فصل: تفسير الآيات (116- 120):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (116- 120):

{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}
قوله: {وَإِذْ قَالَ الله} معطوف على ما قبله في محل نصب بعامله أو بعامل مقدّر، هنا: أي اذكر.
وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذا القول منه سبحانه هو يوم القيامة. والنكتة توبيخ عباد المسيح وأمه من النصارى.
وقال السديّ وقطرب: إنه قال له هذا القول عند رفعه إلى السماء، لما قالت النصارى فيه ما قالت، والأوّل أولى: قيل {وَإِذْ} هنا بمعنى إذا كقوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ} [سبأ: 51] أي إذا فزعوا، وقول أبي النجم:
ثم جزاك الله عني إذ جزى ** جنات عدن في السموات العلى

أي إذا جزى، وقول الأسود بن جعفر الأسدي:
في الآن إذ هازلتهنّ فإنما ** يقلن ألا لم يذهب الشيخ مذهبا

أي إذا هازلتهنّ تعبيراً عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه.
وقد قيل في توجيه هذا الاستفهام منه تعالى إنه لقصد التوبيخ كما سبق. وقيل: لقصد تعريف المسيح بأن قومه غيروا بعده وادّعوا عليه ما لم يقله. وقوله: {مِن دُونِ الله} متعلق بقوله: {اتخذونى} على أنه حال، أي متجاوزين الحدّ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف هو صفة لإلهين، أي كائنين من دون الله. قوله: {سبحانك} تنزيه له سبحانه، أي أنزهك تنزيهاً {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ} أي ما ينبغي لي أن أدّعي لنفسي ما ليس من حقها {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} ردّ ذلك إلى علمه سبحانه، وقد علم أنه لم يقله، فثبت بذلك عدم القول منه. قوله: {تَعْلَمُ مَا في نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ} هذه الجملة في حكم التعليل لما قبلها، أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، وهذا الكلام من باب المشاكلة كما هو معروف عند علماء المعاني والبيان. وقيل المعنى: تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك. وقيل تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه. وقيل: تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد.
قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ} هذه جملة مقرّرة لمضمون ما تقدّم، أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني: {أَنِ اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ} هذا تفسير لمعنى {مَا قُلْتُ لَهُمْ} أي ما أمرتهم، وقيل: عطف بيان للمضمر في {بِهِ} وقيل بدل منه {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي حفيظاً ورقيباً أرعى أحوالهم وأمنعهم عن مخالفة أمرك {مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} أي مدّة دوامي فيهم {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى} قيل: هذا يدل على أن الله سبحانه توفاه قبل أن يرفعه، وليس بشيء لأن الأخبار قد تضافرت بأنه لم يمت، وأنه باق في السماء على الحياة التي كان عليها في الدنيا، حتى ينزل إلى الأرض آخر الزمان، وإنما المعنى: فلما رفعتني إلى السماء.
قيل الوفاة في كتاب الله سبحانه جاءت على ثلاثة أوجه: بمعنى الموت، ومنه قوله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] وبمعنى النوم، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الذي يتوفاكم باليل} [الأنعام: 60] أي ينيمكم، وبمعنى الرفع، ومنه {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى}. {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ} [آل عمران: 55]. {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} أصل المراقبة: المراعاة، أي كنت الحافظ لهم والعالم بهم والشاهد عليهم: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} تصنع بهم ما شئت وتحكم فيهم بما تريد {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أي القادر على ذلك الحكيم في أفعاله، قيل: قاله على وجه الاستعطاف كما يستعطف السيد لعبده. ولهذا لم يقل إن تعذبهم فإنهم عصوك؛ وقيل: قاله على وجه التسليم لأمر الله والانقياد له، ولهذا عدل عن الغفور الرحيم إلى العزيز الحكيم.
قوله: {قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} أي صدقهم في الدنيا، وقيل: في الآخرة، والأوّل، أولى. قرأ نافع وابن محيصن {يَوْم} بالنصب، وقرأ الباقون بالرفع، فوجه النصب أنه ظرف للقول، أي قال الله هذا القول يوم ينفع الصادقين، ووجه الرفع أنه خبر للمبتدأ هو وما أضيف إليه.
وقال الكسائي نصب {يَوْمَ} هاهنا لأنه مضاف إلى الجملة، وأنشد:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ** وقلت ألمَّا أصحُ والشيبُ وازِعُ

وبه قال الزجاج، ولا يجيز البصريون ما قالاه إلا إذا أضيف الظرف إلى فعل ماض. وقرأ الأعمش: {هذا يَوْمٌ يَنفَعُ} بتنوين يوم كما في قوله: {واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] فكلاهما مقطوع عن الإضافة بالتنوين.
وقد تقدّم تفسير قوله: {لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً}. قوله: {رّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} أي رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم، وأعلى منازل الكرامة، والإشارة بذلك إلى نيل ما نالوه من دخول الجنة والخلود فيها أبداً، ورضوان الله عليهم. والفوز: الظفر بالمطلوب على أتمّ الأحوال.
قوله: {للَّهِ مُلْكُ السموات والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ} جاء سبحانه بهذه الخاتمة دفعاً لما سبق من إثبات من أثبت إلهية عيسى وأمه، وأخبر بأن ملك السموات والأرض له دون عيسى وأمه ودون سائر مخلوقاته، وأنه القادر على كل شيء دون غيره. وقيل المعنى: أن له ملك السموات والأرض يعطي الجنات للمطيعين، جعلنا الله منهم.
وقد أخرج الترمذي وصححه، والنسائي، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي هريرة قال: تلقى عيسى حجته والله لقَّاه في قوله: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله} قال أبو هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلقاه الله سبحانه: {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ} الآية.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة في الآية قال: يقول الله هذا يوم القيامة، ألا ترى أنه يقول: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السديّ قال: قال الله ذلك لما رفع عيسى إليه، وقالت النصارى ما قالت.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {أَنِ اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ} قال: سيدي وسيدكم.
وأخرج ابن المنذر، عنه في قوله: {كُنتَ أَنتَ الرقيب عَلَيْهِمْ} قال: الحفيظ.
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} قال: {ما كنت فيهم}.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} يقول: عبيدك قد استوجبوا العذاب بمقالتهم {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} أي من تركت منهم ومدّ في عمره حتى أهبط من السماء إلى الأرض لقتل الدجال، فزالوا عن مقالتهم ووحدوك {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم}.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} يقول: هذا يوم ينفع الموحدين توحيدهم.

.سورة الأنعام:

قال الثعلبي: سورة الأنعام مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة وهي: {وما قدروا الله حق قدره} إلى آخر ثلاث آيات، و{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} إلى آخر ثلاث آيات.
قال ابن عطية: وهي الآيات المحكمات يعني في هذه السورة.
وقال القرطبي: هي مكية إلا آيتين، هما: {وما قدروا الله حق قدره} نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين، وقوله تعالى: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات} نزلت في ثابت بن قيس بن شماس.
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت سورة الأنعام بمكة.
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عنه قال: أنزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة وحولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفا من الملائكة.
وأخرج ابن مردويه عن أسماء قال: نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير في زجل من الملائكة، وقد نظموا ما بين السماء والأرض.
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد نحوه.
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد».
وهو من طريق إبراهيم بن نائلة شيخ الطبراني عن إسماعيل بن عمرو عن يوسف بن عطية بن عون عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
وابن مردويه رواه عن الطبراني عن إسماعيل المذكور به.
وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتقديس والأرض ترتج». ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سبحان الله العظيم سبحان الله العظيم».
وأخرج الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، والإسماعيلي في معجمه والبيهقي عن جابر قال: لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق».
وأخرج البيهقي وضعفه والخطيب في تاريخه عن علي بن أبي طالب قال: أنزل القرآن خمسا خمسا ومن حفظه خمسا خمسا لم ينسه إلا سورة الأنعام؛ فإنها نزلت جملة يشيعها من كل سماء سبعون ملكا حتى أدوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما قرئت على عليل إلا شفاه الله وأخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب مرفوعا نحو حديث ابن عمر.
وأخرج النحاس في تاريخه عن ابن عباس قال: سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة، فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة: {قل تعالوا أتل ما حرم} إلى تمام الآيات الثلاث.
وأخرج الديلمي بسند ضعيف عن أنس مرفوعا: «ينادي مناد: يا قارئ سورة الأنعام هلم إلى الجنة بحبك إياها وتلاوتها».
وأخرج ابن المنذر عن أبي جحيفة قال: نزلت سورة الأنعام جميعها معها سبعون ألف ملك كلها مكية إلا: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة} فإنها مدنية.
وأخرج أبو عبيد في فضائله والدارمي في مسنده ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب قال: الأنعام من نواجب القرآن.
وأخرج محمد بن نصر عن ابن مسعود مثله.
وأخرج السلفي بسند واه عن ابن عباس مرفوعا: «من قرأ إذا صلى الغداة ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى: {ويعلم ما تكسبون} نزل إليه أربعون ألف ملك يكتب له مثل أعمالهم، ونزل إليه ملك من فوق سبع سموات ومعه مرزبة من حديد، فإن أوحى الشيطان في قلبه شيئا من الشر ضربه ضربة حتى يكون بينه وبينه سبعون حجابا، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: أنا ربك وأنت عبدي، امش في ظلي، واشرب من الكوثر، واغتسل من السلسبيل، وادخل الجنة بغير حساب ولا عذاب».
وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى الفجر في جماعة وقعد في مصلاه وقرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام، وكل الله به سبعين ملكا يسبحون الله ويستغفرون له إلى يوم القيامة».
وفي فضائل هذه السورة روايات عن جماعة من التابعين مرفوعة وغير مرفوعة.
قال القرطبي: قال العلماء: هذه السورة أصل في محجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة؛ لأنها في معنى واحد من الحجة، وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة وعليها بنى المتكلمون أصول الدين.

.تفسير الآيات (1- 3):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)}
بدأ سبحانه هذه السورة بالحمد لله، للدلالة على أن الحمد كله لله، ولإقامة الحجة على الذين هم بربهم يعدلون.
وقد تقدّم في سورة الفاتحة ما يغني عن الإعادة له هنا، ثم وصف نفسه بأنه الذي خلق السموات والأرض إخباراً عن قدرته الكاملة، الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد، فإن من اخترع ذلك وأوجده، هو الحقيق بإفراده بالثناء وتخصيصه بالحمد، والخلق يكون بمعنى الاختراع، وبمعنى التقدير.
وقد تقدّم تحقيق ذلك، وجمع السموات لتعدد طباقها، وقدّمها على الأرض لتقدّمها في الوجود {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} [النازعات: 30]. قوله: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} معطوف على خلق. ذكر سبحانه خلق الجواهر بقوله: {خَلقَ السموات والأرض} ثم ذكر خلق الأعراض بقوله: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} لأن الجواهر لا تستغني عن الأعراض.
واختلف أهل العلم في المعنى المراد بالظلمات والنور؛ فقال جمهور المفسرين: المراد بالظلمات سواد الليل، وبالنور ضياء النهار.
وقال الحسن: الكفر والإيمان. قال ابن عطية: وهذا خروج عن الظاهر انتهى. والأولى أن يقال: إن الظلمات تشمل كل ما يطلق عليه اسم الظلمة، والنور يشمل كل ما يطلق عليه اسم النور، فيدخل تحت ذلك ظلمة الكفر ونور الإيمان {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات} [الأنعام: 122] وأفرد النور لأنه جنس يشمل جميع أنواعه، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها وتعدد أنواعها. قال النحاس: جعل هنا بمعنى خلق، وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعدّ إلا إلى مفعول واحد، وقال القرطبي: جعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره. قال ابن عطية: وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق، فيكون الجمع معطوفاً على الجمع، والمفرد معطوفاً على المفرد، وتقديم الظلمات على النور لأنها الأصل، ولهذا كان النهار مسلوخاً من الليل.
قوله: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} معطوف على الحمد لله، أو على خلق السموات والأرض، و{ثم} لاستبعاد ما صنعه الكفار من كونهم بربهم يعدلون مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السموات والأرض والظلمات والنور، فإن هذا يقتضي الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه، لا الكفر به واتخاذ شريك له، وتقديم المفعول للاهتمام، ورعاية الفواصل، وحذف المفعول لظهوره، أي يعدلون به مالا يقدر على شيء مما يقدر عليه، وهذا نهاية الحمق وغاية الرقاعة حيث يكون منه سبحانه تلك النعم، ويكون من الكفرة الكفر.
قوله: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ} في معناه قولان: أحدهما، وهو الأشهر، وبه قال الجمهور أن المراد آدم عليه السلام، وأخرج مخرج الخطاب للجميع، لأنهم ولده ونسله. الثاني، أن يكون المراد جميع البشر باعتبار أن النطفة التي خلقوا منها مخلوقة من الطين، ذكر الله سبحانه خلق آدم وبنيه بعد خلق السموات والأرض إتباعاً للعالم الأصغر بالعالم الأكبر، والمطلوب بذكر هذه الأمور دفع كفر الكافرين بالبعث، وردّ لجحودهم بما هو مشاهد لهم لا يمترون فيه.
قوله: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} جاء بكلمة {ثم} لما بين خلقهم وبين موتهم من التفاوت.
وقد اختلف السلف ومن بعدهم في تفسير الأجلين، فقيل: {قَضَى أَجَلاً} يعني الموت {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} يعني القيامة، وهو مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والضحاك، ومجاهد، وعكرمة، وزيد بن أسلم، وعطية والسديّ وخصيف، ومقاتل وغيرهم، وقيل الأوّل: ما بين أن يخلق إلى أن يموت؛ والثاني: ما بين أن يموت إلى أن يبعث، وهو قريب من الأوّل. وقيل الأوّل مدّة الدنيا؛ والثاني عمر الإنسان إلى حين موته. وهو مرويّ عن ابن عباس ومجاهد. وقيل: الأوّل قبض الأرواح في النوم؛ والثاني قبض الروح عند الموت. وقيل: الأوّل ما يعرف من أوقات الأهلة والبروج وما يشبه ذلك؛ والثاني أجل الموت. وقيل: الأوّل لمن مضى. والثاني لمن بقي ولمن يأتي. وقيل: إن الأوّل الأجل الذي هو محتوم؛ والثاني الزيادة في العمر لمن وصل رحمه، فإن كان برّاً تقياً وصولاً لرحمه زيد في عمره، وإن كان قاطعاً للرحم لم يزد له، ويرشد إلى هذا قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ في كتاب} [فاطر: 11].
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم تزيد في العمر، وورد عنه أن دخول البلاد التي قد فشا بها الطاعون والوباء من أسباب الموت؛ وجاز الابتداء بالنكرة في قوله: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} لأنها قد تخصصت بالصفة.
قوله: {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} استبعاد لصدور الشك منهم مع وجود المقتضى لعدمه، أي كيف تشكون في البعث مع مشاهدتكم في أنفسكم من الابتداء، والابتداء ما يذهب بذلك ويدفعه، من خلقكم من طين، وصيركم أحياء تعلمون وتعقلون، وخلق لكم هذه الحواس والأطراف، ثم سلب ذلك عنكم فصرتم أمواتاً، وعدتم إلى ما كنتم عليه من الجمادية، لا يعجزه أن يبعثكم ويعيد هذه الأجسام كما كانت، ويردّ إليها الأرواح التي فارقتها بقدرته وبديع حكمته.
قوله: {وَهُوَ الله في السموات وَفِى الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} قيل: إن في السموات وفي الأرض متعلق باسم الله باعتبار ما يدل عليه من كونه معبوداً ومتصرفاً ومالكاً، أي هو المعبود أو المالك أو المتصرف في السموات والأرض كما تقول: زيد الخليفة في الشرق والغرب، أي حاكم أو متصرف فيهما؛ وقيل المعنى: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، فلا تخفى عليه خافية، فيكون العامل فيهما ما بعدهما.
قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه.
وقال ابن جرير: هو الله في السموات ويعلم سركم وجهركم في الأرض. والأوّل أولى، ويكون {يعلم سركم وجهركم} جملة مقرّرة لمعنى الجملة الأولى، لأن كونه سبحانه في السماء والأرض، يستلزم علمه بأسرار عباده وجهرهم، وعلمه بما يكسبونه من الخير والشرّ، وجلب النفع ودفع الضرر.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن عليّ أن هذه الآية أعني {الحمد لله} إلى قوله: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} نزلت في أهل الكتاب.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في الزنادقة، قالوا: إن الله لم يخلق الظلمة ولا الخنافس، ولا العقارب، ولا شيئاً قبيحاً، وإنما يخلق النور وكل شيء حسن، فأنزلت فيهم هذه الآية.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس {وَجَعَلَ الظلمات والنور} قال: الكفر والإيمان.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة قال: إن الذين بربهم يعدلون هم أهل الشرك.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السديّ مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد قال: {يَعْدِلُونَ} يشركون.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن زيد في قوله: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} قال: الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله، وليس لله عدل ولا ندّ، وليس معه آلهة ولا اتخذ صاحبة ولا ولداً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ} يعني آدم {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً} يعني أجل الموت {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} أجل الساعة والوقوف عند الله.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، عنه في قوله: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً} قال: أجل الدنيا، وفي لفظ أجل موته {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} قال: الآخرة لا يعلمه إلا الله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه {قَضَى أَجَلاً} قال: هو اليوم يقبض فيه الروح، ثم يرجع إلى صاحبه من اليقظة {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} قال: هو أجل موت الإنسان.