فصل: تفسير الآية رقم (29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (29):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}
جعل سبحانه التقوى شرطاً في الجعل المذكور، مع سبق علمه بأنهم يتقون أو لا يتقون جرياً على ما يخاطب به الناس بعضهم بعضاً. والتقوى: اتقاء مخالفة أوامره والوقوع في مناهيه. والفرقان: ما يفرق به بين الحق والباطل، والمعنى: أنه يجعل لهم من ثبات القلوب، وثقوب البصائر، وحسن الهداية ما يفرقون به بينهما عند الالتباس. وقيل: الفرقان المخرج من الشبهات والنجاة من كل ما يخافونه، ومنه قول الشاعر:
مالك من طول الأسى فرقان ** بعد قطين رحلوا وبانوا

ومنه قول الآخر:
وكيف أرجو الخلد والموت طالبي ** وما لي من كأس المنية فرقان

وقال الفراء: المراد بالفرقان الفتح والنصر. قال ابن إسحاق: الفرقان الفصل بين الحق والباطل، وبمثله قال ابن زيد، وقال السديّ: الفرقان النجاة، ويؤيد تفسير الفرقان بالمخرج والنجاة. قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] وبه قال مجاهد ومالك بن أنس.
{وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ} أي: يسترها حتى تكون غير ظاهرة {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ما اقترفتم من الذنوب.
وقد قيل إن المراد بالسيئات: الصغائر، وبالذنوب التي تغفر: الكبائر. وقيل المعنى: أنه يغفر لهم ما تقدّم من الذنوب وما تأخر {والله ذُو الفضل العظيم} فهو المتفضل على عباده بتكفير السيئات ومغفرة الذنوب.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} قال: هو المخرج.
وأخرج ابن جرير عنه، قال: هو: النجاة.
وأخرج ابن جرير، عن عكرمة، مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، قال: هو النصر.

.تفسير الآيات (30- 33):

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)}
قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} الظرف معمول لفعل محذوف، أي: واذكر يا محمد وقت مكر الكافرين بك، أو معطوف على ما تقدّم من قوله: {واذكروا} ذكر الله رسوله هذه النعمة العظمى التي أنعم بها عليه، وهي نجاته من مكر الكافرين وكيدهم كما سيأتي بيانه {لِيُثْبِتُوكَ} أي: يثبتوك بالجراحات، كما قال ثعلب وأبو حاتم، وغيرهما، ومنه قول الشاعر:
فقلت ويحكم ما في صحيفتكم ** قالوا الخليفة أمسى مثبتاً وجعا

وقيل: المعنى ليحبسوك، يقال أثبته: إذا حبسه. وقيل: ليوثقوك، ومنه: {فَشُدُّواْ الوثاق} [محمد: 4]. وقرأ الشعبي {ليبيتوك} من البيات. وقرئ: {ليثبتوك} بالتشديد {أَوْ يُخْرِجُوكَ} معطوف على ما قبله، أي يخرجوك من مكة التي هي بلدك وبلد أهلك. وجملة: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله} مستأنفة. والمكر: التدبير في الأمر في خفية. والمعنى: أنهم يخفون ما يعدّونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المكايد، فيجازيهم الله على ذلك ويردّ كيدهم في نحورهم. وسمى ما يقع منه تعالى مكراً مشاكلة، كما في نظائره {والله خَيْرُ الماكرين} أي: المجازين لمكر الماكرين بمثل فعلهم، فهو يعذبهم على مكرهم من حيث لا يشعرون، فيكون ذلك أشدّ ضرراً عليهم وأعظم بلاء من مكرهم.
قوله: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا} أي التي تأتيهم بها، وتتلوها عليهم {قَالُواْ} تعنتاً وتمرّداً وبعداً عن الحق {قَدْ سَمِعْنَا} ما تتلوه علينا {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} الذي تلوته علينا. قيل: إنهم قالوا هذا توهماً منهم أنهم يقدرون على ذلك. فلما راموا أن يقولوا مثله عجزوا عنه. ثم قالوا عناداً وتمرّداً {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين} أي: ما يستطره الوراقون من أخبار الأوّلين، وقد تقدّم بيانه مستوفى.
{وَإِذْ قَالُواْ} أي: واذكر إذ قالوا {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} بنصب الحق على أنه خبر كان، والضمير للفصل، ويجوز الرفع. قال الزجاج: ولا أعلم أحداً قرأ بها، ولا اختلاف بين النحويين في إجازتها، ولكن القراءة سنة، والمعنى: إن كان القرآن الذي جاءنا به محمد هو الحق، {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا} قالوا هذه المقالة مبالغة في الجحود والإنكار. قال أبو عبيدة: يقال أمطر في العذاب، ومطر في الرحمة.
وقال في الكشاف: قد كثر الإمطار في معنى العذاب.
{أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} سألوا أن يعذبوا بالرجم بالحجارة من السماء، أو بغيرها من أنواع العذاب الشديد. فأجاب الله عليهم بقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ} يا محمد {فِيهِمْ} موجود، فإنك ما دمت فيهم فهم في مهلة من العذاب الذي هو الاستئصال {وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} روي أنهم كانوا يقولون في الطواف غفرانك، أي: وما كان الله معذبهم في حال كونهم يستغفرونه.
وقيل المعنى: لو كانوا ممن يؤمن بالله ويستغفره لم يعذبهم. وقيل إن الاستغفار راجع إلى المسلمين الذين هم بين أظهرهم، أي وما كان الله ليعذبهم وفيهم من يستغفر من المسلمين، فلما خرجوا من بين أظهرهم عذبهم بيوم بدر وما بعده. وقيل المعنى: وما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر الله.
وقد أخرج عبد الرزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل، والخطيب، عن ابن عباس، في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} قال: تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله نبيه على ذلك، فبات عليّ على فراش النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوه علياً ردّ الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ فقال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمرّوا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم، والبيهقي، عن ابن عباس، فذكر القصة بأطول مما هنا. وفيها ذكر الشيخ النجدي أي إبليس ومشورته عليهم عند اجتماعهم في دار الندوة للمشاورة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أبا جهل أشار بأن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش غلاماً، ويعطوا كل واحد منهم سيفاً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرّق دمه في القبائل، فقال الشيخ النجدي: هذا والله هو الرأي، فتفرّقوا على ذلك.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عبيد بن عمير، قال: لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، قال له عمه أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: «يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني»، قال: من حدّثك بهذا؟ قال: «ربي»، قال: نعم الربّ ربك استوص به خيراً، قال: «أنا أستوصي به؟ بل هو يستوصي بي».
وأخرجه ابن جرير من طريق أخرى عنه. وهذا لا يصح، فقد كان أبو طالب مات قبل وقت الهجرة بسنين.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {وَإِذ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} قال: قال عكرمة هي مكية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عطاء في قوله: {لِيُثْبِتُوكَ} يعني: ليوثقوك.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن سعيد بن جبير، قال: قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبراً عقبة بن أبي معيط، وطعيمة بن عديّ، والنضر بن الحارث، وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله قال المقداد: يا رسول الله أسيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول»، قال: وفيه أنزلت هذه الآية {وَإِذا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا} وهذا مرسل.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ أنها نزلت في النضر بن الحارث.
وأخرج البخاري، وابن أبي حاتم، وابن الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي، عن أنس بن مالك قال: قال أبو جهل بن هشام {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} الآية فنزلت: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ} الآية.
وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة، أنها نزلت في أبي جهل.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، في الآية، أنها نزلت في النضر بن الحارث.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ عن مجاهد مثله.
وأخرج ابن جرير، عن عطاء، نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال: كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، ويقولون: غفرانك غفرانك، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ} الآية.
قال ابن عباس، كان فيهم أمانان: النبي صلى الله عليه وسلم، والاستغفار، فذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبقي الاستغفار.
وأخرج الترمذي وضعفه، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنزل الله عليّ أمانين لأمتي {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ} الآية، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار».
وأخرج أبو الشيخ، والحاكم وصححه، والبهيقي في شعب الإيمان، عن أبي هريرة قال: كان فيكم أمانان مضى أحدهما وبقي الآخر، قال: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ} الآية.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس نحوه.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، والطبراني وابن مردويه، والحاكم، وابن عساكر، عن أبي موسى الأشعري نحوه أيضاً، والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مطلق الاستغفار كثيرة جدّاً معروفة في كتب الحديث.

.تفسير الآيات (34- 37):

{وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)}
قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله} لما بيّن سبحانه أن المانع من تعذيبهم هو الأمران المتقدمان وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهورهم، ووقوع الاستغفار. ذكر بعد ذلك أن هؤلاء الكفار، أعني: كفار مكة، مستحقون لعذاب الله لما ارتكبوا من القبائح. والمعنى: أيّ شيء لهم يمنع من تعذيبهم؟ قال الأخفش: إن (أن) زائدة. قال النحاس: لو كان كما قال لرفع {يعذبهم} وجملة: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام} في محل نصب على الحال، أي وما يمنع من تعذيبهم؟ والحال أنهم يصدّون الناس عن المسجد الحرام، كما وقع منهم عام الحديبية من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من البيت، وجملة {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ} في محل نصب على أنها حال من فاعل {يَصِدُّونَ} وهذا كالردّ لما كانوا يقولونه من أنهم ولاة البيت، وأن أمره مفوّض إليهم، ثم قال مبيناً لمن له ذلك: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون} أي: ما أولياؤه إلا من كان في عداد المتقين للشرك والمعاصي {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك، والحكم على الأكثرين بالجهل يفيد أن الأقلين يعلمون ولكنهم يعاندون.
قوله: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً} المكاء: الصفير من مكا يمكو مكاء، ومنه قول عنترة:
وخليل غانية تركت مجندلا ** تمكو فريصته كشدق الأعلم

أي: تصوّت. ومنه مكت است الدابة: إذا نفخت بالريح، قيل المكاء: هو الصفير على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء. قال الشاعر:
إذا غرّد المكاء في غير دوحة ** فويل لأهل الشاء والحمرات

والتصدية: التصفيق، يقال صدّى يصدّى تصدية: إذا صفق، ومنه قول عمر بن الإطنابة:
وظلوا جميعاً لهم ضجة ** مكاء لدى البيت بالتصدية

أي بالتصفيق. وقيل المكاء: الضرب بالأيدي، والتصدية: الصياح. وقيل المكاء: إدخالهم أصابعهم في أفواههم، والتصدية: الصفير. وقيل التصدية: صدّهم عن البيت. قيل: والأصل على هذا تصددة، فأبدل من إحدى الدالين ياء. ومعنى الآية: أن المشركين كانوا يصفرون ويصفقون عند البيت الذي هو موضع للصلاة والعبادة، فوضعوا ذلك موضع الصلاة، قاصدين به أن يشغلوا المصلين من المسلمين عن الصلاة. وقرئ بنصب {صلاتهم} على أنها خبر كان، وما بعده اسمها. قوله: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} هذا التفات إلى مخاطبة الكفار تهديداً لهم ومبالغة في إدخال الروعة في قلوبهم، والمراد به: عذاب الدنيا كيوم بدر وعذاب الآخرة.
قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} لما فرغ سبحانه من شرح أحوال هؤلاء الكفرة في الطاعات البدنية، أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية. والمعنى: أن غرض هؤلاء الكفار في إنفاق أموالهم هو الصدّ عن سبيل الحق، بمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع الجيوش لذلك، وإنفاق أموالهم عليها، وذلك كما وقع من كفار قريش يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب.
فإن الرؤساء كانوا ينفقون أموالهم على الجيش، ثم أخبر الله سبحانه عن الغيب على وجه الإعجاز فقال: {فَسَيُنفِقُونَهَا} أي: سيقع منهم هذا الإنفاق {ثُمَّ تَكُونُ} عاقبة ذلك أن يكون إنفاقهم حسرة عليهم، وكأن ذات الأموال تنقلب حسرة تصير ندماً. {ثُمَّ} آخر الأمر {يُغْلَبُونَ} كما وعد الله به في مثل قوله: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21]. ومعنى {ثُمَّ} في الموضعين إما التراخي في الزمان لما بين الإنفاق المذكور، وبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد، وإما التراخي في الرتبة لما بين بذل المال وعدم حصول المقصود من المباينة، ثم قال: {والذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} أي: استمرّوا على الكفر، لأن من هؤلاء الكفار المذكورين سابقاً من أسلم وحسن إسلامه، أي يساقون إليها لا إلى غيرها. ثم بيّن العلة التي لأجلها فعل بهم ما فعله فقال: {لِيَمِيزَ الله الخبيث} أي: الفريق الخبيث من الكفار {مِنْ} الفريق {الطيب} وهم المؤمنون {وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ} أي: يجعل فريق الكفار الخبيث بعضه على بعض {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} عبارة عن الجمع والضم، أي يجمع بعضهم إلى بعض، ويضمّ بعضهم إلى بعض حتى يتراكموا لفرط ازدحامهم. يقال ركم الشيء يركمه: إذا جمعه وألقى بعضه على بعض. والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الفريق الخبيث {هُمُ الخاسرون} أي: الكاملون في الخسران. وقيل: الخبيث والطيب: صفة للمال، والتقدير يميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون، فيضمّ تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض، فيلقيه في جهنم ويعذبهم بها، كما في قوله تعالى: {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة: 35]. قال في الكشاف: واللام على هذا متعلقة بقوله: {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} وعلى الأوّل ب {يحشرون} و{أولئك} إشارة إلى الذين كفروا. انتهى.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس {وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ثم استثنى أهل الشرك فقال: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله}.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن سعيد بن جبير، في قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله} قال: عذابهم فتح مكة.
وأخرج ابن إسحاق، وأبو حاتم، عن عباد بن عبد الله بن الزبير {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله} وهم يجحدون بآيات الله ويكذبون رسله.
وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن عروة بن الزبير، في قوله: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام} أي: من آمن بالله وعبده، أنت ومن اتبعك {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون} الذين يخرجون منه ويقيمون الصلاة عنده، أي أنت ومن آمن بك.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون} قال: من كانوا حيث كانوا.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن سعيد بن جبير، قال: كانت قريش يعارضون النبيّ صلى الله عليه وسلم في الطواف، ويستهزئون ويصفرون ويصفقون، فنزلت: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً}.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والضياء عن ابن عباس، قال: كانت قريش يطوفون بالكعبة عراة تصفر وتصفق، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً} قال: والمكاء الصفير، إنما شبهوا بصفير الطير، وتصدية: التصفيق وأنزل الله فيهم: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله} [الأعراف: 32].
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، نحوه.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عنه نحوه أيضاً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عمر قال: المكاء الصفير، والتصدية: التصفيق.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال: المكاء إدخال أصابعهم في أفواههم، والتصدية الصفير، يخلطون بذلك كله على محمد صلى الله عليه وسلم صلاته.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ: قال: المكاء الصفير على نحو طير أبيض يقال له المكاء يكون بأرض الحجاز، والتصدية: التصفيق.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، في قوله: {إِلاَّ مُكَاء} قال: كانوا يشبكون أصابعهم ويصفرون فيهنّ {وَتَصْدِيَةً} قال: صدّهم الناس.
وأخرج عبد بن حميد، عن عكرمة قال: كان المشركون يطوفون بالبيت على الشمال. وهو قوله: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً} فالمكاء مثل نفخ البوق، والتصدية: طوافهم على الشمال.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الضحاك في قوله: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} قال: يعني أهل بدر عذبهم الله بالقتل والأسر.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، كلهم من طريقه، قال: حدّثني الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحسين بن عبد الرحمن بن عمرو قالوا: لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينوا بهذا المال على حربه فلعلنا أن ندرك منه ثاراً.
ففعلوا، ففيهم كما ذكر ابن عباس، أنزل الله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} إلى {والذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد نحوه.
وأخرج هؤلاء وغيرهم عن سعيد بن جبير نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحكم بن عتيبة، في الآية قال: نزلت في أبي سفيان أنفق على مشركي قريش يوم أحد أربعين أوقية من ذهب، وكانت الوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالاً من ذهب.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن شمر بن عطية، في قوله: {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} قال: يميز يوم القيامة ما كان من عمل صالح في الدنيا، ثم تؤخذ الدنيا بأسرها فتلقى في جهنم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن زيد، في قوله: {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} قال: يجمعه جميعاً.