فصل: تفسير الآيات (100- 104):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (100- 104):

{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)}
قيل المراد بالخبيث والطيب: الحرام والحلال، وقيل المؤمن والكافر، وقيل العاصي والمطيع، وقيل الرديء والجيد. والأولى أن الاعتبار بعموم اللفظ فيشمل هذه المذكورات وغيرها مما يتصف بوصف الخبث والطيب من الأشخاص والأعمال والأقوال، فالخبيث لا يساوي الطيب بحال من الأحوال.
قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} قيل الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل لكل مخاطب يصلح لخطابه بهذا. والمراد: نفي الاستواء في كل الأحوال، ولو في حال كون الخبيث معجباً للرائي للكثرة التي فيه، فإن هذه الكثرة مع الخبيث في حكم العدم، لأن خبث الشيء يبطل فائدته، ويمحو بركته، ويذهب بمنفعته، والواو إما للحال أو للعطف على مقدّر: أي لا يستوي الخبيث والطيب، لو لم تعجبك كثرة الخبيث، ولو أعجبك كثرة الخبيث، كقولك أحسن إلى فلان، وإن أساء إليك، أي أحسن إليه إن لم يسئ إليك، وإن أساء إليك، وجواب {لو} محذوف: أي ولو أعجبك كثرة الخبيث فلا يستويان.
قوله: {ياأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} أي لا تسألوا عن أشياء لا حاجة لكم بالسؤال عنها، ولا هي مما يعنيكم في أمر دينكم، فقوله: {إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} في محل جر صفة لأشياء أي لا تسألوا عن أشياء متصفة بهذه الصفة من كونها إذا بدت لكم أي ظهرت وكلفتم بها ساءتكم، نهاهم الله عن كثرة مساءلتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن السؤال عما لا يعني ولا تدعو إليه حاجة قد يكون سبباً لإيجابه على السائل وعلى غيره. قوله: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُم} هذه الجملة من جملة صفة أشياء، والمعنى: لا تسألوا عن أشياء إن تسألوا عنها حين ينزل القرآن، وذلك مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، ونزول الوحي عليه {تُبْدَ لَكُمْ} أي: تظهر لكم بما يجيب عليكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو ينزل به الوحي، فيكون ذلك سبباً للتكاليف الشاقة وإيجاب ما لم يكن واجباً وتحريم ما لم يكن محرّماً، بخلاف السؤال عنها بعد انقطاع الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا إيجاب ولا تحريم يتسبب عن السؤال.
وقد ظنّ بعض أهل التفسير، أن الشرطية الثانية فيها إباحة السؤال، مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي عليه، فقال: إن الشرطية الأولى أفادت عدم جواز السؤال، والثانية أفادت جوازه، فقال إن المعنى: وإن تسألوا عن غيرها مما مست إليه الحاجة تبد لكم بجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، وجعل الضمير في {عَنْهَا} راجعاً إلى أشياء غير الأشياء المذكورة، وجعل ذلك كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] وهو: آدم، ثم قال: {ثُمَّ جعلناه نُطْفَةً} [المؤمنون: 13] أي: ابن آدم.
قوله: {عَفَا الله عَنْهَا} أي عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى ذلك. وقيل المعنى: إن تلك الأشياء التي سألتم عنها هي مما عفا عنه، ولم يوجبه عليكم، فكيف تتسببون بالسؤال لإيجاب ما هو عفو من الله غير لازم؟ وضمير {عَنْهَا} عائد إلى المسألة الأولى، وإلى أشياء على الثاني، على أن تكون جملة {عفا الله عنها} صفة ثالثة لأشياء، والأوّل أولى؛ لأن الثاني يستلزم أن يكون ذلك المسؤول عنه قد شرعه الله ثم عفا عنه، ويمكن أن يقال إن العفو بمعنى الترك أي تركها الله ولم يذكرها بشيء فلا تبحثوا عنها، وهذا معنى صحيح لا يستلزم ذلك اللازم الباطل، ثم جاء سبحانه بصيغة المبالغة في كونه غفوراً حليماً ليدلّ بذلك على أنه لا يعاجل من عصاه بالعقوبة؛ لكثرة مغفرته وسعة حلمه.
قوله: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كافرين} الضمير: يرجع إلى المسألة المفهومة من {لاَ تَسْأَلُواْ} لكن ليست هذه المسألة بعينها، بل مثلها في كونها مما لا حاجة إليه، ولا توجبه الضرورة الدينية ثم لم يعملوا بها، بل أصبحوا بها كافرين أي ساترين لها تاركين للعمل بها، وذلك كسؤال قوم صالح الناقة، وأصحاب عيسى المائدة، ولابد من تقييد النهي في هذه الآية بما لا تدعو إليه حاجة كما قدمنا، لأن الأمر الذي تدعو الحاجة إليه في أمور الدين والدنيا، قد أذن الله بالسؤال عنه فقال: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] وقال صلى الله عليه وسلم: «قاتلهم الله ألا سألوا فإنما شفاء العيّ السؤال» قوله: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ} هذا كلام مبتدأ يتضمن الردّ على أهل الجاهلية فيما ابتدعوه، وجعل هاهنا بمعنى سمي كما قال: {إِنَّا جعلناه قُرْءاناً عَرَبِيّاً} [الزخرف: 3]. والبحيرة: فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة والذبيحة، وهي مأخوذة من البحر، وهو شقّ الأذن، قال ابن سيده: البحيرة هي التي خليت بلا راع؛ قيل: هي التي يجعل درّها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس، وجعل شق أذنها علامة لذلك.
وقال الشافعي: كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثاً بحرت أذنها فحرّمت. وقيل إن الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، فإن كان الخامس ذكراً، بحروا أذنه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى، بحروا أذنها وكانت حراماً على النساء لحمها ولبنها. وقيل: إذا نتجت الناقة خمسة أبطن من غير تقييد بالإناث شقوا أذنها وحرّموا ركوبها ودرّها. والسائبة: الناقة تسيب، أو البعير يسيب نذر على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلغه منزلة، فلا يحبس عن رعي ولا ماء، ولا يركبه أحد قاله أبو عبيد.
قال الشاعر:
وسائبة لله تنمي تشكرا ** إن الله عافا عامراً ومجاشعا

وقيل: هي التي تسيب لله فلا قيد عليها ولا راعي لها، ومنه قول الشاعر:
عقرتم ناقة كانت لربي ** مسيبة فقوموا للعقاب

وقيل: هي التي تابعت بين عشر إناث ليس بينهنّ ذكر، فعند ذلك لا يركب ظهرها، ولا يجزّ وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف. وقيل: كانوا يسيبون العبد، فيذهب حيث يشاء لا يد عليه لأحد. والوصيلة: قيل هي الناقة إذا ولدت أنثى بعد أنثى. وقيل هي الشاة كانت إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم، وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وقيل: كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا فإن كان السابع ذكراً ذبح فأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبح لمكانها، وكان لحمها حراماً على النساء، إلا أن يموت فيأكلها الرجال والنساء. والحام: الفحل الحامي ظهره عن أن يركب، وكانوا إذا ركب ولد الفحل قالوا حمى ظهره فلا يركب، قال الشاعر:
حماها أبو قابوس في عز ملكه ** كما قد حمى أولاد أولاده الفحل

وقيل: هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة، قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء، ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم ما قالوا ذلك إلا افتراء على الله وكذباً، لا لشرع شرعه الله لهم، ولا لعقل دلهم عليه، وسبحان الله العظيم ما أركّ عقول هؤلاء وأضعفها؟ يفعلون هذه الأفاعيل التي هي محض الرقاعة، ونفس الحمق {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} وهذا أفعال آبائهم وسننهم التي سنوها لهم، وصدق الله سبحانه حيث يقول: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُون} أي: ولو كانوا جهلة ضالين، والواو للحال دخلت عليها همزة الاستفهام. وقيل للعطف على جملة مقدّرة أي أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم.
وقد تقدّم الكلام على مثل هذه الآية في البقرة.
وقد صارت هذه المقالة التي قالتها الجاهلية نصب أعين المقلدة وعصاهم التي يتوكؤون عليها إن دعاهم داعي الحق وصرخ لهم صارخ الكتاب والسنة فاحتجاجهم بمن قلدوه ممن هو مثلهم في التعبد بشرع الله، مع مخالفة قوله لكتاب الله، أو لسنة رسوله، هو كقول هؤلاء، وليس الفرق إلا في مجرّد العبارة اللفظية، لا في المعنى الذي عليه تدور الإفادة والاستفادة، اللهمّ غفراً.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في الآية: قال الخبيث هم المشركون، والطيب هم المؤمنون، وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما، عن أنس قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال رجل: من أبي؟ فقال فلان، فنزلت هذه الآية: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء}.
وأخرج البخاري وغيره نحوه من حديث ابن عباس، وقد بين هذا السائل في روايات أخر، أنه عبد الله بن حذافة، وأنه قال: من أبي؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أبوك حذافة».
وأخرج ابن حبان، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: «يا أيها الناس إن الله قد افترض عليكم الحجّ»، فقام رجل، فقال: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت عنه، فأعادها ثلاث مرات، فقال: «لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها، ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»، وذلك أن هذه الآية: أعني {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء} نزلت في ذلك.
وقد أخرج عنه نحو هذا ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه.
وأخرج ابن جرير، والطبراني، وابن مردويه، عن أبي أمامة الباهلي نحوه.
وأخرج ابن مردويه، عن أبي مسعود، نحوه أيضاً.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس نحوه أيضاً.
وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدارقطني، والحاكم، وابن مردويه، عن عليّ نحوه، وكل هؤلاء صرحوا في أحاديثهم أن الآية نزلت في ذلك.
وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما، عن سعد بن أبي وقاص، قال: كانوا يسألون عن الشيء وهو لهم حلال، فما زالوا يسألون حتى يحرم عليهم، وإذا حرّم عليهم وقعوا فيه.
وأخرج ابن المنذر عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل مسألته».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها».
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء} قال: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما، عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درّها للطواغيت، ولا يجلها أحد من الناس؛ والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء؛ والوصيلة الناقة البكر، تبكر في أوّل نتاج الإبل ثم تثني بعد بأنثى. وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى، ليس بينهما ذكر؛ والحامي فحل الإبل، يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل، فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: البحيرة الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس، فإن كان ذكراً ونحوه فأكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى جدعوا آذانها فقالوا هذه بحيرة. وأما السائبة فكانوا يسيبون من أنعامهم لآلهتهم لا يركبون لها ظهراً، ولا يحلبون لها لبناً، ولا يجزون لها وبراً، ولا يحملون عليها شيئاً. وأما الوصيلة فالشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع، فإن كان ذكراً أو أثنى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى استحيوها، وإن كان ذكراً أو أنثى في بطن استحيوهما وقالوا وصلته أخته فحرّمته علينا، وأما الحام فالفحل من الإبل إذا ولد لولده قالوا حمى هذا ظهره فلا يحملون عليه شيئاً، ولا يجزون له وبراً، ولا يمنعونه من حمى ولا من حوض يشرب منه، وإن كان الحوض لغير صاحبه.
وأخرج نحوه عنه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق العوفيّ.

.تفسير الآية رقم (105):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}
أي الزموا أنفسكم أو احفظوها كما تقول عليك زيداً: أي الزمه، قرئ: {لاَ يَضُرُّكُمْ} بالجزم على أنه جواب الأمر الذي يدلّ عليه اسم الفعل. وقرأ نافع وغيره بالرفع على أنه مستأنف، كقول الشاعر:
فقال رائدهم أرسوا نزاولها

أو على أن ضم الراء للاتباع، وقرئ: {لاَ يَضُرُّكُمْ} بكسر الضاد، وقرئ: {لا يضيركم} والمعنى: لا يضركم ضلال من ضلّ من الناس إذا اهتديتم للحق أنتم في أنفسكم، وليس في الآية ما يدلّ على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن من تركه مع كونه من أعظم الفروض الدينية فليس بمهتد.
وقد قال الله سبحانه: {إِذَا اهتديتم} وقد دلت الآيات القرآنية، والأحاديث المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوباً مضيقاً متحتماً، فتحمل هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لا يظن التأثير بحال من الأحوال، أو يخشى على نفسه أن يحلّ به ما يضرّه ضرراً يسوغ له معه الترك {إلى الله مَرْجِعُكُمْ} يوم القيامة {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد ابن حميد، وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والدارقطني والضياء، في المختارة وغيرهم، عن قيس بن أبي حازم قال: قام أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: {ياأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} وإنكم تضعونها على غير مواضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب» وفي لفظ لابن جرير عنه: «والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو ليعمنكم الله منه بعقاب».
وأخرج الترمذي وصححه، وابن ماجه، وابن جرير، والبغوي في معجمه، وابن أبي حاتم والطبراني، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أبي أمية الشعثاني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله: {ياأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهنّ مثل القبض على الجمر، للعامل فيهنّ أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم».
وفي لفظ: قيل يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: «بل أجر خمسين منكم».
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم، والطبرني وابن مردويه، عن عامر الأشعري أنه كان فيهم أعمى، فاحتبس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه فقال: «ما حبسك؟» قال: يا رسول الله قرأت هذه الآية: {ياأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} قال: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أين ذهبتم؟ إنما هي لا يضرّكم من ضلّ من الكفار إذا اهتديتم».
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ عن الحسن: أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم} فقال: يا أيها الناس إنه ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا، أو قال: فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد عنه في الآية قال: «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما لم يكن من دون ذلك السوط والسيف، فإذا كان كذلك فعليكم أنفسكم».
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عمر، أنه قال في هذه الآية: إنها لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن رجل قال: كنت في خلافة عمر بن الخطاب بالمدينة في حلقة فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيهم شيخ حسبت أنه قال أُبيّ بن كعب، فقرأ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فقال: إنما تأويلها في آخر الزمان.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قوم جلوس فقرأ أحدهم: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فقال أكثرهم: لم يجيء تأويل هذه الآية اليوم.
وأخرج ابن جرير عن جبير بن نفير قال: كنت في حلقة فيها أصحاب النبي وإني لأصغر القوم، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت: أليس الله يقول: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}؟ فأقبلوا عليّ بلسان واحد فقالوا: تنزع آية من القرآن لا نعرفها ولا ندري ما تأويلها؟ حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت، ثم أقبلوا يتحدّثون، فلما حضر قيامهم قالوا: إنك غلام حدث السن، وإنك نزعت آية لا ندري ما هي؟ وعسى أن تدرك ذلك الزمان: «إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت».
وأخرج ابن مردويه، عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديث أبي ثعلبة الخشني المتقدّم، وفي آخره: «كأجر خمسين رجلاً منكم».
وأخرج ابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري قال: ذكرت هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لم يجيء تأويلها، لا يجيء تأويلها حتى يهبط عيسى ابن مريم عليه السلام»، والروايات في هذا الباب كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية، ففيه ما يرشد إلى ما قدمناه من الجمع بين هذه الآية وبين الآيات والأحاديث الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.