فصل: تفسير الآيات (129- 132):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (129- 132):

{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)}
قوله: {وكذلك نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً} أي مثل ما جعلنا بين الجن والإنس ما سلف {كذلك نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً} والمعنى: نجعل بعضهم يتولى البعض، فيكونون أولياء لبعضهم بعضاً، ثم يتبرأ بعضهم من البعض، فمعنى نولي على هذا: نجعله ولياً له.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: معناه نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس.
وروي عنه أيضاً أنه فسر هذه الآية بأن بالمعنى: نسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله، فيكون في الآية على هذا تهديد للظلمة بأن من لم يمتنع من ظلمه منهم سلط الله عليه ظالماً آخر.
وقال فضيل بن عياض: إذا رأيت ظالماً ينتقم من ظالم، فقف وانظر متعجباً. وقيل معنى نولي: نكل بعضهم إلى بعض فيما يختارونه من الكفر، والباء في {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} للسببية، أي بسبب كسبهم للذنوب ولينا بعضهم بعضاً.
قوله: {يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ} أي يوم نحشرهم نقول لهم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أوهو شروع في حكاية ما سيكون في الحشر، وظاهره أن الله يبعث في الدنيا إلى الجنّ رسلاً منهم، كما يبعث إلى الإنس رسلاً منهم. وقيل معنى منكم: أي ممن هو مجانس لكم في الخلق والتكليف، والقصد بالمخاطبة، فإن الجنّ والإنس متحدون في ذلك، وإن كان الرسل من الإنس خاصة فهم من جنس الجنّ من تلك الحيثية. وقيل: إنه من باب تغليب الإنس على الجنّ كما يغلب الذكر على الأنثى. وقيل المراد بالرسل إلى الجنّ هاهنا هم النذر منهم، كما في قوله: {وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29]. قوله: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتى} صفة أخرى لرسل، وقد تقدّم بيان معنى القصّ. قوله: {قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} هذا إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم بإرسال رسله إليهم، والجملة جواب سؤال مقدّر فهي مستأنفة، وجملة {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} في محل نصب على الحال، أو هي جملة معترضة {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين} هذه شهادة أخرى منهم على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين في الدنيا بالرسل المرسلين إليهم، والآيات التي جاءوا بها، وقد تقدّم ما يفيد أن مثل هذه الآية المصرّحة بإقرارهم بالكفر على أنفسهم، ومثل قولهم: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] محمول على أنهم يقرّون في بعض مواطن يوم القيامة، وينكرون في بعض آخر لطول ذلك اليوم، واضطراب القلوب فيه وطيشان العقول، وانغلاق الأفهام وتبلد الأذهان.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى شهادتهم على أنفسهم أو إلى إرسال الرسل إليهم. وأن في {أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى} هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف.
والمعنى: ذلك أن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى، أو هي المصدرية، والباء في {بِظُلْمٍ} سببية، أي لم أكن أهلك القرى بسبب ظلم من يظلم منهم، والحال أن أهلها غافلون، لم يرسل الله إليهم رسولاً. والمعنى: أن الله أرسل الرسل إلى عباده؛ لأنه لا يهلك من عصاه بالكفر من القرى، والحال أنهم غافلون عن الأعذار والإنذار بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، بل إنما يهلكهم بعد إرسال الرسل إليهم، وارتفاع الغفلة عنهم بإنذار الأنبياء لهم: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]؛ وقيل المعنى: ما كان الله مهلك أهل القرى بظلم منه، فهو سبحانه يتعالى عن الظلم، بل إنما يهلكهم بعد أن يستحقوا ذلك وترتفع الغفلة عنهم بإرسال الأنبياء؛ وقيل المعنى: أن الله لا يهلك أهل القرى بسبب ظلم من يظلم منهم مع كون الآخرين غافلين عن ذلك، فهو مثل قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164]. {وَلِكُلّ درجات مّمَّا عَمِلُواْ} أي لكلّ من الجنّ والإنس درجات متفاوتة مما عملوا، فنجازيهم بأعمالهم. كما قال في آية أخرى: {وَلِكُلّ درجات مّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفّيَهُمْ أعمالهم وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الأحقاف: 19]، وفيه دليل على أن المطيع من الجنّ في الجنة، والعاصي في النار {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} من أعمال الخير والشر، والغفلة ذهاب الشيء عنك لاشتغالك بغيره، قرأ ابن عامر {تَعْمَلُونَ} بالفوقية، وقرأ الباقون بالتحتية.
وقد أخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {وكذلك نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً} قال: يوليّ الله بعض الظالمين بعضاً في الدنيا يتبع بعضهم بعضاً في النار.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عبد الرحمن بن زيد، في الآية مثل ما حكينا عنه قريباً.
وأخرج أبو الشيخ، عن الأعمش في تفسير الآية قال: سمعتهم يقولون إذا فسد الزمان أمر عليهم شرارهم.
وأخرج الحاكم في التاريخ، والبيهقي في الشعب، من طريق يحيى بن هاشم حدّثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كما تكونون كذلك يؤمر عليكم» قال البيهقي: هذا منقطع ويحيى ضعيف.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {رُسُلٌ مّنكُمْ} قال: ليس في الجنّ رسل، وإنما الرسل في الإنس، والنذارة في الجنّ، وقرأ: {فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29].
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة، أيضاً عن الضحاك قال: الجنّ يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة أيضاً، عن ليث بن أبي سليم قال: مسلمو الجنّ لا يدخلون الجنة ولا النار، وذلك أن الله أخرج أباهم من الجنة فلا يعيده ولا يعيد ولده.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة أيضاً، عن ابن عباس قال: الخلق أربعة فخلق في الجنة كلهم، وخلق في النار كلهم، وخلقان في الجنة والنار، فأما الذين في الجنة كلهم فالملائكة، وأما الذين في النار كلهم فالشياطين، وأما الذين في الجنة والنار فالإنس والجنّ، لهم الثواب وعليهم العقاب.

.تفسير الآيات (133- 137):

{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)}
قوله: {وَرَبُّكَ الغنى} أي عن خلقه لا يحتاج إليهم ولا إلى عبادتهم لا ينفعه إيمانهم، ولا يضرّه كفرهم، ومع كونه غنياً عنهم، فهو ذو رحمة بهم لا يكون غناه عنهم مانعاً من رحمته لهم، وما أحسن هذا الكلام الرباني وأبلغه، وما أقوى الاقتران بين الغنى والرحمة في هذا المقام، فإن الرحمة لهم مع الغنى عنهم هي غاية التفضل والتطوّل {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أيها العباد العصاة، فيستأصلكم بالعذاب المفضي إلى الهلاك وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِ إهلاككَمْ ما يشاء من خلقه ممن هو أطوع له وأسرع إلى امتثال أحكامه منكم {كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ} الكاف نعت مصدر محذوف، وما مصدرية، أي ويستخلف استخلافاً مثل إنشائكم من ذرية قوم آخرين، قيل: هم أهل سفينة نوح، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك فلم يهلكهم، ولا استخلف غيرهم رحمة لهم، ولطفاً بهم {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} من البعث والمجازاة {لآتٍ} لا محالة، فإن الله لا يخلف الميعاد {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي بفائتين عما هو نازل بكم، وواقع عليكم: يقال أعجزني فلان، أي فاتني وغلبني.
قوله: {قُلْ ياقَوْم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} المكانة: الطريقة، أي اثبتوا على ما أنتم عليه، فإني غير مبال بكم ولا مكترث بكفركم، إني ثابت على ما أنا عليه {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} من هو على الحق ومن هو على الباطل، وهذا وعيد شديد، فلا يرد ما يقال كيف يأمرهم بالثبات على الكفر: و{عاقبة الدار} هي العاقبة المحمودة التي يحمد صاحبها عليها، أي من له النصر في دار الدنيا، ومن له وراثة الأرض، ومن له الدار الآخرة.
وقال الزجاج: معنى مكانتكم: تمكنكم في الدنيا، أي اعملوا على تمكنكم من أمركم. وقيل: على ناحيتكم. وقيل: على موضعكم. قرأ حمزة والكسائي {من يكون} بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية. والضمير في {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} للشأن: أي لا يفلح من اتصف بصفة الظلم، وهو تعريض لهم بعدم فلاحهم لكونهم المتصفين بالظلم.
قوله: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام} هذا بيان نوع آخر من أنواع كفرهم وجهلهم وتأثيرهم لآلهتهم على الله سبحانه، أي جعلوا لله سبحانه مما خلق من حرثهم ونتاج دوابهم نصيباً، ولآلهتهم نصيباً من ذلك، يصرفونه في سدنتها والقائمين بخدمتها، فإذا ذهب ما لآلهتهم بانفاقه في ذلك عوّضوا عنه ما جعلوه لله، وقالوا: الله غنيّ عن ذلك، والزعم الكذب قرأ يحيى بن وثاب والسلمي والأعمش والكسائي {بِزُعْمِهِمْ} بضم الزاي، وقرأ الباقون بفتحها، وهما لغتان {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله} أي إلى المصارف التي شرع الله الصرف فيها كالصدقة وصلة الرحم، وقرى الضيف {وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ} أي يجعلونه لآلهتهم وينفقونه في مصالحها {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} أي ساء الحكم حكمهم في إيثار آلهتهم على الله سبحانه.
وقيل معنى الآية: أنهم كانوا إذا ذبحوا ما جعلوه لله ذكروا عليه اسم أصنامهم، وإذا ذبحوا ما لأصنامهم لم يذكروا عليه اسم الله، فهذا معنى الوصول إلى الله، والوصول إلى شركائهم، وقد قدّمنا الكلام في ذرأ.
قوله: {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ} أي: ومثل ذلك التزيين الذي زينه الشيطان لهم في قسمة أموالهم بين الله وبين شركائهم، زين لهم قتل أولادهم. قال الفراء والزجاج: شركاؤهم هاهنا هم الذين كانوا يخدمون الأوثان وقيل: هم الغواة من الناس. وقيل هم الشياطين، وأشار بهذا إلى الوأد، وهو دفن البنات مخافة السبي والحاجة. وقيل كان الرجل يحلف بالله لئن ولد له كذا من الذكور لينحرنّ أحدهم كما فعله عبد المطلب. قرأ الجمهور {زين} بالبناء للفاعل ونصب {قتل} على أنه مفعول زيَّن، وجرّ أولاد بإضافة قتل إليه، ورفع شركاؤهم على أنه فاعل زين، وقرأ الحسن بضم الزاي ورفع قتل وخفض أولاد، ورفع شركاؤهم على أن قتل هو نائب الفاعل، ورفع شركاؤهم بتقدير يجعل يرجعه، أي زينه شركاؤهم، ومثله قول الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ** ومختبط ما تطيح الطوائح

أي يبكيه ضارع، وقرأ ابن عامر، وأهل الشام بضم الزاي، ورفع قتل، ونصب أولاد، وخفض شركائهم على أن قتل مضاف إلى شركائهم، ومعموله أولادهم، ففيه الفصل بين المصدر وما هو مضاف إليه بالمفعول، ومثله في الفصل بين المصدر وما أضيف إليه، قول الشاعر:
تمرّ على ما تستمرّ وقد شفت ** غلائل عبد القيس منها صدورها

بجر صدورها، والتقدير: شفت عبد القيس غلائل صدورها. قال النحاس: إن هذه القراءة لا تجوز في كلام ولا في شعر، وإنما أجاز النحويون التفريق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الشعر لاتساعهم في الظروف، وهو أي الفصل بالمفعول به في الشعر بعيد، فإجازته في القرآن أبعد.
وقال أبو غانم أحمد بن حمدان النحوي: إن قراءة ابن عامر لا تجوز في العربية وهي زلة عالم، وإذا زلّ العالم لم يجز اتباعه، وردّ قوله إلى الإجماع، وإنما أجازوا في الضرورة للشاعر أن يفرّق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف، كقول الشاعر:
كما خط الكتاب بكف يوما ** يهودي يقارب أو يزيل

وقول الآخر:
لله درّ اليوم من لامها

وقال قوم ممن انتصر لهذه القراءة: إنها إذا ثبتت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهي فصيحة لا قبيحة. قالوا: وقد ورد ذلك في كلام العرب، وفي مصحف عثمان رضي الله عنه {شركايهم} بالياء.
وأقول: دعوى التواتر باطلة بإجماع القراء المعتبرين، كما بينا ذلك في رسالة مستقلة، فمن قرأ بما يخالف الوجه النحوي فقراءته ردّ عليه، ولا يصح الاستدلال لصحة هذه القراءة بما ورد من الفصل في النظم كما قدّمنا، وكقول الشاعر:
فزججتها بمزجَة ** زج القلوص أبي مزاده

فإن ضرورة الشعر لا يقاس عليها، وفي الآية قراءة رابعة وهي جرّ الأولاد والشركاء، ووجه ذلك أن الشركاء بدل من الأولاد لكونهم شركاءهم في النسب والميراث. قوله: {لِيُرْدُوهُمْ} اللام لام كي، أي لكي يردوهم، من الإرداء وهو الإهلاك {وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} معطوف على ما قبله، أي فعلوا ذلك التزيين لإهلاكهم ولخلط دينهم عليهم {وَلَوْ شَاء الله مَا فَعَلُوهُ} أي لو شاء الله عدم فعلهم ما فعلوه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وإذا كان ذلك بمشيئة الله {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} فدعهم وافتراءهم فذلك لا يضرك.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبان بن عثمان قال: الذرية الأصل، والذرية النسل.
وأخرجا أيضاً عن ابن عباس {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} قال: بسابقين.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه في قوله: {على مَكَانَتِكُمْ} قال: على ناحيتكم.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عنه أيضاً في قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ} الآية. قال: جعلوا لله من ثمارهم ومائهم نصيباً وللشيطان والأوثان نصيباً، فإن سقط من ثمره ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن سقط مما جعلوه للشياطين في نصيب الله، ردّوه إلى نصيب الشيطان، وإن انفجر من سقي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن انفجر من سقي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله نزحوه، فهذا ما جعلوا لله من الحرث وسقي الماء، وأما ما جعلوه للشيطان من الأنعام فهو قول الله: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103] الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه نحوه من طريق أخرى.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد ابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال: جعلوا لله مما ذرأ من الحرث جزءاً أو لشركائهم جزءاً، فما ذهب به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه وقالوا الله عن هذا غني، وما ذهب به الريح من جزء أوثانهم إلى جزء الله أخذوه. والأنعام التي سموا لله: البحيرة والسائبة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ} قال: شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خوف العيلة.

.تفسير الآيات (138- 140):

{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)}
هذا بيان نوع آخر من جهالاتهم وضلالاتهم، والحجر بكسر أوّله وسكون ثانيه في قراءة الجمهور. وقرأ أبان بن عثمان {حجر} بضم الحاء والجيم، وقرأ الحسن وقتادة بفتح الحاء وإسكان الجيم، وقرأ ابن عباس وابن الزبير {حرج} بتقديم الراء على الجيم، وكذا هو في مصحف أُبيّ، وهو من الحرج، يقال فلان يتحرّج، أي يضيق على نفسه الدخول فيما يشتبه عليه. والحجر على اختلاف القراءات فيه هو مصدر بمعنى اسم المفعول، أي محجور، وأصله المنع، فمعنى الآية: هذه أنعام وحرث ممنوعة، يعنون أنها لأصنامهم، لا يطعمها إلا من يشاءون بزعمهم، وهم خدام الأصنام. والقسم الثاني قولهم: {وأنعام حُرّمَتْ ظُهُورُهَا} وهي البحيرة والسائبة والحام. وقيل: إن هذا القسم الثاني مما جعلوه لآلهتهم أيضاً. والقسم الثالث: {أنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا} وهي ما ذبحوا لآلهتهم فإنهم يذبحونها باسم أصنامهم لا باسم الله. وقيل: إن المراد لا يحجون عليها افتراء على الله، أي للافتراء عليه {سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي بافترائهم أو بالذي يفترونه، ويجوز أن يكون افتراء منتصباً على أنه مصدر، أي افتروا افتراء أو حال، أي مفترين، وانتصابه على العلة أظهر، ثم بين الله سبحانه نوعاً آخر من جهالاتهم، فقال: {وَقَالُواْ مَا في بُطُونِ هذه الأنعام} يعنون البحائر والسوائب من الأجنة {خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا} أي حلال لهم {وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا} أي على جنس الأزواج، وهنّ النساء فيدخل في ذلك البنات والأخوات ونحوهنّ. وقيل: هو اللبن جعلوه حلالاً للذكور، ومحرّماً على الإناث، والهاء في خالصة للمبالغة في الخلوص كعلامة ونسابة، قاله الكسائي والأخفش.
وقال الفراء: تأنيثها لتأنيث الأنعام. وردّ بأن ما في بطون الأنعام غير الأنعام، وتعقب هذا الردّ بأن ما في بطون الأنعام أنعام، وهي الأجنة، وما عبارة عنها، فيكون تأنيث خالصة باعتبار معنى ما، وتذكير محرّم باعتبار لفظها. وقرأ الأعمش {خالص} قال الكسائي: معنى خالص وخالصة واحد، إلا أن الهاء للمبالغة كما تقدّم عنه. وقرأ قتادة {خالصة} بالنصب على الحال من الضمير في متعلق الظرف الذي هو صلة لما، وخبر المبتدأ محذوف كقولك: الذي في الدار قائماً زيد، هذا قول البصريين.
وقال الفراء: إنه انتصب على القطع. وقرأ ابن عباس {خالصة} بإضافة خالص إلى الضمير على أنه بدل من ما. وقرأ سعيد ابن جبير {خالصاً} {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً}. قرئ بالتحتية والفوقية، أي وإن يكن الذي في بطون الأنعام {مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ} أي في الذي في البطون {شُرَكَاء} يأكل منه الذكور والإناث {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي بوصفهم على أنه منتصب بنزع الخافض، والمعنى: سيجزيهم بوصفهم الكذب على الله.
وقيل المعنى: سيجزيهم جزاء وصفهم. ثم بين الله سبحانه نوعاً آخر من جهالاتهم فقال: {قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم سَفَهاً} أي بناتهم بالوأد الذي كانوا يفعلونه سفهاً، أي لأجل السفه، وهو الطيش والخفة لا لحجة عقلية ولا شرعية، كائناً ذلك منهم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يهتدون به. قوله: {وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله} من الأنعام التي سموها بحائر وسوائب {افتراء عَلَى الله} أي للافتراء عليه أو افتروا افتراء عليه {قَدْ ضَلُّواْ} عن طريق الصواب بهذه الأفعال {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} إلى الحق، ولا هم من أهل الاستعداد لذلك.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَقَالُواْ هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ} قال: الحجر ما حرموا من الوصيلة، وتحريم ما حرموا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {وَقَالُواْ هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ} قال: ما جعلوا لله ولشركائهم.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن قتادة {وَحَرْثٌ حِجْرٌ} قال: حرام.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في الآية قال: يقولون حرام أن يطعم الابن شيئاً {وأنعام حُرّمَتْ ظُهُورُهَا} قال: البحيرة والسائبة والحامي {وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا} إذا نحروها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن أبي وائل في قوله: {وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا} قال: لم تكن يحج عليها وهي البحيرة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس {وَقَالُواْ مَا في بُطُونِ هذه الأنعام} الآية قال: اللبن.
وأخرج هؤلاء إلا ابن جرير عن مجاهد في الآية قال: السائبة والبحيرة محرّم على أزواجنا قال: النساء {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} قال: قولهم الكذب في ذلك.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس في الآية قال: كانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه، فكان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركوها فلم تذبح، وإن كانت ميتة كانوا فيها شركاء.
وأخرج عبد بن حميد، والبخاري، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام {قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم} إلى قوله: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن عكرمة في الآية قال: نزلت فيمن كان يئد البنات من مضر وربيعة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في الآية قال: هذا صنع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السبي والفاقة، ويغذو كلبه {وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله} قال: جعلوه بحيرة وسائبة ووصيلة وحامياً تحكماً من الشيطان في أموالهم.