فصل: تفسير الآيات (35- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (35- 37):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)}
{ابتغوا} اطلبوا {إِلَيْهِ}: لا إلى غيره، {وَ الوسيلة} فعيلة من توسلت إليه: إذا تقربت إليه. قال عنترة:
إن الرجال لهم إليك وسيلة ** إن يأخذوك تكحلي وتخضبي

وقال آخر:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا ** وعاد التصابي بيننا والوسائل

فالوسيلة: القربة التي ينبغي أن تطلب، وبه قال أبو وائل والحسن ومجاهد، وقتادة والسدي وابن زيد.
وروي عن ابن عباس، وعطاء، وعبد الله بن كثير. قال ابن كثير في تفسيره: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة، لا خلاف بين المفسرين فيه. والوسيلة أيضاً درجة في الجنة مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يسمع النداء: اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة» وفي صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن عمرو، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ، فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه عشراً ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة» وفي الباب أحاديث، وعطف {وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة} على {ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله} يفيد أن الوسيلة غير التقوى. وقيل هي التقوى، لأنها ملاك الأمر، وكل الخير، فتكون الجملة الثانية على هذا مفسرة للجملة الأولى. والظاهر أن الوسيلة: هي القربة تصدق على التقوى، وعلى غيرها من خصال الخير التي يتقرب العباد بها إلى ربهم {وجاهدوا في سَبِيلِهِ} من لم يقبل دينه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} كلام مبتدأ مسوق لزجر الكفار، وترغيب المسلمين في امتثال أوامر الله سبحانه: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا في الأرض} من أموالها ومنافعها؛ وقيل المراد لكل واحد منهم ليكون أشدّ تهويلاً، وإن كان الظاهر من ضمير الجمع خلاف ذلك، و{جَمِيعاً} تأكيد. وقوله: {وَمِثْلَهُ} عطف على ما في الأرض، و{مَعَهُ} في محل نصب على الحال {لِيَفْتَدُواْ بِهِ}؛ ليجعلوه فدية لأنفسهم، وأفرد الضمير إما لكونه راجعاً إلى المذكور، أو لكونه بمنزلة اسم الإشارة: أي ليفتدوا بذلك، و{مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة} متعلق بالفعل المذكور {مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ} ذلك، وهذا هو جواب لو.
قوله: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار} هذا استئناف بياني، كأنه قيل: كيف حالهم فيما هم فيه من هذا العذاب الأليم؟ فقيل يريدون أن يخرجوا من النار.
وقرئ: {أَن يَخْرُجُواْ} من أخرج، ويضعف هذه القراءة {وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا} ومحل هذه الجملة، أعني قوله: {وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا} النصب على الحال؛ وقيل إنها جملة اعتراضية.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة} قال: الوسيلة القربة.
وأخرج الحاكم وصححه، عن حذيفة مثله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة} قال: تقرّبوا إلى الله بطاعته والعمل بما يرضيه.
وأخرج مسلم، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة» قال: يزيد الفقير، فقلت لجابر يقول الله: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُمْ بخارجين مِنْهَا} قال: اتل أوّل الآية {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا في الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ} ألا إنهم الذين كفروا.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة: أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس: تزعم أن قوما يخرجون من النار، وقد قال الله تعالى: {وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا} فقال ابن عباس: ويحك، اقرأ ما فوقها هذه للكفار. قال الزمخشري في الكشاف بعد ذكره لهذا: إنه مما لفقته المجبرة، ويا لله العجب من رجل لا يفرق بين أصحّ الصحيح، وبين أكذب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتعرض للكلام على ما لا يعرفه ولا يدري ما هو؟ قد تواترت الأحاديث تواتراً لا يخفى، على من له أدنى إلمام بعلم الرواية بأن عصاة الموحدين يخرجون من النار، فمن أنكر هذا فليس بأهل للمناظرة؛ لأنه أنكر ما هو من ضروريات الشريعة، اللهم غفراً.

.تفسير الآيات (38- 40):

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)}
لما ذكر سبحانه حكم من يأخذ المال جهاراً وهو المحارب، عقبه بذكر من يأخذ المال خفية، وهو السارق، وذكر السارقة مع السارق لزيادة البيان لأن غالب القرآن الاقتصار على الرجال في تشريع الأحكام.
وقد اختلف أئمة النحو في خبر السارق والسارقة، هل هو مقدر أم هو فاقطعوا؟ فذهب إلى الأول سيبويه، وقال تقديره: فيما فرض عليكم أو فيما يتلى عليكم، السارق والسارقة: أي حكمهما.
وذهب المبرد والزجاج إلى الثاني، ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، إذ المعنى: الذي سرق والتي سرقت، وقرئ: {والسارق والسارقة} بالنصب على تقدير اقطعوا، ورجح هذه القراءة سيبويه، قال: الوجه في كلام العرب النصب، كما تقول زيداً اضربه، ولكن العامة أبت إلا الرفع، يعنى عامة القراء، والسرقة بكسر الراء اسم الشيء المسروق، والمصدر من سرق يسرق سرقاً قاله الجوهري وهو أخذ الشيء في خفية من الأعين، ومنه استرق السمع، وسارقه النظر.
قوله: {فاقطعوا} القطع معناه الإبانة والإزالة، وجمع الأيدي لكراهة الجمع بين تثنيتين، وقد بينت السنة المطهرة أن موضع القطع الرسغ.
وقال قوم: يقطع من المرفق.
وقال الخوارج: من المنكب. والسرقة لابد أن تكون ربع دينار فصاعداً، ولابد أن تكون من حرز، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة.
وقد ذهب إلى اعتبار الربع الدينار الجمهور.
وذهب قوم إلى التقدير بعشرة دراهم.
وذهب الجمهور إلى اعتبار الحرز.
وقال الحسن البصري إذا جمع الثياب في البيت قطع.
وقد أطال الكلام في بحث السرقة أئمة الفقه، وشرّاح الحديث، بما لا يأتي التطويل به ها هنا بكثير فائدة.
قوله: {جَزَاء بِمَا كَسَبَا} مفعول له: أي فاقطعوا للجزاء، أو مصدر مؤكد لفعل محذوف: أي فجازوهما جزاء، والباء سببية، وما مصدرية أي بسبب كسبهما، أو موصولة أي جزاء بالذي كسباه من السرقة. وقوله: {نكالا} بدل من جزاء؛ وقيل هو علة للجزاء: والجزاء علة للقطع، يقال نكلت به: إذا فعلت به ما يجب أن ينكل به عن ذلك الفعل. قوله: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} السياق يفيد أن المراد بالظلم هنا السرقة، أي فمن تاب من بعد سرقته، وأصلح أمره {فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ} ولكن اللفظ عام، فيشمل السارق وغيره من المذنبين، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقد استدلّ بهذا عطاء، وجماعة، على أن القطع يسقط بالتوبة، وليس هذا الاستدلال بصحيح، لأن هذه الجملة الشرطية لا تفيد إلا مجرد قبول التوبة، وإن الله يتوب على من تاب، وليس فيها ما يفيد أنه لا قطع على التائب.
وقد كان في زمن النبوّة يأتي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجب عليه حدّ تائباً عن الذنب الذي ارتكبه، طالباً لتطهيره بالحدّ، فيحدّه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للسارق بعد قطعه: «تب إلى الله» ثم قال: «تاب الله عليك» أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة.
وأخرج أحمد وغيره، أن هذه الآية نزلت في المرأة التي كانت تسرق المتاع، لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم بعد قطعها، هل لي من توبة.
وقد ورد في السنة ما يدلّ على أن الحدود إذا رفعت إلى الأئمة وجبت وامتنع إسقاطها.
قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} هذا الاستفهام للإنكار مع تقرير العلم، وهو كالعنوان لقوله: {يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أي: من كان له ملك السموات والأرض، فهو قادر على هذا التعذيب الموكول إلى المشيئة والمغفرة الموكولة إليها.
وقد أخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {جَزَاء بِمَا كَسَبَا نكالا مّنَ الله} قال: لا ترثوا لهم فيه فإنه أمر الله الذي أمر به. قال: وذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول: اشتدوا على الفساق، واجعلوهم يداً يداً ورجلاً رجلاً.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن مجاهد في قوله: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ} يقول: الحدّ كفارته. والأحاديث في قدر نصاب السرقة، وفي سائر ما يتعلق بتفاصيل هذا الحدّ مذكورة في كتب الحديث، فلا نطيل بذلك.

.تفسير الآيات (41- 44):

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}
قوله: {لاَ يَحْزُنكَ} قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي، والحزن خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر، فهو حزن وحزين: وأحزنه غيره وحزنه. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. وفي الآية النهي له صلى الله عليه وسلم عن التأثر لمسارعة الكفرة في كفرهم تأثراً بليغاً، لأن الله سبحانه قد وعده في غير موطن بالنصر عليهم، والمسارعة إلى الشيء: الوقوع فيه بسرعة. والمراد هنا، وقوعهم في الكفر بسرعة عند وجود فرصة، وآثر لفظ {فِى} على لفظ (إلى) للدلالة على استقرارهم فيه، و{من} في قوله: {مِنَ الذين قَالُواْ} بيانية، والجملة مبينة للمسارعين في الكفر، والباء في {بأفواههم} متعلقة ب {قالوا} لا ب {آمنا} وهؤلاء الذين قالوا آمنا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم هم المنافقون. {وَمِنَ الذين هِادُواْ} يعني اليهود، وهو معطوف على {مِنَ الذين قَالُواْ ءامَنَّا} وهو تمام الكلام. والمعنى: أن المسارعين في الكفر طائفة المنافقين وطائفة اليهود.
وقوله: {سماعون لِلْكَذِبِ} خبر مبتدأ محذوف: أي هم سماعون للكذب، فهو راجع إلى الفريقين، أو إلى المسارعين، واللام في قوله: {لِلْكَذِبِ} للتقوية أو لتضمين السماع معنى القبول؛ وقيل إن قوله: {سماعون} مبتدأ خبره {مّنَ الذين هَادُواْ} أي: ومن الذين هادوا قوم {سماعون لِلْكَذِبِ} أي: قابلون لكذب رؤسائهم المحرّفين للتوراة. قوله: {سماعون لِقَوْمٍ آخَرِينَ} خبر ثان، واللام فيه كاللام في {للكذب}؛ وقيل اللام للتعليل في الموضعين، أي: سماعون لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل الكذب عليه، وسماعون لأجل قوم آخرين، وجهوهم عيوناً لهم لأجل أن يبلغوهم، ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: {لَمْ يَأْتُوكَ} صفة لقوم: أي لم يحضروا مجلسك وهم طائفة من اليهود، كانوا لا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبرا وتمرّداً؛ وقيل هم جماعة من المنافقين، كانوا يتجنبون مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الفراء: ويجوز سماعين كما قال: {مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ} [الأحزاب: 61].
قوله: {يُحَرّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مواضعه} من جملة صفات القوم المذكورين: أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها، ويتأوّلونه على غير تأويله. والمحرّفون هم اليهود؛ وقيل: إن هذه الجملة خبر مبتدأ محذوف؛ وقيل في محل نصب على الحال من {لَمْ يَأْتُوكَ} وقيل: مستأنفة لا محل لها من الإعراب، لقصد تعداد معايبهم ومثالبهم. ومعنى: {مِن بَعْدِ مواضعه} من بعد كونه موضوعاً في مواضعه، أو من بعد وضعه في مواضعه التي وضعه الله فيها، من حيث لفظه، أو من حيث معناه.
قوله: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ} جملة حالية، من ضمير يحرفون، أو مستأنفة، أو صفة لقوم، أو خبر مبتدأ محذوف، والإشارة بقولهم {هذا} إلى الكلام المحرّف: أي إن أوتيتم من جهة محمد هذا الكلام الذي حرّفناه، فخذوه واعملوا به، وإن لم تؤتوه بل جاءكم بغيره، فاحذروا من قبوله والعمل به. قوله: {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ} أي: ضلالته {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً} أي: فلا تستطيع دفع ذلك عنه ولا تقدر على نفعه وهدايته، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وظاهرها العموم ويدخل فيها هؤلاء الذين سياق الكلام معهم دخولاً أوّليا، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى من تقدم ذكرهم، من الذين قالوا آمنا بأفواههم ومن الذين هادوا، وهو مبتدأ وخبره الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم: أي لم يرد تطهيرها من أرجاس الكفر والنفاق، كما طهّر قلوب المؤمنين {لَهُمْ في الدنيا خِزْىٌ} بظهور نفاق المنافقين، وبضرب الجزية على الكافرين، وظهور تحريفهم وكتمهم لما أنزل الله في التوراة. قوله: {سماعون لِلْكَذِبِ} كرّره تأكيداً لقبحه، وليكون كالمقدّمة لما بعده، وهو: أكالون للسحت، وهما من جملة أخبار ذلك المبتدأ المقدّر سابقاً. والسحت، بضم السين وسكون الحاء: المال الحرام، وأصله الهلاك والشدّة، من سحته: إذا هلكه، ومنه {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} [طه: 61]، ومنه قول الفرزدق:
وعضّ زمان يابن مروان لم يدع ** من المال إلا مسحت أو مُجلَّفُ

ويقال للحالق اسحت: أي استأصل؛ وسمي الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات: أي يذهبها ويستأصلها، وقال الفراء: أصله كلب الجوع؛ وقيل هو الرشوة، والأوّل أولى، والرشوة تدخل في الحرام دخولاً أوّلياً.
وقد فسره جماعة بنوع من أنواع الحرام خاص كالهدية لمن يقضى له حاجة، وحلوان الكاهن، والتعميم أولى بالصواب. قوله: {فَإِن جَاؤوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فيه تخيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحكم بينهم والإعراض عنهم.
وقد استدلّ به على أن حكام المسلمين مخيرون بين الأمرين.
وقد أجمع العلماء على أنه يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمى إذا ترافعا إليهم.
واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم؛ فذهب قوم إلى التخيير، وذهب آخرون إلى الوجوب، وقالوا: إن هذه الآية منسوخة بقوله: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله} وبه قال ابن عباس، ومجاهد وعكرمة، والزهري وعمر بن عبد العزيز والسديّ: وهو الصحيح من قول الشافعي، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء.
قوله: {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً} أي إن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم، فلا سبيل لهم عليك، لأن الله حافظك وناصرك عليهم، وإن اخترت الحكم بينهم {فاحكم بَيْنَهُم بالقسط} أي بالعدل الذي أمرك الله به وأنزله عليك.
قوله: {وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله} فيه تعجيب له صلى الله عليه وسلم من تحكيمهم إياه، مع كونهم لا يؤمنون به ولا بما جاء به، مع أن ما يحكمونه فيه هو موجود عندهم في التوراة كالرجم، ونحوه، وإنما يأتون إليه صلى الله عليه وسلم ويحكمونه طمعاً منهم في أن يوافق تحريفهم، وما صنعوه بالتوراة من التغيير. قوله: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ} عطف على يحكمونك {مِن بَعْدِ ذلك} أي من بعد تحكيمهم لك. وجملة قوله: {وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين} لتقرير مضمون ما قبلها.
وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} استئناف يتضمن تعظيم التوراة، وتفخيم شأنها وأن فيها الهدى والنور، وهو بيان الشرائع، والتبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيجاب اتباعه. قوله: {يَحْكُمُ بِهَا النبيون} هم أنبياء بني إسرائيل، والجملة إما مستأنفة أو حالية، و{الذين أَسْلَمُواْ} صفة مادحة للنبيين، وفيه إرغام لليهود المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأن أنبياءهم كانوا يدينون بدين الإسلام الذي دان به محمد صلى الله عليه وسلم؛ وقيل المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه بلفظ الجمع تعظيماً. قوله: {لِلَّذِينَ هَادُواْ} متعلق ب {يحكم}. والمعنى: أنه يحكم بها النبيون للذين هادوا وعليهم. والربانيون العلماء الحكماء، وقد سبق تفسيره، والأحبار العلماء، مأخوذ من التحبير وهو التحسين فهم يحبرون العلم: أي يحسنونه. قال الجوهري: الحبر واحد أحبار اليهود بالفتح وبالكسر والكسر أفصح، وقال الفراء: هو بالكسر، وقال أبو عبيدة: هو بالفتح.
قوله: {بِمَا استحفظوا مِن كتاب الله} الباء للسببية واستحفظوا أمروا بالحفظ: أي أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة عن التغيير والتبديل، والجار والمجرور متعلق بيحكم: أي يحكمون بها بسبب هذا الاستحفاظ، قوله: {وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} أي على كتاب الله والشهداء الرقباء، فهم يحمونه عن التغيير والتبديل بهذه المراقبة، والخطاب بقوله: {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس} لرؤساء اليهود، وكذا في قوله: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَنًا قَلِيلاً} والاشتراء الاستبدال، وقد تقدّم تحقيقه. قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} لفظ {من} من صيغ العموم فيفيد أن هذا غير مختص بطائفة معينة، بل بكل من ولي الحكم؛ وقيل إنها مختصة بأهل الكتاب؛ وقيل بالكفار مطلقاً لأن المسلم لا يكفر بارتكاب الكبير؛ وقيل هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله، وقع استخفافاً، أو استحلالاً، أو جحداً، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى من، والجمع باعتبار معناها، وكذلك ضمير الجماعة في قوله: {هُمُ الكافرون}.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ في الكفر} قال: هم اليهود {مِنَ الذين قَالُواْ ءامَنَّا بأفواههم وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} قال: هم المنافقون.
وأخرج أحمد، وأبو داود وابن جرير، وابن المنذر والطبراني، وأبو الشيخ وابن مردويه عنه قال: إن الله أنزل: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون الظالمون الفاسقون} أنزلها الله في طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية حتى اصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يظهر عليهم، فقتلت الذليلة من العزيزة، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، ودية بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا وفرقاً منكم، فأما إذ قدم محمد صلى الله عليه وسلم، فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، ففكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد يعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيماً وقهراً لهم، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يخبر لكم رأيه، فإن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتموه ولم تحكموه؛ فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المنافقين يختبرون لهم رأيه، فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله بأمرهم، كله وما أرادوا، فأنزل الله: {ياأَيُّهَا الرسول لاَ يَحْزُنكَ} إلى قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} ثم قال فيهم: «والله أنزلت وإياهم عني».
وأخرج عبد الرزاق، وأحمد وعبد بن حميد، وأبو داود وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة، قال: أوّل مرجوم رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود زنى رجل منهم وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبيّ، فإنه نبيّ بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا: فتيا نبيّ من أنبيائك، قال: فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد وأصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا، فلم يكلمهم حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب فقال: «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟» قالوا: يحمم ويجبه ويجلد، والتجبية: أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما، وسكت شاب منهم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة فقال: اللهم إذ نشدتنا نجب فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فما أوّل ما ارتخصتم أمر الله؟» قال: زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه، فحال قومه دونه، وقالوا: والله لا ترجم صاحبنا حتى تجئ بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإني أحكم بما في التوراة»، فأمر بهما فرجما. قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم {إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ} فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم.
وأخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر، والبيهقي في سننه من طريق أخرى عن أبي هريرة، وذكر فيه أن الشاب المذكور هو عبد الله بن صوريا.
وأخرج نحو حديث أبي هريرة أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث البراء بن عازب.
وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما، من حديث عبد الله بن عمر: أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تجدون في التوراة؟» قالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرجم، قالوا صدق، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن جابر بن عبد الله في قوله: {وَمِنَ الذين هِادُواْ سماعون لِلْكَذِبِ} قال: يهود المدينة {سماعون لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك} قال: يهود فدك {يُحَرّفُونَ الكلم} قال: يهود فدك يقولون ليهود المدينة {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا} الجلد {فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا} الرجم.
وأخرج أبو داود، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن مردويه، عنه قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمداً، وذكر القصة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {أكالون لِلسُّحْتِ} قال: أخذوا الرشوة في الحكم وقضوا بالكذب.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن مسعود قال: السحت الرشوة في الدين. قال سفيان: يعني في الحكم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن مسعود أيضاً قال: من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمة أو يردّ عليه حقاً فأهدى له هدية فقبلها، فذلك السحت فقيل له: يا أبا عبد الرحمن إنا كنا نعدّ السحت الرشوة في الحكم، فقال ذلك الكفر {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} وقد روي نحو هذا عنه من طرق، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: رشوة الحكام حرام.
وهي السحت الذي ذكر الله في كتابه.
وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن ثابت قال: السحت الرشوة.
وأخرج عبد بن حميد عن عليّ بن أبي طالب أنه سئل عن السحت فقال: الرشا، فقيل له في الحكم؟ قال: ذاك الكفر.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن عمر قال: بابان من السحت يأكلهما الناس: الرشاء في الحكم، ومهر الزانية.
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الرشوة ما هو معروف.
وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال: آيتان نسختا من سورة المائدة: آية القلائد، وقوله: {فَإِن جَاؤوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، فردّهم إلى أحكامهم، فنزلت: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
وأخرج نحوه في الآية الآخر عنه أبو عبيدة وابن المنذر، وابن مردويه.
وأخرج عبد الرزاق عن عكرمة نحوه.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير، وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس أن الآيات من المائدة التي قال فيها: {فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} إلى قوله: {المقسطين} إنما نزلت في الدية من بني النضير وقريظة، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف يودون الدية كاملة، وأن بني قريظة كانوا يودون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية سواء.
وأخرج نحوه عنه ابن أبي شيبة وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَعِندَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله} يعني حدود الله فأخبره الله بحكمه في التوراة، قال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} إلى قوله: {والجروح قِصَاصٌ}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: {يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ} يعني النبي صلى الله عليه وسلم {لِلَّذِينَ هَادُواْ} يعني اليهود.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: الذين أسلموا النبي ومن قبله من الأنبياء يحكمون بما فيها من الحق.
وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: الربانيون والأحبار الفقهاء والعلماء.
وأخرج عن مجاهد قال: الربانيون العلماء الفقهاء، وهم فوق الأحبار.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: الربانيون العباد، والأحبار العلماء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الربانيون الفقهاء العلماء.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه قال: الربانيون هم المؤمنون، والأحبار هم القراء.
وأخرج ابن جرير، عن السدي {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس} فتكتموا ما أنزلت: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَنًا قَلِيلاً} على أن تكتموا ما أنزلت.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَنًا قَلِيلاً} قال: لا تأكلوا السحت على كتابي.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم} يقول: من جحد الحكم بما أنزل الله فقد كفر، ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق.
وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} قال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، وإنه ليس كفر ينقل من الملة بل دون كفره.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن عطاء ابن أبي رباح في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون هُمُ الظالمون هُمُ الفاسقون} قال: كفر دون كفر وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.
وأخرج سعيد ابن منصور، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما أنزل الله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} و{الظالمون} و{الفاسقون} في اليهود خاصة.
وقد روى نحو هذا عن جماعة من السلف.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن حذيفة، أن هذه الآيات ذكرت عنده {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} و{الظالمون} و{الفاسقون} فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرّة، كلا والله لتسلكنّ طريقهم قدّ الشراك.
وأخرج ابن المنذر نحوه عن ابن عباس.