فصل: تفسير الآيات (80- 84):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (80- 84):

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)}
قوله: {وَلُوطاً} معطوف على ما سبق، أي وأرسلنا لوطاً، أو منصوب بفعل مقدّر، أي واذكر لوطاً وقت قال لقومه. قال الفراء: لوط مشتق من قولهم: هذا أليط بقلبي، أي ألصق. قال الزجاج: زعم بعض النحويين أن لوطاً يجوز أن يكون مشتقاً من لطت الحوض إذا ملسته بالطين، وهذا غلط. لأن الأسماء الأعجمية لا تشتق.
وقال سيبويه نوح ولوط أسماء أعجمية إلا أنها خفيفة، فلذلك صرفت. ولوط هو ابن هاران بن تارخ، فهو ابن أخي إبراهيم، بعثه الله إلى أمة تسمى سدوم. {أَتَأْتُونَ الفاحشة} أي الخصلة الفاحشة المتمادية في الفحش والقبح. قال ذلك إنكاراً عليهم وتوبيخاً لهم {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين} أي لم يفعلها أحد قبلكم. فإن اللواط لم يكن في أمة من الأمم قبل هذه الأمة، و{من} مزيدة للتوكيد للعموم في النفي، وإنه مستغرق لما دخل عليه، والجملة مسوقة لتأكيد النكير عليهم والتوبيخ لهم.
قوله: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً} قرأ نافع وحفص على الخبر بهمزة واحدة مكسورة. وقرأ الباقون بهمزتين على الاستفهام المقتضي للتوبيخ والتقريع، واختار القراءة الأولى أبو عبيد والكسائي وغيرهما، واختار الخليل وسيبويه القراءة الثانية، فعلى القراءة الأولى تكون هذه الجملة مبينة لقوله: {أَتَأْتُونَ الفاحشة} وكذلك على القراءة الثانية، مع مزيد الاستفهام وتكريره المفيد للمبالغة في التقريع والتوبيخ، وانتصاب {شهوة} على المصدرية، أي تشتهونهم شهوة، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال، أي مشتهين. ويجوز أن يكون مفعولاً له، أي لأجل الشهوة، وفيه أنه لا غرض لهم بإتيان هذه الفاحشة إلا مجرد قضاء الشهوة من غير أن يكون لهم في ذلك غرض يوافق العقل، فهم في هذا كالبهائم التي ينزو بعضها على بعض، لما يتقاضاها من الشهوة {مّن دُونِ النساء} أي متجاوزين في فعلكم هذا للنساء، اللاتي هنّ محل لقضاء الشهوة، وموضع لطلب اللذة، ثم أضرب عن الإنكار المتقدّم إلى الإخبار بما هم عليه من الإسراف الذي تسبب عنه إتيان هذه الفاحشة الفظيعة.
قوله: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} الواقعين في هذه الفاحشة على ما أنكره عليهم منها {إِلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم} أي لوطاً وأتباعه {مّن قَرْيَتِكُمْ} أي ما كان لهم جواب إلا هذا القول المباين للإنصاف، المخالف لما طلبه منهم وأنكره عليهم، وجملة: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} تعليل لما أمروا به من الإخراج، ووصفهم بالتطهر، يمكن أن يكون على حقيقته، وأنهم أرادوا أن هؤلاء يتنزهون عن الوقوع في هذه الفاحشة، فلا يساكنونا في قريتنا، ويحتمل أنهم قالوا ذلك على طريق السخرية والاستهزاء، ثم أخبر الله سبحانه أنه أنجى لوطاً وأهله المؤمنين به، واستثنى امرأته من الأهل، لكونها لم تؤمن به، ومعنى: {كَانَتْ مِنَ الغابرين} أنها كانت من الباقين في عذاب الله، يقال غبر الشيء إذا مضى، وغبر إذا بقي فهو من الأضداد.
وحكى ابن فارس في المجمل عن قوم أنهم قالوا: الماضي عابر بالعين المهملة، والباقي غابر بالمعجمة.
وقال الزجاج: {مِنَ الغابرين} أي من الغائبين عن النجاة.
وقال أبو عبيد: المعنى {مِنَ الغابرين} أي من المعمرين، وكانت قد هرمت، وأكثر أهل اللغة على أن الغابر الباقي.
قوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} قيل: أمطر بمعنى إرسال المطر.
وقال أبو عبيدة: مطر في الرحمة وأمطر في العذاب، والمعنى هنا: أن الله أمطر عليهم مطراً غير ما يعتادونه، وهو رميهم بالحجارة كما في قوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} [الحجر: 74] {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين} هذا خطاب لكل من يصلح له، أو لمحمد صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في هود قصة لوط بأبين مما هنا.
وقد أخرج ابن أبي الدنيا، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في شعب الإيمان، وابن عساكر، عن ابن عباس في قوله: {أَتَأْتُونَ الفاحشة} قال: أدبار الرجال.
وأخرج ابن عساكر، عن ابن عباس، قال: إنما كان بدء عمل قوم لوط: أن إبليس جاءهم في هيئة صبيّ، أجمل صبيّ رآه الناس، فدعاهم إلى نفسه، فنكحوه ثم جسروا على ذلك.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، عنه، في قوله: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} قال: من أدبار الرجال، ومن أدبار النساء.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} قال: من الباقين في عذاب الله.
وأخرج أبو الشيخ، عن سعيد بن أبي عروبة، قال: كان قوم لوط أربعة آلاف ألف.

.تفسير الآيات (85- 93):

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)}
قوله: {وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً} معطوف على ما تقدّم، أي وأرسلنا. ومدين: اسم قبيلة، وقيل: اسم بلد والأوّل أولى. وسميت القبيلة باسم أبيهم، وهو مدين بن إبراهيم كما يقال بكر وتميم. قوله: {أخاهم شُعَيْباً} شعيب عطف بيان، وهو شعيب بن ميكائيل بن يشجب بن مدين بن إبراهيم، قاله عطاء وابن إسحاق وغيرهما.
وقال الشرقي بن القطامي: إنه شعيب بن عيفاء بن ثويب بن مدين بن إبراهيم. وزعم ابن سمعان أنه شعيب بن حرّة بن يشجب بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
وقال قتادة: هو شعيب بن صفوان بن عيفاء بن ثابت بن مدين بن إبراهيم. قوله: {قَالَ ياقوم} إلى قوله: {بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ} قد سبق شرحه في قصة نوح.
قوله: {فَأَوْفُواْ الكيل والميزان} أمرهم بإيفاء الكيل والميزان، لأنهم كانوا أهل معاملة بالكيل والوزن، وكانوا لا يوفونهما، وذكر الكيل الذي هو المصدر، وعطف عليه الميزان الذي هو اسم للآلة.
واختلف في توجيه ذلك، فقيل المراد بالكيل: المكيال، فتناسب عطف الميزان عليه. وقيل المراد بالميزان: الوزن فيناسب الكيل، والفاء في {فأوفوا} للعطف على اعبدوا.
قوله: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} البخس النقص، وهو يكون بالتعييب للسلعة أو التزهيد فيها، أو المخادعة لصاحبها والاحتيال عليه، وكل ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، وظاهر قوله: {أَشْيَاءهُمْ} أنهم كانوا يبخسون الناس في كل الأشياء. وقيل: كانوا مكاسين، يمكسون كل ما دخل إلى أسواقهم، ومنه قول زهير:
أفي كل أسواق العراق إتاوة ** وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم

قوله: {وَلاَ تُفْسِدُواْ في الأرض بَعْدَ إصلاحها} قد تقدّم تفسيره قريباً، ويدخل تحته قليل الفساد وكثيره، ودقيقه وجليله، والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى العمل بما أمرهم به، وترك ما نهاهم عنه، والمراد بالخيرية هنا: الزيادة المطلقة، لأنه لا خير في عدم إيفاء الكيل والوزن، وفي بخس الناس، وفي الفساد في الأرض أصلاً.
قوله: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} الصراط: الطريق، أي لا تقعدوا بكل طريق توعدون الناس بالعذاب. قيل: كانوا يقعدون في الطرقات المفضية إلى شعيب، فيتوعدون من أراد المجيء إليه، ويقولون إنه كذاب فلا تذهب إليه، كما كانت قريش تفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والسديّ، وغيرهم. وقيل المراد: القعود على طرق الدين ومنع من أراد سلوكها. وليس المراد به القعود على الطرق حقيقة. ويؤيده: {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ ءامَنَ بِهِ} وقيل: المراد بالآية النهي عن قطع الطريق، وأخذ السلب، وكان ذلك من فعلهم. وقيل: إنهم كانوا عشارين يأخذون الجباية في الطرق من أموال الناس، فنهوا عن ذلك.
والقول الأوّل: أقربها إلى الصواب، مع أنه لا مانع من حمل النهي على جميع هذه الأقوال المذكورة. وجملة {توعدون} في محل نصب على الحال، وكذلك ما عطف عليها، أي لا تقعدوا بكل طريق موعدين لأهله، صادّين عن سبيل الله، باغين لها عوجاً، والمراد بالصدّ {عن سبيل الله}: صدّ الناس عن الطريق الذي قعدوا عليه، ومنعهم من الوصول إلى شعيب، فإن سلوك الناس في ذلك السبيل للوصول إلى نبيّ الله هو سلوك سبيل الله، و{مَنْ ءامَنَ بِهِ} مفعول {تصدّون} والضمير في {آمن به} يرجع إلى الله، أو إلى سبيل الله، أو إلى كل صراط أو إلى شعيب، و{تَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي تطلبون سبيل الله أن تكون معوجة غير مستقيمة، وقد سبق الكلام على العوج. قال الزجاج: كسر العين في المعاني وفتحها في الأجرام {واذكروا إِذْ كُنتُمْ} أي وقت كنتم {قَلِيلاً} عددكم {فَكَثَّرَكُمْ} بالنسل. وقيل: كنتم فقراء فأغناكم.
{وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} من الأمم الماضية، فإن الله أهلكهم، وأنزل بهم من العقوبات ما ذهب بهم ومحا أثرهم. {وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بالذى أُرْسِلْتُ بِهِ} إليكم من الأحكام التي شرعها الله لكم {وَطَائِفَةٌ} منكم {لَّمْ يْؤْمِنُواْ فاصبروا حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} هذا من باب التهديد والوعيد الشديد لهم. وليس هو من باب الأمر بالصبر على الكفر. وحكم الله بين الفريقين هو نصر المحقين على المبطلين، ومثله قوله تعالى: {فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ} [التوبة: 52] أو هو أمر للمؤمنين بالصبر على ما يحلّ بهم من أذى الكفار، حتى ينصرهم الله عليهم. {قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ} أي قال الأشراف المستكبرون {لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ} لم يكتفوا بترك الإيمان والتمرّد عن الإجابة إلى ما دعاهم إليه، بل جاوزوا ذلك بغياً وبطراً وأشرا إلى توعد نبيهم، ومن آمن به، بالإخراج من قريتهم، أو عوده هو ومن معه في ملتهم الكفرية، أي لابد من أحد الأمرين: إما الإخراج، أو العود. قال الزجاج: يجوز أن يكون العود بمعنى الإبتداء. يقال عاد إليّ من فلان مكروه، أي صار وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك، فلا يرد ما يقال: كيف يكون شعيب على ملتهم الكفرية من قبل أن يبعثه الله رسولاً؟ ويحتاج إلى الجواب بتغليب قومه المتبعين له عليه في الخطاب، بالعود إلى ملتهم.
وجملة {قَالَ أُو لَو كُنَّا كارهين} مستأنفة جواب عن سؤال مقدّر. والهمزة لإنكار وقوع ما طلبوه من الإخراج أو العود، والواو للحال، أي أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا للعود إليها، أو أتخرجوننا من قريتكم في حال كراهتنا للخروج منها، أو في حال كراهتنا للأمرين جميعاً، والمعنى: إنه ليس لكم أن تكرهونا على أحد الأمرين، ولا يصح لكم ذلك، فإن المكره لا اختيار له، ولا تعدّ موافقته مكرها موافقة، ولا عوده إلى ملتكم مكرهاً عوداً، وبهذا التقرير يندفع ما استشكله كثير من المفسرين في هذا المقام، حتى تسبب عن ذلك تطويل ذيول الكلام.
{قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا في مِلَّتِكُمْ} التي هي الشرك {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا} بالإيمان، فلا يكون منا عود إليها أصلاً {وَمَا يَكُونُ لَنَا} أي ما يصح لنا ولا يستقيم {أَن نَّعُودَ فِيهَا} بحال من الأحوال {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أي إلا حال مشيئته سبحانه، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. قال الزجاج: أي إلا بمشيئة الله عزّ وجلّ، قال: وهذا قول أهل السنة. والمعنى: أنه لا يكون منا العود إلى الكفر، إلا أن يشاء الله ذلك، فالاستثناء منقطع. وقيل: إن الاستثناء هنا على جهة التسليم لله عزّ وجلّ، كما في قوله: {وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بالله} [هود: 88] وقيل: هو كقولهم لا أكلمك حتى يبيضّ الغراب، وحتى يلج الجمل في سمّ الخياط، والغراب لا يبيض، والجمل لا يلج، فهو من باب التعليق بالمحال.
{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا} أي أحاط علمه بكل المعلومات، فلا يخرج عنه منها شيء، و{علماً} منصوب على التمييز. وقيل المعنى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا} أي القرية بعد أن كرهتم مجاورتنا لهم {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} عودنا إليها {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} أي عليه اعتمدنا في أن يثبتنا على الإيمان، ويحول بيننا وبين الكفر وأهله، ويتمّ علينا نعمته، ويعصمنا من نقمته.
قوله: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} الفتاحة الحكومة، أي احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين. دعوا الله سبحانه أن يحكم بينهم، ولا يكون حكمه سبحانه إلا بنصر المحقين على المبطلين، كما أخبرنا به في غير موضع من كتابه فكأنهم طلبوا نزول العذاب بالكافرين، وحلول نقمة الله بهم {وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} معطوف على {قَالَ الملأ الذين استكبروا} يحتمل أن يكون هؤلاء هم أولئك، ويحتمل أن يكونوا غيرهم من طوائف الكفار الذين أرسل إليهم شعيب، واللام في {لئن اتبعتم شعيبا} موطئة لجواب قسم محذوف، أي دخلتم في دينه، وتركتم دينكم {إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون} جواب القسم ساد مسدّ جواب الشرط. وخسرانهم: هلاكهم، أو ما يخسرونه بسبب إيفاء الكيل والوزن، وترك التطفيف الذي كانوا يعاملون الناس به {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي: الزلزلة. وقيل: الصيحة كما في قوله: {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ في دَارِهِمْ جاثمين} [هود: 94] قد تقدم تفسيره في قصة صالح.
قوله: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} هذه الجملة مستأنفة مبينة لما حلّ بهم من النعمة، والموصول مبتدأ، و{كأن لم يغنوا} خبره يقال غنيت بالمكان إذا أقمت به، وغنى القوم في دارهم، أي طال مقامهم فيها، والمغني: المنزل، والجمع المغاني. قال حاتم الطائي:
غنينا زماناً بالتصعلك والغنى ** وكلا سقاناه بكاسيهما الدهر

فما زادنا بغياً على ذي قرابة ** غنانا ولا أزرى باحساننا الفقر

ومعنى الآية: الذين كذبوا شعيباً كأن لم يقيموا في دارهم، لأن الله سبحانه استأصلهم بالعذاب، والموصول {في الذين كذبوا} شعيباً مبتدأ خبره {كَانُواْ هُمُ الخاسرين} وهذه الجملة مستأنفة كالأولى، متضمنة لبيان خسران القوم المكذبين {فتولى عَنْهُمْ} أي شعيب لما شاهد نزول العذاب بهم {وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى} التي أرسلني بها إليكم {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} ببيان ما فيه سلامة دينكم ودنياكم {فَكَيْفَ ءاسى} أي أحزن {على قَوْمٍ كافرين} بالله، مصرّين على كفرهم، متمردين عن الإجابة، أو الأسى شدة الحزن، آسى على ذلك فهو آس. قال شعيب هذه المقالة تحسراً على عدم إيمان قومه، ثم سلا نفسه بأنه كيف يقع منه الأسى على قوم ليس بأهل للحزن عليهم لكفرهم بالله، وعدم قبولهم لما جاء به رسوله.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن عساكر، عن عكرمة، والسدي قالا: ما بعث الله نبياً مرتين إلا شعيباً: مرة إلى مدين فأخذتهم الصيحة، ومرة إلى أصحاب الأيكة {فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة} [الشعراء: 189].
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} قال: لا تظلموا الناس.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن قتادة {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} قال: لا تظلموهم {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} قال: كانوا يوعدون من أتى شعيباً وغشيه وأراد الإسلام.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} قال: كانوا يجلسون في الطريق، فيخبرون من أتى عليهم أن شعيباً كذاب، فلا يفتننكم عن دينكم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد {بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} قال: بكل سبيل حق {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} قال: تصدّون أهلها {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} قال: تلتمسون لها الزيغ.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} قال: هو العاشر {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} قال: تصدّون عن الإسلام {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} قال: هلاكاً.
وأخرج أبو الشيخ، عن مجاهد، قال: هم العُشَّار.
وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية، عن أبي هريرة أو غيره، شك أبو العالية قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به على خشبة على الطريق لا يمرّ بها ثوب إلا شقته، ولا شيء إلا خرقته، قال: «ما هذا يا جبريل؟» قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثم تلا {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السدي، في قوله: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا} قال: ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله {إِلا أَن يَشَاء الله رَبُّنَا} والله لا يشاء الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون الله قد علم شيئاً، فإنه قد وسع كل شيء علماً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن الأنباري في الوقف والابتداء، عن ابن عباس قال: ما ما كنت أدري ما قوله: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} حتى سمعت ابنته ذي يزن تقول: تعال أفاتحك، تعني أقاضيك.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه، في قوله: {رَبَّنَا افتح} يقول: اقض.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، قال: الفتح القضاء لغة يمانية إذا قال أحدهم تعال أقاضيك القضاء قال: تعال أفاتحك.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس {لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} قال: لم يعيشوا فيها.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة، مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {فَكَيْفَ ءاسى} قال: أحزن.
وأخرج ابن عساكر، عن ابن عباس قال: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبر إسماعيل، وقبر شعيب، فقبر إسماعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود.
وأخرج ابن عساكر عن وهب بن منبه أن شعيباً مات بمكة، ومن معه من المؤمنين، فقبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة وبين باب بني سهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم، عن ابن إسحاق قال: ذكر لي يعقوب بن أبي مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر شعيباً قال: «ذاك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه فيما يريدهم به، فلما كذبوه وتوعدوه بالرجم والنفي من بلادهم وعتوا على الله أخذهم عذاب يوم الظلة».