فصل: تفسير الآيات (64- 66):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (64- 66):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)}
قوله: {ياأيها النبى حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} ليس هذا تكريراً لما قبله فإن الأوّل مقيد بإرادة الخدع {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} [الأنفال: 62] فهذه كفاية خاصة، وفي قوله: {ياأيها النبى حَسْبُكَ الله} كفاية عامة غير مقيّدة، أي حسبك الله في كل حال، والواو في قوله: {وَمَنِ اتبعك} يحتمل أن تكون للعطف على الاسم الشريف. والمعنى: حسبك الله وحسبك المؤمنين، أي كافيك الله وكافيك المؤمنين، ويحتمل أن تكون بمعنى مع كما تقول: حسبك وزيداً درهم، والمعنى: كافيك وكافي المؤمنين الله، لأن عطف الظاهر على المضمر في مثل هذه الصورة ممتنع كما تقرّر في علم النحو، وأجازه الكوفيون. قال الفراء: ليس بكثير في كلامهم أن تقول حسبك وأخيك، بل المستعمل أن يقال: حسبك وحسب أخيك بإعادة الجار، فلو كان قوله: {وَمَنِ اتبعك} مجروراً لقيل: حسبك الله وحسب من اتبعك، واختار النصب على المفعول معه النحاس، وقيل يجوز أن يكون المعنى: ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله فحذف الخبر.
وقوله: {حَرّضِ المؤمنين عَلَى القتال} أي: حثهم وحضهم، والتحريض في اللغة: المبالغة في الحثّ وهو كالتحضيض، مأخوذ من الحرض، وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفى على الموت كأنه ينسبه إلى الهلاك لو تخلف عن المأمور به، ثم بشرهم تثبيتاً لقلوبهم وتسكيناً لخواطرهم بأن الصابرين منهم في القتال يغلبون عشرة أمثالهم من الكفار، فقال: {إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} ثم زاد هذا إيضاحاً مفيداً لعدم اختصاص هذه البشارة بهذا العدد، بل هي جارية في كل عدد فقال: {وَإِن تَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا} وفي هذا دلالة على أن الجماعة من المؤمنين قليلاً كانوا أو كثيراً لا يغلبهم عشرة أمثالهم من الكفار بحال من الأحوال، وقد وجد في الخارج ما يخالف ذلك. فكم من طائفة من طوائف الكفار يغلبون من هو مثل عشرهم من المسلمين، بل مثل نصفهم بل مثلهم.
وأجيب عن ذلك بأن وجود هذا بالخارج لا يخالف ما في الآية لاحتمال أن لا تكون الطائفة من المؤمنين متصفة بصفة الصبر. وقيل: إن هذا الخبر الواقع في الآية هو في معنى الأمر، كقوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] فالمؤمنون كانوا مأمورين من جهة الله سبحانه بأن تثبت الجماعة منهم لعشرة أمثالهم، ثم لما شق ذلك عليهم واستعظموه خفف عنهم ورخص لهم لما علمه سبحانه من وجود الضعف فيهم فقال: {فَإن تَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} إلى آخر الآية، فأوجب على الواحد أن يثبت لاثنين من الكفار. وقرأ حمزة وحفص عن عاصم {ضعفاً} بفتح الضاد.
وقوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} متعلق بقوله: {يَغْلِبُواْ} أي: إن هذا الغلب بسبب جهلهم وعدم فقههم، وأنهم يقاتلون على غير بصيرة، ومن كان هكذا فهو مغلوب في الغالب.
وقد قيل في نكتة التنصيص على غلب العشرين للمائتين، والمائة للألف أن سراياه التي كان يبعثها صلى الله عليه وسلم كان لا ينقص عددها عن العشرين ولا يجاوز المائة. وقيل في التنصيص فيما بعد ذلك على غلب المائة للمائتين، والألف للألفين، على أنه بشارة للمسلمين بأن عساكر الإسلام سيجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف. ثم أخبرهم بأن هذا الغلب هو بإذن الله وتسهيله، وتيسيره لا بقوّتهم وجلادتهم، ثم بشرهم بأنه مع الصابرين، وفيه الترغيب إلى الصبر والتأكيد عليهم بلزومه والتوصية به، وأنه من أعظم أسباب النجاح والفلاح والنصر والظفر، لأن من كان الله معه لم يستقم لأحد أن يغلبه.
وقد اختلف أهل العلم، هل هذا التخفيف نسخ أم لا؟ ولا يتعلق بذلك كثير فائدة.
وقد أخرج البزار عن ابن عباس قال: لما أسلم عمر قال المشركون: قد انتصف القوم منا اليوم، وأنزل الله: {ياأيها النبى حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين}.
وأخرج الطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: لما أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعة وثلاثون رجلاً وامرأة، ثم إن عمر أسلم صاروا أربعين فنزل: {ياأيها النبى حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين}.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن سعيد بن جبير، قال: لما أسلم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون وست نسوة ثم أسلم عمر نزلت: {ياأيها النبى حَسْبُكَ الله}.
وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن الزهري في الآية قال: نزلت في الأنصار، وأخرج البخاري في تاريخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الشعبي في قوله: {ياأيها النبى حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} قال: حسبك الله وحسب من اتبعك.
وأخرج البخاري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} فكتب عليهم أن لا يفرّ واحد من العشرة، وأن لا يفرّ عشرون من مائتين، ثم نزلت: {الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ} الآية، فكتب أن لا يفرّ مائة من مائتين قال سفيان: وقال ابن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا، إن كانا رجلين أمرهما وإن كانوا ثلاثة فهو في سعة من تركهم، وأخرج البخاري والنحاس في ناسخه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفرّ واحد من عشرة، فجاء التخفيف {الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ} الآية قال: فلما خفّف الله عنهم من العدّة نقص من الصبر بقدر ما خفّف عنهم.

.تفسير الآيات (67- 69):

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)}
هذا حكم آخر من أحكام الجهاد. ومعنى {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ} ما صح له وما استقام، وقرأ أبو عمرو، وسهيل ويعقوب، ويزيد، والمفضل، أن تكون بالفوقية، وقرأ الباقون بالتحتية، وقرأ أيضاً يزيد والمفضل {أسارى} وقرأ الباقون {أسرى} والأسرى جمع أسير، مثل قتلى وقتيل، وجرحى وجريح، ويقال في جمع أسير أيضاً أسارى بضم الهمزة وبفتحها، وهو مأخوذ من الأسر، وهو القيد، لأنهم كانوا يشدّون به الأسير، فسمي كل أخيذ وإن لم يشدّ بالقدّ أسيراً، قال الأعشى:
وقيدني الشعر في بيته ** كما قيدت الأسرات الحمارا

وقال أبو عمرو بن العلاء: الأسرى هم غير الموثقين عندما يؤخذون، والأسارى هم الموثقون ربطاً. والإثخان: كثرة القتل والمبالغة فيه؛ تقول العرب: أثخن فلان في هذا الأمر، أي بالغ فيه. فالمعنى: ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يبالغ في قتل الكافرين ويستكثر من ذلك. وقيل معنى الإثخان: التمكن، وقيل: هو القوّة. أخبر الله سبحانه أن قتل المشركين يوم بدر كان أولى من أسرهم، وفدائهم؛ ثم لما كثر المسلمون رخص الله في ذلك فقال: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} [محمد: 4] كما يأتي في سورة القتال إن شاء الله. قوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ} الحياة {الدنيا} أي: نفعها ومتاعها بما قبضتم من الفداء، وسمي عرضاً لأنه سريع الزوال كما تزول الأعراض التي هي مقابل الجواهر {والله يُرِيدُ الآخرة} أي: يريد لكم الدار الآخرة بما يحصل لكم من الثواب في الإثخان بالقتل. وقرئ: {يريد الآخرة} بالجر على تقدير مضاف وهو المذكور قبله، أي والله يريد عرض الآخرة {والله عَزِيزٌ} لا يغالب {حَكِيمٌ} في كل أفعاله.
قوله: {لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} اختلف المفسرون في هذا الكتاب الذي سبق ما هو؟ على أقوال: الأوّل ما سبق في علم الله من أنه سيحلّ لهذه الأمة الغنائم بعد أن كانت محرّمة على سائر الأمم. والثاني: أنه مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، كما في الحديث الصحيح: «إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» القول الثالث هو: أنه لا يعذبهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]. القول الرابع: أنه لا يعذب أحداً بذنب فعله جاهلاً لكونه ذنباً. القول الخامس: أنه ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر. القول السادس: أنه لا يعذب أحداً إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي، ولم يتقدّم نهي عن ذلك.
وذهب ابن جرير الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ، وأنه يعمها {لَمَسَّكُمْ} أي: لحلّ بكم {فِيمَا أَخَذْتُمْ} أي: لأجل ما أخذتم من الفداء {عَذَابٌ عظِيمٌ} والفاء في {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} لترتيب ما بعدها عن سبب محذوف، أي قد أبحت لكم الغنائم، فكلوا مما غنمتم ويجوز أن تكون عاطفة على مقدّر محذوف، أي اتركوا الفداء فكلوا مما غنمتم من غيره.
وقيل إن {ما} عبارة عن الفداء، أي كلوا من الفداء الذي غنمتم فإنه من جملة الغنائم التي أحلها الله لكم و{حلالا طَيّباً} منتصبان على الحال، أو صفة المصدر المحذوف، أي أكلاً حلالاً طيباً {واتقوا الله} فيما يستقبل، فلا تقدموا على شيء لم يأذن الله لكم به {إِن الله غَفُورٌ} لما فرط منكم {رَّحِيمٌ} بكم، فلذلك رخّص لكم في أخذ الفداء في مستقبل الزمان.
وقد أخرج أحمد، عن أنس قال: استشار النبيّ صلى الله عليه وسلم الناس في الأسرى يوم بدر فقال: «إن الله قد أمكنكم منهم» فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم. ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم؛ وإنما هم إخوانكم بالأمس»، فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم عاد فقال مثل ذلك فقام أبو بكر الصديق فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء، فأنزل الله: {لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ} الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي وحسنه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن ابن مسعود قال: لما كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ترون في هؤلاء الأسارى؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك فاستبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدّمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب فأضرمه عليهم ناراً، فقال العباس وهو يسمع: قطعت رحمك، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ولم يردّ عليهم شيئاً، فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس: يأخذ بقول عمر، وقال قوم: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدّد قلوب رجال فيه حتى تكون أشدّ من الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال: {ومن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام إذ قال: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118]، ومثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام إذ قال: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26]، ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال: {رَبَّنَا اطمس على أموالهم واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم} [يونس: 88] أنتم عالة فلا ينفلتنّ أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق».
، فقال عبد الله: يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليّ الحجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا سهيل بن بيضاء»، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} الآية.
وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن عليّ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأسارى يوم بدر: «إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتم واستمتعتم بالفداء، واستشهد منكم بعدّتهم، فكان آخر السبعين ثابت بن قيس اسشهد باليمامة».
وأخرج عبد الرزاق في مصنفه، وابن أبي شيبة عن عبيدة نحوه.
وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن عمر، قال: لما أسر الأسارى يوم بدر أسر العباس فيمن أسر، أسره رجل من الأنصار وقد وعدته الأنصار أن يقتلوه. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه»، فقال له عمر: فآتيهم؟ قال: «نعم»، فأتى عمر الأنصار فقال: أرسلوا العباس، فقالوا: لا والله لا نرسله. فقال لهم عمر: فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضا، قالوا: فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضا فخذه، فأخذه عمر، فلما صار في يده قال له: يا عباس أسلم، فوالله إن تسلم أحبّ إليّ من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك، قال: فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقال أبو بكر: عشيرتك فأرسلهم، فاستشار عمر فقال: اقتلهم، ففاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله، {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} يقول حتى يظهروا على الأرض.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد، قال: الإثخان هو: القتل.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن مجاهد، أيضاً في الآية قال: ثم نزلت الرخصة بعد، إن شئت فمنّ، وإن شئت ففاد.
وأخرج ابن المنذر عن قتادة {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} قال: أراد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر الفداء، ففادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} قال: الخراج.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ} قال: سبق لهم المغفرة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، قال: ما سبق لأهل بدر من السعادة.
وأخرج النسائي، وابن مردويه، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، قال: سبقت لهم من الله الرحمة قبل أن يعملوا بالمعصية.
وأخرج أبو حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال: سبق أن لا يعذب أحداً حتى يبين له ويتقدّم إليه.

.تفسير الآيات (70- 71):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)}
اختلاف القراء في أسرى والأسارى هو هنا كما سبق في الآية قبل هذه. خاطب الله النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا، أي قل لهؤلاء الأسرى الذين هم في أيديكم أسرتموهم يوم بدر وأخذتم منهم الفداء، {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} من حسن إيمان، وصلاح نية، وخلوص طوية {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} من الفداء: أي يعوّضكم في هذه الدنيا رزقاً خيراً منه، وأنفع لكم، أو في الآخرة بما يكتبه لكم من المثوبة بالأعمال الصالحة {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} شأنه المغفرة لعباده والرحمة لهم. ولما ذكر ما ذكره من العوض لمن علم في قلبه خيراً ذكر من هو على ضدّ ذلك منهم فقال: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ} بما قالوه لك بألسنتهم من أنهم قد آمنوا بك وصدّقوك، ولم يكن ذلك منهم عن عزيمة صحيحة ونية خالصة، بل هو مماكرة ومخادعة، فليس ذلك بمستبعد منهم، فإنهم قد فعلوا ما هو أعظم منه، وهو أنهم خانوا الله من قبل أن تظفر بهم، فكفروا به وقاتلوا رسوله {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} بأن نصرك عليهم في يوم بدر، فقتلت منهم من قتلت وأسرت من أسرت {والله عَلِيمٌ} بما في ضمائرهم {حَكِيمٌ} في أفعاله بهم.
وقد أخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن عائشة قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص، وبعثت فيه بقلادة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ رقة شديدة وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها»، وقال العباس: إني كنت مسلماً يا رسول الله، قال: «الله أعلم بإسلامك، فإن تكن كما تقول فالله يجزيك، فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب، وحليفك عتبة بن عمرو»، قال: ما ذاك عندي يا رسول الله، قال: «فأين المال الذي دفنت أنت وأمّ الفضل؟ فقلت لها: إن أصبت فهذا المال لبنيّ؟» فقال: والله يا رسول الله إن هذا لشيء ما علمه غيري وغيرها، فاحسب لي ما أصبتم مني عشرون أوقية من مال كان معي، قال: «لا أفعل»، ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، ونزلت: {قُل لّمَن في أَيْدِيكُم مّنَ الأسرى} الآية، فأعطاني مكان العشرين الأوقية في الإسلام، عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله.
وأخرج ابن سعد، والحاكم وصححه، عن أبي موسى أن العلاء ابن الحضرمي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين ثمانين ألفاً، فما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أكثر منه، فنشره على حصير، وجاء الناس، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم، وما كان يومئذ عدد ولا وزن، فجاء العباس فقال: يا رسول الله إني أعطيت فدائي، وفداء عقيل يوم بدر، أعطني من هذا المال، فقال: «خذ»، فحثا في خميصته، ثم ذهب ينصرف فلم يستطع، فرفع رأسه وقال: يا رسول الله ارفع عليّ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب وهو يقول: أما أحد اللذين وعد الله فقد أنجزنا، وما ندري ما يصنع في الأخرى {قُل لّمَن في أَيْدِيكُم مّنَ الأسرى إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} فهذا خير مما أخذ مني ولا أدري ما يصنع في المغفرة. والروايات في هذا الباب كثيرة.
وأخرج ابن سعد، وابن عساكر، عن ابن عباس، في الآية قال: نزلت في الأسارى يوم بدر، منهم العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عنه، في قوله: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ} إن كان قولهم كذباً {فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} فقد كفروا وقاتلوك {فَأَمْكَنَك} الله مِنْهُمْ.