏ أن ذلك بقضائه وقدره ‏{‏فَأْصْبَحُواْ لاَ تَرَى إلا مساكنهم‏}‏ أي‏:‏ لا ترى أنت يا محمد، أو كل من يصلح للرؤية إلاّ مساكنهم بعد ذهاب أنفسهم وأموالهم‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏لا ترى‏}‏ بالفوقية على الخطاب، ونصب مساكنهم‏.‏ وقرأ حمزة، وعاصم بالتحتية مضمومة مبنياً للمفعول، ورفع مساكنهم‏.‏ قال سيبويه‏:‏ معناه لا يرى أشخاصهم إلاّ مساكنهم، واختار أبو عبيد، وأبو حاتم القراءة الثانية‏.‏ قال الكسائي، والزجاج‏:‏ معناها لا يرى شيء إلاّ مساكنهم، فهي محمولة على المعنى كما تقول‏:‏ ما قام إلاّ هند، والمعنى‏:‏ ما قام أحد إلاّ هند، وفي الكلام حذف، والتقدير‏:‏ فجاءتهم الريح فدمرتهم، فأصبحوا لا يرى إلاّ مساكنهم ‏{‏كذلك نَجْزِي القوم المجرمين‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الجزاء نجزي هؤلاء، وقد مرّ بيان هذه القصة في سورة الأعراف‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ‏}‏ قال المبرد‏:‏ ما في قوله‏:‏ ‏{‏فيما‏}‏ بمنزلة ‏"‏ الذي ‏"‏، و‏"‏ إن ‏"‏ بمنزلة ‏"‏ ما ‏"‏، يعني‏:‏ النافية، وتقديره‏:‏ ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من المال وطول العمر وقوّة الأبدان، وقيل‏:‏ «إن» زائدة، وتقديره‏:‏ ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه، وبه قال القتيبي، ومثله قول الشاعر‏:‏

فما إن طبنا جبن ولكن *** منايانا ودولة آخرينا

والأوّل أولى؛ لأنه أبلغ في التوبيخ لكفار قريش، وأمثالهم ‏{‏وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأبصارا وَأَفْئِدَةً‏}‏ أي‏:‏ إنهم أعرضوا عن قبول الحجة، والتذكر مع ما أعطاهم الله من الحواسّ التي بها تدرك الأدلة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أبصارهم وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَئ‏}‏ أي‏:‏ فما نفعهم ما أعطاهم الله من ذلك حيث لم يتوصلوا به إلى التوحيد، وصحة الوعد والوعيد، وقد قدّمنا من الكلام على وجه إفراد السمع، وجمع البصر ما يغني عن الإعادة، و«من» في ‏{‏مِن شَئ‏}‏ زائدة، والتقدير‏:‏ فما أغنى عنهم شيء من الإِغناء، ولا نفعهم بوجه من وجوه النفع ‏{‏إذ كانوا يجحدون بآيات الله‏}‏ الظرف متعلق ب ‏{‏أغنى‏}‏، وفيها معنى التعليل أي‏:‏ لأنهم كانوا يجحدون ‏{‏وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يستهزئون‏}‏ أي‏:‏ أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء حيث قالوا‏:‏ ‏{‏فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مّنَ القرى‏}‏ الخطاب لأهل مكة، والمراد بما حولهم من القرى‏:‏ قرى ثمود، وقرى لوط، ونحوهما مما كان مجاوراً لبلاد الحجاز، وكانت أخبارهم متواترة عندهم ‏{‏وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ أي‏:‏ بينا الحجج ونوّعناها؛ لكي يرجعوا عن كفرهم فلم يرجعوا‏.‏ ثم ذكر سبحانه أنه لم ينصرهم من عذاب الله ناصر، فقال‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً ءالِهَةَ‏}‏ أي‏:‏ فهلا نصرهم آلهتهم التي تقرّبوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا‏:‏ ‏{‏هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم‏.‏ قال الكسائي‏:‏ القربان‏:‏ كل ما يتقرّب به إلى الله من طاعة ونسيكة، والجمع قرابين، كالرهبان والرهابين، وأحد مفعولي ‏{‏اتخذوا‏}‏ ضمير راجع إلى الموصول، والثاني آلهة، و‏{‏قرباناً‏}‏ حال، ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً، و‏{‏آلهةً‏}‏ بدلاً منه لفساد المعنى، وقيل‏:‏ يصح ذلك ولا يفسد المعنى، ورجحه ابن عطية، وأبو البقاء، وأبو حيان، وأنكر أن يكون في المعنى فساد على هذا الوجه ‏{‏بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ غابوا عن نصرهم، ولم يحضروا عند الحاجة إليهم، وقيل‏:‏ بل هلكوا، وقيل‏:‏ الضمير في ضلوا راجع إلى الكفار، أي‏:‏ تركوا الأصنام وتبرءوا منها، والأوّل أولى‏.‏ والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وَذَلِكَ‏}‏ إلى ضلال آلهتهم‏.‏ والمعنى‏:‏ وذلك الضلال والضياع أثر ‏{‏إِفْكِهِمْ‏}‏ الذي هو اتخاذهم إياها آلهةً وزعمهم أنها تقرّبهم إلى الله‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏إفكهم‏}‏ بكسر الهمزة، وسكون الفاء مصدر أفك يأفك إفكاً، أي‏:‏ كذبهم‏.‏ وقرأ ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد بفتح الهمزة والفاء والكاف على أنه فعل أي‏:‏ ذلك القول صرفهم عن التوحيد‏.‏ وقرأ عكرمة بفتح الهمزة وتشديد الفاء، أي‏:‏ صيرهم آفكين‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم، وروي عن ابن عباس أنه قرأ بالمدّ، وكسر الفاء بمعنى‏:‏ صارفهم ‏{‏وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ معطوف على ‏{‏إفكهم‏}‏ أي‏:‏ وأثر افترائهم، أو أثر الذي كانوا يفترونه‏.‏ والمعنى‏:‏ وذلك إفكهم أي‏:‏ كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقرّبهم إلى الله، وتشفع لهم ‏{‏وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يكذبون أنها آلهة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ الأحقاف‏:‏ جبل بالشام‏.‏ وأخرج البخاريّ، ومسلم، وغيرهما عن عائشة قالت‏:‏ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، قلت‏:‏ يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر‏.‏

وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، قال‏:‏ «يا عائشة‏:‏ وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا‏:‏ ‏{‏هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا‏}‏» وأخرج مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال‏:‏ «اللَّهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها وشرّ ما أرسلت به»، فإذا تخيلت السماء تغير لونه، وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرّي عنه، فسألته فقال‏:‏ «لا أدري، لعله كما قال قوم عاد‏:‏ ‏{‏هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا‏}‏» وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ‏}‏ قالوا‏:‏ غيم فيه مطر، فأوّل ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجاً من رجالهم، ومواشيهم تطير بين السماء والأرض مثل الريش دخلوا بيوتهم، وغلقوا أبوابهم، فجاءت الريح ففتحت أبوابهم، ومالت عليهم بالرمل، فكانوا تحت الرمل سبع ليال، وثمانية أيام حسوماً لهم أنين، ثم أمر الله الريح، فكشفت عنهم الرمل وطرحتهم في البحر، فهو قوله‏:‏ ‏{‏فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مساكنهم‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال‏:‏ ما أرسل الله على عاد من الريح إلاّ قدر خاتمي هذا‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ‏}‏ يقول‏:‏ لم نمكنكم‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ عاد مكنوا في الأرض أفضل مما مكنت فيه هذه الأمة، وكانوا أشدّ قوة وأكثر أموالاً وأطول أعماراً‏.‏