فصل: تفسير الآيات (60- 62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (60- 62):

{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)}
قوله: {يتوفاكم باليل} أي ينيمكم فيقبض فيه نفوسكم التي بها تميزون وليس ذلك موتاً حقيقة، فهو مثل قوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا} [الزمر: 42] والتوفي استيفاء الشيء، وتوفيت الشيء واستوفيته: إذا أخذته أجمع، قال الشاعر:
إن بني الأدرم ليسوا من أحد ** ولا توفاهم قريش في العدد

قيل: الروح إذا خرجت من البدن في المنام بقيت فيه الحياة، وقيل: لا تخرج منه الروح بل الذهن فقط، والأولى أن هذا أمر لا يعرفه إلا الله سبحانه. قوله: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} أي كسبتم بجوارحكم من الخير والشرّ. قوله: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي في النهار يعني اليقظة وقيل يبعثكم من القبور فيه، أي في شأن ذلك الذي قطعتم فيه أعماركم من النوم بالليل والكسب بالنهار. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: هو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار ويعلم ما جرحتم فيه. وقيل ثم يبعثكم فيه، أي في المنام، ومعنى الآية: أن إمهاله تعالى للكفار ليس للغفلة عن كفرهم، فإنه عالم بذلك ولكن {لّيَقْضِىَ أَجَلٌ مُّسَمًّى} أي معين لكل فرد من أفراد العباد من حياة ورزق {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي رجوعكم بعد الموت {ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
قوله: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} المراد: فوقية القدرة والرتبة كما يقال: السلطان فوق الرعية، وقد تقدّم بيانه في أوّل السورة. قوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} أي ملائكة جعلهم الله حافظين لكم، ومنه قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين} [الإنفطار: 10] بمعنى: أنه يرسل عليكم من يحفظكم من الآفات ويحفظ أعمالكم، والحفظة جمع حافظ، مثل كتبة جمع كاتب {وَعَلَيْكُمْ} متعلق {بيرسل} لما فيه من معنى الاستيلاء، وتقديمه على حفظة ليفيد العناية بشأنه، وأنه أمر حقيق بذلك. وقيل هو متعلق بحفظة.
قوله: {حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} {حتى} يحتمل أن تكون هي الغائية، أي ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما أمروا بحفظه مما يتعلق بكم {حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت} ويحتمل أن تكون الابتدائية. والمراد بمجيء الموت: مجيء علاماته. وقرأ حمزة {توفاه رسلنا} وقرأ الأعمش {تتوفاه} والرسل: هم أعوان ملك الموت، ومعنى توفته: استوفت روحه: {لاَ يُفَرّطُونَ} أي لا يقصرون ويضيعون، وأصله من التقدّم، وقال أبو عبيدة: لا يتوانون. وقرأ عبيد بن عمير {لا يفرطون} بالتخفيف، أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به من الإكرام والإهانة.
قوله: {ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله مولاهم الحق} معطوف على توفته، والضمير راجع إلى أحد لأنه في معنى الكل مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، أي ردّوا بعد الحشر إلى الله، أي إلى حكمه وجزائه {مولاهم} مالكهم الذي يلي أمورهم {الحق} قرأ الجمهور بالجر صفة لاسم الله.
وقرأ الحسن {الحق} بالنصب على إضمار فعل، أي أعني أو أمدح، أو على المصدر {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} لكونه لا يحتاج إلى ما يحتاجون إليه من الفكر والروية والتدبر.
وقد أخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مع كل إنسان ملك إذا نام يأخذ نفسه، فإذا أذن الله في قبض روحه قبضه وإلا ردّها إليه، فذلك قوله تعالى: {يتوفاكم باليل}».
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عكرمة، في الآية قال: ما من ليلة إلا والله يقبض الأرواح كلها، فيسأل كل نفس عما عمل صاحبها من النهار، ثم يدعو ملك الموت فيقول: اقبض روح هذا؛ وما من يوم إلا وملك الموت ينظر في كتاب حياة الإنسان، قائل يقول ثلاثاً، وقائل يقول خمساً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: أما وفاته إياهم بالليل فمنامهم، وأما {جَرَحْتُم بالنهار} فيقول: ما اكتسبتم بالنهار {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} قال: في النهار {لّيَقْضِىَ أَجَلٌ مُّسَمًّى} وهو الموت.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم} قال: ما كسبتم من الإثم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} قال: هم المعقبات من الملائكة يحفظونه ويحفظون عمله.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال: أعوان ملك الموت من الملائكة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ} يقول: لا يضيعون.

.تفسير الآيات (63- 65):

{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)}
قيل: المراد بظلمات البرّ والبحر: شدائدهما. قال النحاس: والعرب تقول يوم مظلم إذا كان شديداً، فإذا عظمت ذلك قالت: يوم ذو كوكب، أي يحتاجون فيه لشدّة ظلمته إلى كوكب، وأنشد سيبويه:
بني أسد هل تعلمون بلاءنا ** إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا

والاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي من ينجيكم من شدائدهما العظيمة؟ قرأ أبو بكر عن عاصم {خفية} بكسر الخاء. وقرأ الباقون بضمها، وهما لغتان. وقرأ الأعمش {وَخِيفَةً} من الخوف. وجملة {تَدْعُونَهُ} في محل نصب على الحال، أي من ينجيكم من ذلك حال دعائكم له دعاء تضرّع وخفية، أو متضرّعين ومخفين. والمراد بالتضرّع هنا: دعاء الجهر. قوله: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} كذا قرأ أهل المدينة وأهل الشام. وقرأ الكوفيون {لَّئِنْ أنجانا} والجملة في محل نصب على تقدير القول، أي قائلين لئن أنجيتنا من هذه الشدّة التي نزلت بنا، وهي الظلمات المذكورة {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} لك على ما أنعمت به علينا من تخليصنا من هذه الشدائد.
قوله: {قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ} قرأ الكوفيون وهشام {يُنَجّيكُمْ} بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف، وقراءة التشديد تفيد التكثير. وقيل: معناهما واحد، والضمير في {مِنْهَا} راجع إلى الظلمات. والكرب: الغم يأخذ بالنفس، ومنه رجل مكروب. قال عنترة:
ومكروب كشفت الكرب عنه ** بطعنة فيصل لما دعاني

{ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} بالله سبحانه بعد أن أحسَن إليكم بالخلوص من الشدائد، وذهاب الكروب، شركاء لا ينفعونكم ولا يضرّونكم، ولا يقدرون على تخليصكم من كل ما ينزل بكم، فكيف وضعتم هذا الشرك موضع ما وعدتم به من أنفسكم من الشكر؟ ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم: {هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً} أي الذي قدر على إنجائكم من تلك الشدائد، ودفع عنكم تلك الكروب، قادر على أن يعيدكم في شدّة ومحنة وكرب، يبعث عذابه عليكم من كل جانب. فالعذاب المبعوث من جهة الفوق: ما ينزل من السماء من المطر والصواعق. والمبعوث من تحت الأرجل: الخسف والزلازل والغرق. وقيل: {مّن فَوْقِكُمْ} يعني الأمراء الظلمة {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يعني السفلة، وعبيد السوء.
قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} قرأ الجمهور بفتح التحتية، من لبس الأمر: إذا خلطه. وقرأ أبو عبد الله المديني بضمها، أي يجعل ذلك لباساً لكم. قيل والأصل: أو يلبس عليكم أمركم، فحذف أحد المفعولين مع حرف الجرّ كما في قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} [المطففين: 3]. والمعنى: يجعلكم مختلطي الأهواء مختلفي النحل متفرقي الآراء. وقيل: يجعلكم فرقاً يقاتل بعضكم بعضاً. والشيع: الفرق، أي يخلطكم فرقاً.
قوله: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} أي يصيب بعضكم بشدّة بعض من قتل وأسر ونهب {وَيُذِيقَ} معطوف على {يَبْعَثَ} وقرئ: {نذيق} بالنون {انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الأيات} نبين لهم الحجج والدلالات من وجوه مختلفة {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} الحقيقة فيعودون إلى الحق الذي بيناه لهم بيانات متنوّعة.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظلمات البر والبحر} يقول: من كرب البرّ والبحر.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، في تفسير الآية عن ابن عباس قال: يقول إذا أضلّ الرجل الطريق دعا الله لئن أنجيتنا من هذه لنكوننّ من الشاكرين.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه في قوله: {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ} قال: يعني من أمرائكم {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يعني سفلتكم {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} يعني بالشيع: الأهواء المختلفة {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه من وجه آخر في تفسير الآية قال: {عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ} أئمة السوء {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: خدم السوء.
وأخرج أبو الشيخ عنه أيضاً من وجه آخر قال: {مّن فَوْقِكُمْ} من قبل أمرائكم وأشرافكم {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: من قبل سفلتكم وعبيدكم.
وأخرج عبد ابن حميد، وأبو الشيخ، عن أبي مالك {عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ} قال: القذف {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: الخسف.
وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد مثله.
وأخرج أبو الشيخ، عن مجاهد أيضاً {مّن فَوْقِكُمْ} قال: الصيحة والحجارة والريح {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: الرجفة والخسف، وهما عذاب أهل التكذيب {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: عذاب أهل الإقرار.
وأخرج البخاري وغيره، عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك» {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: «أعوذ بوجهك» {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: «هذا أهون وأيسر».
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه وغيرهم، من حديث طويل عن ثوبان، وفيه: «وسألته أن لا يسلط عليهم عدوّاً من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها».
وأخرج مسلم وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مرّ بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال: «سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيهما، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها».
وأخرج أحمد، والحاكم وصححه، من حديث جابر بن عتيك نحوه.
وأخرج نحوه أيضاً ابن مردويه، من حديث أبي هريرة.
وأخرج أيضاً ابن أبي شيبة وابن مردويه، من حديث حذيفة بن اليمان نحوه.
وأخرج أحمد والنسائي، وابن مردويه، عن أنس نحوه أيضاً.
وأخرج أحمد، والترمذي وحسنه، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن سعد بن أبي وقاص عن النبي في هذه الآية: {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فقال النبي: «أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد».
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والضياء في المختارة، عن أبيّ بن كعب في هذه الآية قال: هنّ أربع وكلهنّ عذاب وكلهنّ واقع لا محالة. فمضت اثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، فألبسوا شيعاً، وذاق بعضهم بأس بعض؛ وبقيت اثنتان واقعتان لا محالة: الخسف، والرجم. والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه كفاية.

.تفسير الآيات (66- 73):

{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}
قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} الضمير راجع إلى القرآن، أو إلى العذاب. وقومه المكذبون: هم قريش. وقيل: كل معاند، وجملة: {وَهُوَ الحق} في محل نصب على الحال، أي كذبوا بالقرآن، أو العذاب، والحال أنه حق. وقرأ ابن أبي عبلة {وكذبت} بالتاء {قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي لست بحفيظ على أعمالكم حتى أجازيكم عليها. وقيل: وهذه الآية منسوخة بآية القتال. وقيل ليست بمنسوخة إذ لم يكن إيمانهم في وسعه.
قوله: {لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} أي لكل شيء وقت يقع فيه. والنبأ: الشيء الذي ينبأ عنه. وقيل المعنى: لكل عمل جزاء. قال الزجاج: يجوز أن يكون وعيداً لهم بما ينزل بهم في الدنيا.
وقال الحسن: هذا وعيد من الله للكفار، لأنهم كانوا لا يقرّون بالبعث {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ذلك بحصوله ونزوله بهم، كما علموا يوم بدر بحصول ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوعدهم به.
قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له. والخوض: أصله في الماء ثم استعمل في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيها بغمرات الماء، فاستعير من المحسوس للمعقول. وقيل: هو مأخوذ من الخلط، وكل شيء خضته فقد خلطته، ومنه خاض الماء بالعسل: خلطه. والمعنى: إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والردّ والاستهزاء فدعهم، ولا تقعد معهم لسماع مثل هذا المنكر العظيم حتى يخوضوا في حديث مغاير له، أمره الله سبحانه بالإعراض عن أهل المجالس التي يستهان فيها بآيات الله إلى غاية هي الخوض في غير ذلك.
وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة، الذين يحرّفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردّون ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة، فإن إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه فأقلّ الأحوال أن يترك مجالستهم، وذلك يسير عليه غير عسير.
وقد يجعلون حضوره معهم مع تنزّهه عما يتلبسون به شبهة يشبهون بها على العامة، فيكون في حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر.
وقد شاهدنا من هذه المجالس الملعونة ما لا يأتي عليه الحصر، وقمنا في نصرة الحق ودفع الباطل بما قدرنا عليه، وبلغت إليه طاقتنا، ومن عرف هذه الشريعة المطهرة حق معرفتها، علم أن مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرّمات، ولاسيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة، فإنه ربما ينفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان، فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه، فيعمل بذلك مدّة عمره ويلقى الله به معتقداً أنه من الحق، وهو من أبطل الباطل وأنكر المنكر.
قوله: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى} {إما} هذه هي الشرطية وتلزمها غالباً نون التأكيد ولا تلزمها نادراً، ومنه قول الشاعر:
إما يصبك عدوّ في منازلة ** يوماً فقل كيف يستعلي وينتصر

وقرأ ابن عباس {ينسينك} بتشديد السين، ومثله قول الشاعر:
وقد ينسيك بعض الحاجة الكسل

والمعنى: إن أنساك الشيطان أن تقوم عنهم فلا تقعد بعد الذكرى إذا ذكرت {مَعَ القوم الظالمين} أي الذين ظلموا أنفسهم بالاستهزاء بالآيات والتكذيب بها. قيل: وهذا الخطاب وإن كان ظاهره للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد التعريض لأمته لتنزّهه عن أن ينسيه الشيطان. وقيل: لا وجه لهذا، فالنسيان جائز عليه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني» ونحو ذلك.
قوله: {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ} أي ما على الذين يتقون مجالسة الكفار عند خوضهم في آيات الله من حساب الكفار من شيء. وقيل المعنى: ما على الذين يتقون ما يقع منهم من الخوض في آيات الله في مجالستهم لهم من شيء، وعلى هذا التفسير ففي الآية الترخيص للمتقين من المؤمنين في مجالسة الكفار إذا اضطروا إلى ذلك كما سيأتي عند ذكر السبب. قيل: وهذا الترخيص كان في أوّل الإسلام، وكان الوقت وقت تقية، ثم نزل قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ في الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايات الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِه} [النساء: 140] فنسخ ذلك، قوله: {ولكن ذكرى لَعَلَّهُمْ} {ذكرى} في موضع نصب على المصدر، أو رفع على أنها مبتدأ، وخبرها محذوف، أي ولكن عليهم ذكرى.
وقال الكسائي: المعنى ولكن هذه ذكرى، والمعنى على الاستدراك من النفي السابق: أي ولكن عليهم الذكرى للكافرين بالموعظة والبيان لهم بأن ذلك لا يجوز. أما على التفسير الأوّل: فلأن مجرد اتقاء مجالس هؤلاء الذين يخوضون في آيات الله لا يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما على التفسير الثاني: فالترخيص في المجالسة لا يسقط التذكير {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الخوض في آيات الله إذا وقعت منكم الذكرى لهم. وأما جعل الضمير للمتقين فبعيد جدّاً.
قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} أي اترك هؤلاء الذين اتخذوا الدين الذي كان يجب عليهم العمل به والدخول فيه لعباً ولهواً، ولا تعلق قلبك بهم فإنهم أهل تعنت، وإن كنت مأموراً بإبلاغهم الحجة. وقيل: هذه الآية منسوخة بآية القتال. وقيل المعنى: أنهم اتخذوا دينهم الذي هم عليه لعباً ولهواً، كما في فعلهم بالأنعام من تلك الجهالات والضلالات المتقدم ذكرها.
وقيل: المراد بالدين هنا العيد، أي اتخذوا عيدهم لعباً ولهواً، وجملة: {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} معطوفة على {اتخذوا} أي غرّتهم حتى آثروها على الآخرة وأنكروا البعث وقالوا: {إِنْ هي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37].
قوله: {وَذَكّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} الضمير في {بِهِ} للقرآن أو للحساب. والإبسال: تسليم المرء نفسه للهلاك، ومنه أبسلت ولدي، أي رهنته في الدم، لأن عاقبة ذلك الهلاك. قال النابغة:
ونحن رهناً بالأُفاقة عامراً ** بما كان في الدرداء رهناً فأبسلا

أي فهلك، والدرداء: كتيبة كانت لهم معروفة بهذا الاسم، فالمعنى: وذكر به خشية أو مخافة أو كراهة أن تهلك نفس بما كسبت، أي ترتهن وتسلم للهلكة، وأصل الإبسال: المنع، ومنه شجاع باسل، أي ممتنع من قرنه.
قوله: {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا} العدل هنا: الفدية. والمعنى: وإن بذلت تلك النفس التي سلمت للهلاك كل فدية لا يؤخذ منها ذلك العدل حتى تنجو به من الهلاك، وفاعل {يُؤْخَذْ} ضمير يرجع إلى العدل، لأنه بمعنى المفدى به كما في قوله: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48]. وقيل: فاعله {منها} لأن العدل هنا مصدر لا يسند إليه الفعل. وكل عدل منصوب على المصدر، أي عدلاً كل عدل، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى المتخذين دينهم لعباً ولهواً، وحبره {الذين أبسلوا بما كسبوا} أي هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً هم الذين سلموا للهلاك بما كسبوا، و{لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ} جواب سؤال مقدّر كأنه قيل: كيف حال هؤلاء؟ فقيل: لهم شراب من حميم، وهو الماء الحارّ، ومثله قوله تعالى: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ الحميم} [الحح: 19] وهو هنا: شراب يشربونه فيقطع أمعاءهم.
قوله: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا} أمره الله سبحانه بأن يقول لهم هذه المقالة، والاستفهام للتوبيخ، أي كيف ندعوا من دون الله أصناماً لا تنفعنا بوجه من وجوه النفع إن إردنا منها نفعاً، ولا نخشى ضرّها بوجه من الوجوه، ومن كان هكذا فلا يستحق العبادة {وَنُرَدُّ على أعقابنا} عطف على {ندعوا}. والأعقاب: جمع عقب، أي كيف ندعو من كان كذلك ونرجع إلى الضلالة التي أخرجنا الله منها. قال أبو عبيدة: يقال لمن ردّ عن حاجته ولم يظفر بها: قد ردّ على عقبيه.
وقال المبرّد:
تعقب بالشر بعد الخير

وأصله من المعاقبة والعقبى، وهما ما كان تالياً للشيء واجباً أن يتبعه، ومنه {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، ومنه عقب الرجل، ومنه العقوبة، لأنها تالية للذنب.
قوله: {كالذى استهوته الشياطين في الأرض} هوى يهوى إلى الشيء أسرع إليه.
وقال الزجاج: هو من هوى النفس، أي زين له الشيطان هواه، و{استهوته الشياطين} هوت به، والكاف في {كالذى} إما نعت مصدر محذوف، أي نردّ على أعقابنا ردّاً كالذي، أو في محل نصب على الحال من فاعل نردّ، أي نردّ حال كوننا مشبهين للذي استهوته الشياطين، أي ذهبت به مردة الجنّ بعد أن كان بين الإنس.
قرأ الجمهور {استهوته} وقرأ حمزة {استهواه} على تذكير الجمع. وقرأ ابن مسعود والحسن {استهواه الشيطان} وهو كذلك في قراءة أبيّ، و{حَيْرَانَ} حال، أي حال كونه متحيراً تائهاً لا يدري كيف يصنع؟ والحيران: هو الذي لا يهتدي لجهة، قود حار يحار حيرة وحيرورة: إذا تردّد، وبه سمى الماء المستنقع الذي لا منفذ له حائراً.
قوله: {لَهُ أصحاب يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى} صفة لحيران، أو حالية، أي له رفقة يدعونه إلى الهدى يقولون له: ائتنا فلا يجيبهم ولا يهتدي بهديهم. قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} أمره الله سبحانه بأن يقول لهم: {إِنَّ هُدَى الله} أي دينه الذي ارتضاه لعباده {هُوَ الهدى} وما عداه باطل {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. {وَأُمِرْنَا} معطوف على الجملة الإسمية، أي من جملة ما أمره الله بأن يقوله، واللام في {لِنُسْلِمَ} هي لام العلة، والمعلل هو الأمر، أي أمرنا لأجل نسلم لربّ العالمين.
وقال الفراء: المعنى أمرنا بأن نسلم، لأن العرب تقول أمرتك لتذهب، وبأن تذهب بمعنى.
وقال النحاس: سمعت ابن كيسان يقول هي لام الخفض.
قوله: {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه} معطوف على {لنسلم} على معنى وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا، ويجوز أن يكون عطفاً على {يدعونه} على المعنى، أي يدعونه إلى الهدى، ويدعونه أن أقيموا {وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فكيف تخالفون أمره {وَهُوَ الذي خَلَقَ السموات والأرض} خلقاً {بالحق} أو حال كون الخلق بالحق فكيف تعبدون الأصنام المخلوقة؟ قوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحق} أي واذكر يوم يقول: {كن فيكون} أو واتقوا يوم يقول: كن فيكون. وقيل: هو عطف على الهاء في {واتقوه}. وقيل: إن {يوم} ظرف لمضمون جملة {قَوْلُهُ الحق} والمعنى: وأمره المتعلق بالأشياء الحق، أي المشهود له بأنه حق. وقيل: {قوله} مبتدأ، و{الحق} صفة له و{يَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ} خبره مقدّماً عليه، والمعنى: قوله المتصف بالحق كائن يوم يقول كن فيكون. وقيل: إن {قوله} مرتفع {بيكون} و{الحق} صفته، أي يوم يقول كن يكون قوله الحق. وقرأ ابن عامر {فَنَكُونَ} بالنون، وهو إشارة إلى سرعة الحساب. وقرأ الباقون بالياء التحتية وهو الصواب.
قوله: {وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ في الصور} الظرف منصوب بما قبله، أي له الملك في هذا اليوم. وقيل: هو بدل من اليوم الأوّل، والصور: قرن ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء، والثانية للإنشاء، وكذا قال الجوهري: إن الصور القرن، قال الراجز:
لقد نطحناهم غداة الجمعين ** نطحاً شديداً لا كنطح الصَّورَيْن

والصور بفتح الصاد وبكسرها لغة، وحكي عن عمرو بن عبيد أنه قرأ: {يَوْمَ يُنفَخُ في الصور} بتحريك الواو، جمع صورة، والمراد: الخلق. قال أبو عبيدة: وهذا وإن كان محتملاً يردّ بما في الكتاب والسنة.
وقال الفراء: كن فيكون، يقال: إنه للصور خاصة، أي ويوم يقول للصور كن فيكون. قوله: {عالم الغيب والشهادة} رفع {عالم} على أنه صفة للذي خلق السموات والأرض، ويجوز أن يرتفع على إضمار مبتدأ، أي هو عالم الغيب والشهادة، وروي عن بعضهم أنه قرأ: {ينفخ} بالبناء للفاعل، فيجوز على هذه القراءة أن يكون الفاعل {عالم الغيب} ويجوز أن يرتفع بفعل مقدّر كما أنشد سيبويه:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ** ومختبط مما تطيح الطوائح

أي يبكيه مختبط. وقرأ الحسن والأعمش {عالم} بالخفض على البدل من الهاء في {لَهُ الملك}. {وَهُوَ الحكيم} في جميع ما يصدر عنه {الخبير} بكل شيء.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} يقول: كذبت قريش بالقرآن {وَهُوَ الحق} وأما الوكيل فالحفيظ، وأما {لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} فكان نبأ القوم استقرّ يوم بدر بما كان بعدهم من العذاب.
وأخرج النحاس في ناسخه، عن ابن عباس في قوله: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} قال: نسخ هذه الآية آية السيف {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة 5].
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} قال: حبست عقوبتها حتى عمل ذنبها أرسلت عقوبتها.
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} قال: فعل وحقيقة ما كان منه في الدنيا وما كان منه في الآخرة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ونحو هذا في القرآن قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم أنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في ءاياتنا} قال: يستهزئون بها، نهى محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقعد معهم إلا أن ينسى، فإذا ذكر فليقم وذلك قول الله: {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن محمد بن سيرين أنه كان يرى أن هذه الآية نزلت في أهل الأهواء.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو نعيم في الحلية، عن أبي جعفر قال: لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن محمد بن علي قال: إن أصحاب الأهواء من الذين يخوضون في آيات الله.
وأخرج أبو الشيخ، عن مقاتل قال: كان المشركون بمكة إذا سمعوا القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاضوا واستهزءوا، فقال المسلمون: لا تصلح لنا مجالستهم نخاف أن نخرج حين نسمع قولهم ونجالسهم فلا نعيب عليهم، فأنزل الله هذه الآية.
وأخرج أبو الشيخ أيضاً عن السديّ أنه قال: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف.
وأخرج النحاس عن ابن عباس في قوله: {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ} قال: نسخت هذه الآية المكية بالآية المدنية، وهي قوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ في الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايات الله يُكَفَرُ بِهَا} الآية [النساء: 140].
وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن مجاهد {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ} إن قعدوا ولكن لا يقعدوا.
وأخرج ابن أبي شيبة عن هشام بن عروة، عن عمر بن عبد العزيز، أنه أتى بقوم قعدوا على شراب معهم رجل صائم فضربه وقال: لا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} قال: هو مثل قوله: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر: 11] يعني أنه للتهديد.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، عن قتادة، في هذه الآية قال: نسختها آية السيف.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه في قوله: {لَعِباً وَلَهْواً} قال: أكلاً وشرباً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {أَن تُبْسَلَ} قال: أن تفضح، وفي قوله: {أُبْسِلُواْ} قال: فضحوا وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه في قوله: {أَن تُبْسَلَ} قال: تسلم، وفي قوله: {أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} قال: أسلموا بجرائرهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً في قوله: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله} قال: هذا مثل ضربه الله للآلهة وللدعاة الذين يدعون إلى الله. وقوله: {كالذى استهوته الشياطين في الأرض} يقول: أضلته، وهم الغيلان يدعونه باسمه، واسم أبيه، وجدّه، فيتبعها ويرى أنه في شيء فيصبح وقد ألقته في هلكة، وربما أكلته أو تلقيه في مضلة من الأرض، يهلك فيها عطشاً. فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً في قوله: {كالذى استهوته الشياطين} قال: هو الرجل لا يستجيب لهدى الله، وهو الرجل أطاع الشيطان وعمل في الأرض بالمعصية، وحاد عن الحق وضلّ عنه، و{لَهُ أصحاب يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى} ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس يقول: {إِنَّ الهدى هُدَى الله} والضلالة ما تدعو إليه الجن.
وأخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث، عن عبد الله بن عمرو قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور فقال: «قرن ينفخ فيه» والأحاديث الواردة في كيفية النفخ ثابتة في كتب الحديث لا حاجة لنا إلى إيرادها ها هنا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله: {عالم الغيب والشهادة} يعني: إِن عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور.