فصل: تفسير الآيات (123- 129):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (123- 129):

{قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)}
قوله: {آمَنتُمْ بِهِ} قرئ بحذف الهمزة على الإخبار وبإثباتها. أنكر على السحرة فرعون إيمانهم بموسى قبل أن يأذن لهم بذلك، ثم قال بعد الإنكار عليهم، مبيناً لما هو الحامل لهم على ذلك في زعمه {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ في المدينة} أي حيلة احتلتموها أنتم وموسى عن مواطأة بينكم سابقة {لِتُخْرِجُواْ} من مدينة مصر {أَهْلِهَا} من القبط، وتستولوا عليها وتسكنوا فيها أنتم وبنو إسرائيل. ومعنى {فِى المدينة} أن هذه الحيلة والمواطأة كانت بينكم، وأنتم بالمدينة، مدينة مصر، قبل أن تبرزوا أنتم وموسى إلى هذه الصحراء. ثم هدّدهم بقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة صنعكم هذا، وسوء مغبته، ثم لم يكتف بهذا الوعيد المجمل، بل فصّله فقال: {لأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ} أي الرجل اليمنى واليد اليسرى، أو الرجل اليسرى واليد اليمنى، ثم لم يكتف عدوّ الله بهذا، بل جاوزه إلى غيره فقال: {ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ} في جذوع النخل، أي أجعلكم عليها مصلوبين زيادة تنكيل بهم، وإفراطاً في تعذيبهم، وجملة {قَالُواْ إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ} استئنافية جواب سؤال كما تقدّم، ومعناه: إنك وإن فعلت بنا هذا الفعل، فبْعَدْه يومُ الجزاء سيجازيك الله بصنعك، ويحسن إلينا بما أصابنا في ذاته، فتوعدوه بعذاب الله في الآخرة، لما توعدهم بعذاب الدنيا، ويحتمل أن يكون المعنى: {إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ} بالموت، أي لابد لنا من الموت، ولا يضرّنا كونه بسبب منك.
قوله: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا} قرأ الحسن بفتح القاف. قال الأخفش: هي لغة، وقرأ الباقون بكسرها. يقال نقمت الأمر أنكرته، أي لست تعيب علينا وتنكر منا {إِلا أَنْ ءامَنَّا بئايات رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا} مع أن هذا هو الشرف العظيم والخير الكامل، ومثله لا يكون موضعاً للعيب ومكاناً للإنكار، بل هو حقيق بالثناء الحسن والاستحسان البالغ، ثم تركوا خطابه وقطعوا الكلام معه والتفتوا إلى خطاب الجناب العليّ، مفوّضين الأمر إليه، طالبين منه عزّ وجلّ أن يثبتهم على هذه المحنة بالصبر قائلين: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} الإفراغ: الصبّ، أي اصببه علينا حتى يفيض ويغمرنا. طلبوا أبلغ أنواع الصبر، استعداداً منهم لما سينزل بهم من العذاب من عدوّ الله، وتوطيناً لأنفسهم على التصلب في الحق، وثبوت القدم على الإيمان، ثم قالوا: {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} أي توفنا إليك حال ثبوتنا على الإسلام، غير محرّفين، ولا مبدّلين، ولا مفتونين. ولقد كان ما هم عليه من السحر، والمهارة في علمه، مع كونه شرّاً محضاً، سبباً للفوز بالسعادة، لأنهم علموا أن هذا الذي جاء به موسى خارج عن طوق البشر، وأنه من فعل الله سبحانه، فوصلوا بالشرّ إلى الخير، ولم يحصل من غيرهم ممن لا يعرف هذا العلم من أتباع فرعون، ما حصل منهم من الإذعان والاعتراف والإيمان، وإذا كانت المهارة في علم الشرّ قد تأتي بمثل هذه الفائدة، فما بالك بالمهارة في علم الخير، اللهم انفعنا بما علمتنا، وثبت أقدامنا على الحق، وأفرغ علينا سجال الصبر، وتوفنا مسلمين.
قوله: {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ في الأرض}؟ هذا الاستفهام منهم للإنكار عليه، أي أتتركه وقومه ليفسدوا في الأرض بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل؟ والمراد بالأرض هنا: أرض مصر. قوله: {وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ} قرأ نعيم بن ميسرة {ويذرك} بالرفع على تقدير مبتدأ، أي وهو يذرك، أو على العطف على {أَتَذَرُ موسى} أي أتذره ويذرك. وقرأ الأشهب العقيلي {وَيَذَرَك} بالجزم، إما على التخفيف بالسكون لثقل الضمة، أو على ما قيل في {وَأَكُن مّنَ الصالحين} [المنافقون: 10] في توجيه الجزم. وقرأ أنس بن مالك {ونذرك} بالنون والرفع، ومعناه: أنهم أخبروا عن أنفسهم بأنهم سيذرونه وآلهته. وقرأ الباقون {ويذرك} بالنصب بأن مقدّرة على أنه جواب الاستفهام، والواو نائبة عن الفاء، أو عطفاً على {يفسدوا} أي ليفسدوا، وليذرك، لأنهم على الفساد في زعمهم، وهو يؤدّي إلى ترك فرعون وآلهته.
واختلف المفسرون في معنى: {وَءالِهَتَكَ} لكون فرعون كان يدّعي الربوبية كما في قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} [القصص: 38]. وقوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ} [النازعات: 24] فقيل معنى و{آلهتك} وطاعتك. وقيل معناه: وعبادتك. ويؤيده قراءة علي، وابن عباس، والضحاك {وإلهتك} وفي حرف أبي {أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك} وقيل: إنه كان يعبد بقرة، وقيل: كان يعبد النجوم. وقيل: كان له أصنام يعبدها قومه تقرّباً إليه، فنسبت إليه، ولهذا قال: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] قاله الزجاج. وقيل: كان يعبد الشمس. فقال فرعون مجيباً لهم، ومثبتاً لقلوبهم على الكفر {سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ}. قرأ نافع وابن كثير {سنقتل} بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد، أي سنقتل الأبناء، ونستحيي النساء، أي نتركهنّ في الحياة. ولم يقل سنقتل موسى، لأنه يعلم. أنه لا يقدر عليه {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون} أي مستعلون عليهم بالقهر والغلبة، أو هم تحت قهرنا وبين أيدينا. ما شئنا أن نفعله بهم فعلناه.
وجملة {قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، لما بلغ موسى ما قاله فرعون أمر قومه بالاستعانة بالله والصبر على المحنة، ثم أخبرهم {أَنَّ الارض} يعني: أرض مصر {للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} أو جنس الأرض، وهو وعد من موسى لقومه بالنصر على فرعون وقومه، وأن الله سيورثهم أرضهم وديارهم. ثم بشّرهم بأن العاقبة للمتقين، أي العاقبة المحمودة في الدنيا والآخرة للمتقين من عباده، وهم موسى ومن معه. وعاقبة كل شيء آخره. وقرئ: {والعاقبة} بالنصب عطفاً على الأرض.
وجملة {قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} مستأنفة جواب سؤال مقدّر كالتي قبلها، أي أوذينا من قبل أن تأتينا رسولاً، وذلك بقتل فرعون أبناءنا عند مولدك لما أخبر بأنه سيولد مولود يكون زوال ملكه على يده {وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} رسولاً بقتل أبنائنا الآن. وقيل: المعنى أوذينا من قبل أن تأتينا باستعمالنا في الأعمال الشاقة بغير جعل {ومن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} بما صرنا فيه الآن من الخوف على أنفسنا وأولادنا وأهلنا. وقيل: إن الأذى من قبل ومن بعد واحد، وهو قبض الجزية منهم. وجملة {قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} مستأنفة كالتي قبلها، وعدهم بإهلاك الله لعدوّهم، وهو فرعون وقومه.
قوله: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ في الأرض} هو تصريح بما رمز إليه سابقاً من أن الأرض لله.
وقد حقّق الله رجاءه، وملكوا مصر في زمان داود وسليمان، وفتحوا بيت المقدس مع يوشع ابن نون، وأهلك فرعون وقومه بالغرق وأنجاهم {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} من الأعمال بعد أن يمنّ عليكم بإهلاك عدوّكم {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ في الأرض} فيجازيكم بما عملتم فيه من خير وشرّ.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السدي في قوله: {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ في المدينة} إذا التقيتما لتظاهرا فتخرجا منها أهلها {لأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ} الآية، قال: فقتلهم وقطعهم كما قال.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كان أوّل من صلب فرعون، وهو أوّل من قطع الأيدي والأرجل من خلاف.
وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة، في قوله: {مّنْ خلاف} قال: يداً من ها هنا، ورجلاً من ها هنا.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} قال: من قبل إرسال الله إياك ومن بعده.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن وهب بن منبه، في الآية قال: قالت بنو إسرائيل لموسى كان فرعون يكلفنا اللبن قبل أن تأتينا. فلما جئت كلفنا اللبن مع التبن أيضاً، فقال موسى: أي ربّ أهلك فرعون، حتى متى تبقيه؟ فأوحى الله إليهم إنهم لم يعملوا الذنب الذي أهلكهم به.
وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة في الآية قال: حزا لعدوّ الله حاز أنه يولد في العام غلام يسلب ملكك، قال: فتتبع أولادهم في ذلك العام بذبح الذكر منهم، ثم ذبحهم أيضاً بعد ما جاءهم موسى.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: إن بنا أهل البيت يفتح ويختم، ولابد أن تقع دولة لبني هاشم فانظروا فيمن تكون من بني هاشم؟ وفيهم نزلت: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ في الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} وينبغي أن ينظر في صحة هذا عن ابن عباس، فالآية نازلة في بني إسرائيل، لا في بني هاشم، واقعة في هذه القصة الحاكية لما جرى بين موسى وفرعون.

.تفسير الآيات (130- 136):

{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)}
المراد بآل فرعون هنا قومه، والمراد بالسنين الجدب. وهذا معروف عند أهل اللغة. يقولون أصابتهم سنة: أي جدب سنة، وفي الحديث: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف»، وأكثر العرب يعربون السنين إعراب جمع المذكر السالم. ومن العرب من يعربه إعراب المفرد، ويجري الحركات على النون، وأنشد الفراء:
أرى مرّ السنين أخذن مني ** كما أخذ السرار من الهلال

بكسر النون من السنين. قال النحاس: وأنشد سيبويه هذا البيت بفتح النون.
أقول: قد ورد ما لا احتمال فيه وهو قول الشاعر:
وماذا تزدري الأقوام مني ** وقد جاوزت حدّ الأربعين

وبعده:
أخو الخمسين مجتمع أشدي ** وتجدبني مداورة السنين

فإن الأبيات قبله وبعده مكسورة. وأوّل هذه الأبيات:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ** متى أضع العمامة تعرفوني

وحكى الفراء عن بني عامر أنهم يقولون: أقمت عنده سنيناً مصروفاً. قال: وبنو تميم لا يصرفونه. ويقال أسنت القوم، أي أجدبوا، ومنه قول ابن الزبعري:
ورجال مكة مسنتون عجاف

{وَنَقْصٍ مّن الثمرات} بسبب عدم نزول المطر، وكثرة العاهات {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فيتعظون ويرجعون عن غوايتهم.
قوله: {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه} أي الخصلة الحسنة من الخصب بكثرة المطر، وصلاح الثمرات، ورخاء الأسعار {قَالُواْ لَنَا هذه} أي أعطيناها باستحقاق، وهي مختصة بنا {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} أي خصلة سيئة من الجدب والقحط، وكثرة الأمراض ونحوها من البلاء {يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} أي يتشاءموا بموسى ومن معه من المؤمنين به، والأصل يتطيروا أدغمت التاء في الطاء، وقرأ طلحة {تطيروا} على أنه فعل ماض.
وقد كانت العرب تتطير بأشياء من الطيور والحيوانات، ثم استعمل بعد ذلك في كل من تشاءم بشيء. ومثل هذا قوله تعالى: {اوإن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ} [النساء: 78] قيل: ووجه تعريف الحسنة أنها كثيرة الوقوع، ووجه تنكير السيئة ندرة وقوعها.
قوله: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله} أي سبب خيرهم وشرهم بجميع ما ينالهم من خصب وقحط، هو من عند الله، ليس بسبب موسى ومن معه. وكان هذا الجواب على نمط ما يعتقدونه وبما يفهمونه. ولهذا عبر بالطائر عن الخير والشر الذي يجري بقدر الله وحكمته ومشيئته {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} بهذا، بل ينسبون الخير والشر إلى غير الله جهلاً منهم. وقرأ الحسن {طيرهم}.
قوله: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} قال الخليل: أصل {مهما}: {ما} الشرطية زيدت عليه {ما} التي للتوكيد، كما تزاد في سائر الحروف مثل: حيثما وأينما وكيفما ومتى ما. ولكنهم كرهوا اجتماع المثلين فأبدلوا ألف الأولى هاء.
وقال الكسائي: أصله: مه، أي اكفف ما تأتينا به من آية، وزيدت عليها {ما} الشرطية. وقيل: وهي كلمة مفردة يجازى بها. ومحل {مهما} الرفع على الابتداء، أو النصب بفعل يفسره ما بعدها. و{من آية} لبيان {مهما} وسموها آية استهزاء بموسى كما يفيده ما بعده. وهو {لّتَسْحَرَنَا بِهَا} أي لتصرفنا عما نحن عليه كما يفعله السحرة بسحرهم. والضمير في {به} عائد إلى {مهما} والضمير في {بها} عائد إلى {آية}؛ وقيل: إنهما جميعاً عائدان إلى {مهما} وتذكير الأوّل باعتبار اللفظ، وتأنيث الثاني باعتبار المعنى {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} جواب الشرط، أي فما نحن لك بمصدّقين. أخبروا عن أنفسهم أنهم لا يؤمنون بشيء مما يجيء به من الآيات التي هي في زعمهم من السحر، فعند ذلك نزلت بهم العقوبة من الله عزّ وجلّ المبينة بقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان} وهو المطر الشديد. قال الأخفش: واحده طوفانة، وقيل: هو مصدر كالرجحان والنقصان فلا واحد له. وقيل الطوفان: الموت.
وقال النحاس: الطوفان في اللغة ما كان مهلكاً من موت أو سيل، أي ما يطيف بهم فيهلكهم. والجراد هو الحيوان المعروف. أرسله الله لأكل زروعهم فأكلها. والقمل قيل: هي الدباء. والدباء: الجراد قبل أن تطير، وقيل: هي السوس، وقيل: البراغيث، وقيل: دواب سود صغار، وقيل: ضرب من القردان، وقيل: الجعلان. قال النحاس: يجوز أن تكون هذه الأشياء كلها أرسلت عليهم. وقرأ الحسن {القمل} بفتح القاف وإسكان الميم. وقرأ الباقون بضم القاف وفتح الميم مشددة.
وقد فسّر عطاء الخراساني {القمل} بالقمل {والضفادع} جمع ضفدع، وهو الحيوان المعروف الذي يكون في الماء. {والدم} روي أنه سال النيل عليهم دماً. وقيل: هو الرعاف.
قوله: {آيَاتٍ مّفَصَّلاَت} أي مبينات. قال الزجاج: هو منصوب على الحال. والمعنى: أرسلنا عليهم هذه الأشياء حال كونها آيات بينات ظاهرات {فاستكبروا} أي ترفعوا عن الإيمان بالله {وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} لا يهتدون إلى حق، ولا ينزعون عن باطل.
قوله: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز} أي العذاب بهذه الأمور التي أرسلها الله عليهم. وقرئ بضم الراء وهما لغتان. وقيل: كان هذا الرجز طاعوناً مات به من القبط في يوم واحد سبعون ألفاً. {قَالُواْ يا موسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} أي بما استودعك من العلم، أو بما اختصك به من النبوّة، أو بما عهد إليك أن تدعو به فيجيبك. والباء متعلقة ب {ادع} على معنى: أسعفنا إلى ما نطلب من الدعاء بحق ما عندك من عهد الله، أو ادع لنا متوسلاً إليه بعهده عندك. وقيل: إن الباء للقسم، وجوابه لنؤمنن، أي أقسمنا بعهد الله عندك {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} على أن جواب الشرط سدّ مسدّ جواب القسم، وعلى أن الباء ليست للقسم، تكون اللام في {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز} جواب قسم محذوف.
و{لَنُؤْمِنَنَّ} جواب الشرط سادّ مسدّ جواب القسم {وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إسراءيل} معطوف على لنؤمننّ.
وقد كانوا حابسين لبني إسرائيل عندهم، يمتهنونهم في الأعمال، فوعدوه بإرسالهم معه.
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى أَجَلٍ هُم بالغوه} أي رفعنا عنهم العذاب عند أن رجعوا إلى موسى وسألوه بما سألوه، لكن لا رفعاً مطلقاً، بل رفعاً مقيداً بغاية هي الأجل المضروب لإهلاكهم بالغرق. وجواب {لما} {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} أي ينقضون ما عقدوه على أنفسهم، و{إذا} هي الفجائية، أي فاجؤوا النكث وبادروه.
{فانتقمنا مِنْهُمْ} أي أردنا الانتقام منهم لما نكثوا بسبب ما تقدّم لهم من الذنوب المتعددة {فأغرقناهم فِي اليم} أي في البحر. قيل: هو الذي لا يدرك قعره. وقيل هو لجته وأوسطه. وجملة {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} تعليل للإغراق {وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين} معطوف على كذبوا، أي كانوا غافلين عن النقمة المدلول عليها بانتقمنا، أو عن الآيات التي لم يؤمنوا بها، بل كذبوا بها، وكانوا في تكذيبهم بمنزلة الغافلين عنها. والثاني أولى لأن الجملتين تعليل للإغراق.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن مسعود: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين} قال: السنين الجوع.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال: السنين الجوائح {وَنَقْصٍ مّن الثمرات} دون ذلك.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: لما أخذ الله آل فرعون بالسنين يبس كل شيء لهم، وذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر، واجتمعوا إلى فرعون، فقالوا: إن كنت كما تزعم فائتنا في نيل مصر بماء، قال: غدوة يصبحكم الماء، فلما خرجوا من عنده قال: أي شيء صنعت إن لم أقدر على أن أجري في نيل مصر ماء غدوة كذبوني. فلما كان جوف الليل قام فاغتسل، ولبس مدرعة صوف، ثم خرج حافياً حتى أتى نيل مصر فقال: اللهم إنك تعلم، أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء. فما علم إلا بجزر الماء يقبل، فخرج وأقبل النيل يزخ بالماء لما أراد الله بهم من الهلكة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة} قال: العافية والرخاء {قَالُواْ لَنَا هذه} نحن أحق بها {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} قال: بلاء وعقوبة {يَطَّيَّرُواْ بموسى} قال: يتشاءموا به.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، في قوله: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله} قال: الأمر من قبل الله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطوفان الموت» قال ابن كثير: هو حديث غريب.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، قال: الطوفان الغرق.
وأخرج هؤلاء عن مجاهد قال: الطوفان الموت على كل حال.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، قال: الطوفان: مطروا دائماً بالليل والنهار ثمانية أيام. والقمل: الجراد الذي له أجنحة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه، قال: الطوفان أمر من أمر ربك، ثم قرأ: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبّكَ} [القلم: 19].
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال: الطوفان الماء، والطاعون والجراد. قال يأكل مسامير رُتُجهم: يعني أبوابهم وثيابهم، والقمل: الدباء. والضفادع، تسقط على فرشهم وفي أطعمتهم، والدم: يكون في ثيابهم ومائهم وطعامهم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس قال: القمل الدباء.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، قال: كانت الضفادع بريّة، فلما أرسلها الله على آل فرعون سمعت وأطاعت، فجعلت تقذف نفسها في القدر وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، قال: سال النيل دماً، فكان الإسرائيلي يستقي ماء طيباً، ويستقي الفرعوني دماً، ويشتركان في إناء واحد، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء طيباً وما يلي الفرعوني دماً.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم، في قوله: {والدم} قال: سلط الله عليهم الرعاف.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: مكث موسى في آل فرعون بعدما غلب السحرة أربعين سنة، يريهم الآيات، والجراد، والقمل والضفادع.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه في قوله: {آيَاتٍ مّفَصَّلاَت} قال: كانت آيات مفصلات يتبع بعضها بعضاً ليكون لله الحجة عليهم.
وأخرج ابن المنذر، عنه، قال: يتبع بعضها بعضاً تمكث فيهم سبتاً إلى سبت، ثم ترفع عنهم شهراً.
وأخرج ابن مردويه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرجز العذاب».
وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: الرجز الطاعون.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس في قوله: {إلى أَجَلٍ هُم بالغوه} قال: الغرق.
وأخرج ابن أبي حاتم، من طرق، عن ابن عباس قال: اليم البحر.
وأخرج أيضاً عن السديّ مثله.