فصل: تفسير الآيات (47- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (47- 50):

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)}
قوله: {يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} قد تقدم تفسيره، وإنما كرر ذلك سبحانه توكيداً للحجة عليهم، وتحذيراً لهم من ترك اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قرنه بالوعيد، وهو قوله: {واتقوا يَوْمًا} وقوله: {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ} معطوف على مفعول اذكروا أي: اذكروا نعمتي، وتفضيلي لكم على العالمين، قيل المراد بالعالمين عالم زمانهم، وقيل على جميع العالمين بما جعل، فيهم من الأنبياء.
وقال في الكشاف: على الجمّ الغفير من الناس كقوله: {بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين} [الأنبياء: 71] يقال رأيت عالماً من الناس: يراد الكثرة. انتهى. قال الرازي في تفسيره: وهذا ضعيف؛ لأن لفظ العالم مشتق من العلم، وهو الدليل، وكل ما كان دليلاً على الله كان علماً، وكان من العالم، وهذا تحقيق قول المتكلمين: العالم كل موجود سوى الله، وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ العالم ببعض المحدثات. انتهى.
وأقول: هذا الاعتراض ساقط، أما أوّلا، فدعوى اشتقاقه من العلم لا برهان عليه، وأما ثانياً: فلو سلمنا صحة هذا الاشتقاق كان المعنى موجوداً بما يتحصل معه مفهوم الدليل على الله الذي يصح إطلاق اسم العلم عليه، وهو كائن في كل فرد من أفراد المخلوقات التي يستدل بها على الخالق، وغايته أن جميع العالم يستلزم أن يكونوا مفضلين على أفراد كثيرة من المحدثات؛ وأما أنهم مفضلون على كل المحدثات في كل زمان، فليس في اللفظ ما يفيد هذا، ولا في اشتقاقه ما يدل عليه، وأما من جعل العالم أهل العصر، فغايته أن يكونوا مفضلين على أهل عصور، لا على أهل كل عصر، فلا يستلزم ذلك تفضيلهم على أهل العصر الذين، فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا على ما بعده من العصور، ومثل هذا الكلام ينبغي استحضاره عند تفسير قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين} [المائدة: 20] وعند قوله تعالى: {وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين} [الدخان: 32] وعند قوله تعالى: {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين} [آل عمران: 33] فإن قيل: إن التعريف في العالمين يدل على شموله لكل عالم. قلت: لو كان الأمر هكذا لم يكن ذلك مستلزماً لكونهم أفضل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم: لقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] فإن هذه الآية ونحوها تكون مخصصة لتلك الآيات.
وقوله: {واتقوا يَوْمًا} أمر معناه الوعيد، وقد تقدم معنى التقوى. والمراد باليوم: يوم القيامة أي: عذابه. وقوله: {لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} في محل نصب صفة ليوم، والعائد محذوف. قال البصريون في هذا وأمثاله: تقديره فيه.
وقال الكسائي: هذا خطأ، بل التقدير لا تجزيه؛ لأن حذف الظرف لا يجوز، ويجوز حذف الضمير وحده.
وقد روى عن سيبويه، والأخفش، والزجاج جواز الأمرين. ومعنى: {لا تجزي}: لا تكفي، وتقضي، يقال جزا عني هذا الأمر يجزي، أي: قضى، واجتزأت بالشيء أجتزيء، أي: اكتفيت، ومنه قول الشاعر:
فإن الغدرَ في الأقوام عَارٌ ** وإن الحر يَجزي بالكُراع

والمراد أن هذا اليوم لا تقضي نفس عن نفس شيئاً، ولا تكفي عنها، ومعنى التنكير: التحقير، أي: شيئاً يسيراً حقيراً، وهو منصوب على المفعولية، أو على أنه صفة مصدر محذوف، أي: جزاء حقيراً. والشفاعة مأخوذة من الشفع، وهو الاثنان، تقول استشفعته: أي: سألته أن يشفع لي، أي: يضمّ جاهه إلى جاهك عند المشفوع إليه، ليصل النفع إلى المشفوع له، وسميت الشفعة شفعة؛ لأنك تضم ملك شريكك إلى ملكك.
وقد قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، تقبل بالمثناة الفوقية؛ لأن الشفاعة مؤنثة، وقرأ الباقون بالياء التحتية؛ لأنها بمعنى الشفيع. قال الأخفش: الأحسن التذكير. وضمير {منها} يرجع إلى النفس المذكورة ثانياً: أي: إن جاءت بشفاعة شفيع، ويجوز أن يرجع إلى النفس المذكورة أوّلاً: أي: إذا شفعت لم يقبل منها. والعدل بفتح العين: الفداء، وبكسرها: المثل. يقال عدل، وعديل للذي ماثل في الوزن والقدر.
وحكى ابن جرير: أن في العرب من يكسر العين في معنى الفدية. والنصر: العون، والأنصار: الأعوان، وانتصر الرجل: انتقم، والضمير، أي: هم، يرجع إلى النفوس المدلول عليها بالنكرة في سياق النفي، والنفس تذكر وتؤنث.
وقوله: {إِذْ نجيناكم} متعلق بقوله: {اذكروا} والنجاة: النجوة من الأرض، وهي ما ارتفع منها، ثم سمي كل فائز ناجياً. وآل فرعون: قومه، وأصل آل: أهل؛ بدليل تصغيره على أُهيل. وقيل غير ذلك، وهو يضاف إلى ذوي الخطر.
وقال الأخفش: إنما يقال في الرئيس الأعظم نحو آل محمد. ولا يضاف إلى البلدان، فلا يقال من آل المدينة.
وقال الأخفش: قد سمعناه في البلدان قالوا: آل المدينة.
واختلفوا هل يضاف إلى المضمر أم لا. فمنعه قوم وسوّغه آخرون، وهو الحق، ومنه قول عبد المطلب:
وانصر على آل الصلي ** ب وعابديه اليوم آلك

وفرعون: قيل هو اسم ذلك الملك بعينه. وقيل إنه اسم لكل ملك من ملوك العمالقة كما يسمى من ملك الفرس: كسرى، ومن ملك الروم: قيصر، ومن ملك الحبشة: النجاشي. واسم فرعون موسى المذكور هنا: قابوس، في قول أهل الكتاب.
وقال وهب: اسمه الوليد بن مصعب بن الريان. قال المسعودي: لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية.
وقال الجوهري: إن كل عات يقال له: فرعون، وقد تفرعن وهو ذو فرعنة: أي: دهاء ومكر.
وقال في الكشاف: تفرعَن فلان: إذا عتا وتجبر.
ومعنى قوله: {يَسُومُونَكُمْ} يولونكم، قاله أبو عبيدة، وقيل يذيقونكم، ويلزمونكم إياه، وأصل السوم الدوام، ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي، ويقال: سامه خطة خسف: إذا أولاه إياها.
وقال في الكشاف: أصله من سام السلعة إذا طلبها، كأنه بمعنى: يبغونكم سوء العذاب، ويريدونكم عليه. انتهى. {وسوء العذاب}: أشدّه، وهو صفة مصدر محذوف، أي يسومونكم سوماً سوء العذاب، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، وهذه الجملة في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ مقدّر، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال أي: سائمين لكم.
وقوله: {يُذَبّحُونَ} وما بعده بدل من قوله: {يَسُومُونَكُمْ} وقال الفراء: إنه تفسير لما قبله، وقرأه الجماعة بالتشديد، وقرأ ابن محيصن بالتخفيف. والذبح في الأصل: الشقّ، وهو فرى أوداج المذبوح،
والمراد بقوله تعالى: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} يتركونهن أحياء؛ ليستخدموهنّ، ويمتهنوهنّ وإنما أمر بذبح الأبناء، واستحياء البنات، لأن الكهنة أخبروه بأنه يولد مولود يكون هلاكه على يده، وعبر عن البنات باسم النساء؛ لأنه جنس يصدق على البنات. وقالت طائفة: إنه أمر بذبح الرجال، واستدلوا بقوله: {نِسَاءكُمْ} والأوّل أصح بشهادة السبب. ولا يخفى ما في قتل الأبناء، واستحياء البنات للخدمة ونحوها، من إنزال الذلّ بهم، وإلصاق الإهانة الشديدة بجميعهم لما في ذلك من العار. والإشارة بقوله: {وَفِى ذلكم} إلى جملة الأمر، والبلاء يطلق تارة على الخير، وتارة على الشرّ، فإن أريد به هنا الشرّ كانت الإشارة بقوله: {وَفِى ذلكم بَلاء} إلى ما حلّ بهم من النقمة بالذبح ونحوه، وإن أريد به الخير كانت الإشارة إلى النعمة التي أنعم الله عليهم بالإنجاء، وما هو مذكور قبله من تفضيلهم على العالمين.
وقد اختلف السلف ومن بعدهم في مرجع الإشارة، فرجح الجمهور الأوّل، ورجح الآخرون الآخر. قال ابن جرير: وأكثر ما يقال في الشرّ بلوته أبلوه بلاء، وفي الخير أبلية إبلاء وبلاء، قال زهير:
جَزَى الله بِالإحْسانِ مِاَ فَعَلا بِكُم ** وأبلاهما خَيْر البَلاءِ الذَّيَ يَبْلُو

قال: فجمع بين اللغتين؛ لأنه أراد، فأنعم عليهما خير النعم، التي يختبر بها عباده. وقوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا} متعلق بما تقدم من قوله: {اذكروا} وفرقنا: فلقنا، وأصل الفرق: الفصل، ومنه فرق الشعر، وقرأ الزهري: {فرَّقنا} بالتشديد، والباء في قوله: {بِكُمْ} قيل: هي بمعنى اللام، أي: لكم. وقيل هي الباء السببية، أي: فرقناه بسببكم. وقيل: إن الجار والمجرور في محل الحال، أي: فرقناه متلبساً بكم، والمراد ها هنا: أن فرق البحر كان بهم، أي: بسبب دخولهم فيه، أي: لما صاروا بين الماءين صار الفرق بهم. وأصل البحر في اللغة: الاتساع، أطلق على البحر الذي هو مقابل البر، لما فيه من الاتساع بالنسبة إلى النهر، والخليج، ويطلق على الماء المالح، ومنه أبحر الماء: إذا ملح، قال نصيب:
وقد عاد ماءُ الأرض بَحْراً فزادني ** إلى مَرَضي أن أبْحَرَ المَشْربُ العذْبُ

وقوله: {فأنجيناكم} أي: أخرجناكم منه. {وأغرقنا آل فرعون} فيه. وقوله: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} في محل نصب على الحال، أي: حال كونكم ناظرين إليهم بأبصاركم. وقيل: معناه: وأنتم تنظرون، أي: ينظر بعضكم إلى البعض الآخر من السالكين في البحر، وقيل: نظروا إلى أنفسهم ينجون، وإلى آل فرعون يغرقون. والمراد بآل فرعون هنا: هو وقومه وأتباعه.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب؛ أنه كان إذا تلا: {اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} قال: مضى القوم، وإنما يعني به أنتم، وأخرج ابن جرير عن سفيان بن عيينة قال في قوله: {اذكروا نِعْمَتِيَ} هي أيادي الله، وأيامه.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: نعمة الله التي أنعم بها على بني إسرائيل، فيما سمى، وفيما سوى ذلك، فجَّر لَهُم الحجر، وأنزل عليهم المنّ، والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة في قوله: {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} قال: فضلوا على العالم الذي كانوا فيه، ولكل زمان عالم.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن جرير عن أبي العالية في قوله: {فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} قال: بما أعطوا من الملك، والرسل، والكتب على من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالماً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} قال: لا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة من المنفعة شيئاً.
وأخرج ابن جرير، عن عمرو بن قيس المُلائي، عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن الثناء عليه، قال: قيل يا رسول الله ما العدل؟ قال: «العدل الفدية».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. قال ابن أبي حاتم: وروى عن أبي مالك، والحسن، وسعيد بن جبير وقتادة، والربيع بن أنس نحو ذلك.
وأخرج عبد الرزاق عن عليّ في تفسير الصرف، والعدل قال: التطوّع والفريضة. قال ابن كثير: وهذا القول غريب هاهنا، والقول الأوّل أظهر في تفسير هذه الآية.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالت الكهنة لفرعون: إنه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكه، فجعل فرعون على كل ألف امرأة مائة رجل، وعلى كل مائة عشرة، وعلى كل عشر رجلاً، فقال: انظروا كل امرأة حامل في المدينة، فإذا وضعت حملها، فإن كان ذكراً فاذبحوه، وإن كان أنثى، فخلوا عنها، وذلك قوله: {يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب} قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة.
فقالت له الكهنة: إنه سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه، فبعث في أهل مصر نساء قوابل، فإذا ولدت امرأة غلاماً أتى به فرعون فقتله، ويستحيي الجواري.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ} يقول: نقمة.
وأخرج وكيع عن مجاهد نحوه.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} فقال: إي والله لفرق البحر بينهم حتى صار طريقاً يبساً يمشون فيه، فأنجاهم الله، وأغرق آل فرعون عدوّهم.
وقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما من حديث ابن عباس قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال: ما هذا اليوم؟ قالوا: هذا يوم صالح نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى منكم، فصامه، وأمر بصومه» وقد أخرج الطبراني، وأبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير أن هرقل كتب إلى معاوية يسأله عن أمور، منها عن البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة، فكتب معاوية إلى ابن عباس، فأجابه عن تلك الأمور وقال: وأما البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة من نهار: فالبحر الذي أفرج عن بني إسرائيل. ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى زيادة على ما هنا عند تفسير قوله تعالى: {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63].

.تفسير الآيات (51- 54):

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}
قرأ أبو عمرو {وعدنا} بغير ألف، ورجحه أبو عبيدة، وأنكر {واعدنا} قال: لأن المواعدة إنما تكون من البشر، فأما من الله فإنما هو التفرّد بالوعد على هذا وجدنا القرآن كقوله: {وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} [إبراهيم: 22] وقوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين} [الأنفال: 7] ومثله، قال أبو حاتم ومكي: وإنما قالوا هكذا نظراً إلى أصل المفاعلة، أنها تفيد الاشتراك في أصل الفعل، وتكون من كل واحد من المتواعدين، ونحوهما، ولكنها قد تأتي للواحد في كلام العرب كما في قولهم: داويت العليل، وعاقبت اللص، وطارقت النعل، وذلك كثير في كلامهم. وقرأه الجمهور: {واعدنا} قال النحاس: وهي أجود، وأحسن، وليس قوله: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ} [المائدة: 9، النور: 55] من هذا في شيء؛ لأن واعدنا موسى إنما هو من باب الموافاة، وليس هو من الوعد والوعيد في شيء، وإنما هو من قولك: موعدك يوم الجمعة، وموعدك موضع كذا؛ والفصيح في هذا أن يقال، واعدته. قال الزجاج: واعدنا بالألف ها هنا جيد؛ لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فمن الله سبحانه وعد، ومن موسى قبول. قوله: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} قال الزجاج: التقدير تمام أربعين ليلة، وهي عند أكثر المفسرين ذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، وإنما خص الليالي بالذكر دون الأيام؛ لأن الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة.
ومعنى قوله: {ثُمَّ اتخذتم العجل} أي: جعلتم العجل إلهاً من بعده، أي: من بعد مضي موسى إلى الطور.
وقد ذكر بعض المفسرين أنهم عدوا عشرين يوماً، وعشرين ليلة. وقالوا: قد اختلف موعده، فاتخذوا العجل، وهذا غير بعيد منهم، فقد كانوا يسلكون طرائق من التعنت خارجة عن قوانين العقل، مخالفة لما يخاطبون به، بل ويشاهدونه بأبصارهم، فلا يقال: كيف تعدون الأيام، والليالي على تلك الصفة، وقد صرح لهم في الوعد بأنها أربعون ليلة، وإنما سماهم ظالمين؛ لأنهم أشركوا بالله، وخالفوا موعد نبيهم عليهم السلام، والجملة في موضع نصب على الحال.
وقوله: {مِن بَعْدِ ذلك} أي: من بعد عبادتكم العجل، وسمي العجل عجلاً، لاستعجالهم عبادته كذا قيل، وليس بشيء؛ لأن العرب تطلق هذا الاسم على ولد البقر.
وقد كان جعله لهم السامريّ على صورة العجل. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لكي تشكروا ما أنعم الله به عليكم، من العفو عن ذنبكم العظيم الذي وقعتم فيه. وأصل الشكر في اللغة: الظهور، من قولهم: دابة شكور إذ ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف. قال الجوهري: الشكر: الثناء على المحسن بما أولاك من المعروف، يقال شكرته وشكرت له، وباللام أفصح، وقد تقدّم معناه، والشكران خلاف الكفران.
والكتاب: التوراة بالإجماع من المفسرين.
واختلفوا في الفرقان، وقال الفراء، وقُطرُب: المعنى: آتينا موسى التوراة، ومحمداً الفرقان.
وقد قيل: إن هذا غلط، أوقعهما فيه أن الفرقان مختص بالقرآن، وليس كذلك، فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان} [الأنبياء: 48] وقال الزجاج: إن الفرقان هو: الكتاب، أعيد ذكره تأكيداً.
وحكى نحوه عن الفراء، ومنه قول عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده ** أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

وقيل: إن الواو صلة، والمعنى: آتينا موسى، الكتاب الفرقان، والواو قد تزاد في النعوت كقول الشاعر:
إلى المَلكِ القَرْم وابن الهمام ** وليثِ الكتَيبةِ في المُزَدحمْ

وقيل المعنى: أن ذلك المنزل جامع بين كونه كتاباً وفارقاً بين الحق، والباطل، وهو كقوله: {ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَامًا عَلَى الذي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَئ} [الأنعام: 154] وقيل الفرقان: الفرق بينهم، وبين قوم فرعون، أنجى هؤلاء، وأغرق هؤلاء.
وقال ابن زيد: الفرقان: انفراق البحر. وقيل الفرقان: الفرج من الكرب. وقيل: إنه الحجة والبيان بالآيات التي أعطاها الله من العصا، واليد، وغيرهما، وهذا أولى، وأرجح، ويكون العطف على بابه، كأنه قال: آتينا موسى التوراة، والآيات التي أرسلناه بها معجزة له.
قوله: {يَا قَوْمٌ} القوم يطلق تارة على الرجال دون النساء، ومنه قول زهير:
وَمَا أدْرِي وَسَوف إخَالُ أدْرِي ** أقَومٌ آل حِصْنٍ أَمْ نِسَاء

ومنه قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ} [الحجرات: 11]، ثم قال: {وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء} [الحجرات: 11]، ومنه {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [الأعراف: 80] أراد الرجال، وقد يطلق على الجميع كقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} [نوح: 1] والمراد هنا بالقوم: عبدةُ العجل. والباريء: الخالق. وقيل إن الباريء: هو: المبدع المحدث، والخالق هو: المقدّر الناقل من حال إلى حال. وفي ذكر البارئ هنا إشارة إلى عظيم جرمهم، أي: فتوبوا إلى الذي خلقكم، وقد عبدتم معه غيره. والفاء في قوله: {فتوبوا} للسببية: أي: لتسبب التوبة عن الظلم، وفي قوله: {فاقتلوا} للتعقيب، أي: اجعلوا القتل متعقباً للتوبة. قال القرطبي: وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده. قيل: قاموا صفين، وقتل بعضهم بعضاً. وقيل: وقف الذين عبدوا العجل، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم. وقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} قيل: في الكلام حذف أي: فقتلتم أنفسكم، {فتاب عليكم} أي: على الباقين منكم. وقيل: هو جواب شرط محذوف، كأنه قال: فإن فعلتم، فقد تاب عليكم. وأما ما قاله صاحب الكشاف من أنه يجوز أن يكون خطاباً من الله لهم على طريقة الالتفات، فيكون التقدير: ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم، فهو بعيد جداً كما لا يخفى.
وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} قال: ذا القعدة، وعشراً من ذي الحجة.
وقد أخرج ابن جرير عنه في قوله: {مِن بَعْدِ ذلك} قال: من بعد ما اتخذتم العجل.
وأخرج عبد ابن حميد، وابن جرير عن مجاهد في قوله: {وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان} قال: الكتاب هو: الفرقان، فرق بين الحق والباطل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس قال: الفرقان جماع اسم التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن.
وأخرج ابن جرير عنه قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه أن يقتلوا أنفسهم، واختبأ الذين عكفوا على العجل، فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلمة عنهم عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال: قالوا: لموسى ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً، فأخذوا السكاكين، فجعل الرجل يقتل أخاه، وأباه، وابنه، لا يبالي من قتل حتى قتل منهم سبعون ألفاً، فأوحى الله إلى موسى: مرهم، فليرفعوا أيديهم، وقد غفر لمن قُتل، وتَيب على من بقي.
وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة، وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير عن الزهري، نحواً مما سبق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {إلى بَارِئِكُمْ} قال: خالقكم.