فصل: تفسير الآية رقم (25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (25):

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}
لما ذكر تعالى جزاء الكافرين عقبه بجزاء المؤمنين ليجمع بين الترغيب، والترهيب، والوعد، والوعيد كما هي عادته سبحانه في كتابه العزيز، لما في ذلك من تنشيط عباده المؤمنين لطاعاته، وتثبيط عباده الكافرين عن معاصيه. والتبشير: الإخبار بما يظهر أثره على البشرة، وهي الجلدة الظاهرة، من البشر، والسرور. قال القرطبي: أجمع العلماء على أن المكلف إذا قال: مَن بشرني مِن عبيدي، فهو حرّ، فبشره واحد من عبيده، فأكثر، فإن أوّلهم يكون حرّاً دون الثاني، واختلفوا إذا قال: مَنْ أخبرني مِن عبيدي بكذا، فهو حرّ، فقال أصحاب الشافعي: يعمّ لأن كل واحد منهم مخبر، وقال علماؤنا: لا؛ لأن المكلف إنما قصد خبراً يكون بشارة، وذلك مختص بالأول. انتهى. والحق أنه إن أراد مدلول الخبر عتقوا جميعاً، وإن أراد الخبر المقيد بكونه بشارة عتق الأول، فالخلاف لفظي. والمأمور بالتبشير قيل: هو: النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو: كل أحد كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «بشر المشائين» وهذه الجمل، وإن كانت مصدرة بالإنشاء، فلا يقدح ذلك في عطفها على ما قبلها، لأن المراد عطف جملة وصف ثواب المطيعين على جملة، وصف عقاب العاصين من دون نظر إلى ما اشتمل عليه الوصفان من الأفراد المتخالفة خبراً، وأنشاء. وقيل: إن قوله: {وَبَشّرِ} معطوف على قوله: {فاتقوا النار} [البقرة: 24]، وليس هذا بجيد.
و{الصالحات} الأعمال المستقيمة. والمراد هنا: الأعمال المطلوبة منهم المفترضة عليهم، وفيه ردّ على من يقول إن الإيمان بمجرده يكفي، فالجنة تنال بالإيمان، والعمل الصالح. والجنات: البساتين، وإنما سميت جنات؛ لأنها تجنّ من فيها: أي: تستره بشجرها، وهو: اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنات كثيرة. والأنهار جمع نهر، وهو: المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، والمراد: الماء الذي يجري فيها، وأسند الجري إليها مجازاً، والجاري حقيقة هو الماء كما في قوله تعالى: {واسئل القرية} [يوسف: 82] أي: أهلها وكما قال الشاعر:
ونبئت أن النّارَ بَعْدَكَ أوقِدَتْ ** واستب بَعدَكَ يا كُليبُ المْجلِسُ

والضمير في قوله: {مِن تَحْتِهَا} عائد إلى الجنات؛ لاشتمالها على الأشجار، أي: من تحت أشجارها. وقوله: {كُلَّمَا رُزِقُواْ} وصف آخر للجنات، أو هو: جملة مستأنفة كأن سائلاً قال: كيف تمارها. و{مِن ثَمَرَةٍ} في معنى من أي ثمرة: أي نوع من أنواع الثمرات؟ والمراد بقوله: {هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} أنه شبيهه، ونظيره، لا أنه هو، لأن ذات الحاضر لا تكون عين ذات الغائب لاختلافهما، وذلك أن اللون، يشبه اللون، وإن كان الحجم، والطعم، والرائحة، والماوية مختلفة. والضمير في {به} عائد إلى الرزق، وقيل: المراد أنهم أتوا بما يرزقونه في الجنة متشابهاً، فما يأتيهم في أول النهار يشابه الذي يأتيهم في آخره، فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل، فإذا أكلوا وجدوا له طعماً غير طعم الأول.
و{متشابها} منصوب على الحال. والمراد بتطهير الأزواج أنه لا يصيبهن ما يصيب النساء من قذر الحيض، والنفاس، وسائر الأدناس التي لا يمتنع تعلقها بنساء الدنيا. والخلود: البقاء الدائم الذي لا ينقطع، وقد يستعمل مجازاً فيما يطول، والمراد هنا الأوّل.
وقد أخرج ابن ماجه، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة، والبزار، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والبيهقي، وابن مردويه، عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا هل مشمر للجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها، هي: وربّ الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة، وفاكهة خضراء» الحديث.
والأحاديث في وصف الجنة كثيرة جداً ثابتة في الصحيحين، وغيرهما.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنهار الجنة تفجر من تحت جبال مسك».
وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو حاتم، وأبو الشيخ، وابن حبان، والبيهقي في البعث وصححه عن ابن مسعود نحوه، موقوفاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك في قوله: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} قال: يعني المساكن تجري أسفلها أنهارها.
وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً} قال: أتوا بالثمرة في الجنة، فنظروا إليها {قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} في الدنيا {وَأُتُواْ بِهِ متشابها} في اللون والمرأى، وليس يشبه الطعم.
وأخرج عبد بن حميد، عن علي بن زيد، وقتادة نحوه.
وأخرج مسدد في مسنده، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبى حاتم، عن ابن عباس قال: ليس في الدنيا مما في الجنة شيء إلا الأسماء.
وأخرج عبد بن حميد، عن عكرمة قال: قولهم {مِن قَبْلُ} معناه: هذا مثل الذي كان بالأمس.
وأخرج ابن جرير عن يحي بن أبي كثير، نحوه.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد قال: {متشابها} في اللون مختلفاً في الطعم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن الحسن في قوله: {متشابها} قال: خيار كله يشبه بعضه بعضاً لا رذل فيه، ألم تروا إلى ثمار الدنيا كيف ترذلون بعضه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة مثله.
وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} قال: «من الحيض، والغائط، والبزاق، والنخامة».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: من القذر، والأذى.
وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود قال: لا يحضن، ولا يحدثن، ولا يتنخمن.
وقد روى نحو هذا عن جماعة من التابعين.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفات أهل الجنة في الصحيحين، وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة أن أهل الجنة لا يبصقون، ولا يتمخطون، ولا يتغوطون. وثبت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة في الصحيحين، وغيرهما من صفات نساء أهل الجنة مالا يتسع المقام لبسطه، فلينظر في دواوين الإسلام، وغيرها.
وأخرج ابن جرير، وابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَهُمْ فِيهَا خالدون} أي: خالدون أبداً، يخبرهم أن الثواب بالخير، والشرّ مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {وَهُمْ فِيهَا خالدون} يعني لا يموتون.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم: يا أهل النار لا موت، ويا أهل الجنة لا موت، كل هو: خالد فيما هو فيه».
وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة نحوه.
وأخرج الطبراني، والحاكم وصححه من حديث معاذ نحوه.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قيل لأهل النار: إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا بها، ولو قيل لأهل الجنة: إنكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا، ولكن جعل لهم الأبد».

.تفسير الآيات (26- 27):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}
أنزل الله هذه الآية ردّاً على الكفار لما أنكروا ما ضربه سبحانه من الأمثال كقوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} [البقرة: 17] وقوله: {أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السماء} [البقرة: 19] فقالوا الله أجلّ، وأعلا من أن يضرب الأمثال.
وقال الرازي: إنه تعالى لما بيَّن بالدليل كون القرآن معجزاً أورد ها هنا شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك، وأجاب عنها، وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل، والعنكبوت، والنمل، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلاً عن كونه معجزاً. وأجاب الله عنها بأن صغر هذه الأشياء لا تقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملاً على حكمة بالغة. انتهى. ولا يخفاك أن تقرير هذه الشبهة على هذا الوجه، وإرجاع الإنكار إلى مجرد الفصاحة لا مستند له، ولا دليل عليه، وقد تقدّمه إلى شيء من هذا صاحب الكشاف، والظاهر ما ذكرناه أوّلا لكون هذه الآية جاءت بعقب المثلين اللذين هما مذكوران قبلها، ولا يستلزم استنكارهم لضرب الأمثال بالأشياء المح؛ كذا في الكشاف، وتبعه الرازي في مفاتيح الغيب.
وقال القرطبي: أصل الاستحياء الانقباض عن الشيء، والامتناع منه؛ خوفاً من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله. انتهى.
وقد اختلفوا في تأويل ما في هذه الآية من ذكر الحياء فقيل: ساغ ذلك لكونه، واقعاً في الكلام المحكي عن الكفار، وقيل: هو: من باب المشاكلة كما تقدم، وقيل هو: جارٍ على سبيل التمثيل. قال في الكشاف: مثَّل تركه تخييب العبد، وأنه لا يردّ يديه صفراً من عطائه لكرمه بترك من يترك ردّ المحتاج إليه حياءً منه. انتهى.
وقد قرأ ابن محيصن، وابن كثير في رواية عنه {يستحي} بياء واحدة، وهي لغة تميم، وبكر بن وائل، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء، فسكنت، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين.
وضرب المثل: اعتماده وصنعه. و{ما} في قوله: {مَّا بَعُوضَةً} إبهامية أي: موجبة لإبهام ما دخلت عليه حتى يصير أعمّ مما كان عليه، وأكثر شيوعاً في أفراده، وهي في موضع نصب على البدل من قوله: {مَثَلاً} و{بَعُوضَةً} نعت لها لإبهامها، قاله الفراء، والزجاج، وثعلب، وقيل: إنها زائدة، وبعوضة بدل من مثل. ونصب بعوضة في هذين الوجهين ظاهر، وقيل: إنها منصوبة بنزع الخافض، والتقدير: أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة، فحذف لفظ بين.
وقد روي هذا عن الكسائي، وقيل: إن يضرب بمعنى يجعل، فتكون بعوضة المفعول الثاني. وقرأ الضحاك، وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤية بن العجاج {بعوضةٌ} بالرفع، وهي لغة تميم. قال أبو الفتح: وجه ذلك أن {ما} اسم بمنزلة الذي، وبعوضة رفع على إضمار المبتدأ، ويحتمل أن تكون {ما} استفهامية كأنه قال تعالى: {مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} حتى لا يضرب المثل به، بل له أن يمثل بما هو أقلّ من ذلك بكثير، والبعوضة فعولة من بعض: إذا قطع، يقال: بعض وبضع بمعنى، والبعوض: البق، الواحدة بعوضة، سميت بذلك لصغرها، قاله الجوهري، وغيره.
وقوله: {فَمَا فَوْقَهَا} قال الكسائي، وأبو عبيدة، وغيرهما: فما فوقها والله أعلم: ما دونها: أي: أنها فوقها في الصغر كجناحها. قال الكسائي، وهذا كقولك في الكلام أتراه قصيراً، فيقول القائل، أو فوق ذلك أي: أقصر مما ترى. ويمكن أن يراد، فما زاد عليها في الكبر.
وقد قال بذلك جماعة. قوله: {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ} أما: حرف فيه معنى الشرط، وقدّره سيبويه بمهما يكن من شيء، فكذا. وذكر صاحب الكشاف أن فائدته في الكلام أنه يعطيه فضل توكيد، وجعل تقدير سيبويه دليلاً على ذلك. والضمير في {أَنَّهُ} راجع إلى المثل. و{الحق} الثابت، وهو المقابل للباطل، والحق، واحد الحقوق، والمراد هنا الأوّل.
وقد اختلف النحاة في {ماذا} فقيل: هي بمنزلة اسم واحد بمعنى: أي شيء أراد الله، فتكون في موضع نصب بأراد. قال ابن كيسان: وهو: الجيد. وقيل {ما} اسم تام في موضع رفع بالابتداء، و(ذا) بمعنى الذي، وهو: خبر المبتدأ مع صلته، وجوابه يكون على الأوّل منصوباً وعلى الثاني مرفوعاً. والإرادة نقيض الكراهة، وقد اتفق المسلمون على أنه يجوز إطلاق هذا اللفظ على الله سبحانه.
و{مَثَلاً} قال ثعلب: منصوب على القطع، والتقدير: أراد مثلا.
وقال ابن كيسان: هو: منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال، وهذا أقوى من الأوّل. وقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} هو: كالتفسير للجملتين السابقتين المصدّرتين بأما، فهو خبر من الله سبحانه. وقيل: هو: حكاية لقول الكافرين كأنهم قالوا: ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرّق به الناس إلى ضلالة، وإلى هدى؟ وليس هذا بصحيح، فإن الكافرين لا يقرّون بأن في القرآن شيئاً من الهداية، ولا يعترفون على أنفسهم بشيء من الضلالة.
قال القرطبي: ولا خلاف أن قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} من كلام الله سبحانه.
وقد أطال المتكلمون الخصام في تفسير الضلال المذكور هنا، وفي نسبته إلى الله سبحانه.
وقد نقح البحث الرازيُّ في تفسيره مفاتيح الغيب في هذا الموضع تنقيحاً نفيساً، وجوّده وطوّله، وأوضح فروعه، وأصوله، فليرجع إليه فإنه مفيد جداً. وأما صاحب الكشاف، فقد اعتمد ها هنا على عصاه التي يتوكأ عليها في تفسيره، فجعل إسناد الإضلال إلى الله سبحانه بكونه سبباً، فهو من الإسناد المجازي إلى ملابس للفاعل الحقيقي،.
وحكى القرطبي عن أهل الحق من المفسرين أن المراد بقوله: {يُضِلَّ} يخذل.
والفسق: الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت عن قشرها. والفأرة من جحرها ذكر معنى هذا الفراء.
وقد استشهد أبو بكر بن الأَنباري في كتاب الزاهر له على معنى الفسق بقول رؤبة بن العجاج:
يهوين في نجد وغوراً غائراً ** فواسقاً عن قصدها جوائر

قد زعم ابن الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية، ولا في شعرهم فاسق، وهذا مردود عليه، فقد حكى ذلك عن العرب، وأنه من كلامهم جماعة من أئمة اللغة كابن فارس، والجوهري، وابن الأنباري، وغيرهم.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خمس فواسق» الحديث.
وقال في الكشاف: الفسق الخروج عن القصد، ثم ذكر عجز بيت رؤبة المذكور، ثم قال: والفاسق في الشريعة: الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة. انتهى.
وقال القرطبي: والفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر، وعلى من خرج بعصيان. انتهى. وهذا هو: أنسب بالمعنى اللغوي، ولا وجه لقصره على بعض الخارجين دون بعض. قال الرازي في تفسيره: واختلف أهل القبلة هل هو مؤمن، أو كافر؟ فعند أصحابنا أنه مؤمن، وعند الخوارج أنه كافر، وعند المعتزلة لا مؤمن، ولا كافر، واحتج المخالف بقوله تعالى: {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} [الحجرات: 11] وقوله: {إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون} [التوبة: 67] وقوله: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات: 7] وهذه المسألة طويلة مذكورة في علم الكلام. انتهى. وقوله: {الذين يَنقُضُونَ} في محل نصب وصفاً للفاسقين. والنقض: إفساد ما أبرم من بناء، أو حبل، أو عهد، والنقاضة: ما نقض من حبل الشعر. والعهد: قيل: هو: الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره، وقيل: هو: وصية الله إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسن رسله، ونقضهم ذلك: ترك العمل به، وقيل: بل نصب الأدلة على، وحدانيته بالسموات، والأرض، وسائر مخلوقاته، ونقضه: ترك النظر فيه، وقيل: هو ما عهده إلى الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس. والميثاق: العهد المؤكد باليمين مفعال من الوثاقة وهي الشدّة في العقد، والربط، والجمع المواثيق، والمياثيق، وأنشد ابن الأعرابي:
حِمىّ لا يُحَلُّ الدَّهْرَ إلا بِإذنِنا ** وَلا نَسْألُ الأقوامُ عَهْدَ المياثِق

واستعمال النقض في إبطال العهد على سبيل الاستعارة، والقطع معروف، والمصدر في الرحم القطيعة، وقطعت الحبل قطعاً، وقطعت النهر قطعاً. و{ما} في قوله: {مَا أَمَرَ الله بِهِ} في موضع نصب ب {يقطعون} و{أَن يُوصَلَ} في محل نصب بأمر. ويحتمل أن يكون بدلاً من {ما} أو من الهاء في {به}.
واختلفوا ما هو: الشيء الذي أمر الله بوصله، فقيل: الأرحام، وقيل: أمر أن يوصل القول بالعمل، وقيل: أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه، فقطعوه بتصديق بعضهم، وتكذيب البعض الآخر، وقيل: المراد به حفظ شرائعه، وحدوده التي أمر في كتبه المنزلة، وعلى ألسن رسله بالمحافظة عليها، فهي عامة، وبه قال الجمهور، وهو: الحق.
والمراد بالفساد في الأرض الأفعال، والأقوال المخالفة لما أمر الله به، كعبادة غيره، والإضرار بعباده، وتغيير ما أمر بحفظه، وبالجملة، فكل ما خالف الصلاح شرعاً أو عقلاً، فهو فساد. والخسران: النقصان، والخاسر، هو: الذي نقص نفسه من الفلاح، والفوز، وهؤلاء لما استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، كان عملهم، فساداً لما نقصوا أنفسهم من الفلاح، والربح.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود، وناس من الصحابة قال: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} [البقرة: 17] وقوله: {أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السماء} [البقرة: 19] قال المنافقون: الله أعلا وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} الآية.
وأخرج الواحدي في تفسيره عن ابن عباس قال: إن الله ذكر آلهة المشركين، فقال: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً} [الحج: 73] وذكر كيد الآلهة، فجعله كبيت العنكبوت، فقالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب، والعنكبوت، فيما أنزل من القرآن على محمد أيّ شيء كان يصنع بهذا؟ فأنزل الله: {إِنَّ الله لاَ يستحي} وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة نحو قول ابن عباس.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن قال: لما نزلت: {ا يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ مَثَلٌ} [الحج: 73] قال المشركون: ما هذا من الأمثال، فيضرب؟ فأنزل الله هذه الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله تعالى: {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق} قال: يؤمن به المؤمن، ويعلمون أنه الحق من ربهم، ويهديهم الله به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به.
وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود، وناس من الصحابة في قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} يعني المنافقين {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} يعني المؤمنين {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} قال هم المنافقون. وفي قوله: {يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه} قال: هو ما عهد إليهم في القرآن، فأقرّوا به، ثم كفروا، فنقضوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} يقول: يعرفه الكافرون، فيكفرون به.
وأخرج ابن جرير، عن قتادة قال: فسقوا، فأضلهم الله بفسقهم.
وأخرج البخاري، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعد بن أبي وقاص قال: الحرورية هم: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان يسميهم الفاسقين.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة قال: ما نعلم الله أوعد في ذنب ما أوعد في نقض هذا الميثاق، فمن أعطى عهد الله، وميثاقه من ثمرة قلبه، فليُوفّ به الله.
وقد ثبت عن رسول الله في أحاديث ثابتة في الصحيح وغيره من طريق جماعة من الصحابة النهي عن نقض العهد، والوعيد الشديد عليه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} قال: الرحم والقرابة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {وَيُفْسِدُونَ في الأرض} قال: يعملون فيها بالمعصية.
وأخرج ابن المنذر عن مقاتل في قوله: {أولئك هُمُ الخاسرون} يقول: هم أهل النار.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام مثل خاسر، ومسرف، وظالم، ومجرم، وفاسق، فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى الإسلام، فإنما يعني به الذم.