فصل: تفسير الآيات (175- 178):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (175- 178):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)}
قوله: {واتل} معطوف على الأفعال المقدّرة في القصص السابقة وإيراد هذه القصة منه سبحانه، وتذكير أهل الكتاب بها، لأنها كانت مذكورة عندهم في التوراة.
وقد اختلف في هذا الذي أوتي الآيات {فانسلخ مِنْهَا} فقيل: هو بلعم بن باعوراء، وكان قد حفظ بعض الكتب المنزلة. وقيل: كان قد أوتي النبوّة، وكان مجاب الدعوة، بعثه الله إلى مدين يدعوهم إلى الإيمان، فأعطوه الأعطية الواسعة، فاتبع دينهم، وترك ما بعث به، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل لقتال الجبارين، سأل الجبارون بلعم بن باعوراء أن يدعو على موسى، فقام ليدعو عليه فتحوّل لسانه بالدعاء على أصحابه، فقيل له في ذلك فقال: لا أقدر على أكثر مما تسمعون. واندلع لسانه على صدره، فقال قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة، وسأمكر لكم، وإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم، فإن الله يبغض الزنا، فإن وقعوا فيه هلكوا، فوقع بنو إسرائيل في الزنا، فأرسل الله عليهم الطاعون، فمات منهم سبعون ألفاً. وقيل: إن هذا الرجل اسمه باعم، وهو من بني إسرائيل. وقيل المراد به أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك، فلما أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به. وقيل هو أبو عامر بن صيفي وكان يلبس المسوح في الجاهلية، فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: نزلت في قريش آتاهم الله آياته التي أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا بها. وقيل: نزلت في اليهودوالنصارى، انتظروا خروج محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به.
قوله: {فانسلخ مِنْهَا} أي: من هذه الآيات التي أوتيها، كما تنسلخ الشاة عن جلدها، فلم يبق له بها اتصال {فَأَتْبَعَهُ الشيطان} عند انسلاخه عن الآيات، أي لحقه فأدركه، وصار قريناً له، أو فأتبعه خطواته، وقرئ: {فاتبعه} بالتشديد بمعنى تبعه {فَكَانَ مِنَ الغاوين} المتمكنين في الغواية وهم الكفار.
قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا} الضمير يعود إلى الذي أوتي الآيات، والمعنى: لو شئنا رفعه: بما آتيناه من الآيات لرفعناه بها، أي بسببها، ولكن لم نشأ ذلك لانسلاخه عنها، وتركه للعمل بها. وقيل المعنى: ولو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة بها، أي بالعمل بها {ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض} أصل الإخلاد: اللزوم، يقال أخلد فلان بالمكان إذا قام به ولزمه، والمعنى هنا: أنه مال إلى الدنيا ورغب فيها، وآثرها على الآخرة {واتبع هَوَاهُ} أي: اتبع ما يهواه، وترك العمل بما يقتضيه العلم الذي علمه الله، وهو حطام الدنيا.
وقيل: كان هواه مع الكفار. وقيل: اتبع رضا زوجته، وكانت هي التي حملته على الانسلاخ من آيات الله.
قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب} أي: فصار لما انسلخ عن الآيات ولم يعمل بها منحطاً إلى أسفل رتبة، مشابهاً لأخس الحيوانات في الدناءة مماثلاً له في أقبح أوصافه، وهو أنه يلهث في كلا حالتي قصد الإنسان له وتركه. فهو لاهث سواء زجر أو ترك، طرد أو لم يطرد، شدّ عليه أو لم يشد عليه، وليس بعد هذا في الخسة والدناءة شيء، وجملة {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} في محل نصب على الحال، أي مثله كمثل الكلب حال كونه متصفاً بهذه الصفة، والمعنى: أن هذا المنسلخ عن الآيات لا يرعوى عن المعصية في جميع أحواله، سواء وعظه الواعظ، وذكره المذكر، وزجره الزاجر، أو لم يقع شيء من ذلك.
قال القتيبي: كل شيء يلهث، فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة، وحال المرض، وحال الصحة، وحال الري، وحال العطش. فضربه الله مثلاً لمن كذب بآياته؛ فقال: إن وعظته ضلّ، وإن تركته ضلّ، فهو كالكلب إن تركته لهث، وإن طردته لهث، كقوله تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون} [الأعراف: 193] واللهث: إخراج اللسان لتعب أو عطش أو غير ذلك. قال الجوهري: لهث الكلب بالفتح يلهث لهثاً ولهاثاً بالضم إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش، وكذلك الرجل إذا أعيا. قيل معنى الآية: أنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هارباً، وإن تركته شدّ عليك ونبح، فيتعب نفسه مقبلاً عليك ومديراً عنك، فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم من التمثيل بتلك الحالة الخسيسة. وهو مبتدأ وخبره {مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} أي: ذلك المثل الخسيس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا من اليهود، بعد أن علموا بها وعرفوها، فحرفوا وبدّلوا، وكتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبوا بها {فاقصص القصص} أي فاقصص عليهم هذا القصص الذي هو صفة الرجل المنسلخ عن الآيات، فإن مثله المذكور كمثل هؤلاء القوم المكذبين من اليهود الذين تقص عليهم {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} في ذلك ويعملون فيه أفهامهم، فينزجرون عن الضلال، ويقبلون على الصواب.
قوله: {سَاء مَثَلاً القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} هذه الجملة متضمنة لبيان حال هؤلاء القوم البالغة في القبح إلى الغاية، يقال ساء الشيء قبح، فهو لازم، وساءه يسوؤه مساءة: فهو متعد وهو من أفعال الذم: كبئس، وفاعله ضمير مستتر فيه، و{مثلاً} تمييز مفسر له، والمخصوص بالذم هو {الذين كذبوا بآياتنا} ولابد من تقدير مضاف محذوف لأجل المطابقة، أي: ساء مثلاً مثل القوم الذين كذبوا.
وقال الأخفش: جعل المثل القوم مجازاً، والقوم مرفوع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ، التقدير: ساء المثل مثلاً هو مثل القوم، كذا قال. وقدره أبو علي الفارسي: ساء مثلاً مثل القوم كما قدّمنا. وقرأ الجحدري والأعمش {وَسَاء مَثَلُ القوم}.
قوله: {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} أي: ما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم، لا يتعداها ظلمهم إلى غيرها ولا يتجاوزها. والجملة معطوفة على التي قبلها على معنى أنهم جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى} لما أمر به وشرعه لعباده {وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} الكاملون في الخسران، من هداه فلا مضلّ له، ومن أضله فلا هادي له، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وقد أخرج الفريابي، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن مسعود، في قوله: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءاتيناه ءاياتنا} قال: هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن آبر.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه، من طرق عن ابن عباس قال: هو بلعم بن باعوراء. وفي لفظ: بلعام بن باعر الذي أوتي الاسم كان في بني إسرائيل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءاتيناه ءاياتنا} قال: هو رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعم، تعلم اسم الله الأكبر، فلما نزل بهم موسى أتاه بنو عمه وقومه فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يردّ عنا موسى ومن معه، قال: إني إن دعوت الله أن يردّ موسى ومن معه مضت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا الله فسلخ ما كان فيه. وفي قوله: {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} قال: إن حمل الحكمة لم يحملها، وإن ترك لم يهتد لخير، كالكلب إن كان رابضاً لهث وإن يطرد لهث.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، في الآية قال: هو رجل أعطى ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت: اجعل لي منها واحدة، قال: فلك واحدة فما الذي تريدين؟ قالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا الله فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل؛ فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه، وأرادت شيئاً آخر، فدعا الله أن يجعلها كلبة فصارت كلبة، فذهبت دعوتان، فجاء بنوها فقالوا: ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها، فادع الله أن يردّها إلى الحال التي كانت عليه، فدعا الله فعادت كما كانت فذهبت الدعوات الثلاث وسميت البسوس.
وأخرج عبد بن حميد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عبد الله بن عمرو، في الآية: قال: هو أمية بن أبي الصلت الثقفي، وفي لفظ: نزلت في صاحبكم أمية بن أبي الصلت.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر، عنه نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن الشعبي في هذه الآية قال: قال ابن عباس هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعام بن باعوراء، وكانت الأنصار تقول: هو ابن الراهب الذي بنى له مسجد الشقاق. وكانت ثقيف تقول: هو أمية بن أبي الصلت.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: هو صيفي بن الراهب.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه، في قوله: {فانسلخ مِنْهَا} قال: نزع منه العلم، وفي قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا} قال: رفعه الله بعلمه.
وأخرج مسلم، والنسائي، وابن ماجه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يحمد الله ويثنى عليه بما هو أهله، ثم يقول: «من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» ثم يقول: «بعثت أنا والساعة كهاتين».

.تفسير الآية رقم (179):

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)}
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} أي خلقنا.
وقد تقدّم بيان أصل معناه مستوفى، وهذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها، {لِجَهَنَّمَ} أي: للتعذيب بها {كَثِيراً} أي خلقاً كثيراً {مّنَ الجن والإنس} أي من طائفتي الجنّ والإنس، جعلهم سبحانه للنار بِعَدْ لِه، وبعمل أهلها يعملون.
وقد علم ما هم عاملون قبل كونهم، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، ثم وصف هؤلاء فقال: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} كما يفقه غيرهم بعقولهم. وجملة {لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} في محل رفع على أنها صفة لقلوب. وجملة {لَهُمْ قُلُوبٌ} في محل نصب صفة ل {كثيراً} جعل سبحانه قلوبهم لما كانت غير فاقهة لما فيه نفعهم وإرشادهم، غير فاقهة مطلقاً، وإن كانت تفقه في غير ما فيه النفع والرشاد فهو كالعدم، وهكذا معنى {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} فإن الذي انتقى من الأعين هو إبصار ما فيه الهداية بالتفكر والاعتبار، وإن كانت مبصرة في غير ذلك، والذي انتقى من الآذان هو سماع المواعظ النافعة، والشرائع التي اشتملت عليها الكتب المنزلة. وما جاءت به رسل الله، وإن كانوا يسمعون غير ذلك. والإشارة بقوله: {أولئك} إلى هؤلاء المتصفين بهذه الأوصاف كالأنعام في انتفاء انتفاعهم بهذه المشاعر، ثم حكم عليهم بأنهم أضلّ منها، لأنها تدرك بهذه الأمور ما ينفعها ويضرّها، فينتفع بما ينفع، وتجتنب ما يضرّ، وهؤلاء لا يميزون بين ما ينفع وما يضرّ باعتبار ما طلبه الله منهم وكلفهم به، ثم حكم عليهم بالغفلة الكاملة لما هم عليه من عدم التمييز الذي هو من شأن من له عقل وبصر وسمع.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} قال: خلقنا.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن الحسن في الآية قال خلقنا لجهنم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وابن النجار، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لما ذرأ لجهنم من ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم».
وأخرج ابن جرير، عن مجاهد، في قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} قال: لقد خلقنا لجهنم {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} قال: لا يفقهون شيئاً من أمور الآخرة {وَلَهُمْ آذانٌ لاَّ يَسمَعُونَ بِهَا} الهدى {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} الحق، ثم جعلهم كالأنعام، ثم جعلهم شراً من الأنعام، فقال: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} ثم أخبر أنهم الغافلون.

.تفسير الآية رقم (180):

{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)}
هذه الآية مشتملة على الإخبار من الله سبحانه بماله من الأسماء، على الجملة دون التفصيل، والحسنى تأنيث الأحسن، أي التي هي أحسن الأسماء لدلالتها على أحسن مسمى وأشرف مدلول، ثم أمرهم بأن يدعوه بها عند الحاجة، فإنه إذا دعي بأحسن أسمائه كان ذلك من أسباب الإجابة، وقد ثبت في الصحيح: «إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة» وسيأتي، ويأتى أيضاً بيان عددها، آخر البحث إن شاء الله.
قوله: {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَئِهِ} الإلحاد: الميل وترك القصد. يقال لحد الرجل في الدين وألحد: إذا مال، ومنه اللحد في القبر، لأنه في ناحية، وقرئ: {يلحدون} وهما لغتان، والإلحاد في أسمائه سبحانه يكون على ثلاثة أوجه، إما بالتغيير كما فعله المشركون، فإنهم أخذوا اسم اللات من الله، والعزّى من العزيز، ومناة من المنان؛ أو بالزيادة عليها بأن يخترعوا أسماء من عندهم لم يأذن الله بها، أو بالنقصان منها بأن يدعوه ببعضها دون بعض. ومعنى {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ} أتركوهم ولا تحاجوهم، ولا تعرضوا لهم، وعلى هذا المعنى فالآية منسوخة بآيات القتال، وقيل معناه الوعيد كقوله تعالى: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر: 11]، وقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} [الحجر: 3] وهذا أولى لقوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فإنه وعيد لهم بنزول العقوبة، وتحذير للمسلمين أن يفعلوا كفعلهم.
وقد ذكر مقاتل وغيره من المفسرين، أن هذه الآية نزلت في رجل من المسلمين كان يقول في صلاته يا رحمن يا رحيم، فقال رجل من المشركين أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟ حكى ذلك القرطبي.
وقد أخرج أحمد، والبخاري ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وأبو عوانة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن منده، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين إسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة إنه وتريحب الوتر» وفي لفظ ابن مردويه وأبي نعيم: «من دعا بها استجاب الله دعاءه» وزاد الترمذي في سننه بعد قوله «يحبّ الوتر»: «هو الله الذي لا إله إلا هو الرّحمن الرّحيم، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العليّ، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الوليّ، الحميد، المحصى، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخر، الأوّل، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالى، البرّ، التوّاب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضارّ، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور».
هكذا أخرج الترمذي هذه الزيادة عن الجوزجاني، عن صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم، عن شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعة وقال: هذا حديث غريب.
وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة، ولا يعلم في كثير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. ورواه ابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة، والحاكم من طريق صفوان بإسناده السابق. ورواه ابن ماجه في سننه من طريق أخرى، عن موسى ابن عقبة، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعاً، فسرد الأسماء المتقدّمة بزيادة ونقصان.
قال ابن كثير في تفسيره والذي عوّل عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه. وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم، وعبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك، أي أنهم جمعوها من القرآن كما روي عن جعفر بن محمد، وسفيان بن عيينة، وأبي زيد اللغوي.
قال: ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في التسعة والتسعين، بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن يزيد بن هارون، عن فضيل ابن مرزوق، عن أبي سلمة الجهنى، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أصاب أحداً قط همّ ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك وأمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجاً» فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: «بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها» وقد أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبان في صحيحه بمثله انتهى.
وأخرجه البيهقي أيضاً في الأسماء والصفات.
قال ابن حزم: جاءت في إحصائها، يعني الأسماء الحسنى أحاديث مضطربة لا يصح منها شيء أصلاً.
وقد أخرجها بهذا العدد الذي أخرجه الترمذي، وابن مردويه، وأبو نعيم، عن ابن عباس، وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكراه، ولا أدري كيف إسناده.
وأخرج ابن أبي الدنيا، والطبراني كلاهما في الدعاء، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عن أبي هريرة: إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة: أسأل الله الرحمن، الرحيم، الإله، الربّ، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصوّر، الحليم، العليم، السميع، البصير، الحي، القيوم، الواسع، اللطيف، الخبير، الحنان، المنان، البديع، الغفور، الودود، الشكور، المجيد، المبدئ، المعيد، النور، البارئ- وفي لفظ: القائم- الأوّل، الآخر، الظاهر، الباطن، العفوّ، الغفار، الوهاب، الفرد- وفي لفظ: القادر- الأحد، الصمد، الوكيل، الكافي، الباقي، المغيث، الدائم، المتعالي، ذا الجلال والإكرام، المولى، البصير، الحق، المتين، الوارث، المنير، الباعث، القدير- وفي لفظ: المجيب- المحيي، المميت الحميد- وفي لفظ: الجميل- الصادق، الحفيظ، المحيط، الكبير، القريب، الرقيب، الفتاح، التواب، القديم، الوتر، الفاطر، الرزاق، العلام، العلي، العظيم، الغني، الملك، المقتدر، الأكرم، الرؤوف، المدبر، المالك، القاهر، الهادي، الشاكر، الكريم، الرفيع، الشهيد، الواحد، ذا الطول، ذا المعارج، ذا الفضل، الخلاق، الكفيل، الجليل.
وأخرج أبو نعيم عن محمد بن جعفر قال: سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة؟ فقال: هي في القرآن، ففي الفاتحة خمسة أسماء: يا الله، يا ربّ، يا رحمن، يا رحيم، يا ملك. وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسماً: يا محيط، يا قدير، يا عليم، يا حكيم، يا علي، يا عظيم، يا تواب، يا بصير، يا ولي، يا واسع، يا كافي، يا رؤوف، يا بديع، يا شاكر، يا واحد، يا سميع، يا قابض، يا باسط، يا حيّ، يا قيوم، يا غني، يا حميد، يا غفور، يا حليم، يا إله، يا قريب، يا مجيب، يا عزيز، يا نصير، يا قوي، يا شديد، يا سريع، يا خبير. وفي آل عمران: يا وهاب، يا قائم، يا صادق، يا باعث، يا منعم، يا متفضل. وفي النساء: يا رقيب، يا حسيب، يا شهيد، يا مقيت، يا وكيل، يا عليّ، يا كبير. وفي الأنعام: يا فاطر، يا قاهر، يا لطيف، يا برهان. وفي الأعراف: يا محيي، يا مميت. وفي الأنفال: يا نعم المولى، ويا نعم النصير، وفي هود: يا حفيظ، يا مجيد، يا ودود، يا فعال لما تريد. وفي الرعد: يا كبير، يا متعالي. وفي إبراهيم: يا منان، يا وارث. وفي الحجر: يا خلاق. وفي مريم: يا فرد. وفي طه: يا غفار. وفي قد أفلح: يا كريم. وفي النور: يا حق، يا مبين. وفي الفرقان: يا هادي. وفي سبأ: يا فتاح. وفي الزمر: يا عالم. وفي غافر: يا قابل التوب، ياذا الطول، يا رفيع. وفي الذاريات: يا رزاق، ياذا القوة، يا متين. وفي الطور: يا برّ. وفي اقتربت: يا مقتدر، يا مليك. وفي الرحمن: ياذا الجلال والإكرام، يا رب المشرقين، يا ربّ المغربين، يا باقي، يا معين.
وفي الحديد: يا أوّل، يا آخر، يا ظاهر، يا باطن. وفي الحشر: يا ملك، يا قدّوس، يا سلام، يا مؤمن، يا مهيمن، يا عزيز، يا جبار، يا متكبر، يا خالق، يا بارئ، يا مصوّر. وفي البروج: يا مبدئ، يا معيد. وفي الفجر: يا وتر. وفي الإخلاص: يا أحد، يا صمد. انتهى.
وقد ذكر ابن حجر في التلخيص أنه تتبعها من الكتاب العزيز إلى أن حرّرها منه تسعة وتسعين ثم سردها فابحثه. ويؤيد هذا ما أخرجه أبو نعيم، عن ابن عباس، وابن عمر، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة، وهي في القرآن».
وأخرج البيهقي، عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله علمني اسم الله الذي إذا دعى به أجاب، قال لها: «قومي فتوضيء وادخلي المسجد فصلي ركعتين ثم ادعي حتى أسمع»، ففعلت؛ فلما جلست للدعاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم وفقها»، فقالت: اللهمّ إني أسألك بجميع أسمائك الحسنى كلها ما علمنا منها وما لم نعلم، وأسألك باسمك العظيم الأعظم الكبير، الأكبر، الذي من دعاك به أجبته، ومن سألك به أعطيته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصبتيه أصبتيه» وقد أطال أهل العلم الكلام على الأسماء الحسنى حتى أن ابن العربي في شرح الترمذي حكى عن بعض أهل العلم أنه جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَئِهِ} قال: الإلحاد، أن يدعو اللات والعزّى في أسماء الله.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه، قال: الإلحاد التكذيب.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في الآية قال: اشتقوا العزّى من العزيز، واشتقوا اللات من الله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء في الآية قال: الإلحاد المضاهاة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش أنه قرأ: {يلحدون} من لحد، وقال تفسيرها: يدخلون فيها ما ليس منها.
وأخرج عبد الرزاق بن حميد، وابن جرير، عن قتادة، في الآية قال: يشركون.