فصل: خطبة الكتاب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)




.خطبة الكتاب:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل كتابه المبين كافلا ببيان الأحكام، شاملا لما شرعه لعباده من الحلال والحرام، مرجعا للأعلام عند تفاوت الأفهام وتباين الأقدام وتخالف الكلام، قاطعا للخصام شافيا للسقام مرهما للأوهام، فهو العروة الوثقى التي من تمسك بها فاز بدرك الحق القويم، والجادة الواضحة التي من سلكها فقد هدي إلى الصراط المستقيم، فأي عبارة تبلغ أدنى ما يستحقه كلام الحكيم من التعظيم؟! وأي لفظ يقوم ببعض ما يليق به من التكريم والتفخيم، كلا والله إن بلاغات البلغاء المصاقع، وفصاحات الفصحاء البواقع، وإن طالت ذيولها وسالت سيولها واستنت بميادينها خيولها، تتقاصر عن الوفاء بأوصافه، وتتصاغر عن التشبث بأدنى أطرافه، فيعود جيدها عنه عاطلا، وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا، فهو كلام من لا تحيط به العقول علما، ولا تدرك كنهه الطباع البشرية فهما، فالاعتراف بالعجز عن القيام بما يستحقه من الأوصاف العظام أولى بالمقام، وأوفق بما تقتضيه الحال من الإجلال والإعظام، والصلاة والسلام على من نزل إليه الروح الأمين، بكلام رب العالمين محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله المطهرين وصحبه المكرمين، وبعد:
فإن أشرف العلوم على الإطلاق، وأولاها بالتفضيل على الاستحقاق، وأرفعها قدرا بالاتفاق، هو علم التفسير لكلام القوي القدير، إذا كان على الوجه المعتبر في الورود والصدر، غير مشوب بشيء من التفسير بالرأي الذي هو من أعظم الخطر، وهذه الأشرفية لهذا العلم غنية عن البرهان، قريبة إلى الأفهام والأذهان، يعرفها من يعرف الفرق بين كلام الخلق والحق، ويدري بها من يميز بين كلام البشر، وكلام خالق القوى والقدر، فمن فهم هذا استغنى عن التطويل، ومن لم يفهمه فليس بمتأهل للتحصيل، ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول فيما أخرجه عنه الترمذي وحسنه من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه».
ولما كان هذا العلم بهذه المنزلة الشامخة الأركان، العالية البنيان المرتفعة المكان، رغبت إلى الدخول من أبوابه، ونشطت إلى العقود في محرابه، والكون من أحزابه، ووطنت النفس على سلوك طريقة هي بالقبول عند الفحول حقيقة، وها أنا أوضح لك منارها وأبين لك إيرادها وإصدارها فأقول:
إن غالب المفسرين تفرقوا فريقين وسلكوا طريقين: الفريق الأول اقتصروا في تفاسيرهم على مجرد الرواية وقنعوا برفع هذه الراية، والفريق الآخر جردوا أنظارهم إلى ما تقتضيه اللغة العربية وما تفيده العلوم الآلية، ولم يرفعوا إلى الرواية راسا، وإن جاءوا بها لم يصححوا لها أساسا، وكلا الفريقين قد أصاب وأطال وأطاب، وإن رفع عماد بيت تصنيفه على بعض الأطناب، وترك منها ما لا يتم بدونه كمال الانتصاب، فإن ما كان من التفسير ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان المصير إليه متعينا وتقديمه متحتما، غير أن الذي صح عنه من ذلك، إنما هو تفسير آيات قليلة بالنسبة إلى جميع القرآن، ولا يختلف في مثل ذلك من أئمة هذا الشأن اثنان، وأما ما كان منها ثابتا عن الصحابة رضي الله عنهم فإن كان من الألفاظ التي قد نقلها الشرع إلى معنى مغاير للمعنى اللغوي بوجه من الوجوه فهو مقدم على غيره، وإن كان الألفاظ التي لم ينقلها الشرع فهو كواحد من أهل اللغة الموثوق بعربيتهم، فإذا خالف المشهور المستفيض لم تقم الحجة علينا بتفسيره الذي قاله على مقتضى لغة العرب، فالأولى تفاسير من بعدهم من التابعين وتابعيهم وسائر الأمة، وأيضا كثيرا ما يقتصر الصحابي ومن بعده من السلف على وجه واحد مما يقتضيه النظم القرآني باعتبار المعنى اللغوي، ومعلوم أن ذلك لا يستلزم إهمال سائر المعاني التي تفيدها اللغة العربية، ولا إهمال ما يستفاد من العلوم التي تتبين بها دقائق العربية وأسرارها كعلم المعاني والبيان؛ فإن التفسير بذلك هو تفسير باللغة لا تفسير بمحض الرأي المنهي عنه.
وقد أخرج سعيد بن منصور في سننه وابن المنذر والبيهقي في كتاب الرؤية عن سفيان قال: ليس في تفسير القرآن اختلاف إنما هو كلام جامع يراد منه هذا وهذا.
وأخرج ابن سعد في الطبقات وأبو نعيم في الحلية عن أبي قلابة: قال: قال أبو الدرداء: لا تفقه كل الفقه حتى ترى القرآن وجوها.
وأخرج ابن سعد أن عليا قال لابن عباس: اذهب إليهم- يعني الخوارج- ولا تخاصمهم بالقرآن؛ فإنه ذو وجوه ولكن خاصمهم بالسنة فقال له: أنا أعلم بكتاب الله منهم فقال: صدقت ولكن القرآن حمال ذو وجوه.
وأيضا لا يتيسر في كل تركيب من التراكيب القرآنية تفسير ثابت عن السلف، بل قد يخلو عن ذلك كثير من القرآن ولا اعتبار بما لم يصح كالتفسير المنقول بإسناد ضعيف، ولا بتفسير من ليس بثقة منهم، وإن صح إسناده إليه، وبهذا تعرف أنه لابد من الجمع بين الأمرين وعدم الاقتصار على مسك أحد الفريقين، وهذا هو المقصد الذي وطنت نفسي عليه والمسلك الذي عزمت على سلوكه إن شاء الله، مع تعرضي للترجيح بين التفاسير المتعارضة مهما أمكن واتضح لي وجهه، وأخذي من بيان المعنى العربي والإعرابي والبياني بأوفر نصيب، والحرص على إيراد ما ثبت من التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين أو تابعيهم أو الأئمة المعتبرين، وقد أذكر ما في إسناده ضعف؛ إما لكون في المقام ما يقويه أو لموافقته للمعنى العربي، وقد أذكر الحديث معزوا إلى راويه من غير بيان حال الإسناد؛ لأني أجده في الأصول التي نقلت عنها كذلك، كما يقع في تفسير ابن جرير والقرطبي وابن كثير والسيوطي وغيرهم، ويبعد كل البعد أن يعلموا في الحديث ضعفا ولا يبينونه، ولا ينبغي أن يقال فيما أطلقوه إنهم قد علموا ثبوته؛ فإن من الجائز أن ينقلوه من دون كشف عن حال الإسناد، بل هذا هو الذي يغلب به الظن؛ لأنهم لو كشفوا عنه فثبتت عندهم صحته لم يتركوا بيان ذلك، كما يقع منهم كثيرا التصريح بالصحة أو الحسن، فمن وجد الأصول التي يروون عنها ويعزون ما في تفاسيرهم إليها فلينظر في أسانيدها موفقا- إن شاء الله.
واعلم أن تفسير السيوطي المسمى بالدر المنثور قد اشتمل على غالب ما في تفاسير السلف من التفاسير المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتفاسير الصحابة ومن بعدهم، وما فاته إلا القليل النادر، وقد اشتمل هذا التفسير على جميع ما تدعو إليه الحاجة منه مما يتعلق بالتفسير مع اختصار لما تكرر لفظا واتحد معنى بقولي: ومثله، أو نحوه، وضممت إلى ذلك فوائد لم يشتمل عليها وجدتها في غيره من تفاسير علماء الرواية أو من الفوائد التي لاحت لي من تصحيح أو تحسين أو تضعيف أو تعقب أو جمع أو ترجيح.
فهذا التفسير وإن كبر حجمه فقد كثر علمه، وتوفر من التحقيق قسمه، وأصاب غرض الحق سهمه، واشتمل على ما في كتب التفاسير من بدائع الفوائد، مع زوائد فوائد وقواعد شوارد، فإن أحببت أن تعتبر صحة هذا فهذه كتب التفسير على ظهر البسيطة انظر تفاسير المعتمدين على الرواية، ثم ارجع إلى تفاسير المعتمدين على الدراية، ثم انظر في هذا التفسير بعد النظرين، فعند ذلك يسفر الصبح لذي عينين ويتبين لك أن هذا الكتاب هو لب اللباب وعجب العجاب وذخيرة الطلاب ونهاية مأرب الألباب وقد سميته: (فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير)، مستمدا من الله سبحانه بلوغ الغاية، والوصول بعد هذه البداية إلى النهاية، راجيا منه جل جلاله أن يديم به الانتفاع، ويجعله من الذخائر التي ليس لها انقطاع.
واعلم أن الأحاديث في فضائل القرآن كثيرة جدا، ولا يتم لصاحب القرآن ما يطلبه من الأجر الموعود به في الأحاديث الصحيحة حتى يفهم معانيه؛ فإن ذلك هو الثمرة من قراءته.
قال القرطبي: ينبغي له أن يتعلم أحكام القرآن فيفهم عن الله مراده، وما فرض عليه فينتفع بما يقرأ ويعمل بما يتلو، فما أقبح بحامل القرآن أن يتلو فرائضه وأحكامه عن ظهر قلب، وهو لا يفهم معنى ما يتلوه، فكيف يعمل بما لا يفهم معناه؟! وما أقبح به أن يسأل عن فقه ما يتلوه ولا يدريه، فما مثل من هذه حالته إلا كمثل الحمار يحمل أسفارا، وينبغي له أن يعرف المكي من المدني ليفرق بين ما خاطب الله به عباده في أول الإسلام، وما ندبهم إليه في آخر الإسلام، وما فرض في أول الإسلام، وما زاد عليهم من الفرائض في آخره، فالمدني هو الناسخ للمكي في أكثر القرآن.
وقال أيضا: قال علماؤنا: وأما ما جاء في فضل التفسير عن الصحابة والتابعين، فمن ذلك أن علي بن أبي طالب ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعلم فقال له رجل: جعلت فداك تصف جابرا بالعلم وأنت أنت؟ قال: إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد}.
وقال مجاهد: أحب الخلق إلى الله أعلمهم بما أنزل الله.
وقال الحسن: والله ما أنزل الله آية إلا أحب أن يعلم فيمن نزلت وما يعني بها.
قال الشعبي: رحل مسروق في تفسير آية إلى البصرة فقيل له: إن الذي يفسرها رحل إلى الشام فتجهز ورحل إلى الشام حتى علم تفسيرها.
وقال عكرمة في قوله عز وجل: {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله}: طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة حتى وجدته. قال ابن عبد البر: هو ضميرة بن حبيب.
وقال ابن عباس: مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمنعني إلا مهابته فسألته فقال: هي حفصة وعائشة.
وقال إياس بن معاوية: مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من عند مليكهم ليلا، وليس عندهم مصباح فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرءوا ما في الكتاب.
وذكر ابن أبي الحاوي: أن فضيل بن عياض قال لقوم قصدوه ليأخذوا عنه العلم: لو طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما تريدون فقالوا: قد تعلمنا القرآن فقال: إن في تعلمكم القرآن شغلا لأعماركم وأعمار أولادكم فقالوا: كيف يا أبا علي؟ قال: لن تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه ومحكمه ومتشابهه وناسخه من منسوخه، فإذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة.
وللسلف رحمهم الله من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحصر.