فصل: تفسير الآيات (118- 120):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (118- 120):

{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)}
لما تقدم ذكر ما يصنعه الكفار في الأنعام من تلك السنن الجاهلية، أمر الله المسلمين بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه. وقيل: إنها نزلت في سبب خاص وسيأتي، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما ذكر الذابح عليه اسم الله حلّ إن كان مما أباح الله أكله.
وقال عطاء: في هذه الآية الأمر بذكر الله على الشراب والذبح وكل مطعوم، والشرط في {إِن كُنتُم بآياته مُؤْمِنِينَ} للتهييج والإلهاب، أي بأحكامه من الأوامر والنواهي التي من جملتها الأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه، والاستفهام في {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} للإنكار، أي ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه بعد أن أذن الله لكم بذلك؟ والحال أن {قَدْ فَصَّل لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} أي بين لكم بياناً مفصلاً يدفع الشك، ويزيل الشبهة بقوله: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَي مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] إلى آخر الآية، ثم استثنى فقال: {إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ} أي من جميع ما حرّمه عليكم، فإن الضرورة تحلل الحرام، وقد تقدّم تحقيقه في البقرة. قرأ نافع، ويعقوب {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} بفتح الفعلين على البناء للفاعل، وهو الله سبحانه. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وابن كثير، بالضم فيهما على البناء للمفعول. وقرأ عطية العوفي {فصل} بالتخفيف، أي أبان وأظهر.
قوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ} هم الكفار الذين كانوا يحرّمون البحيرة والسائبة ونحوهما، فإنهم بهذه الأفعال المبنية على الجهل، كانوا يضلون الناس، فيتبعونهم، ولا يعلمون أن ذلك جهل وضلالة، لا يرجع إلى شيء من العلم، ثم أمرهم الله أن يتركوا ظاهر الإثم وباطنه. والظاهر: ما كان يظهر كأفعال الجوارح. والباطن: ما كان لا يظهر كأفعال القلب؛ وقيل ما أعلنتم وما أسررتم. وقيل: الزنا الظاهر، والزنا المكتوم وأضاف الظاهر والباطن إلى الإثم، لأنه يتسبب عنهما، ثم توعد الكاسبين للإثم بالجزاء بسبب افترائهم على الله سبحانه.
وقد أخرج أبو داود، والترمذي وحسنه، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، قال: جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنا نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله، فأنزل الله: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} إلى قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} فإنه حلال {إِن كُنتُم بآياته} يعني القرآن {مُّؤْمِنِينَ} قال: مصدقين {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} يعني: الذبائح {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} يعني: ما حرّم عليكم من الميتة {وَإِنَّ كَثِيرًا} يعني من مشركي العرب {لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ} يعني في أمر الذبائح.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ} أي من الميتة، والدم، ولحم الخنزير.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {وَذَرُواْ ظاهر الإثم} قال: هو نكاح الأمهات والبنات {وَبَاطِنَهُ} قال: هو الزنا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال: الظاهر منه {لا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء} [النساء: 22] و{حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم} [النساء: 23] الآية، والباطن: الزنا.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: علانيته وسرّه.

.تفسير الآية رقم (121):

{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)}
نهى الله سبحانه عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، بعد أن أمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه، وفيه دليل على تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فذهب ابن عمر، ونافع مولاه، والشعبي، وابن سيرين وهو رواية عن مالك وعن أحمد بن حنبل، وبه قال أبو ثور، وداود الظاهري أن ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح حرام من غير فرق بين العامد والناسي لهذه الآية. ولقوله تعالى في آية الصيد: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ} [المائدة: 4] ويزيد هذا الاستدلال تأكيداً قوله سبحانه في هذه الآية: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة، الأمر بالتسمية في الصيد وغيره.
وذهب الشافعي وأصحابه، وهو رواية عن مالك، ورواية عن أحمد: أن التسمية مستحبة لا واجبة، وهو مرويّ عن ابن عباس، وأبي هريرة، وعطاء بن أبي رباح، وحمل الشافعي الآية على من ذبح لغير الله، وهو تخصيص للآية بغير مخصص.
وقد روى أبو داود في المرسل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكر» وليس في هذا المرسل ما يصلح لتخصيص الآية، نعم حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوماً يأتوننا بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سموا أنتم وكلوا» يفيد أن التسمية عند الأكل تجزئ مع التباس وقوعها عند الذبح.
وذهب مالك، وأحمد في المشهور عنهما، وأبو حنيفة وأصحابه، وإسحاق بن راهويه، أن التسمية إن تركت نسياناً لم تضرّ، وإن تركت عمداً لم يحلّ أكل الذبيحة. وهو مرويّ عن علي، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعطاء وطاووس، والحسن البصري، وأبي مالك، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، واستدلوا بما أخرجه البيهقي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكله» وهذا الحديث رفعه خطأ، وإنما هو من قول ابن عباس. وكذا أخرجه من قوله عبد الرزاق، وسعيد ابن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر؛ نعم يمكن الاستدلال لهذا المذهب بمثل قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] كما سبق تقريره، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» وأما حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن عديّ أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسم الله على كل مسلم» فهو حديث ضعيف، قد ضعفه البيهقي وغيره.
قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} الضمير يرجع إلى {ما} بتقدير مضاف، أي وإن أكل ما لم يذكر لفسق، ويجوز أن يرجع إلى مصدر تأكلوا، أي فإن الأكل لفسق، وقد تقدّم تحقيق الفسق.
وقد استدلّ من حمل هذه الآية على ما ذبح لغير الله بقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ووجه الاستدلال أن الترك لا يكون فسقاً، بل الفسق الذبح لغير الله. ويجاب عنه بأن إطلاق اسم الفسق على تارك ما فرضه الله عليه غير ممتنع شرعاً {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ} أي يوسوسون لهم بالوساوس المخالفة للحق، المباينة للصواب، قاصدين بذلك أن يجادلكم هؤلاء الأولياء بما يوسوسون لهم {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} فيما يأمرونكم به وينهونكم عنه {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} مثلهم.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس، والطبراني وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس، قال: قال المشركون، وفي لفظ: قال اليهود: لا تأكلوا مما قتل الله وتأكلوا مما قتلتم أنتم، فأنزل الله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ}.
وأخرج ابن جرير، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عنه قال لما نزلت: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمداً، فقالوا له: ما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال، وما ذبح الله بشمشار من ذهب يعني الميتة فهو حرام؟ فنزلت: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم} قال: الشياطين من فارس وأولياؤهم من قريش.
وقد روى نحو ما تقدّم في حديث ابن عباس الأوّل من غير طريق.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عنه أيضاً في قوله: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ} قال: إبليس أوحى إلى مشركي قريش.
وأخرج أبو داود، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عنه أيضاً في قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فنسخ، واستثنى من ذلك فقال: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة: 5].
وأخرج عبد بن حميد، عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: كلوا ذبائح المسلمين وأهل الكتاب مما ذكر اسم الله عليه.
وروى ابن أبي حاتم عن مكحول نحو قول ابن عباس في النسخ.

.تفسير الآيات (122- 124):

{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)}
قوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه} قرأ الجمهور بفتح الواو بعد همزة الاستفهام. وقرأ نافع، وابن أبي نعيم بإسكانها، قال النحاس: يجوز أن يكون محمولاً على المعنى، أي انظروا وتدبروا {أَفغَيْرَ الله أَبْتَغِى حَكَماً أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه} والمراد بالميت هنا الكافر، أحياه الله بالإسلام. وقيل معناه: كان ميتاً حين كان نطفة، فأحييناه بنفخ الروح فيه. والأوّل أولى، لأن السياق يشعر بذلك لكونه في تنفير المسلمين عن اتباع المشركين، وكثيراً ما تستعار الحياة للهداية وللعلم، ومنه قول القائل:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ** فأجسامهم قبل القبور قبور

وإن امرأ لم يحيي بالعلم ميت ** فليس له حتى النشور نشور

والنور: عبارة عن الهداية والإيمان. وقيل هو القرآن. وقيل الحكمة. وقيل هو النور المذكور في قوله تعالى: {يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم} [الحديد: 12] والضمير في {به} راجع إلى النور {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات} أي كمن صفته في الظلمات، ومثله مبتدأ والظلمات خبره، والجملة صفة لمن. وقيل مثل زائدة، والمعنى: كمن في الظلمات، كما تقول: أنا أكرم من مثلك، أي منك، ومثله: {فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} [المائدة: 95] {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ} [الشورى: 11]. وقيل المعنى: كمن مثله مثل من هو في الظلمات، و{لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} في محل نصب على الحال، أي حال كونه ليس بخارج منها بحال من الأحوال.
قوله: {وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} أي مثل ذلك الجعل جعلنا في كل قرية. والأكابر جمع أكبر، قيل: هم الرؤساء والعظماء، وخصهم بالذكر؛ لأنهم أقدر على الفساد، والمكر: الحيلة في مخالفة الاستقامة، وأصله الفتل، فالماكر يفتل عن الاستقامة: أي يصرف عنها {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ} أي وبال مكرهم عائد عليهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} بذلك لفرط جهلهم {وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ} من الآيات، {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ الله} يريدون أنهم لا يؤمنون حتى يكونوا أنبياء، وهذا نوع عجيب من جهالاتهم الغريبة وعجرفتهم العجيبة، ونظيره: {يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} [المدثر: 52]. والمعنى: إذا جاءت الأكابر آية قالوا هذه المقالة، فأجاب الله عنهم بقوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} أي إن الله أعلم بمن يستحق أن يجعله رسولاً، ويكون موضعاً لها، وأميناً عليها، وقد اختار أن يجعل الرسالة في محمد صفيه وحبيبه، فدعوا طلب ما ليس من شأنكم، ثم توعدهم بقوله: {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ} أي: ذلّ وهوان، وأصله من الصغر كأنّ الذلّ يصغر إلى المرء نفسه. وقيل الصغار هو الرضا بالذلّ، روي ذلك عن ابن السكيت.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه} قال: كان كافراً ضالاً فهديناه {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا} هو القرآن {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات}: الكفر والضلالة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عكرمة في الآية قال: نزلت في عمار بن ياسر.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في الناس} يعني عمر بن الخطاب، {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} يعني أبا جهل بن هشام.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن زيد بن أسلم، في الآية قال: نزلت في عمر ابن الخطاب، وأبي جهل بن هشام، كانا ميتين في ضلالتهما، فأحيا الله عمر بالإسلام وأعزّه، وأقرّ أبا جهل في ضلالته وموته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فقال: «اللهم أعزّ الإسلام بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب».
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن عكرمة في قوله: {وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا} قال: نزلت في المستهزئين.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في الآية قال: سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال: {أكابر مُجْرِمِيهَا} عظماءها.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن جريج في قوله: {وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ} الآية قال: قالوا لمحمد حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه من الحق. لو كان هذا حقاً لكان فينا من هو أحق أن يؤتي به محمد: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ} قال: أشركوا {صَغَارٌ} قال: هوان.

.تفسير الآيات (125- 128):

{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)}
قوله: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} الشرح: الشق وأصله التوسعة، وشرحت الأمر بينته وأوضحته، والمعنى: من يرد الله هدايته للحق يوسع صدره حتى يقبله بصدر منشرح، {وَمَن يُرِدِ} إضلاله {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً} قرأ ابن كثير {ضَيقاً} بالتخفيف مثل هين ولين. وقرأ الباقون بالتشديد وهما لغتان. وقرأ نافع {حَرَجاً} بالكسر، ومعناه الضيق، كرر المعنى تأكيداً، وحسن ذلك اختلاف اللفظ. وقرأ الباقون بالفتح، جمع حرجة، وهي شدة الضيق، والحرجة الغيظة، والجمع حرج وحرجات، ومنه فلان يتحرج: أي يضيق على نفسه.
وقال الجوهري: مكان حرج وحرج، أي ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الراعية، والحرج الإثم.
وقال الزجاج: الحرج أضيق الضيق.
وقال النحاس: حرج اسم الفاعل، وحرج مصدر وصف به كما يقال: رجل عدل.
قوله: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ في السماء} قرأ ابن كثير بالتخفيف من الصعود، شبه الكافر في ثقل الإيمان عليه، بمن يتكلف ما لا يطيقه كصعود السماء. وقرأ النخعي {يصاعد} وأصله يتصاعد. وقرأ الباقون {يصعد} بالتشديد وأصله يتصعد، ومعناه: يتكلف ما لا يطيق مرة بعد مرة، كما يتكلف من يريد الصعود إلى السماء. وقيل: المعنى على جميع القراءات: كاد قلبه يصعد إلى السماء نبوّاً على الإسلام، و{ما} في {كأنما} هي المهيئة لدخول كأن على الجمل الفعلية. قوله: {كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} أي مثل ذلك الجعل الذي هو جعل الصدر ضيقاً حرجاً يجعل الله الرجس. والرجس في اللغة: النتن، وقيل هو العذاب، وقيل: هو الشيطان يسلطه الله عليهم. وقيل: هو ما لا خير فيه؛ والمعنى الأوّل هو المشهور في لغة العرب، وهو مستعار لما يحلّ بهم من العقوبة وهو يصدق على جميع المعاني المذكورة. والإشارة بقوله: {وهذا صراط رَبّكَ} إلى ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين، أي هذا طريق دين ربك لا اعوجاج فيه. وقيل الإشارة إلى ما تقدّم مما يدل على التوفيق والخذلان، أي: هذا هو عادة الله في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وانتصاب {مُّسْتَقِيماً} على الحال كقوله تعالى: {وَهُوَ الحق مُصَدّقًا} [البقرة: 91]، {وهذا بَعْلِى شَيْخًا} [هود: 72] {وَقَدْ فَصَّلْنَا الآيات} أي بيناها وأوضحناها {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} ما فيها، ويتفهمون معانيها. {لَهُمْ دَارُ السلام عِندَ رَبّهِمْ} أي لهؤلاء المتذكرين الجنة، لأنها دار السلامة من كل مكروه، أو دار الرب السلام مدخرة لهم عند ربهم، ويوصلهم إليها {وَهُوَ وَلِيُّهُم} أي ناصرهم، والباء في {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} للسببية أي بسبب أعمالهم.
قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} الظرف منصوب بمضمر يقدر متقدماً، أي واذكر يوم نحشرهم أو {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} نقول: {يَامَعْشَر الجن} والمراد حشر جميع الخلق في القيامة، والمعشر الجماعة: أي يوم الحشر نقول، يا جماعة الجن {قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس} أي من الاستمتاع بهم، كقوله: {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} وقيل: استكثرتم من إغوائهم وإضلالهم حتى صاروا في حكم الأتباع لكم فحشرناهم معكم، ومثله قوله: استكثر الأمير من الجنود، والمراد التقريع والتوبيخ، وعلى الأوّل، فالمراد بالاستمتاع: التلذذ من الجن بطاعة الإنس لهم ودخولهم فيما يريدون منهم {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} أما استمتاع الجن بالإنس: فهو ما تقدم من تلذذهم باتباعهم لهم، وأما استمتاع الإنس بالجن فحيث قبلوا منهم تحسين المعاصي، فوقعوا فيها وتلذذوا بها.
فذلك هو استمتاعهم بالجن؛ وقيل: استمتاع الإنس بالجن: أنه كان إذا مرّ الرجل بواد في سفره وخاف على نفسه قال: أعوذ بربّ هذا الوادي من جميع ما أحذر، يعني ربه من الجن، ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن فَزَادوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 6] وقيل: استمتاع الجن بالإنس: أنهم كانوا يصدقونهم فيما يقولون من الأخبار الغيبية الباطلة، واستمتاع الإنس بالجن: أنهم كانوا يتلذذون بما يلقونه إليهم من الأكاذيب، وينالون بذلك شيئاً من حظوظ الدنيا كالكهان {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا} أي يوم القيامة اعترافاً منهم بالوصول إلى ما وعدهم الله به مما كانوا يكذبون به. ولما قالوا هذه المقالة أجاب الله عليهم ف {قَالَ النار مَثْوَاكُمْ} أي موضع مقامكم. والمثوى: المقام، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر.
قوله: {خالدين فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء الله} المعنى الذي تقتضيه لغة العرب في هذا التركيب أنهم يخلدون في النار في كل الأوقات، إلا في الوقت الذي يشاء الله عدم بقائهم فيها.
وقال الزجاج: إن الاستثناء يرجع إلى يوم القيامة، أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدّتهم في الحساب، وهو تعسف، لأن الاستثناء هو من الخلود الدائم، ولا يصدق على من لم يدخل النار، وقيل: الاستثناء راجع إلى النار، أي إلا ما شاء الله من تعذيبهم بغيرها في بعض الأوقات كالزمهرير. وقيل: الاستثناء لأهل الإيمان، و{ما} بمعنى من، أي إلا من شاء الله إيمانه فإنه لا يدخل النار. وقيل المعنى: إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب. وكل هذه التأويلات متكلفة، والذي ألجأ إليها ما ورد في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من خلود الكفار في النار أبداً، ولكن لا تعارض بين عام وخاص، لاسيما بعد وروده في القرآن مكرراً كما سيأتي في سورة هود {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ}
[هود: 107] ولعله يأتي هنالك إن شاء الله زيادة تحقيق.
وقد أخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد الرزاق والفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن أبي جعفر المدائني رجل من بني هاشم، وليس هو محمد ابن علي قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: «نور يقذف فيه فينشرح صدره له وينفسح له»، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت».
وأخرج عبد بن حميد، عن فضيل نحوه.
وأخرج ابن أبي الدنيا، عن الحسن نحوه أيضاً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، من طرق عن ابن مسعود قال: قال رسول الله حين نزلت هذه الآية فذكر نحوه.
وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً من طريق أخرى.
وأخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن النجار في تاريخه عن عبد الله بن المستورد، وكان من ولد جعفر بن أبي طالب قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فذكر نحوه. وهذه الطرق يقوّي بعضها بعضاً، والمتصل يقوّي المرسل، فالمصير إلى هذا التفسير النبويّ متعين.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في الآية قال: كما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء، كذلك لا يقدر على أن يدخل الإيمان والتوحيد قلبه حتى يدخله الله في قلبه.
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه في الآية يقول: من أراد أن يضله يضيق عليه حتى يجعل الإسلام عليه ضيقاً، والإسلام واسع وذلك حين يقول: {وَمَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] يقول: ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {دَارُ السلام} قال: الجنة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن جابر بن زيد قال: السلام هو الله.
وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ قال: الله هو السلام، وداره الجنة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس} يقول: من ضلالتكم إياهم، يعني: أضللتم منهم كثيراً، وفي قوله: {خالدين فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء الله} قال: إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، لا ينزلهم جنة ولا ناراً.