فصل: تفسير الآيات (91- 93):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (91- 93):

{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)}
لما ذكر سبحانه المعذرين، ذكر بعدهم أهل الأعذار الصحيحة المسقطة للغزو، وبدأ بالعذر في أصل الخلقة. فقال: {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء} وهم: أرباب الزمانة، والهرم، والعمى، والعرج، ونحو ذلك، ثم ذكر العذر العارض، فقال: {وَلاَ على المرضى} والمراد بالمرضى: كل ما يصدق عليه اسم المرض لغة أو شرعاً. وقيل: إنه يدخل في المرضى: الأعمى والأعرج ونحوهما. ثم ذكر العذر الراجع إلى المال، لا إلى البدن فقال: {وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} أي: ليست لهم أموال ينفقونها فيما يحتاجون إليه من التجهز للجهاد، فنفى سبحانه عن هؤلاء الحرج، وأبان أن الجهاد مع هذه الأعذار ساقط عنهم غير واجب عليهم، مقيداً بقوله: {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} وأصل النصح: إخلاص العمل من الغش، ومنه التوبة النصوح. قال نفطويه: نصح الشيء: إذا خلص، ونصح له القول، أي أخلصه له. والنصح لله: الإيمان به، والعمل بشريعته. وترك ما يخالفها كائناً ما كان، ويدخل تحته دخولاً أوّلياً نصح عباده. ومحبة المجاهدين في سبيله، وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد. وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه؛ ونصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم: التصديق بنبوته وبما جاء به، وطاعته في كل ما يأمر به، أو ينهي عنه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، ومحبته وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بما تبلغ إليه القدرة.
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة» ثلاثاً، قالوا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» وجملة: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} مقرّرة لمضمون ما سبق: أي ليس على المعذورين الناصحين من سبيل: أي طريق عقاب ومؤاخذة. و{من} مزيدة للتأكيد، وعلى هذا فيكون لفظ {المحسنين} موضوعاً في موضع الضمير الراجع إلى المذكورين سابقاً. أو يكون المراد: ما على جنس المحسنين من سبيل، وهؤلاء المذكورون سابقاً من جملتهم، فتكون الجملة تعليلية. وجملة: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تذييلية. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} [النور: 61].
وإسقاط التكليف عن هؤلاء المعذورين، لا يستلزم عدم ثبوت ثواب الغزو لهم الذي عذرهم الله عنه، مع رغبتهم إليه لولا حبسهم العذر عنه، ومنه حديث أنس عند أبي داود وأحمد، وأصله في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد تركتم بعدكم قوماً ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلا وهم معكم فيه».
قالوا: يارسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال: «حبسهم العذر».
وأخرجه أحمد، ومسلم، من حديث جابر.
ثم ذكر الله سبحانه من جملة المعذورين من تضمنه قوله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} والعطف على جملة {مَا عَلَى المحسنين} أي: ولا على الذين إذا ما أتوك إلى آخره من سبيل. ويجوز أن تكون عطفاً على الضعفاء: أي ولا على إذا ما أتوك إلى آخره حرج. والمعنى: أن من جملة المعذورين هؤلاء الذين أتوك لتحملهم على ما يركبون عليه في الغزو، فلم تجد ذلك الذي طلبوه منك. قيل: وجملة {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} في محل نصب على الحال من الكاف في {أتوك} بإضمار قد: أي إذا ما أتوك قائلاً لا أجد. وقيل: هي بدل من أتوك. وقيل: جملة معترضة بين الشرط والجزاء، والأوّل: أولى. وقوله: {تَوَلَّوْاْ} جواب {إذا} وجملة: {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} في محل نصب على الحال: أي تولوا عنك لما قلت لهم: لا أجد ما أحملكم عليه، حال كونهم باكين، و{حَزَناً} منصوب على المصدرية، أو على العلية، أو الحالية، و{أَن لا يَجِدُواْ} مفعول له، وناصبه {حَزَناً} وقال الفراء: إن {لا} بمعنى ليس، أي حزناً أن ليس يجدوا. وقيل المعنى: حزناً على أن لا يجدوا. وقيل المعنى: حزناً أنهم لا يجدون ما ينفقون، لا عند أنفسهم ولا عندك.
ثم ذكر الله سبحانه من عليه السبيل من المتخلفين فقال: {إِنَّمَا السبيل} أي: طريق العقوبة والمؤاخذة {عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَك} في التخلف عن الغزو، والحال أنهم {أَغْنِيَاء} أي: يجدون ما يحملهم وما يتجهزون به، وجملة: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} مستأنفة كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء.
وقد تقدّم تفسير الخوالف قريباً. وجملة: {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} معطوفة على {رَضُواْ} أي: سبب الاستئذان مع الغنى أمران: أحدهما: الرضا بالصفقة الخاسرة، وهي أن يكونوا مع الخوالف، والثاني: الطبع من الله على قلوبهم {فَهُمُ} بسبب هذا الطبع {لاَّ يَعْلَمُونَ} ما فيه الربح لهم، حتى يختاروه على ما فيه الخسر.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، والدارقطني في الإفراد، وابن مردويه، عن زيد ابن ثابت، قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت براءة، فكنت أكتب ما أنزل عليه، فإني لواضع القلم عن أذني إذ أمرنا بالقتال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه إذ جاء أعمى فقال: كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت: {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، قال: أنزلت هذه الآية في عابد بن عمر المزني.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال: نزل من عند قوله: {عَفَا الله عَنكَ} إلى قوله: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} في المنافقين.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، في قوله: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} قال: ما على هؤلاء من سبيل بأنهم نصحوا لله ورسوله ولم يطيقوا الجهاد، فعذرهم الله وجعل لهم من الأجر ما جعل للمجاهدين، ألم تسمع أن الله يقول: {لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر} [النساء: 95]. فجعل الله للذين عذر من الضعفاء، وأولي الضرر، والذين لا يجدون ما ينفقون من الأجر مثل ما جعل للمجاهدين.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} قال: والله لأهل الإساءة {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ} الآية، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينبعثوا غازين معه، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني، فقالوا: يا رسول الله احملنا، فقال: والله ما أجد ما أحملكم عليه، فتولوا ولهم بكاء وعزيز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملاً، فأنزل الله عذرهم {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ} الآية.
وأخرج ابن سعد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن عبد الله بن مغفل، قال: إني لا أجد ارهط الذين ذكر الله {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} الآية.
وأخرج ابن جرير، عن محمد بن كعب، قال: هم سبعة نفر من بني: عمر بن عوف سالم بن عمير، ومن بني: واقف حرميّ بن عمرو، ومن بني: مازن بن النجار عبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى، ومن بني: المعلى سلمان بن صخر، ومن بني: حارثة عبد الرحمن بن زيد أبو عبلة، ومن بني: سلمة عمرو بن غنمة وعبد الله بن عمرو المزني.
وقد اتفق الرواة على بعض هؤلاء السبعة.
واختلفوا في البعض، ولا يأتي التطويل في ذلك بكثير فائدة.
وأخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم؛ أن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم: البكاؤون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، ثم ذكروا أسماءهم، وفيه، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل حاجة. قال: {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن الحسن، قال: كان معقل بن يسار من البكائين الذين قال الله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أنس بن مالك، في قوله: {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} قال: الماء والزاد.
وأخرج ابن المنذر، عن عليّ بن صالح، قال: حدّثني مشيخة من جهينة، قالوا: أدركنا الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان، فقالوا: ما سألناه إلا الحملان على النعال.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن إبراهيم بن أدهم، عمن حدّثه في قوله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} قال: ما سألوه الدوابّ ما سألوه إلا النعال.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن بن صالح، في الآية قال: استحملوه النعال.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ} قال: هي وما بعدها إلى قوله: {إِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين} في المنافقين.

.تفسير الآيات (94- 99):

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)}
قوله: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} إخبار من الله سبحانه عن المنافقين المعتذرين بالباطل، بأنهم يعتذرون إلى المؤمنين إذا رجعوا من الغزو، وهذا كلام مستأنف، وإنما قال: {إِلَيْهِمُ} أي: إلى المعتذرين بالباطل، ولم يقل إلى المدينة؛ لأن مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إلى المدينة، وربما يقع الاعتذار عند الملاقاة قبل الوصول إليها. ثم أخبر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بما يجيب به عليهم، فقال: {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} فنهاهم أوّلا عن الاعتذار بالباطل، ثم علله بقوله: {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} أي: لن نصدقكم، كأنهم ادّعوا أنهم صادقون في اعتذارهم، لأن غرض المعتذر أن يصدّق فيما يعتذر به، فإذا عرف أنه لا يصدّق ترك الاعتذار، وجملة {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} تعليلية للتي قبلها: أي لا يقع منا تصديق لكم لأن الله قد أعلمنا بالوحي ما هو مناف لصدق اعتذاركم، وإنما خصّ الرسول صلى الله عليه وسلم بالجواب عليهم، فقال: {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ} مع أن الاعتذار منهم كائن إلى جميع المؤمنين، لأنه صلى الله عليه وسلم رأسهم، والمتولي لما يرد عليهم من جهة الغير، ويحتمل أن يكون المراد بالضمير في قوله: {إِلَيْكُمْ} هو الرسول صلى الله عليه وسلم على التأويل المشهور في مثل هذا.
قوله: {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} أي: ما ستفعلونه من الأعمال فيما بعد هل تقلعون عما أنتم عليه الآن من الشرّ أم تبقون عليه؟. وقوله: {وَرَسُولُهُ} معطوف على الاسم الشريف، ووسط مفعول الرؤية إيذانا، بأن رؤية الله سبحانه لما سيفعلونه من خير أو شرّ هي التي يدور عليها الإثابة أو العقوبة، وفي جملة: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب} إلى آخرها تخويف شديد، لما هي مشتملة عليه من التهديد، ولاسيما ما اشتملت عليه من وضع الظاهر موضع المضمر، لإشعار ذلك بإحاطته بكل شيء يقع منهم مما يكتمونه ويتظاهرون به، وإخباره لهم به ومجازاتهم عليه.
ثم ذكر أن هؤلاءالمعتذرين بالباطل سيؤكدون ما جاءوا به من الأعذار الباطلة بالحلف عند رجوع المؤمنين إليهم من الغزو، وغرضهم من هذا التأكيد هو: أن يعرض المؤمنون عنهم، فلا يوبخونهم ولا يؤاخذونهم بالتخلف، ويظهرون الرضا عنهم، كما يفيده ذكر الرضا من بعد، وحذف المحلوف عليه لكون الكلام يدلّ عليه، وهو اعتذارهم الباطل، وأمر المؤمنين بالإعراض عنهم المراد به: تركهم والمهاجرة لهم. لا الرضا عنهم والصفح عن ذنوبهم، كما تفيده جملة {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} الواقعة علة للأمر بالإعراض. والمعنى: أنهم في أنفسهم رجس لكون جميع أعمالهم نجسة، فكأنها قد صيرت ذواتهم رجساً، أو أنهم ذوو رجس: أي ذوو أعمال قبيحة، ومثله: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] وهؤلاء لما كانوا هكذا كانوا غير متأهلين لقبول الإرشاد إلى الخير، والتحذير من الشرّ، فليس لهم إلا الترك. وقوله: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} من تمام التعليل؛ فإن من كان من أهل النار لا يجدي فيه الدعاء إلى الخير، والمأوى كل مكان يأوي إليه الشيء، ليلاً أو نهاراً.
وقد أوى فلان إلى منزله، يأوي أوياً وإيواء. و{جَزَاء} منصوب على المصدرية، أو على العلية، والباء في {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} للسببية، وجملة: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ} بدل مما تقدّم. وحذف هنا المحلوف به لكونه معلوماً مما سبق، والمحلوف عليه لمثل ما تقدّم، وبين سبحانه أن مقصدهم بهذا الحلف هو رضا المؤمنين عنهم، ثم ذكر ما يفيد أنه لا يجوز الرضا عن هؤلاء المعتذرين بالباطل، فقال: {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} كما هو مطلوبهم مساعدة لهم {فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين} وإذا كان هذا هو ما يريده الله سبحانه من عدم الرضا على هؤلاء الفسقة العصاة، فينبغي لكم أيها المؤمنون أن لا تفعلوا خلاف ذلك، بل واجب عليكم أن لا ترضوا عنهم على أن رضاكم عنهم لو وقع لكان غير معتدّ به، ولا مفيد لهم. والمقصود من إخبار الله سبحانه بعدم رضاه عنهم، نهي المؤمنين عن ذلك؛ لأن الرضا على من لا يرضى الله عليه مما لا يفعله مؤمن.
قوله: {الأعراب أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} لما ذكر الله سبحانه أحوال المنافقين بالمدينة، ذكر حال من كان خارجاً عنها من الأعراب، وبين أن كفرهم ونفاقهم أشدّ من كفر غيرهم ومن نفاق غيرهم، لأنهم أقسى قلباً وأغلظ طبعاً وأجفى قولاً، وأبعد عن سماع كتب الله، وما جاءت به رسله. والأعراب: هم من سكن البوادي بخلاف العرب، فإنه عام لهذا النوع من بني آدم، سواء سكنوا البوادي أو القرى، هكذا قال أهل اللغة، ولهذا قال سيبويه: إن الأعراب صيغة جمع وليست بصيغة جمع العرب. قال النيسابوري: قال أهل اللغة: رجل عربي إذا كان نسبه إلى العرب ثابتاً، وجمعه عرب، كالمجوسيّ والمجوس، واليهوديّ واليهود؛ فالأعرابي إذا قيل له: يا عربي، فرح، وإذا قيل للعربي: يا أعرابي غضب، وذلك أن من استوطن القرى العربية فهو عربي، ومن نزل البادية فهو أعرابي، ولهذا لا يجوز أن يقال لللمهاجرين والأنصار أعراب، وإنما هم عرب. قال: قيل: إنما سمي العرب عرباً لأن أولاد إسماعيل عليه السلام نشئوا بالعرب، وهي من تهامة فنسبوا إلى بلدهم، وكل من يسكن جزيرة العرب، وينطق بلسانهم فهو منهم. وقيل: لأن ألسنتهم معربة، عما في ضمائرهم، ولما في لسانهم من الفصاحة والبلاغة. انتهى. {وَأَجْدَرُ} معطوف على {أشد} ومعناه: أخلق، يقال: فلان جدير بكذا: أي خليق به، وأنت جدير أن تفعل كذا، والجمع: جدر، أو جديرون، وأصله من جدر الحائط، وهو رفعه بالبناء.
والمعنى: أنهم أحق وأخلق بألا يعلموا حدود ما أنزل الله من الشرائع والأحكام، لبعدهم عن مواطن الأنبياء، وديار التنزيل {والله عَلِيمٌ} بأحوال مخلوقاته على العموم. وهؤلاء منهم: {حَكِيمٌ} فيما يجازيهم به من خير وشرّ.
قوله: {وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} هذا تنويع لجنس إلى نوعين، الأوّل: هؤلاء، والثاني: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله} والمغرم: الغرامة والخسران، وهو ثاني مفعولي يتخذ، لأنه بمعنى الجُعل، والمعنى: اعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران، وأصل الغرم والغرامة، ما ينفقه الرجل وليس بلازم له في اعتقاده، ولكنه ينفقه للرياء والتقية. وقيل: أصل الغرم: اللزوم، كأنه اعتقد أنه يلزمه لأمر خارج لا تنبعث له النفس. و{الدوائر} جمع دائرة، وهي الحالة المنقلبة عن النعمة إلى البلية، وأصلها: ما يحيط بالشيء، ودوائر الزمان: نوبه وتصاريفه، ودوله، وكأنها لا تستعمل إلا في المكروه، ثم دعا سبحانه عليهم بقوله: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} وجعل ما دعا به عليهم مماثلاً لما أرادوه بالمسلمين، و{السوء} بالفتح عند جمهور القراء مصدر أضيفت إليه الدائرة للملابسة، كقولك رجل صدق. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير، بضم السين، وهو المكروه. قال الأخفش: أي: عليهم دائرة الهزيمة والشرّ.
وقال الفراء: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء}: العذاب والبلاء. قال: والسوء بالفتح مصدر سؤته سوءاً ومساءة، وبالضم اسم لا مصدر، وهو كقولك: دائرة البلاء والمكروه {والله سَمِيعٌ} لما يقولونه {عَلِيمٌ} بما يضمرونه.
قوله: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} هذا النوع الثاني من أنواع الأعراب كما تقدّم: أي: يصدّق بهما {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ} أي: يجعل ما ينفقه في سبيل الله {قربات} وهي: جمع قربة، وهي ما يتقرب به إلى الله سبحانه، تقول منه قربت لله قرباناً، والجمع: قرب وقربات. والمعنى: أنه يجعل ما ينفقه سبباً لحصول القربات {عِندَ الله} وسبباً ل {صلوات الرسول} أي: لدعوات الرسول لهم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين، ومنه قوله: {وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلواتك سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103]، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى» ثم إنه سبحانه بين بأن ما ينفقه هذا النوع من الأعراب تقرّباً إلى الله مقبول واقع على الوجه الذي أرادوه، فقال: {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} فأخبر سبحانه بقبولها خبراً مؤكداً باسمية الجملة، وحرفي التنبيه والتحقيق، وفي هذا من التطييب لخواطرهم، والتطمين لقلوبهم ما لا يقادر قدره، مع ما يتضمنه من النعي على من يتخذ ما ينفق مغرماً، والتوبيخ له بأبلغ وجه، والضمير في {إنها} راجع إلى {ما} في {ما ينفق} وتأنيثه باعتبار الخبر.
وقرأ نافع، في رواية عنه {قُربة} بضم الراء، وقرأ الباقون: بسكونها تخفيفاً، ثم فسر سبحانه القربة بقوله: {سَيُدْخِلُهُمُ الله في رَحْمَتِهِ} والسين لتحقيق الوعد.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله: {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} قال: أخبرنا أنكم لو خرجتم ما زدتمونا إلا خبالاً، وفي قوله: {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} قال: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم، قال للمؤمنين: «لا تكلموهم ولا تجالسوهم»، فأعرضوا عنهم كما أمر الله.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، في قوله: {لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} قال: لتجاوزوا عنهم.
وأخرج أبو الشيخ، عنه، في قوله: {الأعراب أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} قال: من منافقي المدينة {وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ} يعني: الفرائض، وما أمر به من الجهاد.
وأخرج أبو الشيخ، عن الكلبي، أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن» وإسناد أحمد هكذا: حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدّثنا سفيان عن أبي موسى، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره. قال في التقريب: وأبو موسى عن وهب بن منبه مجهول من السادسة، ووهم من قال إنه إسرائيل بن موسى، وقال الترمذي بعد إخراجه: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الثوري.
وأخرج أبو داود، والبيهقي، من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد أحد من سلطانه قرباً إلا ازداد من الله بعداً».
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، في قوله: {وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} قال: يعني بالمغرم أنه لا يرجو له ثواباً عند الله ولا مجازاة، وإنما يعطي من يعطي من الصدقات كرهاً {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر} الهلكات.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، في الآية قال: هؤلاء المنافقون من الأعراب الذين إنما ينفقون رياء اتقاء على أن يغزوا ويحاربوا، ويقاتلوا ويرون نفقاتهم مغرماً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله} قال: هم بنو مقرّن من مزينة، وهم الذين قال الله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} الآية.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن عبد الرحمن بن معقل، قال: كنا عشرة ولد مقرن، فنزلت فينا: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {وصلوات الرسول} يعني: استغفار النبي صلى الله عليه وسلم.