فصل: تفسير الآيات (100- 103):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (100- 103):

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}
هذا الكلام يتضمن ذكر نوع آخر من جهالاتهم وضلالاتهم. قال النحاس: {الجنّ} المفعول الأوّل، و{شركاء} المفعول الثاني كقوله تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} [المائدة: 20] {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً} [المدثر: 12] وأجاز الفراء: أن يكون الجنّ بدلاً من شركاء ومفسراً له. وأجاز الكسائي رفع الجنّ بمعنى هم الجنّ، كأنه قيل: من هم؟ فقيل الجنّ، وبالرفع قرأ يزيد بن أبي قطيب، وأبو حيان، وقرئ بالجر على إضافة شركاء إلى الجنّ للبيان. والمعنى: أنهم جعلوا شركاء لله فعبدوهم كما عبدوه، وعظموهم كما عظموه. وقيل المراد بالجنّ هاهنا الملائكة لاجتنانهم، أي استتارهم، وهم الذين قالوا: الملائكة بنات الله. وقيل: نزلت في الزنادقة الذين قالوا: إن الله تعالى وإبليس أخوان، فالله خالق الناس والدوابّ، وإبليس خالق الحيات والسباع والعقارب.
وروي ذلك عن الكلبي، ويقرب من هذا قول المجوس، فإنهم قالوا: للعالم صانعان هما الربّ سبحانه والشيطان. وهكذا القائلون: كل خير من النور، وكل شرّ من الظلمة، وهم المانوية.
قوله: {وَخَلَقَهُمْ} جملة حالية بتقدير قد، أي وقد علموا أن الله خلقهم، أو خلق ما جعلوه شريكاً لله. قوله: {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} قرأ نافع بالتشديد على التكثير، لأن المشركين ادّعوا أن الملائكة بنات الله، والنصارى ادّعوا أن المسيح ابن الله، واليهود ادّعوا أن عزيراً ابن الله، فكثر ذلك من كفرهم فشدّد الفعل لمطابقة المعنى. وقرأ الباقون بالتخفيف. وقرئ: {حرفوا} من التحريف أي زوّروا. قال أهل اللغة: معنى {خرقوا} اختلقوا وافتعلوا وكذبوا، يقال اختلق الإفك، واخترقه وخرقه، أو أصله من خرق الثوب: إذا شقه، أي اشتقوا له بنين وبنات. قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلق بمحذوف هو حال، أي كائنين بغير علم، بل قالوا ذلك عن جهل خالص، ثم بعد حكاية هذا الضلال البين، والبهت الفظيع من جعل الجنّ شركاء لله، وإثبات بنين وبنات له، نزه الله نفسه، فقال: {سبحانه وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ} وقد تقدّم الكلام في معنى {سبحانه}. ومعنى {تعالى} تباعد وارتفع عن قولهم الباطل الذي وصفوه به.
قوله: {بَدِيعُ السموات والأرض} أي مبدعهما، فكيف يجوز أن {يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} وقد جاء البديع بمعنى المبدع، كالسميع بمعنى المسمع كثيراً، ومنه قول عمرو بن معدي كرب:
أمن ريحانة الدَّاعى السَّميع ** يؤرقني وأصحابي هجوع

أي المسمع. وقيل: هو من إضافة الصفة المشبهة إلى الفاعل، والأصل: بديع سمواته وأرضه. وأجاز الكسائي خفضه على النعت لله. والظاهر أن رفعه على تقدير مبتدأ محذوف، أو على أنه مبتدأ وخبره {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ}. وقيل: هو مرفوع على أنه فاعل {تعالى} وقرئ بالنصب على المدح، والاستفهام في {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} للإنكار والاستبعاد، أي من كان هذا وصفه، وهو أنه خالق السموات والأرض وما فيهما، كيف يكون له ولد؟ وهو من جملة مخلوقاته، وكيف يتخذ ما يخلقه ولداً، ثم بالغ في نفي الولد، فقال: {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة} أي كيف يكون له ولد والحال أنه لم تكن له صاحبة؟ والصاحبة إذا لم توجد استحال وجود الولد، وجملة: {وَخَلَقَ كُلَّ شَئ} لتقرير ما قبلها، لأن من كان خالقاً لكل شيء استحال منه أن يتخذ بعض مخلوقاته ولداً {وَهُوَ بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ} لا تخفى عليه من مخلوقاته خافية، والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى الأوصاف السابقة، وهو في موضع رفع على الابتداء وما بعده خبره، وهو الاسم الشريف، و{رَبُّكُمْ} خبر ثان، و{لاَ إله إِلاَّ هُوَ} خبر ثالث، و{خالق كُلّ شَئ} خبر رابع، ويجوز أن يكون {الله رَبُّكُمُ} بدلاً من اسم الإشارة، وكذلك {لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلّ شَئ} خبر المبتدأ، ويجوز ارتفاع خالق على إضمار مبتدأ، وأجاز الكسائي والفراء النصب فيه.
{فاعبدوه} أي من كانت هذه صفاته، فهو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا غيره ممن ليس له من هذه الصفات العظيمة شيء.
قوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} الأبصار: جمع بصر، وهو الحاسة، وإدراك الشيء عبارة عن الإحاطة به. قال الزجاج أي لا تبلغ كنه حقيقته، فالمنفيّ هو هذا الإدراك لا مجرّد الرؤية. فقد ثبتت بالأحاديث المتواترة تواتراً لا شك فيه ولا شبهة، ولا يجهله إلا من يجهل السنة المطهرة جهلاً عظيماً، وأيضاً قد تقرّر في علم البيان، والميزان أن رفع الإيجاب الكلي سلب جزئي، فالمعنى لا تدركه بعض الأبصار وهي أبصار الكفار، هذا على تسليم أن نفي الإدراك يستلزم نفي الرؤية، فالمراد به هذه الرؤية الخاصة، والآية من سلب العموم لا من عموم السلب، والأوّل تخلفه الجزئية، والتقدير: لا تدركه كل الأبصار بل بعضها، وهي أبصار المؤمنين. والمصير إلى أحد الوجهين متعين لما عرّفناك من تواتر الرؤية في الآخرة، واعتضادها بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} الآية [القيامة: 22].
قوله: {وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} أي يحيط بها ويبلغ كنهها لا تخفى عليه منها خافية، وخصّ الأبصار ليجانس ما قبله.
وقال الزجاج: في هذا دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار، أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه انتهى. {وَهُوَ اللطيف} أي الرفيق بعباده، يقال لطف فلان بفلان: أي رفق به، واللطف في العمل الرفق به. واللطف من الله التوفيق والعصمة، وألطفه بكذا: إذا أبرّه. والملاطفة: المبارّة. هكذا قال الجوهري وابن فارس، و{الخبير} المختبر بكل شيء بحيث لا يخفى عليه شيء.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الجن وَخَلَقَهُمْ} قال: والله خلقهم {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال: تخرّصوا.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه في قوله: {وَخَرَقُواْ} قال: جعلوا: وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال كذبوا.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، والعقيلي، وابن عدي وأبو الشيخ، وابن مردويه بسند ضعيف، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} قال: «لو أن الإنس والجنّ والملائكة والشياطين منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفاً واحداً ما أحاطوا بالله أبداً» قال الذهبي: هذا حديث منكر انتهى. وفي إسناده عطية العوفى وهو ضعيف.
وأخرج الترمذي وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه. قال عكرمة: فقلت له أليس الله يقول: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} قال: لا أمّ لك، ذاك نوره، إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء. وفي لفظ: «إنما ذلك إذا تجلى بكيفيته لم يقم له بصر».
وأخرج ابن جرير عنه قال: لا يحيط بصر أحد بالله.
وأخرج أبو الشيخ، والبيهقي في كتاب الرؤية، عن الحسن في قوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} قال: في الدنيا.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن إسماعيل بن علية مثله.

.تفسير الآيات (104- 108):

{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)}
البصائر جمع بصيرة، وهي في الأصل: نور القلب، والمراد بها هنا الحجة البينة والبرهان الواضح. وهذا الكلام وارد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال في آخره {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} ووصف البصائر بالمجيء تفخيماً لشأنها، وجعلها بمنزلة الغائب المتوقع مجيئه، كما يقال جاءت العافية، وانصرف المرض، وأقبلت السعود، وأدبرت النحوس {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} أي فمن تعقل الحجة وعرفها وأذعن لها فنفع ذلك لنفسه؛ لأنه ينجو بهذا الإبصار من عذاب النار {وَمَنْ عَمِىَ} عن الحجة ولم يتعقلها ولا أذعن لها، فضرر ذلك على نفسه؛ لأنه يتعرض لغضب الله في الدنيا ويكون مصيره النار {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} برقيب أحصي عليكم أعمالكم، وإنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم. قال الزجاج: نزل هذا قبل فرض القتال ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان. {وكذلك نُصَرّفُ الآيات} أي مثل ذلك التصريف البديع نصرفها في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه. قوله: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} العطف على محذوف، أي نصرّف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست. أو علة لفعل محذوف يقدّر متأخراً، أي وليقولوا درست صرفناها، وعلى هذا تكون اللام للعاقبة أو للصيرورة. والمعنى: ومثل ذلك التصريف نصرّف الآيات وليقولوا درست، فإنه لا احتفال بقولهم ولا اعتداد بهم، فيكون معناه الوعيد والتهديد لهم وعدم الاكتراث بقولهم.
وقد أشار إلى مثل هذا الزجاج.
وقال النحاس: وفي المعنى قول آخر حسن، وهو أن يكون معنى {نُصَرّفُ الآيات} نأتي بها آية بعد آية {وَلّيَقُولواْ دَرَسْتَ} علينا، فيذكرون الأوّل بالآخر، فهذا حقيقته، والذي قاله أبو إسحاق: يعني الزجاج مجاز. وفي {دَرَسْتَ} قراءات، قرأ أبو عمرو، وابن كثير {دارست} بألف بين الدال والراء كفاعلت، وهي قراءة عليّ، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وأهل مكة. وقرأ ابن عامر {درست} بفتح السين وإسكان التاء من غير ألف كخرجت، وهي قراءة الحسن. وقرأ الباقون {درست} كضربت، فعلى القراءة الأولى المعنى: دارست أهل الكتاب ودارسوك، أي ذاكرتهم وذاكروك، ويدلّ على هذا ما وقع في الكتاب العزيز من إخبار الله عنهم بقوله: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُون} [الفرقان: 4] أي أعان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن، ومثله قولهم: {أساطير الأولين اكتتبها فَهِىَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5]، وقولهم: {إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]. والمعنى على القراءة الثانية: قدمت هذه الآيات وعفت وانقطعت، وهو كقولهم: {أساطير الأولين} [الأنعام: 25]، وفي ثمانية مواضع أُخر من كتاب الله العزيز. والمعنى على القراءة الثالثة: مثل المعنى على القراءة الأولى. قال الأخفش: هي بمعنى دارست إلا أنه أبلغ.
وحكى عن المبرد أنه قرأ: {وَلِيَقُولُواْ} بإسكان اللام، فيكون فيه معنى التهديد، أي وليقولوا ما شاءوا فإن الحق بين، وفي اللفظ أصله درس يدرس دراسة، فهو من الدرس، وهو القراءة.
وقيل من درسته: أي ذللته بكثرة القراءة، وأصله درس الطعام، أي داسه. والدياس: الدراس بلغة أهل الشام. وقيل أصله من درست الثوب أدرسه درساً، أي أخلقته، ودرست المرأة درساً، أي حاضت. ويقال: إن فرج المرأة يكنى أبا دراس وهو من الحيض، والدرس أيضاً: الطريق الخفي.
وحكى الأصمعي: بعير لم يدرس: أي لم يركب.
وروى عن ابن عباس وأصحابه، وأبي، وابن مسعود، والأعمش، أنهم قرءوا {درس} أي: درس محمد الآيات، وقرئ: {درِسَتْ} وبه قرأ زيد بن ثابت، أي الآيات على البناء للمفعول، {ودارست} أي دارست اليهود محمداً. واللام في {لنبينه} لام كي، أي نصرف الآيات لكي نبينه لقوم يعلمون، والضمير راجع إلى الآيات؛ لأنها في معنى القرآن، أو إلى القرآن، وإن لم يجر له ذكر، لأنه معلوم من السياق أو إلى التبيين المدلول عليه بالفعل.
قوله: {اتبع مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} أمره الله باتباع ما أوحى إليه وأن لا يشغل خاطره بهم، بل يشتغل باتباع ما أمره الله، وجملة: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، لقصد تأكيد إيجاب الاتباع {وَأَعْرِض} معطوف على {اتَّبِعُ} أمره الله بالإعراض عن المشركين بعدما أمره باتباع ما أوحي إليه، وهذا قبل نزول آية السيف: {وَلَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكُواْ} أي لو شاء الله عدم إشراكهم ما أشركوا، وفيه أن الشرك بمشيئة الله سبحانه، والكلام في تقرير هذا على الوجه الذي يتعارف به أهل علم الكلام والميزان معروف فلا نطيل بإيراده، {وَمَا جعلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أي رقيباً {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أي قيم بما فيه نفعهم فتجلبه إليهم، ليس عليك إلا إبلاغ الرسالة.
قوله: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} الموصول عبارة عن الآلهة التي كانت تعبدها الكفار. والمعنى: لا تسب يا محمد آلهة هؤلاء الكفار التي يدعونها من دون الله، فيتسبب عن ذلك سبهم لله عدواناً وتجاوزاً عن الحق، وجهلاً منهم.
وفي هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق، والناهي عن الباطل، إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم، ومخالفة حق، ووقوع في باطل أشد كان الترك أولى به، بل كان واجباً عليه، وما أنفع هذه الآية وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله، المتصدين لبيانها للناس، إذا كان بين قوم من الصم البكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه، وتركوا غيره من المعروف. وإذا نهاهم عن منكر فعلوه وفعلوا غيره من المنكرات؛ عناداً للحق وبغضاً لاتباع المحقين، وجراءة على الله سبحانه، فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة وجعل المخالفة لها والتجرؤ على أهلها ديدنه وهجيراه، كما يشاهد ذلك في أهل البدع الذين إذا دعوا إلى حق وقعوا في كثير من الباطل، وإذا أرشدوا إلى السنة، قابلوها بما لديهم من البدعة، فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين المتهاونون بالشرائع، وهم شرّ من الزنادقة، لأنهم يحتجون بالباطل وينتمون إلى البدع، ويتظاهرون بذلك غير خائفين ولا وجلين، والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإسلام، وتحاماهم أهله، وقد ينفق كيدهم، ويتمّ باطلهم وكفرهم نادراً على ضعيف من ضعفاء المسلمين، مع تكتم وتحرز وخيفة ووجل، وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة غير منسوخة، وهي أصل أصيل في سدّ الذرائع، وقطع التطرّق إلى الشبه.
وقرأ أهل مكة {عُدُوّا} بضم العين والدال وتشديد الواو، وهي قراءة الحسن، وأبي رجاء وقتادة. وقرأ من عداهم بفتح العين وضم الدال وتشديد الواو، ومعنى القراءتين واحد: أي ظلماً وعدواناً، وهو منتصب على الحال، أو على المصدر، أو على أنه مفعول له {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أي مثل ذلك التزيين زينا لكل أمة من أمم الكفار عملهم من الخير والشرّ {يُضِلُّ مَن يَشَآء وَيَهْدِى مَن يَشَآء} [النحل: 93، فاطر: 8] {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدنيا من المعاصي التي لم ينتهوا عنها، ولا قبلوا من المرسلين ما أرسلهم الله به إليهم، وما تضمنته كتبه المنزلة عليهم.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ} أي بينة {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} أي فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه {وَمَنْ عَمِىَ} أي من ضلّ {فَعَلَيْهَا}.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والضياء في المختارة، عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {دارست} وقال: قرأت.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه عنه {دَرَسْتَ} قال: قرأت وتعلمت.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عنه أيضاً قال: {دارست} خاصمت، جادلت، تلوت.
وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} قال: كفّ عنهم، وهذا منسوخ، نسخه القتال: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5].
وأخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس في قوله: {وَلَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكُواْ} يقول الله تبارك وتعالى: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أي بحفيظ.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله} قال: قالوا يا محمد لتنتهينّ عن سبك آلهتنا أو لنهجونَّ ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم {فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ملعون من سبّ والديه»، قالوا يا رسول الله وكيف يسبّ الرجل والديه؟ قال: «يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسبّ أمه فيسبّ أمه».