فصل: تفسير الآية رقم (28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (28):

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}
كيف مبنية على الفتح لخفته، وهي في موضع نصب ب {تكفرون} ويسأل بها عن الحال، وهذا الاستفهام هو للإنكار عليهم، والتعجب من حالهم، وهي متضمنة لهمزة الاستفهام، والواو في {وَكُنتُمْ} للحال، و(قد) مقدّرة كما قال الزجاج والفراء، وإنما صح جعل هذا الماضي حالاً؛ لأن الحال ليس هو مجرد قوله: {كنتم أمواتاً} بل هو وما بعده إلى قوله: {تُرْجَعُونَ} كما جزم به صاحب الكشاف كأنه قال: كيف تكفرون وقصتكم هذه؟ أي: وأنتم عالمون بهذه القصة، وبأوّلها، وآخرها. والأموات جمع ميت، واختلف المفسرون في ترتيب هاتين الموتتين، والحياتين فقيل: إن المراد {كُنتُمْ أمواتا} قبل أن تخلقوا، أي: معدومين؛ لأنه يجوز إطلاق اسم الموت على المعدوم لاجتماعهما في عدم الاحساس {فأحياكم} أي: خلقكم {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} يوم القيامة.
وقد ذهب إلى هذا جماعة من الصحابة، فمن بعدهم. قال ابن عطية: وهذا القول هو: المراد بالآية، وهو الذي لا محيد للكفار عنه، وإذا أذعنت نفوس الكفار بكونهم كانوا معدومين، ثم أحياء في الدنيا، ثم أمواتاً فيها لزمهم الإقرار بالحياة الأخرى. قال غيره: والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا. وقيل: إن المراد كنتم أمواتاً في ظهر آدم ثم أخرجكم من ظهره كالذّر، ثم يميتكم موت الدنيا، ثم يبعثكم. وقيل: {كُنتُمْ * أمواتا} أي: نطفاً في أصلاب الرجال {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} حياة الدنيا. {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} بعد هذه الحياة {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} في القبور {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} في القبر {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} الحياة التي ليس بعدها موت.
قال القرطبي: فعلى هذا التأويل هي: ثلاث موتات، وثلاث إحياءات، وكونهم موتى في ظهر آدم، وإخراجهم من ظهره، والشهادة عليهم غير كونهم نطفاً في أصلاب الرجال، فعلى هذا يجيء أربع موتات وأربع إحياءات.
وقد قيل: إن الله تعالى أوجدهم قبل خلق آدم كالبهائم، وأماتهم، فيكون على هذا خمس موتات، وخمس إحياءات، وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث: «ولكن ناساً أصابتهم النار بذنوبهم، فأماتهم الله إماتة، حتى إذا كانوا فحماً أذن في الشفاعة فجيء بهم» إلى أن قال: «فينبتون نبات الحبة في حميل السيل» وهو في الصحيح من حديث أبي سعيد.
وقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: إلى الله سبحانه، فيجازيكم بأعمالكم.
وقد قرأ يحيى بن يعمر، وابن أبي إسحاق، ومجاهد، وسلام، ويعقوب بفتح حرف المضارعة، وقرأ الجماعة بضمه. قال في الكشاف: عطف الأوّل بالفاء، وما بعده بثم، لأن الإحياء الأوّل قد تعقب الموت بغير تراخ، وأما الموت، فقد تراخى عن الإحياء، والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخياً ظاهراً، وإن أريد به إحياء القبر، فمنه يكتسب العلم بتراخيه، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخ عن النشور.
انتهى. ولا يخفاك أنه إن أراد بقوله أن الإحياء الأوّل قد تعقب الموت أنه وقع على ما هو متصف بالموت، فالموت الآخر وقع على ما هو متصف بالحياة، وإن أراد أنه وقع الإحياء الأوّل عند أوّل اتصافه بالموت بخلاف الثاني، فغير مسلم، فإنه وقع عند آخر أوقات موته، كما وقع الثاني عند آخر أوقات حياته، فتأمل هذا.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أمواتا} الآية، قال: لم تكونوا شيئاً، فخلقكم {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} يوم القيامة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه أيضاً.
وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: يميتكم، ثم يحييكم في القبر، ثم يميتكم.
وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية في قوله: {وَكُنتُمْ أمواتا} قال: حين لم تكونوا شيئاً، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، ثم يرجعون إليه بعد الحياة.
وأخرج ابن جرير، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: خلقهم من ظهر آدم، فأخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة. والصحيح الأول.

.تفسير الآية رقم (29):

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}
قال ابن كيسان: {خَلَقَ لَكُمْ} أي: من أجلكم، وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة، حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل، ولا فرق بين الحيوانات، وغيرها مما ينتفع به من غير ضرر، وفي التأكيد بقوله: {جَمِيعاً} أقوى دلالة على هذا.
وقد استدلَّ بهذه الآية على تحريم أكل الطين، لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض.
وقال الرازي في تفسيره: إن لقائل أن يقول: إن في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض، فيكون جامعاً للوصفين، ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك، وكذلك عروق الأرض، وما يجري مجرى البعض لها؛ ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه. انتهى.
وقد ذكر صاحب الكشاف ما هو أوضح من هذا فقال: فإن قلت: هل لقول من زعم أن المعنى خلق لكم الأرض، وما فيها وجه صحة؟ قلت: إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء، ويراد الجهات العلوية جاز ذلك، فإن الغبراء، وما فيها واقعة في الجهات السفلية. انتهى. وأما التراب، فقد ورد في السنة تحريمه، وهو أيضاً ضارّ، فليس مما ينتفع به أكلاً، ولكنه ينتفع به في منافع أخرى، وليس المراد منفعة خاصة كنفعة الأكل، بل كل ما يصدق عليه أنه ينتفع به بوجه من الوجوه، و{جميعاً} منصوب على الحال.
والاستواء في اللغة: الاعتدال، والاستقامة، قاله في الكشاف، ويطلق على الارتفاع، والعلوّ على الشيء، قال تعالى: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك} [المؤمنون: 28] وقال: {لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] وهذا المعنى هو المناسب لهذه الآية.

وقد قيل: إن هذه الآية من المشكلات.
وقد ذهب كثير من الأئمة إلى الإيمان بها، وترك التعرّض لتفسيرها، وخالفهم آخرون. والضمير في قوله: {فَسَوَّاهُنَّ} مبهم يفسره ما بعده كقولهم: زيد رجلاً، وقيل: إنه راجع إلى السماء؛ لأنها في معنى الجنس، والمعنى: أنه عدل خلقهنّ، فلا اعوجاج فيه.
وقد استدل بقوله: {ثُمَّ استوى} على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء. وكذلك الآية التي في حم السجدة.
وقال في النازعات {أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء بناها} [النازعات: 28] فوصف خلقها، ثم قال: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} [النازعات: 30] فكأنّ السماء على هذا خلقت قبل الأرض، وكذلك قوله تعالى: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السموات والأرض} [الأنعام: 1] وقد قيل: إن خلق جرم الأرض متقدم على السماء، ودحوها متأخر.
وقد ذكر نحو هذا جماعة من أهل العلم، وهذا جمع جيد لابد من المصير إليه، ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد الدحو، والآية المذكورة هنا دلت على أنه خلق ما في الأرض قبل خلق السماء، وهذا يقتضي بقاء الإشكال، وعدم التخلص عنه بمثل هذا الجمع.
وقوله: {سَبْعَ سموات} فيه التصريح بأن السموات سبع، وأما الأرض، فلم يأت في ذكر عددها إلا قوله تعالى: {وَمِنَ الارض مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] فقيل: أي: في العدد، وقيل: أي: في غلظهنّ، وما بينهنّ.
وقال الداودي: إن الأرض سبع، ولكن لم يفتق بعضها من بعض. والصحيح أنها سبع كالسموات.
وقد ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: «من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طوّقه الله من سبع أرضين» وهو ثابت من حديث عائشة، وسعيد بن زيد. ومعنى قوله تعالى: {سوَّاهنّ} سوّى سُطوحَهُن بالإملاس، وقيل: جعلهنّ سواء. قال الرازي في تفسيره: فإن قيل: فهل يدل التنصيص على سبع سموات: أي: فقط؟ قلنا: الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد، والله أعلم. انتهى. وفي هذا إشارة إلى ما ذكره الحكماء من الزيادة على السبع. ونحن نقول: إنه لم يأتنا عن الله، ولا عن رسوله إلا السبع، فنقتصر على ذلك، ولا نعمل بالزيادة إلا إذا جاءت من طريق الشرع، ولم يأت شيء من ذلك، وإنما أثبت لنفسه سبحانه أنه بكل شيء عليم، لأنه يجب أن يكون عالماً بجميع ما ثبت أنه خالفه.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعاً} قال: سخر لكم ما في الأرض جميعاً كرامة من الله، ونعمة لابن آدم، وبلغة، ومنفعة إلى أجل.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن مجاهد في قوله: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعاً} قال: سخر لكم ما في الأرض جميعاً {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} قال: خلق الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان فذلك قوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات} يقول: خلق سبع سموات بعضهنّ فوق بعض، وسبع أرضين بعضهنّ فوق بعض.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء، والصفات عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من الصحابة في قوله: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض} الآية، قالوا: إن الله كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئاً قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً، فارتفع فوق الماء، فسما عليه فسماه سماء، ثم انبسَّ الماء، فجعله أرضاً واحدة، ثم فتقها سبع أرضين في يومين الأحد، والاثنين، فخلق الأرض على حوت، وهو: الذي ذكره في قوله: {ن والقلم} [القلم: 1] والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي: الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء، ولا في الأرض، فتحرّك الحوت، فاضطرب، فتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال فقرّت، فذلك قوله تعالى: {وألقى في الأرض رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان: 10] وخلق الجبال فيها، وأقوات أهلها، وسخرها، وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء، والأربعاء، وذلك قوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الارض} [فصلت: 9] إلى قوله: {وبارك فِيهَا} [فصلت: 10] يقول: أنبت شجرها {وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها} [فصلت: 10] يقول: أقوات أهلها {فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10] يقول: من سأل، فهكذا الأمر، {ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة؛ وإنما سمي يوم الجمعة؛ لأنه جمع فيه خلق السموات، والأرض {وأوحى في كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا} [فصلت: 12] قال: خلق في كل أسماء خلقها، من الملائكة، والخلق الذي فيها، من البحار وجبال البرد، وما لا يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة، وحفظاً من الشياطين، فلما فرغ من خلق ما أحبّ استوى على العرش.
وأخرج البيهقي في الأسماء، والصفات، عن عباس في قوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} يعني صعد أمره إلى السماء، فسواهنّ: يعني خلق سبع سموات، قال: أجرى النار على الماء، فبخر البحر، فصعد في الهواء، فجعل السموات منه.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في الصحيح قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: «خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الأثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثّ فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة بعد العصر» وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق عند أهل السنن، وغيرهم، عن جماعة من الصحابة أحاديث في وصف السموات، وأن غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام، وأنها سبع سموات، وأن الأرض سبع أرضين، وكذلك ثبت في وصف السماء آثار عن جماعة من الصحابة، وقد ذكر السيوطي في الدرّ المنثور بعض ذلك في تفسير هذه الآية، وإنما تركنا ذكره ها هنا لكونه غير متعلق بهذه الآية على الخصوص، بل هو متعلق بما هو أعمّ منها.

.تفسير الآية رقم (30):

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}
{إِذْ} من الظروف الموضوعة للتوقيت، وهي للمستقبل، وإذا للماضي، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى.
وقال المبرّد: هي مع المستقبل للمضيّ، ومع الماضي للاستقبال.
وقال أبو عبيدة: إنها هنا زائدة. وحكاه الزَّجَّاج وابن النحاس وقالا: هي ظرف زمان ليست مما يزاد، وهي هنا في موضع نصب بتقدير اذكر، أو بقالوا. وقيل: هو متعلق ب {خلق لكم} [البقرة: 29]، وليس بظاهر، والملائكة: جمع ملَكَ بوزن فَعَل، قاله ابن كيسان. وقيل: جمع مَلأك بوزن مَفْعَل، قاله أبو عبيدة، من لأك: إذا أرسل، والألوكة: الرسالة. قال لبيد:
وغُلامٍ أرسَلتْهُ أمهُ ** بَألوكَ فَبَذلنَا مَا سَأل

وقال عدي بن زيد:
أبلغِ النُّعمانَ عَنِي مألكاً ** أنَّه قَدْ طَال حَبْسِي وَانتِظَاري

ويقال ألكني: أي: أرسلني.
وقال النضر بن شميل: لا اشتقاق لملك عند العرب، والهاء في الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع، ومثله الصلادمة، والصلادم: الخيل الشداد واحدها صلدم. وقيل: هي للمبالغة، كعلامة ونسَّابة و{جَاعِلٌ} هنا من جعل المتعدي إلى مفعولين. وذكر المطرزي أنه بمعنى خالق، وذلك يقتضي أنه متعدّ إلى مفعول واحد، والأرض هنا: هي هذه الغبراء، ولا يختص ذلك بمكان دون مكان، وقيل: إنها مكة. والخليفة هنا معناه: الخالف لمن كان قبله من الملائكة، ويجوز أن يكون بمعنى المخلوف، أي: يخلفه غيره قيل: هو آدم. وقيل: كل من له خلافة في الأرض، ويقوى الأوّل قوله: {خليفة} دون خلائف، واستغنى بآدم عن ذكر من بعده.
قيل: خاطب الله الملائكة بهذا الخطاب؛ لا للمشورة، ولكن لاستخراج ما عندهم. وقيل: خاطبهم بذلك لأجل أن يصدر منهم ذلك السؤال، فيجابون بذلك الجواب، وقيل لأجل تعليم عباده مشروعية المشاورة لهم. وأما قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} فظاهره أنهم استنكروا استخلاف بني آدم في الأرض، لكونهم مظنة للإفساد في الأرض، وإنما قالوا هذه المقالة قبل أن يتقدم لهم معرفة ببني آدم، بل قبل وجود آدم، فضلاً عن ذريته، لعلم قد علموه من الله سبحانه بوجه من الوجوه، لأنهم لا يعلمون الغيب؛ قال بهذا جماعة من المفسرين.
وقال بعض المفسرين: إن في الكلام حذفاً، والتقدير: إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا وكذا، فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ويسفك الدماء} وقوله: {يُفْسِدُ} قائم مقام المفعول الثاني. والفساد ضدّ الصلاح. وسفك الدم: صبه، قاله ابن فارس، والجوهري، ولا يستعمل السفك إلا في الدم. وواحد الدماء: دم، وأصله دمى حذف لامه، وجملة: {ونحن نسبح بحمدك} حالية. والتسبيح في كلام العرب: التنزيه، والتبعيد من السوء على وجه التعظيم. قال الأعشى:
أقُولُ َلمَّا جَاءني فَخْرُه ** سُبْحَان مَن عَلْقَمة الفَاخِرِ

و{بِحَمْدِكَ} في موضع الحال، أي: حامدين لك، وقد تقدم معنى الحمد.
والتقديس: التطهير، أي: ونطهرك عما لا يليق بك مما نسبه إليك الملحدون، وافتراه الجاحدون. وذكر في الكشاف: أن معنى التسبيح، والتقديس واحد، وهو: تبعيد الله من السوء، وأنهما من سبح في الأرض والماء، وقدّس في الأرض إذا ذهب فيها، وأبعد. وفي القاموس، وغيره من كتب اللغة ما يرشد إلى ما ذكرناه، والتأسيس خير من التأكيد خصوصاً في كلام الله سبحانه. ولما كان سؤالهم واقعاً على صفة تستلزم إثبات شيء من العلم لأنفسهم، أجاب الله سبحانه عليهم بقوله: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل؛ لأن من علم ما لا يعلم المخاطب له كان حقيقاً بأن يسلم له ما يصدر عنه، وعلى من لا يعلم أن يعترف لمن يعلم، بأن أفعاله صادرة على ما يوجبه العلم، وتقتضيه المصلحة الراجحة، والحكمة البالغة. ولم يذكر متعلق قوله: {تَعْلَمُونَ} ليفيد التعميم، ويذهب السامع عند ذلك كل مذهب، ويعترف بالعجز ويقر بالقصور.
وقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن ابن عباس، قال: إن الله أخرج آدم من الجنة قبل أن يخلقه، ثم قرأ: {إِنّي جَاعِلٌ في الارض خَلِيفَةً} وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضاً نحوه وزاد.
وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عام الجن بنو الجان، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فلما أفسدوا في الأرض بعث الله عليهم جنوداً من الملائكة، فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فلما قال الله: {إِنّي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} كما فعل أولئك الجان، فقال الله: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر مثله.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس أطول منه.
وأخرج ابن جرير، وابن عساكر، عن ابن مسعود، وناس من الصحابة قال: لما فرغ الله من خلق ما أحبّ استوى على العرش، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن، وإنما سموا الجنّ؛ لأنهم خزان الجنة وكان إبليس مع ملكه خازناً، فوقع في صدره كبر، وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي. فاطلع الله على ذلك منه، فقال للملائكة {إِنّي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً} قالوا: ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض، ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضاً، قالوا: ربنا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} قَالَ: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في الآية قال: قد علمت الملائكة، وعلم الله، أنه لا شيء أكره عند الله من سفك الدماء، والفساد في الأرض.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس قال: إياكم والرأي، فإنَّ الله ردَّ الرأي على الملائكة، وذلك أن الله قال: {إِنّي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً} قالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} قال: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن عساكر، عن أبي سابط؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله: {إِنّي جَاعِلٌ في الارض خَلِيفَةً}» قال ابن كثير: وهذا مرسل في سنده ضعف، وفيه مدرج، وهو: أن المراد بالأرض مكة، والظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك. انتهى.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة قال: التسبيح، والتقديس المذكور في الآية هو: الصلاة.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أوّل من لبى الملائكة قال الله تعالى: {إِنّي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} قال: فرادُّوه، فأعرض عنهم، فطافوا بالعرش ست سنين يقولون: لبيك لبيك اعتذاراً إليك، لبيك لبيك نستغفرك، ونتوب إليك». وثبت في الصحيح من حديث أبي ذرّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أحبّ الكلام إلى الله ما اصطفاه لملائكته سبحان ربي، وبحمده».
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود، وناس من الصحابة في قوله: {وَنُقَدّسُ لَكَ} قال: نصلي لك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: التقديس: التطهير.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله: {وَنُقَدّسُ لَكَ} قال: نعظمك ونكبرك.
وأخرجا عن أبي صالح قال: نعظمك ونمجدك.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله: {أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} قال:
علم من إبليس المعصية، وخلقه لها.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في تفسيرها قال: كان في علم الله أنه سيكون من الخليقة أنبياء، ورسل، وقوم صالحون، وساكنوا الجنة.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمر: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن آدم لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة: أي ربّ {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} الآية، قالوا ربنا نحن أطوع لك من بني آدم قال الله لملائكته: هلموا ملكين من الملائكة حتى يهبطا إلى الأرض فننظر كيف يعملان؟ فقالوا: ربنا هاروت وماروت، قال: فاهبطا إلى الأرض، فتمثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر» وذكر القصة.
وقد ثبت في كتب الحديث المعتبرة أحاديث من طريق جماعة من الصحابة في صفة خلقه سبحانه لآدم وهي موجودة فلا نطوّل بذكرها.