فصل: تفسير الآيات (50- 55):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (50- 55):

{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)}
أمره الله سبحانه بأن يخبرهم لما كثر اقتراحهم عليه وتعنتهم بإنزال الآيات التي تضطرهم إلى الإيمان، أنه لم يكن عنده خزائن الله حتى يأتيهم بما اقترحوه من الآيات، والمراد خزائن قدرته التي تشتمل على كل شيء من الأشياء ويقول لهم: إنه لا يعلم الغيب حتى يخبرهم به ويعرّفهم بما سيكون في مستقبل الدهر {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ} حتى تكلفوني من الأفعال الخارقة للعادة مالا يطيقه البشر. وليس في هذا ما يدل على أن الملائكة أفضل من الأنبياء.
وقد اشتغل بهذه المفاضلة قوم من أهل العلم، ولا يترتب على ذلك فائدة دينية ولا دنيوية. بل الكلام في مثل هذا من الاشتغال بما لا يعني، «ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} أي ما أتبع إلا ما يوحيه الله إليّ.
وقد تمسك بذلك من لم يثبت اجتهاد الأنبياء عملاً بما يفيده القصر في هذه الآية، والمسألة مدوّنة في الأصول والأدلة عليها معروفة.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أوتيت القرآن ومثله معه» {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير} هذا الاستفهام للإنكار، والمراد: أنه لا يستوي الضالّ والمهتدي، أو المسلم الكافر أو من اتبع ما أوحي إليه ومن لم يتبعه، والكلام تمثيل: {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} في ذلك حتى تعرفوا عدم الاستواء بينهما، فإنه بين لا يلتبس على من له أدنى عقل، وأقلّ تفكر.
قوله: {وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ} الإنذار: الإعلام، والضمير في به راجع إلى {ما يوحى}؛ وقيل إلى {الله}؛ وقيل إلى {اليوم الآخر}. وخص الذين يخافون أن يحشروا، لأن الإنذار يؤثر فيهم لما حلّ بهم من الخوف، بخلاف من لا يخاف الحشر من طوائف الكفر لجحوده به وإنكاره له، فإنه لا يؤثر فيه ذلك. قيل ومعنى يخافون: يعلمون ويتيقنون أنهم محشورون، فيشمل كل من آمن بالبعث من المسلمين، وأهل الذمة، وبعض المشركين. وقيل: معنى الخوف على حقيقته، والمعنى: أنه ينذر به من يظهر عليه الخوف من الحشر عند أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكره، وإن لم يكن مصدقاً به في الأصل، لكنه يخاف أن يصح ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من كان كذلك تكون الموعظة فيه أنجع والتذكير له أنفع. قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} الجملة في محل نصب على الحال أي أنذر به هؤلاء الذين يخافون الحشر حال كونهم لا وليّ لهم يواليهم ولا نصير يناصرهم، ولا شفيع يشفع لهم من دون الله، وفيه ردّ على من زعم من الكفار المعترفين بالحشر أن آباءهم يشفعون لهم، وهم أهل الكتاب، أو أن أصنامهم تشفع لهم، وهم المشركون.
قوله: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الدعاء العبادة مطلقاً. وقيل: المحافظة على صلاة الجماعة. وقيل: الذكر وقراءة القرآن. وقيل: المراد الدعاء لله بجلب النفع ودفع الضرر. قيل: والمراد بذكر الغداة والعشيّ الدوام على ذلك والاستمرار. وقيل: هو على ظاهره، و{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} في محل نصب على الحال. والمعنى: أنهم مخلصون في عبادتهم لا يريدون بذلك إلا وجه الله تعالى، أي يتوجهون بذلك إليه لا إلى غيره.
قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَئ} هذا كلام معترض بين النهي وجوابه متضمن لنفي الحامل على الطرد، أي حساب هؤلاء الذين أردت أن تطردهم موافقة لمن طلب ذلك منك هو على أنفسهم ما عليك منه شيء، وحسابك على نفسك ما عليهم منه شيء فعلام تطردهم؟ هذا على فرض صحة وصف من وصفهم بقوله: {مَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] وطعن عندك في دينهم وحسبهم، فكيف وقد زكاهم الله عزّ وجلّ بالعبادة والإخلاص؟! وهذا هو مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] وقوله: {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39]. وقوله: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّى} [الشعراء: 113]. قوله: {فَتَطْرُدَهُمْ} جواب النفي في قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ} وهو من تمام الاعتراض، أي إذا كان الأمر كذلك فأقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين والفضل، و{من} في {ما عليك من حسابهم من شيء} للتبعيض، والثانية للتوكيد. وكذا في {ما من حسابك عليهم من شيء}.
قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} جواب للنهي أعني {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} أي فإن فعلت ذلك كنت من الظالمين، وحاشاه عن وقوع ذلك. وإنما هو من باب التعريض لئلا يفعل ذلك غيره صلى الله عليه وسلم من أهل الإسلام، كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]. وقيل: إن {فتكون من الظالمين} معطوف على {فتطردهم} على طريق التسبب، والأوّل أولى.
قوله: {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي مثل ذلك الفتن العظيم فتنا بعض الناس ببعض، والفتنة الإختبار، أي عاملناهم معاملة المختبرين، واللام في {لّيَقُولواْ} للعاقبة، أي ليقول البعض الأوّل مشيرين إلى البعض الثاني {أهؤلاء} الذين {مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا} أي أكرمهم بإصابة الحق دوننا. قال النحاس: وهذا من المشكل، لأنه يقال كيف فتنوا ليقولوا هذا القول؟ وهو إن كان على طريقة الإنكار كفر، وأجاب بجوابين: الأوّل: أن ذلك واقع منهم على طريقة الاستفهام لا على سبيل الإنكار؛ والثاني: أنهم لما اختبروا بهذا كان عاقبة هذا القوم منهم كقوله: {فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8]. قوله: {أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} هذا الاستفهام للتقرير. والمعنى: أن مرجع الاستحقاق لنعم الله سبحانه هو الشكر، وهو أعلم بالشاكرين له، فما بالكم تعترضون بالجهل وتنكرون الفضل.
قوله: {وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا} هم الذين نهاه الله عن طردهم وهم المستضعفون من المؤمنين، كما سيأتي بيانه: {فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ} أمره الله بأن يقول لهم هذا القول تطييباً لخواطرهم، وإكراماً لهم. والسلام، والسلامة: بمعنى واحد، فمعنى سلام عليكم: سلمكم الله.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية إذا رآهم بدأهم بالسلام. وقيل: إن هذا السلام هو من جهة الله، أي أبلغهم منا السلام. قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} أي أوجب ذلك إيجاب فضل وإحسان. وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ. قيل: هذا من جملة ما أمره الله سبحانه بإبلاغه إلى أولئك الذين أمره بإبلاغ السلام إليهم تبشيراً بسعة مغفرة الله، وعظيم رحمته.
قوله: {أَنَّهُ من عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ} قرأ ابن عامر، وعاصم، ونافع بفتح {أن} من {أنه} وقرأ الباقون بكسرها. فعلى القراءة الأولى: تكون هذه الجملة بدلاً من الرحمة، أي كتب ربكم على نفسه أنه من عمل إلى آخره. وعلى القراءة الثانية: تكون هذه الجملة مفسرة للرحمة بطريق الاستئناف وموضع بجهالة النصب على الحال، أي عمله وهو جاهل. قيل: والمعنى أنه فعل فعل الجاهلين؛ لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة مع علمه بذلك أو ظنه، فقد فعل فعل أهل الجهل والسفه، لا فعل أهل الحكمة والتدبير. وقيل المعنى: أنه عمل ذلك وهو جاهل لما يتعلق به من المضرة، فتكون فائدة التقييد بالجهالة الإيذان بأن المؤمن لا يباشر ما يعلم أنه يؤدي إلى الضرر.
قوله: {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ} أي من بعد عمله {وَأَصْلَحَ} ما أفسده بالمعصية، فراجع الصواب وعمل الطاعة {فَإنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. قرأ ابن عامر، وعاصم، بفتح الهمزة من {فإنه} وقرأ الباقون بالكسر. فعلى القراءة الأولى تكون أن وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، أي فأمره أن الله غفور رحيم، وهذا اختيار سيبويه، واختار أبو حاتم أن الجملة في محل رفع على الابتداء، والخبر مضمر، كأنه قيل: فله {أَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قال لأن المبتدأ هو ما بعد الفاء. وأما على القراءة الثانية: فالجملة مستأنفة.
قوله: {وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الآيات} أي مثل ذلك التفصيل نفصلها، والتفصيل التبيين، والمعنى: أن الله فصل لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين، وبين لهم حكم كل طائفة. قوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين}. قال الكوفيون: هو معطوف على مقدّر، أي وكذلك نفصل الآيات لنبين لكم ولتستبين.
قال النحاس: وهذا الحذف لا يحتاج إليه. وقيل: إن دخول الواو للعطف على المعنى. قرئ: {لتستبين} بالفوقية والتحتية، فالخطاب على الفوقية للنبي صلى الله عليه وسلم، أي لتستبين يا محمد سبيل المجرمين، وسبيل منصوب على قراءة نافع. وأما على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر، وحفص بالرفع، فالفعل مسند إلى سبيل وأما على التحتية فالفعل مسند إلى سبيل أيضاً، وهي قراءة حمزة والكسائي وشعبة بالرفع، وإذا استبان سبيل المجرمين فقد استبان سبيل المؤمنين.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير} قال: الأعمى الكافر، الذي عمي عن حق الله وأمره ونعمه عليه، والبصير: العبد المؤمن، الذي أبصر بصراً نافعاً فوحد الله وحده، وعمل بطاعة ربه، وانتفع بما أتاه الله.
وأخرج أحمد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، عن عبد الله بن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده صهيب، وعمار، وبلال، وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك {أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا} أنحن نكون تبعاً لهؤلاء، اطردهم عنا فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل الله فيهم القرآن {وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ} إلى قوله: {والله عَلِيمٌ بالظالمين}.
وقد أخرج هذا السبب مطوّلاً ابن جرير، وابن المنذر، عن عكرمة، وفيه: إن الذين جاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل، والحارث بن عامر بن نوفل، ومطعم بن عدي بن الخيار بن نوفل في أشراف الكفار من عبد مناف.
وأخرجه ابن أبي شيبة، وابن ماجه وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الدلائل، عن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، فذكر نحو حديث عبد الله بن مسعود مطوّلاً. قال ابن كثير: هذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، والأقرع وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر.
وأخرج مسلم والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم، عن سعد بن أبي وقاص قال: لقد نزلت هذه الآية في ستة: أنا وعبد الله بن مسعود، وبلال، ورجل من هذيل، ورجلان لست أسميهما، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدّث نفسه، فأنزل الله: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى}.
وقد روي في بيان السبب روايات موافقة لما ذكرنا في المعنى.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {بالغداة والعشى} قال: يعني الصلاة المكتوبة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: الصلاة المكتوبة الصبح والعصر.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن إبراهيم النخعي في الآية قال: هم أهل الذكر لا تطردهم عن الذكر. قال سفيان: أي أهل الفقه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} يعني: أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء، فقال الأغنياء للفقراء {أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا} يعني: أهؤلاء هداهم الله، وإنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج {أهؤلاء الذين مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا} أي لو كان لهم كرامة على الله ما أصابهم هذا الجهد.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ماهان قال: أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً عظاماً فما ردّ عليهم شيئاً فانصرفوا، فأنزل الله: {وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا} الآية، فدعاهم فقرأها عليهم.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، قال: أخبرت أن قوله: {سلام عَلَيْكُمُ} كانوا إذا دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم بدأهم بالسلام، فقال: {سلام عَلَيْكُمُ} وإذا لقيهم فكذلك أيضاً.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الآيات} قال: نبين الآيات.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن زيد في قوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين} قال: الذين يأمرونك بطرد هؤلاء.

.تفسير الآيات (56- 59):

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)}
قوله: {قُلْ إِنّى نُهِيتُ} أمره الله سبحانه أن يعود إلى مخاطبة الكفار، ويخبرهم بأنه نهى عن عبادة ما يدعونه ويعبدونه من دون الله، أي: نهاه الله عن ذلك وصرفه وزجره، ثم أمره سبحانه بأن يقول لهم: {لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ} أي لا أسلك المسلك الذي سلكتموه في دينكم، من اتباع الأهواء والمشي على ما توجبه المقاصد الفاسدة التي يتسبب عنها الوقوع في الضلال. قوله: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً} أي إن اتبعت أهواءكم فيما طلبتموه من عبادة معبوداتكم، وطرد من أردتم طرده {وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين} إن فعلت ذلك، وهذه الجملة الإسمية معطوفة على الجملة التي قبلها، والمجيء بها اسمية عقب تلك الفعلية للدلالة على الدوام والثبات، وقرئ: {ضَلَلْتُ} بفتح اللام وكسرها وهما لغتان. قال أبو عمرو: ضللت بكسر اللام لغة تميم، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة بن مصرف، والأولى هي الأصح والأفصح؛ لأنها لغة أهل الحجاز، وهي قراءة الجمهور. قال الجوهري: والضلال والضلالة ضدّ الرشاد، وقد ضللت أضلّ، قال الله تعالى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى} [سبأ: 50] قال فهذه: يعني المفتوحة لغة نجد وهي الفصيحة، وأهل العالية يقول: {ضللت} بالكسر أضلّ انتهى.
قوله: {قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} البينة: الحجة والبرهان، أي إني على برهان من ربي ويقين، لا على هوى وشك، أمره الله سبحانه بأن يبين لهم أن ما هو عليه من عبادة ربه هو عن حجة برهانية يقينية، لا كما هم عليه من اتباع الشبه الداحضة والشكوك الفاسدة التي لا مستند لها إلا مجرد الأهوية الباطلة. قوله: {وَكَذَّبْتُم بِهِ} أي بالربّ أو بالعذاب أو بالقرآن أو بالبينة، والتذكير للضمير باعتبار المعنى. وهذه الجملة إما حالية بتقدير قد، أي والحال أن قد كذبتم به، أو جملة مستأنفة مبينة لما هم عليه من التكذيب بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجج الواضحة والبراهين البينة.
قوله: {مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أخبرهم بأنه لم يكن عنده ما يتعجلونه من العذاب، فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء، نحو قوله: {أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [الإسراء: 92]، وقولهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} [الأنفال: 32]، وقولهم: {متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} [سبأ: 29]، وقيل: {مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من الآيات التي تقترحونها عليّ.
قوله: {إِنِ الحكم إِلاَّ الله} أي ما الحكم في كل شيء إلا لله سبحانه، ومن جملة ذلك ما تستعجلون به من العذاب أو الآيات المقترحة. والمراد: الحكم الفاصل بين الحق والباطل.
قوله: {يَقُصُّ الحق} قرأ نافع وابن كثير وعاصم {يَقُصُّ} بالقاف والصاد المهملة، وقرأ الباقون {يَقْضِى} بالضاد المعجمة والياء، وكذا قرأ علي وأبو عبد الرحمن السلمي، وسعيد بن المسيب، وهو مكتوب في المصحف بغير ياء. فعلى القراءة الأولى، هو من القصص، أي يقصّ القصص الحق، أو من قصّ أثره، أي يتبع الحق فيما يحكم به. وعلى القراءة الثانية، هو من القضاء، أي يقضي القضاء بين عباده، و{الحق} منتصب على المفعولية، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي يقضي القضاء الحق، أو يقص القصص الحق {وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} أي بين الحق والباطل بما يقضي به بين عباده ويفصله لهم في كتابه. ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم: {لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي ما تطلبون تعجيله بأن يكون إنزاله بكم مقدوراً إليّ وفي وسعي {لَقُضِىَ الأمر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} أي لقضى الله الأمر بيننا بأن ينزله الله سبحانه بكم بسؤالي له وطلبي ذلك، أو المعنى: لو كان العذاب الذي تطلبونه وتستعجلون به عندي، وفي قبضتي لأنزلته بكم، وعند ذلك يقضى الأمر بيني وبينكم {والله أَعْلَمُ بالظالمين} وبالوقت الذي ينزل فيه عذابهم وبما تقتضيه مشيئته من تأخيره استدراجاً لهم وإعذاراً إليهم.
قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} المفاتح جمع مفتح بالفتح وهو المخزن، أي عنده مخازن الغيب، جعل للأمور الغيبية مخازن تخزن فيها على طريق الاستعارة، أو جمع مفتح بكسر الميم، وهو المفتاح، جعل للأمور الغيبية مفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن منها على طريق الاستعارة أيضاً، ويؤيد أنها جمع مفتح بالكسر قراءة ابن السميفع {وَعِندَهُ مَفَاتِيح الغيب} فإن المفاتيح جمع مفتاح والمعنى: إن عنده سبحانه خاصة مخازن الغيب، أو المفاتيح التي يتوصل بها. وقوله: {لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} جملة مؤكّدة لمضمون الجملة الأولى، وأنه لا علم لأحد من خلقه بشيء من الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها، ويندرج تحت هذه الآية علم ما يستعجله الكفار من العذاب كما يرشد إليه السياق اندراجاً أوّلياً. وفي هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من المدّعين ما ليس من شأنهم، ولا يدخل تحت قدرتهم، ولا يحيط به علمهم، ولقد ابتلى الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة، والأنواع المخذولة، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهناً أو منجماً فقد كفر بما أنزل على محمد».
قوله: {وَيَعْلَمُ مَا في البر والبحر} خصهما بالذكر لأنهما من أعظم مخلوقات الله، أي يعلم ما فيهما من حيوان وجماد علماً مفصلاً لا يخفى عليه منه شيء، أو خصهما لكونهما أكثر ما يشاهده الناس ويتطلعون لعلم ما فيهما {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} أي من ورق الشجر وهو تخصيص بعد التعميم، أي يعلمها ويعلم زمان سقوطها ومكانه.
وقيل: المراد بالورقة ما يكتب فيه الآجال والأرزاق.
وحكى النقاش عن جعفر بن محمد: أن الورقة يراد بها هنا السقط من أولاد بني آدم، قال ابن عطية: وهذا قول جار على طريقة الرموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه {وَلاَ حَبَّةٍ} كائنة {فِى ظلمات الأرض} أي في الأمكنة المظلمة. وقيل: في بطن الأرض {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ} بالخفض عطفاً على حبة، وهي معطوفة على ورقة. وقرأ ابن السميفع، والحسن، وغيرهما بالرفع عطفاً على موضع {من ورقة} وقد شمل وصف الرطوبة واليبوسة جميع الموجودات. قوله: {إِلاَّ في كتاب مُّبِينٍ} هو اللوح المحفوظ، فتكون هذه الجملة بدل اشتمال من {إِلاَّ يَعْلَمُهَا}. وقيل: هو عبارة عن علمه فتكون هذه الجملة بدل كل من تلك الجملة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي عمران الجوني، في قوله: {قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} قال: على ثقة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عكرمة في قوله: {لَقُضِىَ الأمر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} قال: لقامت الساعة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ في قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} قال: يقول خزائن الغيب.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} قال: هنّ خمس {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} إلى قوله: {عَلَيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
وأخرج أحمد، والبخاري، وغيرهما، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأيّ أرض تموت إلا الله، ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله».
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} قال: ما من شجرة في برّ ولا بحر إلا وبها ملك يكتب ما يسقط من ورقها.
وأخرج أبو الشيخ، عن مجاهد نحوه.
وأخرج أبو الشيخ، عن محمد بن جحادة في قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ} قال: لله تبارك وتعالى شجرة تحت العرش ليس مخلوق إلا له فيها ورقة فإذا سقطت ورقته خرجت روحه من جسده، فذلك قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا}.
وأخرج الخطيب في تاريخه بسند ضعيف، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من زرع على الأرض ولا ثمار على أشجار، إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا رزق فلان بن فلان» فذلك قوله تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِن} الآية.
وقد رواه يزيد بن هارون، عن محمد ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ} فقال: الرطب واليابس من كل شيء.