فصل: تفسير الآيات (37- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (37- 39):

{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)}
هذا كان منهم تعنتاً ومكابرة، حيث لم يقتدوا بما قد أنزله الله على رسوله من الآيات البينات التي من جملتها القرآن، وقد علموا أنهم قد عجزوا عن أن يأتوا بسورة مثله، ومرادهم بالآية هنا هي التي تضطرهم إلى الإيمان كنزول الملائكة بمرأى منهم ومسمع، أو نتق الجبل كما وقع لبني إسرائيل، فأمره الله سبحانه أن يجيبهم بأن الله قادر على أن ينزل على رسوله آية تضطرهم إلى الإيمان، ولكنه ترك ذلك لتظهر فائدة التكليف الذي هو الابتلاء والامتحان، وأيضاً لو أنزل آية كما طلبوا لم يمهلهم بعد نزولها؛ بل سيعاجلهم بالعقوبة إذا لم يؤمنوا. قال الزجاج: طلبوا أن يجمعهم على الهدى، يعني جمع إلجاء {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن الله قادر على ذلك، وأنه تركه لحكمة بالغة لا تبلغها عقولهم.
قوله: {وَمَا مِن دَابَّةٍ في الارض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم} الدابة من دبّ يدبّ فهو داب: إذا مشى مشياً فيه تقارب خطو.
وقد تقدّم بيان ذلك في البقرة {وَلاَ طَائِرٍ} معطوف على {دَابَّةٍ} مجرور في قراءة الجمهور. وقرأ الحسن وعبد الله بن أبي إسحاق {وَلاَ طَائِرٍ} بالرفع عطفاً على موضع من دابة على تقدير زيادة من، و{بِجَنَاحَيْهِ} لدفع الإبهام؛ لأن العرب تستعمل الطيران لغير الطير، كقولهم: طر في حاجتي: أي أسرع. وقيل: إن اعتدال جسد الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران، ومع عدم الاعتدال يميل، فأعلمنا سبحانه أن الطيران بالجناحين. وقيل: ذكر الجناحين للتأكيد كضرب بيده وأبصر بعينيه. والجناح: أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء، وأصله: الميل إلى ناحية من النواحي. والمعنى: ما من دابة من الدواب التي تدبّ في أيّ مكان من أمكنة الأرض، ولا طائر يطير في أيّ ناحية من نواحيها {إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم} أي جماعات مثلكم خلقهم الله كما خلقكم، ورزقهم كما رزقكم داخلة تحت علمه وتقديره وإحاطته بكل شيء. وقيل: أمثالنا في ذكر الله والدلالة عليه. وقيل: أمثالنا في كونهم محشورين، روى ذلك عن أبي هريرة.
وقال سفيان بن عيينة: أي ما من صنف من الدوابّ والطير إلا في الناس شبه منه، فمنهم من يعدو كالأسد، ومنهم من يشره كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاوس. وقيل: أمثالكم في أن لها أسماء تعرف بها، وقال الزجاج أمثالكم في الخلق والرزق، والموت، والبعث، والاقتصاص. والأولى أن تحمل المماثلة على كل ما يمكن وجود شبه فيه كائناً ما كان.
قوله: {مَّا فَرَّطْنَا في الكتاب مِن شَئ} أي: ما أغفلنا عنه ولا ضيعنا فيه من شيء. والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، فإن الله أثبت فيه جميع الحوادث.
وقيل إن المراد به القرآن، أي ما تركنا في القرآن من شيء من أمر الدين إما تفصيلاً أو إجمالاً، ومثله قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَئ} [النحل: 89]، وقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، ومن جملة ما أجمله في الكتاب العزيز قوله: {مَا آتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] فأمر في هذه الآية باتباع ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل حكم سنه الرسول لأمته قد ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز، بهذه الآية وبنحو قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى} [آل عمران: 31] وبقوله: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، و{من} في {مِن شَئ} مزيدة للإستغراق.
قوله: {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} يعني: الأمم المذكورة، وفيه دلالة على أنها تحشر كما يحشر بنو آدم، وقد ذهب إلى هذا جمع من العلماء، ومنهم أبو ذرّ، وأبو هريرة، والحسن، وغيرهم.
وذهب ابن عباس إلى أن حشرها موتها، وبه قال الضحاك. والأوّل أرجح للآية، ولما صح في السنة المطهرة من أنه يقاد يوم القيامة للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، ولقول الله تعالى: {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ} [التكوير: 5]: وذهبت طائفة من العلماء إلى أن المراد بالحشر المذكور في الآية حشر الكفار، وما تخلل كلام معترض. قالوا: وأما الحديث فالمقصود به التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص. واستدلوا أيضاً بأن في هذا الحديث خارج الصحيح عن بعض الرواة زيادة، ولفظه: «حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء، وللحجر لم ركب على الحجر؟ والعود لم خدش العود؟» قالوا: والجمادات لا يعقل خطابها ولا ثوابها ولا عقابها.
قوله: {والذين كَذَّبُواْ باياتنا صُمٌّ وَبُكْمٌ} أي لا يسمعون بأسماعهم ولا ينطقون بألسنتهم، نزلهم منزلة من لا يسمع ولا ينطق، لعدم قبولهم لما ينبغي قوله من الحجج الواضحة والدلائل الصحيحة.
وقال أبو علي: يجوز أن يكون صممهم وبكمهم في الآخرة. قوله: {فِى الظلمات} أي في ظلمات الكفر، والجهل والحيرة، لا يهتدون لشيء مما فيه صلاحهم. والمعنى: كائنين في الظلمات التي تمنع من إبصار المبصرات، وضموا إلى الصمم، والبكم، عدم الانتفاع بالأبصار لتراكم الظلمة عليهم، فكانت حواسهم كالمسلوبة التي لا ينتفع بها بحال، وقد تقدّم في البقرة تحقيق المقام بما يغني عن الإعادة، ثم بين سبحانه أن الأمر بيده ما شاء يفعل، من شاء تعالى أن يضله أضله، ومن شاء أن يهديه جعله على صراط مستقيم، لا يذهب به إلى غير الحق، ولا يمشي فيه إلا إلى صوب الاستقامة.
وقد أخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في قوله: {إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم} قال: أصنافاً مصنفة تعرف بأسمائها.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في الآية قال: الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ: قال: خلق أمثالكم.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريح في الآية قال: الذرّة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من الدواب.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس {مَّا فَرَّطْنَا في الكتاب مِن شَئ} يعني: ما تركنا شيئاً إلا وقد كتبناه في أم الكتاب.
وأخرج عبد الرزاق، وأبو الشيخ، عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} قال: موت البهائم حشرها، وفي لفظ قال: يعني بالحشر الموت.
وأخرج عبد الرزاق، وأبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة قال: ما من دابة ولا طائر إلا سيحشر يوم القيامة، ثم يقتصّ لبعضها من بعض، حتى يقتص للجلحاء من ذات القرن، ثم يقال لها كوني تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: {ياليتنى كُنتُ ترابا} [النبأ: 40] وإن شئتم فاقرءوا: {وَمَا مِن دَابَّةٍ في الأرض} الآية.
وأخرج ابن جرير، عن أبي ذرّ قال: انتطحت شاتان عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لي: «يا أبا ذرّ أتدري فيم انتطحتا؟» قلت: لا قال: «لكنّ الله يدري وسيقضي بينهما» قال أبو ذرّ: ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يقلب طائر جناحيه في السماء ولا ذكر لنا منه علماً.
وأخرجه أيضاً أحمد، وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء».

.تفسير الآيات (40- 45):

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)}
قوله: {أَرَأَيْتُكُم} الكاف والميم عند البصريين للخطاب، ولا حظ لهما في الإعراب، وهو اختيار الزجاج.
وقال الكسائي والفراء وغيرهما: إن الكاف والميم في محل نصب بوقوع الرؤية عليهما. والمعنى: أرأيتم أنفسكم. قال في الكشاف مرجحاً للمذهب الأوّل: إنه لا محل للضمير الثاني، يعني الكاف من الإعراب، لأنك تقول: أرأيتك زيداً ما شأنه، فلو جعلت للكاف محلا لكنت كأنك تقول: أرأيت نفسك زيداً ما شأنه، وهو خلف من القول انتهى. والمعنى: أخبروني {إِنْ أتاكم عَذَابُ الله} كما أتى غيركم من الأمم {أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة} أي القيامة {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} هذا على طريقة التبكيت والتوبيخ، أي أتدعون غير الله في هذه الحالة من الأصنام التي تعبدونها، أم تدعون الله سبحانه؟ وقوله: {إِن كُنتُمْ صادقين} تأكيد لذلك التوبيخ، أي أغير الله من الأصنام تدعون إن كنتم صادقين أن أصنامكم تضرّ وتنفع، وأنها آلهة كما تزعمون.
قوله: {بَلْ إياه تَدْعُونَ} معطوف على منفيّ مقدّر، أي لا تدعون غيره، بل إياه تخصون بالدعاء {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} أي فيكشف عنكم ما تدعونه إلى كشفه إن شاء أن يكشفه عنكم لا إذا لم يشأ ذلك. قوله: {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} أي وتنسون عند أن يأتيكم العذاب ما تشركون به تعالى، أي ما تجعلونه شريكاً له من الأصنام ونحوها فلا تدعونها، ولا ترجون كشف ما بكم منها، بل تعرضون عنها إعراض الناس.
وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى: وتتركون ما تشركون.
قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ} كلام مبتدأ مسوق لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم، أي ولقد أرسلنا إلى أمم كائنة من قبلك رسلاً فكذبوهم {فأخذناهم بالبأساء والضراء} أي البؤس والضرّ. وقيل: البأساء المصائب في الأموال، والضراء المصائب في الأبدان، وبه قال الأكثر {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أي يدعون الله بضراعة، مأخوذ من الضراعة وهي الذلّ، يقال: ضرع فهو ضارع، ومنه قول الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ** ومختبط مما تطيح الطوائح

قوله: {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا لكنهم لم يتضرعوا، وهذا عتاب لهم على ترك الدعاء في كل الأحوال حتى عند نزول العذاب بهم لشدة تمرّدهم وغلوّهم في الكفر، ويجوز أن يكون المعنى أنهم تضرّعوا عند أن نزل بهم العذاب، وذلك تضرّع ضروري لم يصدر عن إخلاص، فهو غير نافع لصاحبه، والأول أولى، كما يدل عليه {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي صلبت وغلظت {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ} أي أغواهم بالتصميم على الكفر والاستمرار على المعاصي.
قوله: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ} أي: تركوا ما ذكروا به، أو أعرضوا عما ذكروا به، لأن النسيان لو كان على حقيقته لم يؤاخذوا به، إذ ليس هو من فعلهم، وبه قال ابن عباس، وابن جريج، وأبو علي الفارسي.
والمعنى: أنهم لما تركوا الاتعاظ بما ذكروا به من البأساء والضرّاء وأعرضوا عن ذلك {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَئ} أي لما نسوا ما ذكروا به استدرجناهم بفتح أبواب كل نوع من أنواع الخير عليهم {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} من الخير على أنواعه فرح بطر وأشر وأعجبوا بذلك وظنوا أنهم إنما أعطوه لكون كفرهم الذي هم عليه حقاً وصواباً {أخذناهم بَغْتَةً} أي فجأة وهم غير مترقبين لذلك والبغتة: الأخذ على غرّة من غير تقدمة أمارة، وهي مصدر في موضع الحال، لا يقاس عليها عند سيبويه. قوله: {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} المبلس: الحزين الآيس من الخير لشدّة ما نزل به من سوء الحال، ومن ذلك اشتق اسم إبليس، يقال أبلس الرجل إذا سكت، وأبلست الناقة إذا لم ترع. قال العجاج:
صاح هل تعرف رسما مكرسا ** قال نعم أعرفه وأبلسا

أي تحول لهول ما رأى، والمعنى: فإذا هم محزونون متحيرون آيسون من الفرح. قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ} الدابر الآخر، يقال دبر القوم يدبرهم دبراً: إذا كان آخرهم في المجيء، والمعنى: أنه قطع آخرهم أي استؤصلوا جميعاً حتى آخرهم. قال قطرب: يعني أنهم استؤصلوا وأهلكوا. قال أمية بن أبي الصلت:
فأهلكوا بعذاب حص دابرهم ** فما استطاعوا له صرفاً ولا انتصروا

ومنه التدبير؛ لأنه إحكام عواقب الأمور. قوله: {والحمد للَّهِ رَبّ العالمين} أي على هلاكهم، وفيه تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه سبحانه عند نزول النعم التي من أجلها هلاك الظلمة الذين يفسدون في الأرض، ولا يصلحون، فإنهم أشدّ على عباد الله من كل شديد، اللهم أرح عبادك المؤمنين من ظلم الظالمين، واقطع دابرهم، وأبدلهم بالعدل الشامل لهم.
وقد أخرج أبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، في قوله: {فأخذناهم بالبأساء والضراء} قال: خوف السلطان وغلاء السعر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ} قال: يعني تركوا ما ذكروا به.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جريج {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ} قال: ما دعاهم الله إليه ورسله، أبوه وردّوه عليهم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَئ} قال: رخاء الدنيا ويسرها.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السدي، في قوله: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} قال: من الرزق {أخذناهم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} قال: مهلكون متغير حالهم {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ} يقول: فقطع أصل الذين ظلموا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن محمد بن النضر الحارثي في قوله: {أخذناهم بَغْتَةً} قال: أمهلوا عشرين سنة، ولا يخفى أن هذا مخالف لمعنى البغتة لغة ومحتاج إلى نقل عن الشارع، وإلا فهو كلام لا طائل تحته.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن زيد قال: المبلس المجهود المكروب الذي قد نزل به الشرّ الذي لا يدفعه، والمبلس أشدّ من المستكين، وفي قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم والذين ظَلَمُواْ} قال: استؤصلوا.

.تفسير الآيات (46- 49):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)}
هذا تكرير للتوبيخ لقصد تأكيد الحجة عليهم، ووحد السمع لأنه مصدر يدل على الجمع بخلاف البصر، ولهذا جمعه. والختم: الطبع، وقد تقدّم تحقيقه في البقرة، والمراد: أخذ المعاني القائمة بهذه الجوارح أو أخذ الجوارح نفسها، والاستفهام في {مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ} للتوبيخ، و{من} مبتدأ. و{إله} خبره، و{غير الله} صفة للخبر، ووحد الضمير في {به} مع أن المرجع متعدد على معنى: فمن يأتيكم بذلك المأخوذ أو المذكور، وقيل: الضمير راجع إلى أحد هذه المذكورات. وقيل إن الضمير بمنزلة اسم الإشارة، أي يأتيكم بذلك المذكور، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنظر في تصريف الآيات، وعدم قبولهم لها تعجيباً له من ذلك، والتصريف المجيء بها على جهات مختلفة، تارة إنذار وتارة إعذار، وتارة ترغيب، وتارة ترهيب.
وقوله: {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} عطف على نصرف، ومعنى يصدفون: يعرضون، يقال: صدف عن الشيء: إذا أعرض عنه صدفاً وصدوفاً.
قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أتاكم عَذَابُ الله} أي أخبروني عن ذلك، وقد تقدّم تفسير البغتة قريباً أنها الفجأة. قال الكسائي: بغتهم يبغتهم بغتا وبغتة: إذا أتاهم فجأة، أي من دون تقديم مقدّمات تدل على العذاب. والجهرة أن يأتي العذاب بعد ظهور مقدمات تدل عليه. وقيل البغتة: إتيان العذاب ليلاً، والجهرة: إتيان العذاب نهاراً كما في قوله تعالى: {بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا} [يونس: 50]. {هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون} الاستفهام للتقرير، أي ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا القوم الظالمون. وقرئ: {يهلك} على البناء للفاعل. قال الزجاج: معناه هل يهلك إلا أنتم ومن أشبهكم؟ انتهى.
قوله: {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} كلام مبتدأ لبيان الغرض من إرسال الرسل، أي مبشرين لمن أطاعهم بما أعدّ الله له من الجزاء العظيم، ومنذرين لمن عصاهم بما له عند الله من العذاب الوبيل. وقيل: مبشرين في الدنيا بسعة الرزق وفي الآخرة بالثواب، ومنذرين مخوّفين بالعقاب، وهما حالان مقدرّتان، أي ما نرسلهم إلا مقدّرين تبشيرهم وإنذارهم {فَمَنْ ءامَنَ وَأَصْلَحَ} أي آمن بما جاءت به الرسل {وَأَصْلَحَ} حال نفسه بفعل ما يدعونه إليه {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} بوجه من الوجوه {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} بحال من الأحوال، هذا حال من آمن وأصلح، وأما حال المكذبين فهو أنه يمسهم العذاب بسبب فسقهم، أي خروجهم عن التصديق والطاعة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس في قوله: {يَصْدِفُونَ} قال: يعدلون.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهداً، في قوله: {يَصْدِفُونَ} قال: يعرضون، وقال في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله بَغْتَةً} قال: فجأة آمنين، أو جهرة، قال: وهم ينظرون.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كل فسق في القرآن فمعناه الكذب.