فصل: تفسير الآيات (115- 119):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (115- 119):

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}
لما نزلت الآية المتقدّمة في النهي عن الاستغفار للمشركين، خاف جماعة ممن كان يستغفر لهمَ العقوبة من الله بسبب ذلك الاستغفار، فأنزل الله سبحانه: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً} إلخ: أي أن الله سبحانه لا يوقع الضلال على قوم، ولا يسميهم ضلالاً بعد أن هداهم إلى الإسلام، والقيام بشرائعه، مالم يقدموا على شيء من المحرّمات بعد أن يتبين لهم أنه محرّم، وأما قبل أن يتبين لهم ذلك، فلا إثم عليهم ولا يؤاخذون به، ومعنى: {حتى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} حتى يتبين لهم ما يجب عليهم اتقاؤه من محرّمات الشرع {إِن الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ} مما يحلّ لعباده، ويحرم عليه، ومن سائر الأشياء التي خلقها، ثم بين لهم أن له سبحانه ملك السموات والأرض لا يشاركه في ذلك مشارك، ولا ينازعه منازع يتصرف في ملكه بما شاء من التصرفات التي من جملتها أنه يحيى من قضت مشيئته بإحيائه، ويميت من قضت مشيته بإماتته، وما لعباده من دونه من وليّ يواليهم، ولا نصير ينصرهم، فلا يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى، فإن القرابة لا تنفع شيئاً ولا تؤثر أثراً، بل التصرف في جميع الأشياء لله وحده.
قوله: {لَقَدْ تَابَ الله على النبى} فيما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الإذن في التخلف، أو فيما وقع منه من الاستغفار للمشركين. وليس من لازم التوبة أن يسبق الذنب ممن وقعت منه أوله، لأن كل العباد محتاج إلى التوبة والاستغفار.
وقد تكون التوبة منه تعالى على النبي من باب أنه ترك ما هو الأولى، والأليق، كما في قوله: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]. ويجوز أن يكون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأجل التعريض للمذنبين بأن يتجنبوا الذنوب، ويتوبوا عما قد لابسوه منها، وكذلك تاب الله سبحانه على المهاجرين والأنصار، فيما قد اقترفوه من الذنوب. ومن هذا القبيل ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: «إن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ثم وصف سبحانه المهاجرين والأنصار بأنهم الذين اتبعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يتخلفوا عنه، وساعة العسرة هي غزوة تبوك، فإنهم كانوا في عسرة شديدة، فالمراد بالساعة جميع أوقات تلك الغزاة، ولم يرد ساعة بعينها، والعسرة: صعوبة الأمر.
قوله: {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ} في {كاد} ضمير الشأن، و{قلوب} مرفوع ب {يزيغ} عند سيبويه. وقيل: هي مرفوعة ب {كاد} ويكون التقدير: من بعد ما كان قلوب فريق منهم تزيغ. وقرأ الأعمش وحمزة وحفص: {يزيغ} بالتحتية.
قال أبو حاتم: من قرأ بالياء التحتية، فلا يجوز له أن يرفع القلوب ب {كاد}. قال النحاس: والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجمع، ومعنى: {تزيغ} تتلف بالجهد والمشقة والشدّة. وقيل معناه: تميل عن الحق وتترك المناصرة والممانعة. وقيل معناه: تهمّ بالتخلف عن الغزو لما هم فيه من الشدّة العظيمة. وفي قراءة ابن مسعود: {من بعد ما زاغت} وهم المتخلفون على هذه القراءة. وفي تكرير التوبة عليهم بقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} تأكيد ظاهر واعتناء بشأنها، هذا إن كان الضمير راجعاً إلى من تقدّم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار.
قوله: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ} أي: وتاب على الثلاثة الذين خلفوا: أي أخروا، ولم تقبل توبتهم في الحال كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم. قال ابن جرير: معنى خلفوا: تركوا، يقال: خلفت فلاناً فارقته. وقرأ عكرمة بن خالد {خلفوا} بالتخفيف: أي أقاموا بعد نهوض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الغزو. وقرأ جعفر بن محمد {خالفوا} وهؤلاء الثلاثة هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، أو ابن ربيعة العامري، وهلال ابن أمية الواقفي، وكلهم من الأنصار، لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم توبتهم، حتى نزل القرآن بأن الله قد تاب عليهم؛ وقيل: معنى {خلفوا}: فسدوا، مأخوذ من خلوف الفم. قوله: {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} معناه: أنهم أخروا عن قبول التوبة إلى هذه الغاية، وهي وقت أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، و{ما} مصدرية: أي برحبها، لإعراض الناس عنهم وعدم مكالمتهم من كل أحد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الناس أن يكالموهم. والرحب: الواسع. يقال: منزل رحب ورحيب ورحاب. وفي هذه الآية دليل على جواز هجران أهل المعاصي تأديباً لهم؛ لينزجروا عن المعاصي. ومعنى ضيق أنفسهم عليهم: أنها ضاقت صدورهم بما نالهم من الوحشة وبما حصل لهم من الجفوة، وعبر بالظن في قوله: {وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ} عن العلم: أي علموا أن لا ملجأ يلجؤون إليه قط، إلا إلى الله سبحانه بالتوبة والاستغفار. قوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} أي: رجع عليهم بالقبول والرحمة، وأنزل في القرآن التوبة عليهم ليستقيموا أو وفقهم للتوبة فيما يستقبل من الزمان إن فرطت منهم خطيئة ليتوبوا عنها، ويرجعوا إلى الله فيها ويندموا على ما وقع منهم {إِنَّ الله هُوَ التواب} أي: الكثير القبول لتوبة التائبين، {الرحيم} أي: الكثير الرحمة لمن طلبها من عباده. قوله: {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} هذا الأمر بالكون مع الصادقين بعد قصة الثلاثة فيه الإشارة إلى أن هؤلاء الثلاثة حصل لهم بالصدق ما حصل من توبة الله، وظاهر الآية الأمر للعباد على العموم.
وقد أخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} قال: نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الأسارى. قال: لم يكن لكم أن تأخذوه حتى يؤذن لكم، ولكن ما كان الله ليعذب قوماً بذنب أذنبوه {حتى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} قال: حتى ينهاهم قبل ذلك.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في الآية قال: بيان الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعته ومعصيته عاما ما فعلوا أو تركوا.
وأخرج ابن جرير، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي، والضياء في المختارة، عن ابن عباس، أنه قال لعمر بن الخطاب: حدّثنا من شأن ساعة العسرة، فقال: خرجنا مع رسول الله إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فرثه، فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، إن الله قد عوّدك في الدعاء خيراً فادع لنا، فرفع يديه، فلم يرجعهما حتى قالت السماء، فأهطلت ثم سكبت، فملؤوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر.
وقد وقع الاتفاق بين الرواة أن ساعة العسرة هي غزوة تبوك.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن منده، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وابن عساكر، عن جابر بن عبد الله، في قوله: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ} قال: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكلهم من الأنصار.
وأخرج ابن منده، وابن عساكر، عن ابن عباس، مثله.
وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما، عن كعب بن مالك قال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحداً تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين توافقنا على الإسلام، وما أحبّ أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر منها في الناس وأشهر، ثم ذكر القصة الطويلة المشهورة في كتب الحديث والسير، وهي معلومة عند أهل العلم فلا نطول بذكرها.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الضحاك، في قوله: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ} قال: يعني: خلفوا عن التوبة، لم يتب عليهم حين تاب الله على أبي لبابة وأصحابه.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن عساكر، عن عكرمة نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن نافع، في قوله: {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} قال: نزلت في الثلاثة الذين خلفوا، قيل لهم: كونوا مع محمد وأصحابه.
وأخرج ابن جرير، عن سعيد بن جبير، في قوله: {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} قال: مع أبي بكر وعمر.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن عساكر، عن الضحاك في الآية قال: مع أبي بكر، وعمر، وأصحابهما.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، قال: مع عليّ بن أبي طالب.
وأخرج ابن عساكر، عن أبي جعفر، قال: مع الثلاثة الذين خلفوا.

.تفسير الآيات (120- 121):

{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)}
في قوله: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة} إلخ، زيادة تأكيد لوجوب الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحريم التخلف عنه: أي ما صح وما استقام لأهل المدينة {وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعراب} كمزينة وجهينة، وأشجع وأسلم وغفار {أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله} صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وإنما خصهم الله سبحانه لأنهم قد استنفروا، فلم ينفروا، بخلاف غيرهم من العرب، فإنهم لم يستنفروا مع كون هؤلاء لقربهم وجوارهم أحق بالنصرة والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي: وما كان لهم أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، فيشحون بها ويصونونها، ولا يشحون بنفس رسول الله، ويصونونها كما شحوا بأنفسهم وصانوها، يقال: رغبت عن كذا: أي ترفعت عنه، بل واجب عليهم أن يكابدوا معه المشاق، ويجاهدوا بين يديه أهل الشقاق. ويبذلوا أنفسهم دون نفسه؛ وفي هذا الإخبار معنى الأمر لهم مع ما يفيده إيراده على هذه الصيغة من التوبيخ لهم، والتقريع الشديد، والتهييج لهم، والإزراء عليهم. والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما يفيده السياق من وجوب المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ذلك الوجوب عليهم بسبب أنهم مثابون على أنواع المتاعب، وأصناف الشدائد. والظمأ: العطش، والنصب: التعب، والمخمصة: المجاعة الشديدة التي يظهر عندها ضمور البطن. وقرأ عبيد بن عمير {ظماء} بالمد. وقرأ غيره بالقصر، وهما لغتان مثل خطأ وخطاء، و{لا} في هذه المواضع زائدة للتأكيد. ومعنى {فِى سَبِيلِ الله} في طاعة الله.
قوله: {وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكفار} أي: لا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بأقدامهم، أو بحوافر خيولهم أو بأخفاف رواحلهم، فيحصل بسبب ذلك الغيظ للكفار. والموطئ: اسم مكان، ويجوز أن يكون مصدراً {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً} أي: يصيبون من عدوّهم قتلاً أو أسراً أو هزيمة أو غنيمة، وأصله: من نلت الشيء أنال: أي أصيب. قال الكسائي: هو من قولهم: أمر منيل منه، وليس هو من التناول، إنما التناول من نلته بالعطية. قال غيره: نلت أنول من العطية، ونلته أناله: أدركته، والضمير في {بِهِ} يعود إلى كل واحد من الأمور المذكورة، والعمل الصالح: الحسنة المقبولة: أي إلا كتبه الله لهم حسنة مقبولة يجازيهم بها، وجملة: {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} في حكم التعليل لما سبق مع كونه يشمل كل محسن، ويصدق على المذكورين هنا صدقاً أوّلياً.
قوله: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً} معطوف على ما قبله: أي ولا يقع منهم الإنفاق في الحرب، وإن كان شيئاً صغيراً يسيراً {وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا} وهو في الأصل كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل، والعرب تقول: واد وأودية على غير قياس.
قال النحاس: ولا يعرف فيما علمت فاعل وأفعلة {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ} أي: كتب لهم ذلك الذي عملوه من النفقة والسفر في الجهاد {لِيَجْزِيَهُمُ الله} به {أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: أحسن جزاء ما كانوا يعملون من الأعمال، ويجوز أن يكون في قوله: {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ} ضمير يرجع إلى عمل صالح.
وقد ذهب جماعة إلى أن هذه الآية منسوخة بالآية المذكورة بعدها، وهي قوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} فإنها تدل على جواز التخلف من البعض، مع القيام بالجهاد من البعض، وسيأتي.
وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق عمر بن مالك، عن بعض الصحابة قال: لما نزلت: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة} الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي بعثني بالحق لولا ضعفاء الناس ما كانت سرية إلا كنت فيها».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن زيد، في قوله: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة} قال هذا حين كان الإسلام قليلاً لم يكن لأحد أن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كثر الإسلام وفشا قال الله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً}.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، وإبراهيم بن محمد الفزاري، وعيسى بن يونس السبيعي، أنهم قالوا في قوله تعالى: {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً} قالوا: هذه الآية للمسلمين إلى أن تقوم الساعة.

.تفسير الآيات (122- 123):

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)}
اختلف المفسرون في معنى: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} فذهب جماعة إلى أنه من بقية أحكام الجهاد؛ لأن سبحانه لما بالغ في الأمر بالجهاد والانتداب إلى الغزو، كان المسلمون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية من الكفار ينفرون جميعاً ويتركون المدينة خالية، فأخبرهم الله سبحانه بأنه ما كان لهم ذلك، أي ما صحّ لهم، ولا استقام أن ينفروا جميعاً، بل ينفر من كل فرقة منهم طائفة من تلك الفرقة، ويبقى من عدا هذه الطائفة النافرة. قالوا: ويكون الضمير في قوله: {لّيَتَفَقَّهُواْ} عائداً إلى الفرقة الباقية. والمعنى: أن الطائفة من هذه الفرقة تخرج إلى الغزو، ومن بقي من الفرقة يقفون لطلب العلم، ويعلمون الغزاة إذا رجعوا إليهم من الغزو، أو يذهبون في طلبه إلى المكان الذي يجدون فيه من يتعلمون منه، ليأخذوا عنه الفقه في الدين، وينذروا قومهم وقت رجوعهم إليهم.
وذهب آخرون إلى أن هذه الآية ليست من بقية أحكام الجهاد، وهي حكم مستقلّ بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم، والتفقه في الدين، جعله الله سبحانه متصلاً بما دلّ على إيجاب الخروج إلى الجهاد، فيكون السفر نوعين: الأوّل: سفر الجهاد، والثاني: السفر لطلب العلم. ولا شك أن وجوب الخروج لطلب العلم إنما يكون إذا لم يجد الطالب من يتعلم منه في الحضر من غير سفر. والفقه: هو العلم بالأحكام الشرعية، وبما يتوصل به إلى العلم بها من لغة ونحو، وصرف وبيان وأصول. ومعنى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ} فهلا نفر، والطائفة في اللغة: الجماعة.
وقد جعل الله سبحانه الغرض من هذا هو التفقه في الدين، وإنذار من لم يتفقه. فجمع بين المقصدين الصالحين والمطلبين الصحيحين، وهما تعلم العلم وتعليمه، فمن كان غرضه بطلب العلم غير هذين، فهو طالب لغرض دنيوي لا لغرض دينيّ، فهو كماقلت:
وطالب الدنيا بعلم الدين أي بائس ** كمن غدا لنعله يمسح بالقلانس

ومعنى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} الترجي لوقوع الحذر منهم عن التعريض فيما يجب فعله فيترك، أو فيما يجب تركه فيفعل، ثم أمر سبحانه المؤمنين بأن يجتهدوا في مقاتلة من يليهم من الكفار، وأن يأخذوا في حربهم بالغلظة والشدّة، والجهاد واجب لكل الكفار، وإن كان الابتداء بمن يلى المجاهدين منهم أهمّ وأقدم، ثم الأقرب فالأقرب؛ ثم أخبرهم الله بما يقوّي عزائمهم، ويثبت أقدامهم فقال: {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي: بالنصرة لهم، وتأييدهم على عدوّهم، ومن كان الله معه لم يقم له شيء.
وقد أخرج أبو داود في ناسخه، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، قال: نسخ هؤلاء الآيات: {انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً} [التوبة: 41] و{إِلاّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ} [التوبة: 39] قوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} يقول: لتنفر طائفة، وتمكث طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالماكثون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين يتفقهون في الدين، وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزو، ولعلهم يحذرون ما نزل من بعدهم من قضاء الله في كتابه وحدوده.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، عنه، نحوه من طريق أخرى بسياق أتمّ.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه، أيضاً في هذه الآية قال: ليست هذه الآية في الجهاد، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين، أجدبت بلادهم، فكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يخلوا بالمدينة من الجهد، ويقبلوا بالإسلام وهم كاذبون، فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم، فأنزل الله يخبر رسوله أنهم ليسوا بمؤمنين، فردّهم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم، فذلك قوله: {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وفي الباب روايات عن جماعة من التابعين.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُم} قال: الأدنى، فالأدنى.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، مثله.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عمر، أنه سئل عن غزو الديلم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار} قال: «الروم».
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} قال: شدّة.