فصل: تفسير الآيات (161- 163):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (161- 163):

{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)}
لما بيّن سبحانه أن الكفار تفرقوا فرقاً، وتحزبوا أحزاباً، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: {إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى} أي أرشدني بما أوحاه إليّ {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} وهو ملة إبراهيم عليه السلام، و{دِينًا} منتصب على الحال كما قال قطرب، أو على أنه مفعول {هداني} كما قال الأخفش. وقيل منتصب بفعل يدل عليه {هداني}؛ لأن معناه عرّفني، أي عرفني ديناً. وقيل: إنه بدل من محل {إلى صراط} لأن معناه هداني صراطاً مستقيماً كقوله تعالى: {وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً} [الفتح: 2] وقيل منصوب بإضمار فعل، كأنه قيل: اتبعوا ديناً.
قوله: {قَيِّماً} قرأه الكوفيون، وابن عامر بكسر القاف، والتخفيف وفتح الياء. وقرأه الباقون بفتح القاف وكسر الياء المشدّدة، وهما لغتان: ومعناه الدين المستقيم الذي لا عوج فيه، وهو صفة ل {ديناً} وصف به مع كونه مصدراً مبالغة، وانتصاب {مِلَّةِ إبراهيم} على أنها عطف بيان ل {دينا} ويجوز نصبها بتقدير أعني، و{حَنِيفاً} منتصب على أنه حال من إبراهيم، قاله الزجاج.
وقال علي بن سليمان: هو منصوب بإضمار أعني. والحنيف المائل إلى الحق، وقد تقدّم تحقيقه {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} في محل نصب معطوف على {حنيفاً} أو جملة معترضة مقررة لما قبلها.
قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِى} أمره الله سبحانه أن يقول لهم بهذه المقالة، عقب أمره بأن يقول لهم بالمقالة السابقة. قيل: ووجه ذلك أن ما تضمنه القول الأوّل إشارة إلى أصول الدين، وهذا إلى فروعها. والمراد بالصلاة: جنسها، فيدخل فيه جميع أنواعها. وقيل المراد بها هنا: صلاة الليل، وقيل صلاة العيد. والنسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة كذا قال مجاهد والضحاك، وسعيد بن جبير، وغيرهم، أي ذبيحتي في الحج والعمرة.
وقال الحسن: ديني.
وقال الزجاج: عبادتي من قولهم: نسك فلان هو ناسك، إذا تعبد، وبه قال جماعة من أهل العلم {وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى} أي ما أعمله في حياتي، ومماتي من أعمال الخير، ومن أعمال الخير في الممات الوصية بالصدقات، وأنواع القربات. وقيل: نفس الحياة ونفس الموت {لِلَّهِ} قرأ الحسن: {نُسْكي} بسكون السين. وقرأ الباقون بضمها. وقرأ أهل المدينة {محياي} بسكون الياء. وقرأ الباقون بفتحها لئلا يجتمع ساكنان قال النحاس: لم يجزه، أي السكون، أحد من النحويين إلا يونس، وإنما أجازه لأن المدّة التي في الألف تقوم مقام الحركة. وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمرو، عاصم الجحدري، {محيي} من غير ألف وهي لغة عليا مضر، ومنه قول الشاعر:
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم ** فتخرموا ولكل جنب مصرع

{للَّهِ رَبّ العالمين} أي خالصاً له لا شريك له فيه، والإشارة {بذلك} إلى ما أفاده {للَّهِ رَبّ العالمين لاَ شَرِيكَ لَهُ} من الإخلاص في الطاعة وجعلها لله وحده.
قوله: {وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} أي أوّل مسلمي أمته. وقيل: أوّل المسلمين أجمعين، لأنه وإن كان متأخراً في الرسالة، فهو أولهم في الخلق، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] الآية، والأوّل: أولى.
قال ابن جرير الطبري: استدل بهذه الآية الشافعي على مشروعية افتتاح الصلاة بهذا الذكر، فإن الله أمر به نبيه وأنزله في كتابه، ثم ذكر حديثاً على، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: {وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين} [الأنعام: 79] إلى قوله: {وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} قلت هذا هو في صحيح مسلم مطوّلاً، وهو أحد التوجهات الواردة، ولكنه مفيد بصلاة الليل كما في الروايات الصحيحة، وأصح التوجهات الذي كان يلازمه النبي صلى الله عليه وسلم ويرشد إليه هو: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي» إلى آخره، وقد أوضحنا هذا في شرحنا للمنتقى بما لا يحتاج إلى زيادة عليه هنا.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل، في قوله: {وإِنَّ صَلاَتِى} قال: يعني: المفروضة {وَنُسُكِى} يعني: الحج.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير {وَنُسُكِى} قال: ذبيحتي.
وأخرجا أيضاً عن قتادة {إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى} قال: حجي وذبيحتي.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {وَنُسُكِى} قال: ذبيحتي في الحج والعمرة.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {وَنُسُكِى} قال: ضحيتي. وفي قوله: {وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} قال: من هذه الأمة.
وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي، عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك، فإنه يغفر لك بأوّل قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملتيه، وقولي {إن صلاتي} إلى {وأنا أوّل المسلمين}»، قلت يا رسول الله هذا لك ولأهل بيتك خاصة، فأهل ذلك أنتم أم للمسلمين عامة؟ قال: «لا بل للمسلمين عامة».

.تفسير الآيات (164- 165):

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)}
الاستفهام في {أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا} للإنكار، وهو جواب على المشركين لما دعوه إلى عبادة غير الله، أي كيف أبغي غير الله رباً مستقلاً وأترك عبادة الله، أو شريكاً لله فأعبدهما معاً، والحال أنه ربّ كل شيء، والذي تدعونني إلى عبادته هو من جملة من هو مربوب له، مخلوق مثلي لا يقدر على نفع ولا ضرّ، وفي هذا الكلام من التقريع والتوبيخ لهم ما لا يقادر قدره، و{غير} منصوب بالفعل الذي بعده، و{ربا} تمييز أو مفعول ثان على جعل الفعل ناصباً لمفعولين. قوله: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} أي لا يؤاخذ مما أتت من الذنب وارتكبت من المعصية سواها، فكل كسبها للشرّ عليها لا يتعداها إلى غيرها، وهو مثل قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] وقوله: {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} [طه: 15]. قوله: {وَلاَ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى} أصل الوزر الثقل، ومنه قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح: 2] وهو هنا الذنب {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] قال الأخفش، يقال وزر يَوزر، ووزر يزر وزراً، ويجوز إزراً، وفيه ردّ لما كانت عليه الجاهلية من مؤاخذة القريب بذنب قريبه، والواحد من القبيلة بذنب الآخر.
وقد قيل: إن المراد بهذه الآية في الآخرة، وكذلك التي قبلها لقوله تعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، ومثله قول زينب بنت جحش: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث»، والأولى حمل الآية على ظاهرها: أعني العموم، وما ورد من المؤاخذة بذنب الغير كالدية التي تحملها العاقلة ونحو ذلك، فيكون في حكم المخصص بهذا العموم، ويقرّ في موضعه ولا يعارض هذه الآية قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] فإن المراد بالأثقال التي مع أثقالهم هي: أثقال الذين يضلونهم كما في الآية الأخرى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ} يوم القيامة {فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} في الدنيا، وعند ذلك يظهر حق المحقين وباطل المبطلين.
قوله: {وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خلائف الأرض} خلائف جمع خليفة: أي جعلكم خلفاء الأمم الماضية والقرون السالفة، قال الشماخ:
أصيبهم وتخطئني المنايا ** وأخلف في ربوع عن ربوع

أو المراد أنه يخلف بعضهم بعضاً، أو أن هذا النوع الإنساني خلفاء الله في أرضه: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات} في الخلق، والرزق، والقوة، والفضل، والعلم، و{درجات} منصوب بنزع الخافض، أي إلى درجات {لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتاكم} أي ليختبركم فيما آتاكم من تلك الأمور، أو ليبتلي بعضكم ببعض كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20] ثم خوّفهم فقال: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب} فإنه وإن كان في الآخرة فكل آت قريب كما قال: {وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] ثم رغب من يستحق الترغيب من المسلمين، فقال: {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي كثير الغفران والرحمة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ} قال: لا يؤاخذ أحد بذنب غيره.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله: {وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خلائف الأرض} قال: أهلك القرون الأولى، فاستخلفنا فيها بعدهم {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات} قال: في الرزق.

.سورة الأعراف:

هي مكية إلا ثمان آيات، وهي قوله: {واسألهم عن القرية} إلى قوله: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم}.
وقد أخرج ابن الضريس والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال: سورة الأعراف نزلت بمكة.
وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله.
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال: آية من الأعراف مدنية، وهي: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر} إلى آخر الآية، وسائرها مكية.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في المغرب يفرقها في الركعتين وآياتها مائتان وست آيات.

.تفسير الآيات (1- 7):

{المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)}
قوله: {المص} قد تقدّم في فاتحة سورة البقرة ما يغني عن الإعادة، وهو إما مبتدأ وخبره {كتاب} أي {المص} حروف {كتاب أُنزِلَ إِلَيْكَ} أو هو خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا {المص} أي المسمى به، وأما إذا كانت هذه الفواتح مسرودة على نمط التعديد فلا محل له، و{كتاب} خبر المبتدأ على الوجه الأوّل، أو خبر مبتدأ محذوف على الثاني، أي هو كتاب. قال الكسائي: أي هذا كتاب، و{أنزل إليك} صفة له. {فَلاَ يَكُن في صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ} الحرج: الضيق، أي لا يكن في صدرك ضيق منه، من إبلاغه إلى الناس مخافة أن يكذبوك ويؤذوك، فإن الله حافظك وناصرك. وقيل: المراد لا يضق صدرك حيث لم يؤمنوا به ولم يستجيبوا لك {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} وقال مجاهد وقتادة: الحرج هنا الشك، لأن الشاك ضيق الصدر، أي لا تشك في أنه منزل من عند الله، وعلى هذا يكون النهي له صلى الله عليه وسلم من باب التعريض، والمراد أمته، أي لا يشك أحد منهم في ذلك، والضمير في {منه} راجع إلى الكتاب، فعلى الوجه الأوّل: يكون على تقدير مضاف، أي من إبلاغه، وعلى الثاني: يكون التقدير من إنزاله، والضمير في {لِتُنذِرَ بِهِ} راجع إلى الكتاب، أي لتنذر الناس بالكتاب الذي أنزلناه إليك، وهو متعلق بأنزل، أي أنزل إليك لإنذارك للناس به، أو متعلق بالنهي، لأن انتفاء الشك في كونه منزلاً من عند الله، أو انتفاء الخوف من قومه يقوّيه على الانذار ويشجعه، لأن المتيقن يقدم على بصيرة، ويباشر بقوّة نفس.
قوله: {وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} الذكرى التذكير. قال البصريون: الذكرى في محل رفع على إضمار مبتدأ.
وقال الكسائي: هي في محل رفع عطفاً على كتاب، ويجوز النصب على المصدر، أي وذكر به ذكرى قاله البصريون. ويجوز الجر حملاً على موضع {لتنذر} أي للإنذار والذكرى، وتخصيص الذكرى بالمؤمنين، لأنهم الذين ينجع فيهم ذلك، وفيه إشارة إلى تخصيص الإنذار بالكافرين.
قوله: {اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} يعني: الكتاب، ومثله السنة لقوله: {وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] ونحوها من الآيات، وهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته. وقيل: هو أمر للأمة بعد أمره صلى الله عليه وسلم بالتبليغ، وهو منزل إليهم بواسطة إنزاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} نهي للأمة عن أن يتبعوا أولياء من دون الله يعبدونهم ويجعلونهم شركاء لله، فالضمير على هذا في {مِن دُونِهِ} يرجع إلى ربّ، ويجوز أن يرجع إلى {ما} في {ما أنزل إليكم} أي لا تتبعوا من دون كتاب الله أولياء تقلدونهم في دينكم، كما كان يفعله أهل الجاهلية من طاعة الرؤساء فيما يحللونه لهم ويحرمونه عليهم.
قوله: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} انتصاب {قليلاً} على أنه صفة لمصدر محذوف للفعل المتأخر، أي تذكراً قليلاً، و{ما} مزيدة للتوكيد أو هو منتصب على الحال من فاعل {لا تتبعوا} و{ما} مصدرية، أي لا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً تذكرهم، قرئ: {تَذَكرُونَ} بالتخفيف بحذف إحدى التاءين، وقرئ بالتشديد على الإدغام.
قوله: {وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها} {كم} هي الخبرية المفيدة للتكثير، وهي في موضع رفع على الابتداء و{أهلكناها} الخبر، {من} قرية تمييز، ويجوز أن تكون في محل نصب بإضمار فعل بعدها لا قبلها، لأن لها صدر الكلام، ولولا اشتغال {أهلكناها} بالضمير لجاز انتصاب {كم} به، والقرية موضع اجتماع الناس، أي كم من قرية من القرى الكبيرة أهلكناها نفسها بإهلاك أهلها، أو أهلكنا أهلها، والمراد أردنا إهلاكها.
قوله: {فَجَاءهَا بَأْسُنَا} معطوف على أهلكنا بتقدير الإرادة كما مرّ؛ لأن ترتيب مجيء البأس على الإهلاك لا يصح إلا بهذا التقدير، إذ الإهلاك هو نفس مجيء البأس.
وقال الفراء: إن الفاء بمعنى الواو فلا يلزم التقدير، والمعنى: أهلكناها وجاءها بأسنا، والواو لمطلق الجمع لا ترتيب فيها. وقيل: إن الإهلاك واقع لبعض أهل القرية؛ فيكون المعنى: وكم من قرية أهلكنا بعض أهلها فجاءها بأسنا فأهلكنا الجميع. وقيل المعنى: وكم من قرية حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا. وقيل: أهلكناها بإرسال ملائكة العذاب إليها فجاءها بأسنا، والبأس: هو العذاب. وحكي عن الفراء أنه إذا كان معنى الفعلين واحداً أو كالواحد قدمت أيهما شئت فيكون المعنى: وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها، مثل دنا فقرب، وقرب فدنا. {بَيَاتًا} أي ليلاً، لأنه يبات فيه، يقال بات يبيت بيتاً وبياتاً، وهو مصدر واقع موقع الحال، أي بائتين.
قوله: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} معطوف على {بياتاً} أي بائتين أو قائلين، وجاءت الجملة الحالية بدون واو استثقالاً لاجتماع الواوين واو العطف وواو الحال، هكذا قال الفراء. واعترضه الزجاج فقال: هذا خطأ بل لا يحتاج إلى الواو، تقول: جاءني زيد راكباً، أو هو ماش، لأن في الجملة ضميراً قد عاد إلى الأوّل، و{أو} في هذا الموضع للتفصيل لا للشك. والقيلولة هي نوم نصف النهار. وقيل: هي مجرد الاستراحة في ذلك الوقت لشدّة الحرّ من دون نوم، وخص الوقتين لأنهما وقت السكون والدعة، فمجيء العذاب فيهما أشدّ وأفظع.
قوله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا إِلا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين} الدعوى: الدعاء، أي فما كان دعاؤهم ربهم عند نزول العذاب، إلا اعترافهم بالظلم على أنفسهم، ومثله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} [يونس: 10] أي آخر دعائهم. وقيل: الدعوى هنا بمعنى الادّعاء، والمعنى: ما كان ما يدّعونه لدينهم وينتحلونه إلا اعترافهم ببطلانه وفساده، واسم كان {إِلاَّ أَن قَالُواْ} وخبرها {دعواهم} ويجوز العكس، والمعنى: ما كان دعواهم إلا قولهم إنا كنا ظالمين.
قوله: {فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} هذا وعيد شديد، والسؤال للقوم الذين أرسل الله إليهم الرسل من الأمم السالفة للتقريع والتوبيخ، واللام لام القسم، أي لنسألنهم عما أجابوا به رسلهم عند دعوتهم، والفاء لترتيب الأحوال الأخروية على الأحوال الدنيوية {وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} أي الأنبياء الذين بعثهم الله، أي نسألهم عما أجاب به أممهم عليهم، ومن أطاع منهم ومن عصى. وقيل المعنى: فلنسألن الذين أرسل إليهم، يعني الأنبياء، ولنسألن المرسلين، يعني الملائكة، ولا يعارض هذا قول الله سبحانه: {وَلاَ يسأَل عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} [القصص: 78] لما قدّمنا غير مرة أن الآخرة مواطن، ففي موطن يسألون، وفي موطن لا يسألون، وهكذا سائر ما ورد مما ظاهره التعارض بأن أثبت تارة ونفى أخرى، بالنسبة إلى يوم القيامة، فإنه محمول على تعدّد المواقف مع طول ذلك اليوم طولاً عظيماً {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} أي على الرسل والمرسل إليهم، ما وقع بينهم عند الدعوة منهم بعلم لا بجهل، أي عالمين بما يسرون وما يعلنون {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} عنهم في حال من الأحوال حتى يخفى علينا شيء مما وقع بينهم.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن النجار في تاريخه، عن ابن عباس، في قوله: {المص} قال: أنا الله أفصل.
وأخرج ابن جرير، عن سعيد بن جبير، مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، أن هذا ونحوه من فواتح السور قسم أقسم الله به، وهي من أسماء الله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {المص} قال: هو المصوّر.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن محمد بن كعب القرظي في قوله: {المص} قال: الألف من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، قال معناه: أنا الله الصادق، ولا يخفى عليك أن هذا كله قول بالظن، وتفسير بالحدس، ولا حجة في شيء من ذلك، والحق ما قدّمنا في فاتحة سورة البقرة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس: {فَلاَ يَكُن في صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ} قال: الشك، وقال الأعرابيّ: ما الحرج فيكم؟ قال: اللبس.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد، نحوه.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، قال: ضيق.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود: ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم، ثم قرأ: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} الآية.
وأخرجه ابن جرير عنه مرفوعاً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس {فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المرسلين} قال: نسأل الناس عما أجابوا المرسلين، ونسأل المرسلين عما بلغوا، {فلنقصنّ عليهم بعلم} قال: بوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون.
وأخرج عبد بن حميد، عن فرقد، في الآية قال: أحدهما الأنبياء، وأحدهما الملائكة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد، في الآية قال: نسأل الناس عن قول لا إله إلا الله، ونسأل جبريل.