فصل: تفسير الآيات (167- 170):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (167- 170):

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)}
قوله: {وَإِذ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} معطوف على ما قبله، أي واسألهم وقت تأذن ربك، وتأذن تفعل من الأيذان، وهو الإعلام. قال أبو علي الفارسي: آذن بالمد أعلم، وأذّن بالتشديد نادى.
وقال قوم: كلاهما بمعنى أعلم، كما يقال أيقن وتيقن، والمعنى في الآية: واسألهم وقت أن وقع الإعلام لهم من ربك {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} قيل: وفي هذا الفعل معنى القسم كعلم الله، وشهد الله، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم، حيث قال: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} أي: ليرسلنّ عليهم، ويسلطن، كقوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء: 5] {إلى يَوْمِ القيامة} غاية لسومهم سوء العذاب ممن يبعثه الله عليهم، وقد كانوا أقمأهم الله هكذا أذلاء مستضعفين معذبين بأيدي أهل الملل، وهكذا هم في هذه الملة الإسلامية، في كل قطر من أقطار الأرض، في الذلة المضروبة عليهم والعذاب والصغار، يسلمون الجزية بحقن دمائهم، ويمتهنهم المسلمون فيما فيه ذلة من الأعمال التي يتنزه عنها غيرهم من طوائف الكفار. ومعنى {يَسُومُهُمْ}: يذيقهم.
وقد تقدّم بيان أصل معناه، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب} يعاجل به في الدنيا كما وقع لهؤلاء {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: كثير الغفران والرحمة.
{وقطعناهم فِي الأرض} أي: فرّقناهم في جوانبها، أو شتتنا أمرهم، فلم تجتمع لهم كلمة، و{أُمَمًا} منتصب على الحال، أو مفعول ثان لقطعنا، على تضمينه معنى صيرنا، وجملة {مّنْهُمُ الصالحون} بدل من {أمماً} قيل: هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن مات قبل البعثة المحمدية غير مبدّل. وقيل: هم الذين سكنوا وراء الصين كما تقدّم بيانه قبل هذا {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} أي: دون هذا الوصف الذي اتصفت به الطائفة الأولى وهو الصلاح، ومحل {دُونِ ذَلِكَ} الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: ومنهم أناس دون ذلك، والمراد بهؤلاء هم من لم يؤمن، بل انهمك في المخالفة لما أمره الله به. قال النحاس {دُونِ} منصوب على الظرف، ولا نعلم أحداً رفعه {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} أي: امتحناهم بالخير والشرّ رجاء أن يرجعوا مما هم من الكفر والمعاصي.
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} المراد بهم: أولاد الذين قطعهم الله في الأرض. قال أبو حاتم: الخلف بسكون اللام: الأولاد، الواحد والجمع سواء. والخلف بفتح اللام البدل ولداً كان أو غيره.
وقال ابن الأعرابي: الخلف بالفتح الصالح، وبالسكون الطالح. قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

ومنه قيل للرديء من الكلام خلف بالسكون، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر، ومنه قول حسان ابن ثابت:
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا ** لأوّلنا في طاعة الله تابع

{وَرِثُواْ الكتاب} أي: التوراة من أسلافهم يقرءونها ولا يعملون بها {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى} أخبر الله عنهم بأنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدّة حرصهم وقوّة نهمتهم، والأدنى: مأخوذ من الدنوّ، وهو القرب، أي يأخذون عرض هذا الشيء الأدنى، وهو الدنيا يتعجلون مصالحها بالرشاء، وما هو مجعول لهم من السحت في مقابلة تحريفهم لكلمات الله، وتهوينهم للعمل بأحكام التوراة، وكتمهم لما يكتمونه منها. وقيل: إن الأدنى مأخوذ من الدناءة والسقوط، أي إنهم يأخذون عرض الشيء الدنيء الساقط.
{وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} أي: يعللون أنفسهم بالمغفرة، مع تماديهم في الضلالة، وعدم رجوعهم إلى الحق. وجملة {يَأْخُذُونَ} يحتمل أن تكون مستأنفة لبيان حالهم، أو في محل نصب على الحال. وجملة {يَقُولُونَ} معطوفة عليها، والمراد بهذا الكلام: التقريع والتوبيخ لهم، وجملة {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} في محل نصب على الحال، أي يتعللون بالمغفرة، والحال أنهم إذا أتاهم عرض مثل العرض الذي كانوا يأخذونه أخذوه غير مبالين بالعقوبة، ولا خائفين من التبعة. وقيل: الضمير في {يَأْتِهِمْ} ليهود المدينة، أي وإن يأت هؤلاء اليهود الذين هم في عصر محمد صلى الله عليه وسلم عرض مثل العرض الذي كان يأخذه أسلافهم، أخذوه كما أخذه أسلافهم.
{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب} أي: التوراة {أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقّ} والاستفهام للتقريع والتوبيخ، وجملة {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} معطوفة على {يُؤْخَذْ} على المعنى، وقيل: على {وَرِثُواْ الكتاب} والأولى: أن تكون في محل نصب على الحال بتقدير قد. والمعنى: أنهم تركوا العمل بالميثاق المأخوذ عليهم في الكتاب، والحال أن قد درسوا ما في الكتاب وعلموه، فكان الترك منهم عن علم لا عن جهل، وذلك أشدّ ذنباً وأعظم جرماً. وقيل: معنى {دَرَسُوا مَا فِيهِ} أي: محوه بترك العمل به والفهم له، من قولهم درست الريح الآثار: إذا محتها. {والدار الآخرة خَيْرٌ} من ذلك العرض الذي أخذوه وآثروه عليها {لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الله، ويجتنبون معاصيه {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فتعلمون بهذا وتفهمونه، وفي هذا من التوبيخ والتقريع ما لا يقادر قدره.
قوله: {والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب} قرأ الجمهور {يمسكون} بالتشديد من مسك وتمسك، أي استمسك بالكتاب، وهو التوراة. وقرأ أبو العالية، وعاصم، في رواية أبي بكر، بالتخفيف من أمسك يمسك.
وروي عن أبيّ بن كعب أنه قرأ: {مسكوا} والمعنى: أن طائفة من أهل الكتاب لا يتمسكون بالكتاب، ولا يعملون بما فيه، مع كونهم قد درسوه وعرفوه، وهم من تقدّم ذكره. وطائفة يتمسكون بالكتاب، أي التوراة ويعملون بما فيه، ويرجعون إليه في أمر دينهم، فهم المحسنون الذين لا يضيع أجرهم عند الله، والموصول مبتدأ.
و{إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} خبره، أي لا نضيع أجر المصلحين منهم، وإنما وقع التنصيص على الصلاة مع كونها داخلة في سائر العبادات التي يفعلها المتمسكون بالتوراة، لأنها رأس العبادات وأعظمها، فكان ذلك وجهاً لتخصيصها بالذكر. وقيل لأنها تقام في أوقات مخصوصة، والتمسك بالكتاب مستمرّ، فذكرت لهذا وفيه نظر. فإن كل عبادة في الغالب تختصّ بوقت معين، ويجوز أن يكون الموصول معطوفاً على الموصول الذي قبله، وهو {للذين يتقون} وتكون {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} جملة معترضة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {يَسُومُهُمْ سُوء العذاب} قال محمد وأمته إلى يوم القيامة وسوء العذاب: الجزية.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، قال: {سُوء العذاب} الخراج. وفي قوله: {وقطعناهم} قال: هم اليهود بسطهم الله في الأرض، فليس منها بقعة إلا وفيها عصابة منهم وطائفة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، في قوله: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} قال: على اليهود والنصارى {إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سُوء العذاب} فبعث الله عليهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يأخذون منهم الجزية، وهم صاغرون {وقطعناهم فِي الأرض أُمَمًا} قال: يهود {مّنْهُمُ الصالحون} وهم مسلمة أهل الكتاب {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} قال: اليهود {وبلوناهم بالحسنات} قال: الرخاء والعافية {والسيئات} قال: البلاء والعقوبة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} بالخصب والجدب.
وأخرج أبو الشيخ، عنه، أنه سئل عن هذه الآية {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى} قال: أقوام يقبلون على الدنيا، فيأكلونها، ويتبعون رخص القرآن {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} ولا يعرض لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} قال: النصارى {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى} قال: ما أشرف لهم من شيء من الدنيا حلالاً أو حراماً يشتهونه أخذوه، ويتمنون المغفرة، وإن يجدوا الغد مثله يأخذوه.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} الآية يقول: يأخذون ما أصابوا ويتركون ما شاءوا من حلال أو حرام {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا}.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ولا يتوبون منها.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي زيد، في قوله: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} قال: علموا ما في الكتاب، لم يأتوه بجهالة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن، في قوله: {والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب} قال: هي لأهل الإيمان منهم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: {والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب} قال: من اليهود والنصارى.

.تفسير الآية رقم (171):

{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)}
قوله: {وَإِذْ} منصوب بفعل مقدر معطوف على ما قبله، أي واسألهم إذ نتقنا الجبل، أي رفعنا الجبل {فَوْقَهُمُ} و{كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} أي: كأنه لارتفاعه سحابة تظلهم، والظلة: اسم لكل ما أظلّ، وقرئ: {طلة} بالطاء من أطلّ عليه إذا أشرف {وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي: ساقط عليهم. قيل: الظنّ هنا بمعنى العلم. وقيل: هو على بابه {خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} هو على تقدير القول، أي وقلنا لهم خذوا، والقوّة: الجدّ والعزيمة، أي أخذاً كائناً بقوّة {واذكروا مَا فِيهِ} من الأحكام التي شرعها الله لكم، ولا تنسوه {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} رجاء أن تتقوا ما نهيتهم عنه، وتعملوا بما أمرتم به، وقد تقدّم تفسير {ما} هنا في البقرة مستوفى، فلا نعده.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل} يقول: رفعناه، وهو قوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور} [النساء: 154] فقال: {خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} وإلا أرسلته عليكم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، في الآية قال: رفعته الملائكة فوق رؤوسهم، فقيل لهم: {خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} فكانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا سمعنا وأطعنا، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا سمعنا وعصينا.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، أيضاً قال: إني لأعلم لم تسجد اليهود على حرف، قال الله {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ} قال: لتأخذنّ أمري أو لأرمينكم به، فسجدوا وهم ينظرون إليه مخافة أن يسقط عليهم، وكانت سجدة رضيها الله سبحانه فاتخذوها سنة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل} قال: انتزعه الله من أصله، ثم جعله فوق رؤوسهم، ثم قال: لتأخذنّ أمري أو لأرمينكم به.

.تفسير الآيات (172- 174):

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)}
قوله: {وَإِذْ} منصوب بفعل مقدّر معطوف على ما قبله كما تقدّم. قوله: {مِن بَنِى ءادَمَ} استدلّ بهذا على أن المراد بالمأخوذين هنا: هم ذرية بني آدم، أخرجهم الله من أصلابهم نسلاً بعد نسل.
وقد ذهب إلى هذا جماعة من المفسرين، قالوا: ومعنى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} دلهم بخلقه على أنه خالقهم، فقامت هذه الدلالة مقام الإِشهاد، فتكون هذه الآية من باب التمثيل، كما في قوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]. وقيل المعنى: أن الله سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجسام، وأنه جعل فيها من المعرفة ما فهمت به خطابه سبحانه. وقيل المراد ببني آدم هنا: آدم نفسه، كما وقع في غير هذا الموضع. والمعنى أن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره، فاستخرج منه ذريته، وأخذ عليهم العهد، وهؤلاء هم عالم الذرّ، وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا المصير إلى غيره، لثبوته مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وموقوفاً على غيره من الصحابة، ولا ملجئ للمصير إلى المجاز، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. وسنذكر آخر هذا البحث إن شاء الله بعض ما ورد في ذلك. قوله: {مِن ظُهُورِهِمْ} هو بدل من بني آدم، بدل بعض من كل. وقيل بدل اشتمال قوله: {ذرياتهم} قرأ الكوفيون وابن كثير {ذريتهم} بالتوحيد، وهي تقع على الواحد والجمع. وقرأ الباقون {ذرياتهم} بالجمع {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} أي: أشهد كل واحد منهم {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ} أي: قائلاً ألست بربكم، فهو على إرادة القول: {قَالُواْ بلى شَهِدْنَا} أي: على أنفسنا بأنك ربنا.
قوله: {أَن تَقُولُواْ} قرأ أبو عمرو بالياء التحتية في هذا وفي قوله: {أَوْ يَقُولُواْ} على الغيبة كما كان فيما قبله على الغيبة، وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب. والمعنى: كراهة أن يقولوا، أو لئلا يقولوا، أي: فعلنا ذلك الأخذ والإشهاد، كراهة أن يقولوا {يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين} أي: عن كون الله ربنا وحده لا شريك له.
قوله: {أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ} معطوف على {تَقُولُواْ} الأوّل أي: فعلنا ذلك كراهة أن تعتذروا بالغفلة، أو تنسبوا الشرك إلى آبائكم دونكم، و{أَوْ} لمنع الخلوّ دون الجمع، فقد يعتذرون بمجموع الأمرين {مِن قَبْلُ} أي: من قبل زماننا {وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ} لا نهتدي إلى الحق، ولا نعرف الصواب {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} من آبائنا، ولا ذنب لنا لجهلنا وعجزنا عن النظر، واقتفائنا آثار سلفنا، بين الله سبحانه في هذه الحكمة التي لأجلها أخرجهم من ظهر آدم، وأشهدهم على أنفسهم، وأنه فعل ذلك بهم لئلا يقولوا هذه المقالة يوم القيامة، ويعتلوا بهذه العلة الباطلة، ويعتذروا بهذه المعذرة الساقطة {وكذلك} أي: ومثل ذلك التفصيل {نُفَصّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلى الحق، ويتركون ما هم عليه من الباطل.
وقد أخرج مالك في الموطأ، وأحمد في المسند، وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان في صحيحه، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، والضياء في المختارة: أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عنها فقال: «إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون»، فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال: «إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله النار».
وأخرج أحمد، وابن جرير، والنسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان، يوم عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم فقال: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا} إلى قوله: {المبطلون}» وإسناده لا مطعن فيه.
وقد أخرجه ابن أبي حاتم موقوفاً على ابن عباس.
وأخرج ابن جرير، وابن منده في كتاب الردّ على الجهمية عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم} قال: أخذهم من ظهره كما يؤخذ المشط من الرأس، فقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا بلى، قالت الملائكة: {شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}» وفي إسناده أحمد بن أبي طبية أبو محمد الجرجاني قاضي قومس كان أحد الزهاد، وأخرج له النسائي في سننه.
وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه.
وقال ابن عديّ: حدث بأحاديث كثيرة غرائب.
وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله ابن عمر، وهؤلاء أئمة ثقات.
وأخرج عبد بن حميد، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والطبراني، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، عن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما خلق الله الخلق، وقضى القضية، وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء، فأخذ أهل اليمين بيمينه، وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين، فقال: يا أصحاب اليمين، فاستجابوا له فقالوا: لبيك ربنا وسعديك، قال: ألست بربكم قالوا بلى» الحديث. والأحاديث في هذا الباب كثيرة، بعضها مقيد بتفسير هذه الآية، وبعضها مطلق يشتمل على ذكر إخراج ذرية آدم من ظهره، وأخذ العهد عليهم، كما في حديث أنس مرفوعاً في الصحيحين وغيرهما.
وأما المروي عن الصحابة في تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من صلبه في عالم الذرّ، وأخذ العهد عليهم وإشهادهم على أنفسهم فهي كثيرة، منها عن ابن عباس، عند عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ} الآية قال: خلق الله آدم وأخذ ميثاقه أنه ربه، وكتب أجله ورزقه، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر، فأخذ مواثيقهم أنه ربهم، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم.
وأخرج نحوه عنه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
وأخرج نحوه عنه أيضاً ابن جرير، وابن المنذر.
وأخرج نحوه عنه عبد الرزاق وابن المنذر.
وأخرج نحوه عنه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن منده. وهذا المعنى مروي عنه من طرق كثيرة غير هذه موقوفة عليه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عبد الله بن عمر في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ} الآية قال: أخذهم كما يأخذ المشط من الرأس.
وأخرج ابن عبد البرّ في التمهيد عن ابن مسعود، وناس من الصحابة في تفسير الآية نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن منده، وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات، والضياء في المختارة، وابن عساكر في تاريخه، عن أبيّ بن كعب في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ} الآية قال: جمعهم جميعاً فجعلهم أرواحاً في صورهم، ثم استنطقهم فتكلموا، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق، ثم أشهدهم على أنفسهم.
وقد روي عن جماعة ممن بعد الصحابة تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من ظهره، وفيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيرها مما قدمنا ذكره ما يغني عن التطويل.