فصل: تفسير الآيات (154- 157):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (154- 157):

{ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)}
هذا الكلام مسوق لتقرير التوصية التي وصى الله عباده بها، وقد استشكل العطف بِثُمَّ مع كون قصة موسى وإيتائه الكتاب قبل المعطوف عليه. وهو ما تقدم من قوله: {ذلكم وصاكم بِهِ} فقيل: إن ثم ها هنا بمعنى الواو وقيل: تقدير الكلام، ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل المعنى: قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم، ثم أتل إيتاء موسى الكتاب وقيل: إن التوصية المعطوف عليها قديمة لم يزل كل نبيّ يوصي بها أمته وقيل: إن ثم للتراخي في الإخبار كما تقول: بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت بالأمس أعجب.
قوله: {تَمَامًا} مفعول لأجله أو مصدر، و{عَلَى الذي أَحْسَنَ} قرئ بالرفع، وهي قراءة يحيى بن يعمر، وابن أبي إسحاق، فيكون رفع أحسن على تقدير مبتدأ، أي على الذي هو أحسن، ومنه ما حكى سيبويه عن الخليل أنه سمع: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً. وقرأ الباقون بالنصب على أنه فعل ماض عند البصريين، وأجاز الفراء والكسائي أن يكون اسماً نعتاً للذي، وهذا محال عند البصريين لأنه نعت للاسم قبل أن يتمّ، والمعنى عندهم تماماً على من أحسن قبوله والقيام به كائناً من كان، ويؤيد هذا أن ابن مسعود قرأ: {تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَوا} وقال الحسن: كان فيهم محسن وغير محسن، فأنزل الله الكتاب تماماً على المحسنين. وقيل المعنى: أعطينا موسى التوراة زيادة على ما كان يحسنه موسى مما علمه الله قبل نزول التوراة عليه. وقيل المعنى: تماماً على الذي أحسن به الله عزّ وجلّ إلى موسى من الرسالة وغيرها. وقيل: تماماً على إحسان موسى بطاعة الله عزّ وجلّ قاله الفراء. قوله: {وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَئ} معطوف على تماماً، أي ولأجل تفصيل كل شيء، وكذا {هُدًى وَرَحْمَةً} معطوفتان، عليه أي وللهدى والرحمة، والضمير في لعلهم راجع إلى بني إسرائيل، المدلول عليه بذكر موسى، والباء في {بِلِقَاء} متعلقة ب {يؤمنون}.
قوله: {وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ} الإشارة إلى القرآن، واسم الإشارة مبتدأ وخبره كتاب، وأنزلناه صفة لكتاب، ومبارك صفة أخرى له، وتقديم صفة الإنزال لكون الإنكار متعلقاً بها، والمبارك كثير البركة لما هو مشتمل عليه من المنافع الدنيوية والدينية {فاتبعوه} فإنه لما كان من عند الله، وكان مشتملاً على البركة، كان اتباعه متحتماً عليكم {واتقوا} مخالفته، والتكذيب بما فيه {لَعَلَّكُمْ} إن قبلتموه ولم تخالفوه {تُرْحَمُونَ} برحمة الله سبحانه، و(أن) في {أَن تَقُولُواْ} في موضع نصب. قال الكوفيون: لئلا تقولوا.
وقال البصريون: كراهة أن تقولوا.
وقال الفراء والكسائي: المعنى فاتقوا أن تقولوا يا أهل مكة {إِنَّمَا أُنزِلَ الكتاب} أي التوراة والإنجيل {على طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} وهم اليهود والنصارى ولم ينزل علينا كتاب {وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ} أي عن تلاوة كتبهم بلغاتهم {لغافلين} أي لا ندري ما فيها، ومرادهم إثبات نزول الكتابين مع الاعتذار عن اتباع ما فيهما بعدم الدراية منهم، والغفلة عن معناهما.
قوله: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب} معطوف على {تَقُولُواْ} أي أو أن تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على الطائفتين من قبلنا {لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ} إلى الحق الذي طلبه الله، فإن هذه المقالة والمعذرة منهم مندفعة بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، وإنزال القرآن عليه، ولهذا قال: {فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ} أي كتاب أنزله الله على نبيكم، وهو منكم يا معشر العرب، فلا تعتذروا بالأعذار الباطلة وتعللوا أنفسكم بالعلل الساقطة، فقد أسفر الصبح لذي عينين {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} معطوف على {بَيّنَةً} أي جاءكم البينة الواضحة، والهدى الذي يهتدي به كل من له رغبة في الاهتداء، ورحمة من الله يدخل فيها كل من يطلبها ويريد حصولها، ولكنكم ظلمتم أنفسكم بالتكذيب بآيات الله، والصدوف عنها، أي الانصراف عنها. وصرف من أراد الإقبال إليها {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ الله} التي هي رحمة وهدى للناس {وَصَدَفَ عَنْهَا} فضلّ بانصرافه عنها، وأضلّ بصرف غيره عن الإقبال إليها {سَنَجْزِى الذين يَصْدِفُونَ عَنْ آياتنا سُوء العذاب} أي العذاب السيء بسبب {مَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} وقيل معنى صدف: أعرض، ويصدفون يعرضون، وهو مقارب لمعنى الصرف، وقد تقدّم تحقيق معنى هذا اللفظ، والاستفهام في {فمن أظلم} للإنكار، أي إنكار أن يكون أحد أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها، مع ما يفيده ذلك من التبكيت لهم.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد {تَمَامًا عَلَى الذي أَحْسَنَ} قال: على المؤمنين المحسنين.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي صخر {تَمَامًا عَلَى الذي أَحْسَنَ} قال: تماماً لما كان قد أحسن الله.
وأخرج أيضاً عن ابن زيد قال: تماماً لنعمته عليهم وإحسانه إليهم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {وهذا كتاب} قال: هو القرآن الذي أنزل الله على محمد {فاتبعوه واتقوا} يقول: فاتبعوا ما أحلّ الله فيه، واتقوا ما حرّم.
وأخرج هؤلاء عن مجاهد في قوله: {على طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} قال: اليهود والنصارى، خاف أن تقوله قريش.
وأخرج ابن المنذر، وابن حاتم، عن ابن عباس، قال: هم اليهود والنصارى، {وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ} قال: تلاوتهم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ} قال: هذا قول كفار العرب.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السدي، في قوله: {فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ} يقول: قد جاءتكم بينة لسان عربي مبين حين لم يعرفوا دراسة الطائفتين.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {صَدَفَ عَنْهَا} قال: أعرض عنها.
وأخرج عبد بن حميد، عن الضحاك، في قوله: {يَصْدِفُونَ} قال: يعرضون.

.تفسير الآية رقم (158):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)}
أي لما أقمنا عليهم الحجة، وأنزلنا الكتاب على رسولنا المرسل إليهم، فلم ينفعهم ذلك ولم يرجعوا به عن غوايتهم، فما بقي بعد هذا إلا أنهم {يُنظَرُونَ} أي ينتظرون {أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة} أي ملائكة الموت لقبض أرواحهم، وعند ذلك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل {أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} يا محمد كما اقترحوه بقولهم: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة أَوْ نرى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] وقيل معناه: أو يأتي أمر ربك بإهلاكهم. وقيل المعنى: أو يأتي كل آيات ربك بدليل قوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك} وقيل: هو من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وقد جاء في القرآن حذف المضاف كثيراً، كقوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] وقوله: {وَأُشْرِبُواْ في قُلُوبِهِمُ العجل} [البقرة: 93] أي حب العجل. وقيل إتيان الله مجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه، كقوله: {وَجَاء رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22].
قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك} قرأ ابن عمر وابن الزبير {يَوْمَ تَأْتِي} بالفوقية، وقرأ الباقون بالتحتية، قال المبرد: التأنيث على المجاورة لمؤنث، لا على الأصل، ومنه قول جرير:
لما أتى خبر الزبير تواضعت ** سور المدينة والجبال الخشع

وقرأ ابن سيرين: {لا تنفع} بالفوقية. قال أبو حاتم: إن هذا غلط عن ابن سيرين.
وقد قال الناس في هذا شيء دقيق من النحو ذكره نفطويه، وذلك أن الإيمان والنفس كل واحد منهما مشتمل على الآخر، فأنث الإيمان إذ هو من النفس. قال النحاس، وفيه وجه آخر، وهو أن يؤنث الإيمان، لأنه مصدر كما يذكر المصدر المؤنث مثل {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ} [البقرة: 275]. ومعنى {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايات رَبّكَ} يوم يأتي الآيات التي اقترحوها، وهي التي تضطرهم إلى الإيمان {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} أو ما هو أعمّ من ذلك، فيدخل فيه ما ينتظرونه. وقيل: هي الآيات التي هي علامات القيامة المذكورة في الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي التي إذا جاءت لا ينفع نفساً إيمانها.
قوله: {لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ} أي من قبل إتيان بعض الآيات، فأما التي قد كانت آمنت من قبل مجيء بعض الآيات فإيمانها ينفعها، وجملة: {لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ} في محل نصب على أنها صفة {نفساً}. قوله: {أَوْ كَسَبَتْ في إيمانها خَيْرًا} معطوف على {ءامَنتُ} والمعنى: أنه لا ينفع نفساً إيمانها عند حضور الآيات متصفة بأنها لم تكن آمنت من قبل، أو آمنت من قبل ولكن لم تكسب في إيمانها خيراً، فحصل من هذا أنه لا ينفع إلا الجمع بين الإيمان من قبل مجيء بعض الآيات مع كسب الخير في الإيمان، فمن آمن من قبل فقط، ولم يكسب خيراً في إيمانه، أو كسب خيراً ولم يؤمن، فإن ذلك غير نافعه، وهذا التركيب هو كقولك: لا أعطي رجلاً اليوم أتاني لم يأتني بالأمس، أو لم يمدحني في إتيانه إليّ بالأمس، فإن المستفاد من هذا أنه لا يستحق العطاء إلا رجل أتاه بالأمس ومدحه في إتيانه إليه بالأمس، ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم: {انتظروا} ما تريدون إتيانه {إنا منتظرون} له، وهذا تهديد شديد ووعيد عظيم، وهو يقوّي ما قيل في تفسير: {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايات رَبّكَ} إنها الآيات التي اقترحوها من إتيان الملائكة، وإتيان العذاب لهم من قبل الله كما تقدّم بيانه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن مسعود: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة} قال: عند الموت {أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} قال: يوم القيامة.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في تفسير الآية مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل {أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} قال: يوم القيامة في ظلل من الغمام.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، في مسنده، والترمذي وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله: {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايات رَبّكَ} قال: «طلوع الشمس من مغربها»، قال الترمذي غريب. ورواه ابن أبي شيبة، وعبد ابن حميد، عن أبي سعيد موقوفاً.
وأخرجه الطبراني، وابن عدي، وابن مردويه من حديث أبي هريرة مرفوعاً.
وأخرجه سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، ونعيم بن حماد، والطبراني عن ابن مسعود موقوفاً. فإذا ثبت رفع هذا التفسير النبوي من وجه صحيح لا قادح فيه، فهو واجب التقديم له، متحتم الأخذ به، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها»، ثم قرأ الآية.
وأخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، عن أبي ذر مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، مرفوعاً نحوه أيضاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السدي، في قوله: {أَوْ كَسَبَتْ في إيمانها خَيْرًا} يقول: كسبت في تصديقها عملاً صالحاً، هؤلاء أهل القبلة، وإن كانت مصدقة لم تعمل قبل ذلك خيراً فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها، وإن عملت قبل الآية خيراً، ثم عملت بعد الآية خيراً قبل. منها وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مقاتل، في قوله: {أَوْ كَسَبَتْ في إيمانها خَيْرًا} قال: يعني: المسلم الذي لم يعمل في إيمانه خيراً، وكان قبل الآية مقيماً على الكبائر. والآيات التي هي علامات القيامة، قد وردت الأحاديث المتكاثرة في بيانها وتعدادها، وهي مذكورة في كتب السنة.

.تفسير الآيات (159- 160):

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)}
قرأ حمزة والكسائي {فارقوا دينهم} وهي قراءة عليّ بن أبي طالب أي تركوا دينهم وخرجوا عنه. وقرأ الباقون {فرّقوا} بالتشديد إلا النخعي فإنه بالتخفيف. والمعنى: أنهم جعلوا دينهم متفرّقاً فأخذوا ببعضه، وتركوا بعضه. قيل المراد بهم: اليهود والنصارى.
وقد رود في معنى هذا في اليهود قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} [البينة: 4]. وقيل المراد بهم: المشركون، عبد بعضهم الصنم، وبعضهم الملائكة. وقيل الآية عامة في جميع الكفار، وكل من ابتدع وجاء بما لم يأمر به الله، وهذا هو الصواب، لأن اللفظ يفيد العموم، فيدخل فيه طوائف أهل الكتاب، طوائف المشركين، وغيرهم ممن ابتدع من أهل الإسلام، ومعنى {شيعاً} فرقاً وأحزاباً، فتصدق على كل قوم كان أمرهم في الدين واحداً مجتمعاً، ثم اتبع كل جماعة منهم رأى كبير من كبرائهم، يخالف الصواب ويباين الحق {لَّسْتَ مِنْهُمْ في شَئ} أي لست من تفرّقهم، أو من السؤال عن سبب تفرّقهم والبحث عن موجب تحزبهم في شيء من الأشياء، فلا يلزمك من ذلك شيء، ولا تخاطب به، إنما عليك البلاغ، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» أي نحن برآء منه، وموضع: {فِي شَئ} نصب على الحال. قال الفراء: هو على حذف مضاف، أي لست من عقابهم في شيء، وإنما عليك الإنذار، ثم سلاه الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله} فهو مجاز لهم بما تقتضيه مشيئته والحصر، بإنما هو في حكم التعليل لما قبله، والتأكيد له {ثم} هو يوم القيامة {يُنَبّئُهُمُ} أي يخبرهم بما ينزله بهم من المجازاة {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الأعمال التي تخالف ما شرعه الله لهم، وأوجبه عليهم، وهذه الآية من جملة ما هو منسوخ بآية السيف.
قوله: {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} لما توعد سبحانه المخالفين له بما توعد، بين عقب ذلك مقدار جزاء العاملين بما أمرهم به الممتثلين لما شرعه لهم، بأن من جاء بحسنة واحدة من الحسنات فله من الجزاء عشر حسنات، والتقدير: فله عشر حسنات أمثالها، فأقيمت الصفة مقام الموصوف. قال أبو علي الفارسي: حسن التأنيث في عشر أمثالها، لما كان الأمثال مضافاً إلى مؤنث، نحو ذهبت بعض أصابعه. وقرأ الحسن وسعيد بن جبير والأعمش {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} برفعهما.
وقد ثبت هذا التضعيف في السنة بأحاديث كثيرة، وهذا التضعيف هو أقلّ ما يستحقه عامل الحسنة.
وقد وردت الزيادة على هذا عموماً وخصوصاً، ففي القرآن كقوله: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة: 261]. وورد في بعض الحسنات، أن فاعلها يجازى عليها بغير حساب، وورد في السنة المطهرة تضعيف الجزاء إلى ألوف مؤلفة.
وقد قدمنا تحقيق هذا في موضعين من هذا التفسير، فليرجع إليهما.
{وَمَن جَاء بالسيئة} من الأعمال السيئة {فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَهَا} من دون زيادة عليها على قدرها في الخفة والعظم، فالمشرك يجازى على سيئة الشرك بخلوده في النار، وفاعل المعصية من المسلمين يجازى عليها بمثلها، مما ورد تقديره من العقوبات، كما ورد بذلك كثير من الأحاديث المصرّحة بأن من عمل كذا فعليه كذا، وما لم يرد لعقوبته تقدير من الذنوب، فعلينا أن نقول يجازيه الله بمثله، وإن لم نقف على حقيقة ما يجازى به، وهذا إن لم يتب، أما إذا تاب وغلبت حسناته سيئاته، أو تغمده الله برحمته، وتفضل عليه بمغفرته، فلا مجازاة، وأدلة الكتاب والسنة مصرّحة بهذا تصريحاً لا يبقى بعده ريب لمرتاب، {وَهُمْ} أي من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة {لاَ يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب حسنات المحسنين، ولا بزيادة عقوبات المسيئين.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: اختلفت اليهود والنصارى قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا، فلما بعث محمد أنزل عليه: {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} الآية.
وأخرج النحاس، عنه في ناسخه {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} قال: اليهود والنصارى، تركوا الإسلام والدين الذي أمروا به {وَكَانُواْ شِيَعاً} فرقاً أحزاباً مختلفة {لَّسْتَ مِنْهُمْ في شَئ} نزلت بمكة ثم نسخها {وَقاتلوا المشركين} [التوبة: 36].
وأخرج أبو الشيخ عنه {وَكَانُواْ شِيَعاً} قال: مللاً شتى.
وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي هريرة، في قوله: {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} الآية قال: هم في هذه الأمة.
وأخرج الحكيم الترمذي وابن جرير، والطبراني، والشيرازي في الألقاب، وابن مردويه، عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال: «هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة»، وفي إسناده عبد بن كثير، وهو متروك الحديث، ولم يرفعه غيره، ومن عداه وقفوه على أبي هريرة.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي أمامة في الآية قال: هم الحرورية، وقد رواه ابن أبي حاتم، والنحاس، وابن مردويه، عن أبي غالب عن أبي أمامة مرفوعاً ولا يصح رفعه.
وأخرج الحكيم الترمذي، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن شاهين، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، وأبو نصر السجزي في الإبانة، والبيهقي في شعب الإيمان، عن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «يا عائشة {إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً} هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليست لهم توبة، يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة وهم مني برآء».
قال ابن كثير: هو غريب ولا يصح رفعه.
وأخرج عبد بن حميد، عن سعيد بن جبير، قال: لما نزلت: {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} قال رجل من المسلمين: يا رسول الله، لا إله إلا الله حسنة؟ قال: «نعم، أفضل الحسنات»، وهذا مرسل ولا ندري كيف إسناده إلى سعيد؟ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم، في الحلية، عن ابن مسعود: {مَن جَاء بالحسنة}. قال: لا إله إلا الله.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، مثله.
وأخرج أبو الشيخ، عن أبي هريرة، مثله أيضاً.
وقد قدّمنا الإشارة إلى أنها قد ثبتت الأحاديث الصحيحة بمضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها، فلا نطيل بذكرها، ووردت أحاديث كثيرة في الزيادة على هذا المقدار، وفضل الله واسع، وعطاؤه جمّ.