فصل: تفسير الآيات (55- 60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (55- 60):

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)}
قوله: {إِنَّ شَرَّ الدواب} أي: شرّ ما يدب على وجه الأرض {عَندَ الله} أي: في حكمه {الذين كَفَرُواْ} أي: المصرّون على الكفر المتمادون في الضلال. ولهذا قال: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: إن هذا شأنهم لا يؤمنون أبداً، ولا يرجعون عن الغواية أصلاً، وجعلهم شرّ الدوابّ لا شرّ الناس إيماء إلى انسلاخهم عن الإنسانية، ودخولهم في جنس غير الناس من أنواع الحيوان لعدم تعقلهم لما فيه رشادهم. قوله: {الذين عاهدت مِنْهُمْ} بدل من الذين كفروا أو عطف بيان أو في محل نصب على الذمّ. والمعنى: أن هؤلاء الكافرين الذين همّ شرّ الدوابّ عند الله هم هؤلاء الذين عاهدت منهم، أي أخذت منهم عهدهم، ثُمَّ هم {يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ} الذي عاهدتهم {فِي كُلّ مَرَّةٍ} من مرّات المعاهدة، والحال أنهُمْ {لا يَتَّقُونَ} النقض، ولا يخافون عاقبته ولا يتجنبون أسبابه. وقيل إن {من} في قوله: {مِنْهُمْ} للتبعيض، ومفعول عاهدت محذوف، أي الذين عاهدتهم، وهم بعض أولئك الكفرة: يعني الأشراف منهم، وعطف المستقبل وهو {ثم ينقضون} على الماضي، وهو {عاهدت} للدلالة على استمرار النقض منهم، وهؤلاء هم قريظة، عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعينوا الكفار فلم يفوا بذلك كما سيأتي، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشدّة والغلظة عليهم، فقال: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ في الحرب فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} أي: فإما تصادفنهم في ثقاف، وتلقاهم في حالة تقدر عليهم فيها، وتتمكن من غلبهم {فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} أي: ففرّق بقتلهم والتنكيل بهم من خلفهم من المحاربين لك من أهل الشرك حتى يهابوا جانبك، ويكفوا عن حربك مخافة أن ينزل بهم ما نزل بهؤلاء. والثقاف في أصل اللغة: ما يشد به القناة أو نحوها، ومنه قول النابغة:
تدعو قعيباً وقد غض الحديد بها ** غض الثقاف على ضمّ الأنابيب

يقال ثقفته: وجدته، وفلان ثقف: سريع الوجود لما يحاوله، والتشريد: التفريق مع الاضطراب.
وقال أبو عبيدة {شرد بِهِمُ} سمع بهم.
وقال الزجاج: افعل بهم فعلاً من القتل تفرّق به من خلفهم، يقال شردت بني فلان: قلعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها. قال الشاعر:
أطوّف في الأباطح كل يوم ** مخافة أن يشردني حكيم

ومنه شرد البعير: إذا فارق صاحبه، وروي عن ابن مسعود أنه قرأ: {فشرد بِهِم} بالذال المعجمة. قال قطرب: التشريذ بالذال المعجمة هو التنكيل، وبالمهملة هو التفريق.
وقال المهدوي: الذال المعجمة لا وجه لها إلا أن تكون بدلاً من الدال المهملة لتقاربهما، قال: ولا يعرف فشرّذ في اللغة، وقرئ: {مّنْ خَلْفِهِمْ} بكسر الميم والفاء.
قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} أي: غشاً ونقضاً للعهد من القوم المعاهدين {فانبذ إِلَيْهِمْ} أي فاطرح إليهم العهد الذي بينك وبينهم {على سَوَاء} على طريق مستوية. والمعنى: أنه يخبرهم إخباراً ظاهراً مكشوفاً بالنقض، ولا يناجزهم الحرب بغتة، وقيل معنى: {على سَوَاء} على وجه يستوي في العلم بالنقض أقصاهم وأدناهم، أو تستوي أنت وهم فيه. قال الكسائي: السواء العدل، وقد يكون بمعنى الوسط، ومنه قوله: {فِى سَوَاء الجحيم} [الصافات: 55]، ومنه قول حسان:
يا ويح أنصار النبي ورهطه ** بعد المغيب في سواء الملحد

ومن الأوّل قول الشاعر:
فاضرب وجوه الغدّر الأعداء ** حتى يجيبوك إلى سواء

وقيل: معنى {فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَاء} على جهر لا على سرّ، والظاهر أن هذه الآية عامة في كل معاهد يخاف من وقوع النقض منه. قال ابن عطية: والذي يظهر من ألفاظ القرآن أن أمر بني قريظة انقضى عند قوله: {فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية يأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة، وجملة {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} تعليل لما قبلها، يحتمل أن تكون تحذيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المناجزة قبل أن ينبذ إليهم على سواء، ويحتمل أن تكون عائدة إلى القوم الذين تخاف منهم الخيانة.
قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} قرأ ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص بالياء التحتية. وقرأ الباقون بالمثناة من فوق. فعلى القراءة الأولى يكون الذين كفروا فاعل الحسبان، ويكون مفعوله الأوّل محذوفاً، أي لا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم، ومفعوله الثاني سبقوا ومعناه: فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم. وعلى القراءة الثانية يكون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومفعوله الأول الذين كفروا، والثاني سبقوا، وقرئ: {إِنهَّم سَبَقُوا} وقرئ: {يحسبن} بكسر الياء، وجملة {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} تعليل لما قبلها، أي إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم. وقرأ ابن عامر {أنهم} بفتح الهمزة، والباقون بكسرها، وكلا القراءتين مفيدة لكون الجملة تعليلية. وقيل المراد بهذه الآية: من أفلت من وقعة بدر من المشركين. والمعنى: أنهم وإن أفلتوا من هذه الوقعة ونجوا فإنهم لا يعجزون، بل هم واقعون في عذاب الله في الدنيا أو في الآخرة.
وقد زعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم، أن قراءة من قرأ: {يحسبنّ} بالتحتية لحن، لا تحلّ القراءة بها، لأنه لم يأت ليحسبنّ بمفعول، وهو يحتاج إلى مفعولين. قال النحاس: وهذا تحامل شديد. ومعنى هذه القراءة: ولا يحسبنّ من خلفهم الذين كفروا سبقوا، فيكون الضمير يعود على ما تقدّم إلا أن القراءة بالتاء أبين.
وقال المهدوي: يجوز على هذه القراءة أن يكون الذين كفروا فاعلاً، والمفعول الأوّل محذوف. والمعنى ولا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم سبقوا. قال مكي: ويجوز أن يضمر مع سبقوا (أن) فتسدّ مسد المفعولين، والتقدير: ولا يحسبنّ الذين كفروا أن سبقوا، فهو مثل: {أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُواْ} [العنكبوت: 2] في سدّ أن مسدّ المفعولين.
ثم أمر سبحانه بإعداد القوّة للأعداء، والقوّة كل ما يتقوّى به في الحرب، ومن ذلك السلاح والقسيّ.
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «{وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة} ألا إن القوّة الرمي، قالها ثلاث مرات» وقيل: هي الحصون، والمصير إلى التفسير الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متعين. قوله: {وَمِن رّبَاطِ الخيل}. قرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة {ومن ربط الخيل} بضم الراء والباء ككتب: جمع كتاب. قال أبو حاتم: الرباط من الخيل الخمس فما فوقها، وهي الخيل التي ترتبط بإزاء العدو. ومنه قول الشاعر:
أمر الإله بربطها لعدوّه ** في الحرب إن الله خير موفق

قال في الكشاف: والرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة. ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال. انتهى. ومن فسر القوّة بكل ما يتقوّى به في الحرب جعل عطف الخيل من عطف الخاص على العام، وجملة {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} في محل نصب على الحال، والترهيب: التخويف، والضمير في {به} عائد إلى {ما} في {ما استطعتم} أو إلى المصدر المفهوم من {وأعدّوا} وهو الإعداد. والمراد بعدوّ الله وعدوهم هم المشركون من أهل مكة، وغيرهم من مشركي العرب. قوله: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِم} معطوف على عدوّ الله وعدوّكم. ومعنى من دونهم: من غيرهم. قيل هم اليهود. وقيل فارس والروم، وقيل الجنّ، ورجحه ابن جرير. وقيل المراد بالآخرين من عدوهم: كل من لا تعرف عداوته، قاله السهيلي. وقيل: هم بنو قريظة خاصة، وقيل غير ذلك. والأولى: الوقف في تعيينهم لقوله: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ}. قوله: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَئ في سَبِيلِ الله} أي: في الجهاد وإن كان يسيراً حقيراً {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} جزاؤه في الآخرة. فالحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، كما قرّرناه سابقاً. {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} في شيء من هذه النفقة التي تنفقونها في سبيل الله، أي من ثوابها، بل يصير ذلك إليكم وافياً وافراً كاملاً {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 40] {أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ} [آل عمران: 195].
وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: نزلت: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله} الآية في ستة رهط من اليهود فيهم ابن تابوت.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {الذين عاهدت مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ} قال: قريظة يوم الخندق مالؤوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} قال: نكل بهم من بعدهم.
وأخرج ابن جرير، عنه، في الآية قال: نكل بهم من رواءهم.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، في الآية قال: أنذر بهم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة قال: عظ بهم من سواهم من الناس.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، قال: أخفهم بهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يقول: لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن شهاب قال: دخل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت السلاح وما زلنا في طلب القوم، فاخرج فإن الله قد أذن لك في قريظة، وأنزل فيهم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} قال: لا يفوتونا.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ} قال: الرمي والسيوف والسلاح.
وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، في قوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ} قال: أمرهم بإعداد الخيل.
وأخرج أبو الشيخ، والبيهقي في الشعب، عن عكرمة في الآية قال: القوّة ذكور الخيل، والرباط الإناث.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن المسيب في الآية قال: القوّة الفرس إلى السهم فما دونه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة قال: القوّة الحصون. {ومِنْ رّبَاطِ الخيل} قال: الإناث.
وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} قال: تخزون به عدوّ الله وعدوّكم.
وقد ورد في استحباب الرمي، وما فيه من الأجر أحاديث كثيرة، وكذلك ورد في استحباب اتخاذ الخيل وإعدادها، وكثرة ثواب صاحبها أحاديث لا يتسع المقام لبسطها.
وقد أفرد ذلك جماعة من العلماء بمصنفات.

.تفسير الآيات (61- 63):

{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)}
الجنوح: الميل، يقال جنح الرجل إلى الرجل: مال إليه ومنه قيل للأضالع جوانح، لأنها مالت إلى الحنوّة، وجنحت الإبل: إذا مالت أعناقها في السير، ومنه قول ذي الرمة:
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه ** بذكراك والعيس المراسيل جنح

ومثله قول عنترة:
جوانح قد أيقنّ أن قبيله ** إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب

يعني الطير، والسلم: الصلح. وقرأ الأعمش وأبو بكر، وابن محيصن، والمفضل بكسر السين، وقرأ الباقون بفتحها. وقرأ العقيلي {فاجنح} بضم النون، وقرأ الباقون بفتحها. والأولى: لغة قيس، والثانية: لغة تميم. قال ابن جني: ولغة قيس هي القياس، والسلم تؤنث كما تؤنث الحرب، أو هي مؤوّلة بالخصلة، أو الفعلة.
وقد اختلف أهل العلم هل هذه الآية منسوخة أم محكمة؟ فقيل هي منسوخة بقوله: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] وقيل: ليست بمنسوخة، لأن المراد بها قبول الجزية، وقد قبلها منهم الصحابة فمن بعدهم، فتكون خاصة بأهل الكتاب. وقيل: إن المشركين إن دعوا إلى الصلح جاز أن يجابوا إليه، وتمسك المانعون من مصالحة المشركين بقوله تعالى: {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السلم وَأَنتُمُ الأعلون والله مَعَكُمْ} [محمد: 35] وقيدوا عدم الجواز بما إذا كان المسلمون في عزّة وقوّة، لا إذا لم يكونوا كذلك، فهو جائز كما وقع منه صلى الله عليه وسلم من مهادنة قريش، وما زالت الخلفاء والصحابة على ذلك، وكلام أهل العلم في هذه المسألة معروف مقرّر في مواطنه {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} في جنوحك للسلم، ولا تخف من مكرهم، ف {إِنَّه} سبحانه: {هُوَ السميع} لما يقولون {العليم} بما يفعلون.
{وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} بالصلح، وهم مضمرون الغدر والخدع {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} أي: كافيك ما تخافه من شرورهم بالنكث والغدر، وجملة {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين} تعليلية، أي لا تخف من خدعهم ومكرهم، فإن الله الذي قوّاك عليهم بالنصر فيما مضى، وهو يوم بدر، هو الذي سينصرك ويقوّيك عليهم عند حدوث الخدع والنكث، والمراد بالمؤمنين: المهاجرون والأنصار، ثم بين كيف كان تأييده بالمؤمنين فقال: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} وظاهره العموم وأن ائتلاف قلوب المؤمنين هو من أسباب النصر التي أيد الله بها رسوله.
وقال جمهور المفسرين: المراد الأوس والخزرج، فقد كان بينهم عصبية شديدة وحروب عظيمة، فألف الله بين قلوبهم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والحمل على العموم أولى، فقد كانت العرب قبل البعثة المحمدية يأكل بعضهم بعضاً ولا يحترم ماله ولا دمه، حتى جاء الإسلام فصاروا يداً واحدة، وذهب ما كان بينهم من العصبية، وجملة {لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الأرض جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} مقرّرة لمضمون ما قبلها.
والمعنى أن ما كان بينهم من العصبية والعداوة قد بلغ إلى حدّ لا يمكن دفعه بحال من الأحوال، ولو أنفق الطالب له جميع ما في الأرض لم يتم له ما طلبه من التأليف، لأن أمرهم في ذلك قد تفاقم جدّاً {ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} بعظيم قدرته وبديع صنعه {إِنَّهُ عَزِيزٌ} لا يغالبه مغالب، ولا يستعصي عليه أمر من الأمور {حَكِيمٌ} في تدبيره ونفوذ نهيه وأمره.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ} قال: قريظة.
وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ في الآية قال: نزلت في بني قريظة نسختها: {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السلم} [محمد: 35] إلى آخر الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: السلم الطاعة.
وأخرج أبو الشيخ عنه في الآية قال: إن رضوا فارض.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ في الآية قال: إن أرادوا الصلح، فأرده.
وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في الآية قال: نسختها هذه الآية {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} [التوبة: 29] إلى قوله: {وَهُمْ صاغرون} [التوبة: 29].
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، والنحاس في ناسخه، وأبو الشيخ، عن قتادة، قال: ثم نسخ ذلك: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5].
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {وَإن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ} قال: قريظة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله: {وبالمؤمنين} قال: بالأنصار.
وأخرج ابن مردويه، عن النعمان بن بشير نحوه.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، نحوه أيضاً.
وأخرج ابن عساكر، عن أبي هريرة، قال: مكتوب على العرش: لا إله إلا الله، أنا الله وحدي لا شريك لي، ومحمد عبدي ورسولي أيدته بعلمي، وذلك قوله: {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين}.
وأخرج ابن المبارك، وابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، والنسائي، والبزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، عن ابن مسعود، أن هذه الآية نزلت في المتحابين في الله {لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الأرض جَمِيعاً} الآية.
وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، والبيهقي في شعب الإيمان، واللفظ له عن ابن عباس قال: قرابة الرحم تقطع، ومنة المنعم تكفر، ولم نر مثل تقارب القلوب، يقول الله {لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الأرض جَمِيعاً} الآية.
وأخرج ابن المبارك، وعبد الرزاق، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم، والبهيقي عنه نحوه. وليس في هذا عن ابن عباس ما يدلّ على أنه سبب النزول، ولكن الشأن في قول ابن مسعود رضي الله عنه: إن هذه الآية نزلت في المتحابين في الله مع أن الواقع قبلها {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين} والواقع بعدها {ياأيها النبى حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الأنفال: 64] ومع كون الضمير في قوله: {مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} يرجع إلى المؤمنين المذكورين قبله بلا شك ولا شبهة، وكذلك الضمير في قوله: {ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} فإن هذا يدلّ على أن التأليف المذكور هو بين المؤمنين الذين أيد الله بهم رسوله صلى الله عليه وسلم.