فصل: تفسير الآيات (20- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (20- 23):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}
أمر الله سبحانه المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، ونهاهم عن التولي عن رسوله، فالضمير في {عَنْهُ} عائد إلى الرسول، لأن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي من طاعة الله، و{مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] ويحتمل أن يكون هذا الضمير راجعاً إلى الله وإلى رسوله، كما في قوله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وقيل: الضمير راجع إلى الأمر الذي دلّ عليه {أطيعوا} وأصل تولوا: تتولوا، فطرحت إحدى التاءين، هذا تفسير الآية على ظاهر الخطاب للمؤمنين، وبه قال الجمهور.
وقيل: إنه خطاب للمنافقين، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم فقط. قال ابن عطية: وهذا وإن كان محتملاً على بعد فهو ضعيف جدّاً، لأن الله وصف من خاطبه في هذه الآية بالإيمان وهو التصديق.
والمنافقون لا يتصفون من التصديق بشيء، وأبعد من هذا من قال: الخطاب لبني إسرائيل، فإنه أجنبيّ من الآية. وجملة {وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} في محل نصب على الحال، والمعنى: وأنتم تسمعون ما يتلى عليكم من الحجج والبراهين وتصدقون بها ولستم كالصمّ البكم {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا} وهم المشركون أو المنافقون أو اليهود أو الجميع من هؤلاء، فإنهم يسمعون بآذانهم من غير فهم ولا عمل، فهم كالذي لم يسمع أصلاً؛ لأنه لم ينتفع بما سمعه.
ثم أخبر سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدواب} أي: ما دبّ على الأرض {عَندَ الله} أي: في حكمه {الصم البكم} أي: الذين لا يسمعون ولا ينطقون، وصفوا بذلك مع كونهم ممن يسمع وينطق، لعدم انتفاعهم بالسمع والنطق {الذين لاَ يَعْقِلُونَ} ما فيه النفع لهم فيأتونه، وما فيه الضرر عليهم فيجتنبونه، فهم شرّ الدوابّ عند الله، لأنها تميز بعض تمييز، وتفرق بين ما ينفعها ويضرّها.
{وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ} أي: في هؤلاء الصمّ البكم {خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ} سماعاً ينتفعون به، ويتعقلون عنده الحجج والبراهين. قال الزجاج {لاسْمَعَهُمْ} جواب كل ما سألوا عنه. وقيل: {لأسْمَعَهُمْ} كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم، لأنهم طلبوا إحياء قصيّ بن كلاب وغيره؛ ليشهدوا بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} لأنه قد سبق في علمه أنهم لا يؤمنون. وجملة {وَهُم مُّعْرِضُونَ} في محل نصب على الحال.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} قال: عاصون.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عليّ بن أبي طالب، في قوله: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله} الآية قال: إن هذه الآية نزلت في فلان وأصحاب له.
وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبخاري، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله} قال هم نفر من قريش من بني عبد الدار.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، في قوله: {الصم البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ} قال: لا يتبعون الحق.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، قال: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث وقومه، ولعله المكنى عنه بفلان فيما تقدّم من قول عليّ رضي الله عنه.
وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن عروة بن الزبير، في قوله: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ} أي: لأنفذ لهم قولهم الذي قالوا بألسنتهم، ولكنّ القلوب خالفت ذلك منهم.
وأخرج أبو الشيخ، عن عكرمة، في الآية قال: قالوا نحن صمّ عما يدعونا إليه محمد لا نسمعه، بكم لا نجيبه فيه بتصديق، قتلوا جميعاً بأحد، وكانوا أصحاب اللواء يوم أحد.

.تفسير الآيات (24- 25):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)}
الأمر هنا بالاستجابة مؤكد لما سبق من الأمر بالطاعة، ووحد الضمير هنا حيث قال: {إِذَا دَعَاكُمْ} كما وحده في قوله: {وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ} [الأنفال: 20] وقد قدّمنا الكلام في وجه ذلك، والاستجابة: الطاعة. قال أبو عبيدة معنى استجيبوا: أجيبوا. وإن كان استجاب يتعدّى باللام، وأجاب بنفسه كما في قوله: {ياقومنا أَجِيبُواْ دَاعِىَ الله} [الأحقاف: 31]، وقد يتعدّى استجاب بنفسه كما في قول الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

{إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} اللام متعلقة بقوله: {استجيبوا} أي: استجيبوا لما يحييكم إذا دعاكم، ولا مانع من أن تكون متعلقة بدعا أي إذا دعاكم إلى ما فيه حياتكم من علوم الشريعة، فإن العلم حياة، كما أن الجهل موت. فالحياة هنا مستعارة للعلم. قال الجمهور من المفسرين: المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواه ففيه الحياة الأبدية، والنعمة السرمدية. وقيل المراد بقوله: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} الجهاد، فإنه سبب الحياة في الظاهر، لأن العدوّ إذا لم يغز غزا.
ويستدلّ بهذا الأمر بالاستجابة على أنه يجب على كل مسلم إذا بلغه قول الله أو قول رسوله في حكم من الأحكام الشرعية أن يبادر إلى العمل به كائناً ما كان، ويدع ما خالفه من الرأي وأقوال الرجال. وفي هذه الآية الشريفة أعظم باعث على العمل بنصوص الأدلة، وترك التقيد بالمذاهب، وعدم الاعتداد بما يخالف ما في الكتاب والسنة كائناً ما كان.
قوله: {واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} قيل معناه: بادروا إلى الاستجابة قبل أن لا تتمكنوا منها بزوال القلوب التي تعقلون بها بالموت الذي كتبه الله عليكم. وقيل معناه: إنه خاف المسلمون يوم بدر كثرة العدوّ، فأعلمهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدلهم بعد الخوف أمناً، ويبدل عدوّهم من الأمن خوفاً. وقيل هو: من باب التمثيل لقربه سبحانه من العبد كقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] ومعناه: أنه مطلع على ضمائر القلوب، لا تخفى عليه منها خافية.
واختار ابن جرير أن هذا من باب الإخبار من الله عزّ وجلّ بأنه أملك لقلوب عباده منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئته عزّ وجلّ. ولا يخفاك أنه لا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني. {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} معطوف على {أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} وأنكم محشورون إليه، وهو مجازيكم بالخير خيراً، وبالشرّ شرّاً. قال الفراء: ولو استأنفت فكسرت همزة {إنَّه} لكان صواباً. ولعل مراده أن مثل هذا جائز في العربية.
قوله: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} أي: اتقوا فتنة تتعدّى الظالم فتصيب الصالح والطالح، ولا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم.
وقد اختلف النحاة في دخول هذه النون المؤكدة في {تُصِيبَنَّ} فقال الفراء: هو بمنزلة قولك: انزل عن الدابة لا تطرحنك، فهو جواب الأمر بلفظ النهى، أي إن تنزل عنها لا تطرحنك، ومثله قوله تعالى: {ادخلوا مساكنكم لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ} [النمل: 18] أي: إن تدخلوا لا يحطمنكم. فدخلت النون لما فيه من معنى الجزاء.
وقال المبرد: إنه نهى بعد أمر. والمعنى: النهي للظالمين، أي لا يقربنّ الظلم، ومثله ما روى عن سيبويه لا أرينك هاهنا. فإن معناه: لا تكن هاهنا، فإن من كان ها هنا رأيته.
وقال الجرجاني: إن {لا تصيبنّ} نهي في موضع وصف لفتنة. وقرأ عليّ، وزيد بن ثابت، وأبيّ وابن مسعود: {لتصيبنّ} على أن اللام جواب لقسم محذوف، والتقدير: اتقوا فتنة والله لتصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة. فيكون معنى هذه القراءة مخالفاً لمعنى قراءة الجماعة، لأنها تفيد أن الفتنة تصيب الظالم خاصة، بخلاف قراءة الجماعة.
{واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} ومن شدّة عقابه أنه يصيب بالعذاب من لم يباشر أسبابه، وقد وردت الآيات القرآنية بأنه لا يصاب أحد إلا بذنبه، ولا يعذب إلا بجنايته، فيمكن حمل مافي هذه الآية على العقوبات التي تكون بتسليط العباد بعضهم على بعض. ويمكن أن تكون هذه الآية خاصة بالعقوبات العامة، والله أعلم. ويمكن أن يقال: إن الذين لم يظلموا قد تسببوا للعقوبة بأسباب: كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتكون الأسباب المتعدّية للظالم إلى غيره مختصة بمن ترك ما يجب عليه عند ظهور الظلم.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} قال: للحق.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في الآية: قال هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة.
وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن عروة بن الزبير، في قوله: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} أي: للحرب التي أعزّكم الله بها بعد الذلّ. وقوّاكم بها بعد الضعف، ومنعكم بها من العذاب بعد القهر منهم لكم.
وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد بن المعلي، قال كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال: «ألم يقل الله تعالى: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم}» الحديث. وفيه دليل على ما ذكرنا من أن الآية تعمّ كل دعاء من الله أو من رسوله.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه من طرق، عن ابن عباس، في قوله: {واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} قال: يحول بين المؤمن وبين الكفر ومعاصي الله. ويحول بين الكافر وبين الإيمان وطاعة الله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الربيع بن أنس، في الآية قال علمه يحول بين المرء وقلبه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في الآية قال: يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل.
وأخرج عبد بن حميد، عن الحسن، في الآية قال: في القرب منه.
وأخرج أحمد، والبزار، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن عساكر، عن مطرف، قال: قلت للزبير يا أبا عبد الله ضيعتم الخليفة حتى قتل، ثم جئتم تطلبون بدمه. قال الزبير: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} ولم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن، قال: قرأ الزبير {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} قال: البلاء والأمر الذي هو كائن.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن الحسن، في الآية قال: نزلت في عليّ وعثمان وطلحة والزبير.
وأخرج عبد بن حميد، عن الضحاك قال نزلت في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن السديّ قال: نزلت في أهل بدر خاصة، فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا، فكان من المقتولين طلحة والزبير، وهما من أهل بدر.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في الآية قال: تصيب الظالم والصالح عامة.
وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد مثله.
وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: هي مثل {يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} حتى يتركه لا يعقل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في الآية قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأن هذه الأمة إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، عمهم الله بعذاب من عنده.

.تفسير الآيات (26- 28):

{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)}
الخطاب بقوله: {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} للمهاجرين، أي اذكروا وقت قلتكم، و{مُّسْتَضْعَفُونَ} خبر ثان للمبتدأ، والأرض هي أرض مكة، والخطف: الأخذ بسرعة، والمراد بالناس: مشركو قريش. وقيل: فارس والروم {فَآوَاكُمْ} يقال: آوى إليه بالمد وبالقصر بمعنى: انضم إليه. فالمعنى: ضمكم الله إلى المدينة أو إلى الأنصار {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} أي: قوّاكم بالنصر في مواطن الحرب التي منها يوم بدر، أو قوّاكم بالملائكة يوم بدر {وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} التي من جملتها الغنائم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: إرادة أن تشكروا هذه النعم، التي أنعم بها عليكم، والخون أصله كما في الكشاف: النقص. كما أن الوفاء التمام، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان. وقيل معناه: الغدر وإخفاء الشيء. ومنه قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاعين} [غافر: 19] نهاهم الله عن أن يخونوه بترك شيء مما افترضه عليهم، أو يخونوا رسوله بترك شيء مما أمنهم عليه، أو بترك شيء مما سنه لهم، أو يخونوا شيئاً من الأمانات التي اؤتمنوا عليها، وسميت أمانات لأنه يؤمن معها من منع الحق، مأخوذة من الأمن.
وجملة {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} في محل نصب على الحال، أي وأنتم تعلمون أن ذلك الفعل خيانة، فتفعلون الخيانة عن عمد، أو وأنتم من أهل العلم لا من أهل الجهل. ثم قال: {واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ} لأنهم سبب الوقوع في كثير من الذنوب، فصاروا من هذه الحيثية محنة يختبر الله بها عباده، وإن كانوا من حيثية أخرى زينة الحياة الدنيا كما في الآية الأخرى {وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} فآثروا حقه على أموالكم وأولادكم، ليحصل لكم ما عنده من الأجر المذكور.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {واذكروا إِذَ أَنتُمْ قَلِيلٌ} قال: كان هذا الحيّ من العرب أذلّ الناس ذلاً، وأشقاه عيشاً، وأجوعه بطوناً، وأعراه جلوداً، وأبينه ضلالة، من عاش عاش شقياً، ومن مات منهم ردّي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، لا والله ما نعلم قبيلاً من حاضري الأرض يومئذ كان أشرّ منزلاً منهم حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس. وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله عزّ وجلّ.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، في قوله: {يَتَخَطَّفَكُمُ الناس} قال: في الجاهلية بمكة {فَآوَاكُمْ} إلى الإسلام.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن وهب، في قوله: {يَتَخَطَّفَكُمُ الناس} قال: الناس إذ ذاك فارس والروم.
وأخرج أبو الشيخ، وأبو نعيم، والديلمي، في مسند الفردوس، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في قوله: {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ في الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس} قيل: يا رسول الله ومن الناس؟ قال: «أهل فارس».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله: {فَآوَاكُمْ} قال: إلى الأنصار بالمدينة {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} قال: يوم بدر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن جابر بن عبد الله، أن أبا سفيان خرج من مكة، فأتى جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا»، فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان إن محمداً يريدكم فخذوا حذركم، فأنزل الله: {ياأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول} الآية.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عبد الله بن أبي قتادة، قال: نزلت هذه الآية {لاَ تَخُونُواْ الله والرسول} في أبي لبابة بن عبد المنذر، سألوه يوم قريظة ما هذا الأمر؟ فأشار إلى حلقه أنه الذبح، فنزلت. قال أبو لبابة: ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله.
وأخرج سنيد، وابن جرير، عن الزهري نحوه بأطول منه.
وأخرج عبد بن حميد، عن الكلبي أن رسول الله بعث أبا لبابة إلى قريظة وكان حليفاً لهم، فأومأ بيده أنه الذبح، فنزلت.
وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، في هذه الآية: أنها نزلت في أبي لبابة، ونسختها الآية التي في براءة {وَءاخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102].
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {لاَ تَخُونُواْ الله} قال: بترك فرائضه {والرسول} بترك سننه، وارتكاب معصيته {وَتَخُونُواْ أماناتكم} يقول: لا تنقصوها. والأمانة: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد.
وأخرج ابن جرير، عن المغيرة بن شعبة، قال: نزلت هذه الآية في قتل عثمان. ولعل مراده أن من جملة من يدخل تحت عمومها قتل عثمان.
وأخرج أبو الشيخ، عن يزيد بن أبي حبيب، في الآية قال: هو الإخلال بالسلاح في المغازي، ولعل مراده أن هذا مما يندرج تحت عمومها.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن مسعود، قال: ما منكم من أحد إلا وهو يشتمل على فتنة، لأن الله يقول: {إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ} فمن استعاذ منكم، فليستعذ بالله من مضلات الفتن.
وأخرج هؤلاء عن ابن زيد في الآية قال: فتنة الإختبار اختبرهم، وقرأ و{وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35].