فصل: تفسير الآيات (65- 70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (65- 70):

{وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}
قوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ}: نهى للنبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن من قول الكفار المتضمن: للطعن عليه وتكذيبه، والقدح في دينه. والمقصود: التسلية له والتبشير. ثم استأنف سبحانه الكلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معللاً لما ذكره من النهي لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} أي: الغلبة والقهر له في مملكته وسلطانه، ليست لأحد من عباده، وإذا كان ذلك كله له، فكيف يقدرون عليك حتى تحزن لأقوالهم الكاذبة، وهم لا يملكون من الغلبة شيئاً. وقرئ: {يحزنك} من أحزنه. وقرئ: {أن العزة} بفتح الهمزة على معنى، لأن العزّة لله، ولا ينافي ما في هذه الآية من جعل العزّة جميعها لله تعالى قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] لأن كل عزّة بالله، فهي: كلها لله. ومنه قوله: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21] {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51].
{أَلا إِنَّ للَّهِ مَن في السموات وَمَن في الأرض} ومن جملتهم هؤلاء المشركون المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كانوا في ملكه يتصرّف فيهم كيف يشاء، فكيف يستطيعون أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يأذن الله به، وغلب العقلاء على غيرهم؛ لكونهم أشرف. وفي الآية نعي على عباد البشر، والملائكة والجمادات؛ لأنهم عبدوا المملوك، وتركوا المالك، وذلك مخالف لما يوجبه العقل، ولهذا عقبه بقوله: {وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَاء} والمعنى: أنهم وإن سموا معبوداتهم شركاء لله، فليست شركاء له على الحقيقة، لأن ذلك محال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] و{ما} في و{ما يتبع} نافية وشركاء مفعول يتبع، وعلى هذا يكون مفعول يدعون محذوفاً، والأصل: وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء في الحقيقة: إنما هي: أسماء لا مسميات لها، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، ويجوز أن يكون المذكور مفعول {يدعون} وحذف مفعول يتبع لدلالة المذكور عليه، ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى: أيّ شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، ويكون على هذا الوجه {شركاء} منصوباً ب {يدعون} والكلام خارج مخرج التوبيخ لهم، والإزراء عليهم. ويجوز أن تكون {ما} موصولة معطوفة على {من في السموات}: أي لله من في السموات، ومن في الأرض، وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء؛ والمعنى: أن الله مالك لمعبوداتهم لكونها من جملة من في السموات ومن في الأرض. ثم زاد سبحانه في تأكيد الردّ عليهم، والدفع لأقوالهم، فقال: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} أي: ما يتبعون يقيناً إنما يتبعون ظناً، والظنّ لا يغني من الحق شيئاً {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} أي: يقدرون أنهم شركاء تقديراً باطلاً، وكذباً بحتاً، وقد تقدّمت هذه الآية في الأنعام.
ثم ذكر سبحانه طرفاً من آثار قدرته مع الامتنان على عباده ببعض نعمه، فقال: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} أي: جعل لعباده الزمان منقسماً إلى قسمين: أحدهما: مظلم وهو: الليل؛ لأجل يسكن العباد فيه عن الحركة والتعب، ويريحون أنفسهم عن الكدّ والكسب. والآخر: مبصر، لأجل يسعون فيه بما يعود على نفعهم، وتوفير معايشهم، ويحصلون ما يحتاجون إليه في وقت مضيء منير، لا يخفى عليهم فيه كبير ولا حقير، وجعله سبحانه للنهار مبصراً مجاز. والمعنى: أنه مبصر صاحبه كقولهم: نهاره صائم، والإشارة بقوله: {إِنَّ في ذَلِكَ} إلى الجعل المذكور {لآيَاتٍ} عجيبة كثيرة {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي: يسمعون ما يتلى عليهم من الآيات التنزيلية المنبهة على الآيات التكوينية مما ذكره الله سبحانه هاهنا منها، ومن غيرها مما لم يذكره، فعند السماع منهم لذلك يتفكرون ويعتبرون، فيكون ذلك من أعظم أسباب الإيمان.
قوله: {قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سبحانه هُوَ الغني} هذا نوع آخر من أباطيل المشركين التي كانوا يتكلمون بها، وهو زعمهم بأن الله سبحانه اتخذ ولداً، فردّ ذلك عليهم بقوله: {سبحانه هُوَ الغني} فتنزّه جل وعلا عما نسبوه إليه من هذا الباطل البين، وبين أنه غنيّ عن ذلك، وأن الولد إنما يطلب للحاجة. والغنيّ المطلق لا حاجة له حتى يكون له ولد يقضيها، وإذا انتفت الحاجة انتفى الولد، وأيضاً إنما يحتاج إلى الولد من يكون بصدد الانقراض، ليقوم الولد مقامه، والأزليّ القديم لا يفتقر إلى ذلك.
وقد تقدّم تفسير الآية في البقرة. ثم بالغ في الردّ عليهم بما هو كالبرهان، فقال: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} وإذا كان الكل له، وفي ملكه، فلا يصح أن يكون شيء مما فيهما ولداً له للمنافاة بين الملك والبنوّة والأبوّة. ثم زيف دعواهم الباطلة وبين أنها بلا دليل فقال: {إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا} أي: ماعندكم من حجة وبرهان بهذا القول الذي تم لونه، و{من} في: {مّن سلطان} زائدة للتأكيد، والجار والمجرور في {بهذا} متعلق إما بسلطان، لأنه بمعنى الحجة والبرهان، أو متعلق بما عندكم لما فيه من معنى الاستقرار. ثم وبخهم على هذا القول العاطل عن الدليل الباطل عند العقلاء فقال: {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْمَلُونَ} ويستفاد من هذا أن كل قول لا دليل عليه، ليس هو من العلم في شيء، بل من الجهل المحض.
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم قولاً يدلّ على أن ما قالوه كذب، وأن من كذب على الله لا يفلح، فقال: {قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} أي: كل مفتر هذا شأنه، ويدخل فيه هؤلاء دخولاً أوّلياً.
وذكر الكذب مع الافتراء للتأكيد كما سبق في مواضع من الكتاب العزيز. والمعنى: أن هؤلاء الذين يكذبون على ربهم لا يفوزون بمطلب من المطالب. ثم بين سبحانه أن هذا الافتراء وإن فاز صاحبه بشيء من المطالب العاجلة، فهو متاع قليل في الدنيا، ثم يتعقبه الموت والرجوع إلى الله، فيعذب المفتري عذاباً مؤبّداً. فيكون {متاع} خبر مبتدأ محذوف، والجملة مستأنفة لبيان أن ما يحصل للمفترى بافترائه ليس بفائدة يعتدّ بها، بل هو متاع يسير في الدنيا، يتعقبه العذاب الشديد بسبب الكفر الحاصل بأسباب من جملتها الكذب على الله.
وقال الأخفش: إن التقدير: لهم متاع في الدنيا، فيكون المحذوف على هذا هو الخبر.
وقال الكسائي: التقدير ذلك متاع أو هو متاع، فيكون المحذوف على هذا هو المبتدأ.
وقد أخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، قال: في قوله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ}: لما لم ينتفعوا بما جاءهم من الله وأقاموا على كفرهم، كبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه من الله فيما يعاتبه: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السميع العليم} يسمع ما يقولون ويعلمه، فلو شاء بعزّته لانتصر منهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {والنهار مُبْصِراً} قال: منيراً.
وأخرج أبو الشيخ، عن الحسن، في قوله: {إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا} يقول: ما عندكم سلطان بهذا.

.تفسير الآيات (71- 74):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)}
لما بالغ سبحانه في تقرير البراهين الواضحة ودفع الشبهة المنهارة؛ شرع في ذكر قصص الأنبياء، لما في ذلك من التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {واتل عَلَيْهِمْ} أي: على الكفار المعاصرين لك، المعارضين لما جئت به بأقوالهم الباطلة {نَبَأَ نُوحٍ} أي: خبره، والنبأ هو الخبر الذي له خطر وشأن، والمراد: ما جرى له مع قومه الذين كفروا بما جاء به، كما فعله كفار قريش وأمثالهم: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} أي: وقت قال لقومه، والظرف منصوب بنبأ أو بدل منه بدل اشتمال، واللام في {لِقَوْمِهِ} لام التبليغ {ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى} أي: عظم وثقل، والمقام بفتح الميم: الموضع الذي يقام فيه، وبالضم الإقامة.
وقد اتفق القراء على الفتح، وكنى بالمقام عن نفسه كما يقال فعلته لمكان فلان: أي لأجله. ومنه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ} [الرحمن: 46] أي: خاف ربه، ويجوز أن يراد بالمقام: المكث: أي: شقّ عليكم مكثي بين أظهركم، ويجوز أن يراد بالمقام: القيام؛ لأن الواعظ يقوم حال وعظه؛ والمعنى: إن كان كبر عليكم قيامي بالوعظ في مواطن اجتماعكم، وكبر عليكم تذكيري لكم {بِآيَاتِ الله} التكوينية والتنزيلية، {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} هذه الجملة جواب الشرط، والمعنى: إني لا أقابل ذلك منكم إلا بالتوكل على الله، فإن ذلك دأبي الذي أنا عليه قديماً وحديثاً. ويجوز أن يريد إحداث مرتبة مخصوصة عن مراتب التوكل، ويجوز أن يكون جواب الشرط {فَأَجْمِعُواْ} وجملة {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} اعتراض، كقولك: إن كنت أنكرت عليّ شيئاً فالله حسبي. ومعنى: {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ} اعتزموا عليه، من أجمع الأمر: إذا نواه وعزم عليه قاله الفراء: وروي عن الفراء أنه قال: أجمع الشيء: أعدّه، وقال مؤرّج السدوسي: أجمع الأمر أفصح من أجمع عليه، وأنشد:
يا ليت شعري والمنى لا تنفع ** هل أغدون يوماً وأمري مجمع

وقال أبو الهيثم: أجمع أمره: جعله جميعاً بعدما كان متفرّقاً، وتفرّقه أن تقول مرّة أفعل كذا، ومرّة أفعل كذا، فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه: أي جعله جميعاً، فهذا هو الأصل في الإجماع، ثم صار بمعنى العزم، وقد اتفق جمهور القراء على نصب {شركاءكم} وقطع الهمزة من أجمعوا. وقرأ يعقوب، وعاصم الجحدري بهمزة وصل في {أجمعوا} على أنه من جمع يجمع جمعاً. وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، ويعقوب {وشركاؤكم} بالرفع. قال النحاس: وفي نصب الشركاء على قراءة الجمهور ثلاثة أوجه: الأوّل: بمعنى: وادعوا شركاءكم، قاله: الكسائي والفراء، أي ادعوهم لنصرتكم، فهو على هذا منصوب بفعل مضمر.
وقال محمد بن يزيد المبرد: هو معطوف على المعنى، كما قال الشاعر:
يا ليت زوجك في الوغى ** متقلداً سيفاً ورمحاً

والرمح لا يتقلد به، لكنه محمول كالسيف.
وقال الزجاج: المعنى مع شركائكم، فالواو على هذا واو مع. وأما على قراءة {اجمعوا} بهمزة وصل فالعطف ظاهر: أي اجمعوا أمركم، واجمعوا شركاءكم. وأما توجيه قراءة الرفع، فعلى عطف الشركاء على الضمير المرفوع في {أجمعوا} وحسن هذا العطف مع عدم التأكيد بمنفصل كما هو المعتبر في ذلك أن الكلام قد طال. قال النحاس وغيره: وهذه القراءة بعيدة؛ لأنه لو كان {شركاءكم} مرفوعاً لرسم في المصحف بالواو، وليس ذلك موجوداً فيه، قال المهدوي: ويجوز أن يرتفع الشركاء بالابتداء، والخبر محذوف: أي وشركاؤكم ليجمعوا أمرهم، ونسبة ذلك إلى الشركاء مع كون الأصنام لا تعقل، لقصد التوبيخ، والتقريع لمن عبدها.
وروي عن أبيّ أنه قرأ: {وادعوا شركاءكم} بإظهار الفعل. قوله: {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} الغمة: التغطية من قولهم، غمّ الهلال: إذا استتر، أي: ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً، قال طرفة:
لعمرك ما أمري عليّ بغمة ** نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد

هكذا قال الزجاج، وقال الهيثم: معناه لا يكن أمركم عليكم مبهماً. وقيل: إن الغمة: ضيق الأمر، كذا روي عن أبي عبيدة. والمعنى: لا يكن أمركم عليكم بمصاحبتي والمجاملة لي ضيقاً شديداً، بل ادفعوا هذا الضيق والشدّة بما شئتم، وقدرتم عليه، وعلى الوجهين الأوّلين: يكون المراد بالأمر الثاني هو الأمر الأول، وعلى الثالث: يكون المراد به غيره. قوله: {ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} أي ذلك الأمر الذي تريدونه بي، وأصل اقضوا: من القضاء، وهو الإحكام، والمعنى: أحكموا ذلك الأمر. قال الأخفش والكسائي: هو مثل: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر} [الحجر: 66] أي أنهيناه إليه وأبلغناه إياه، ثم {لا تنظرون}: أي لا تمهلون، بل عجلوا أمركم واصنعوا ما بدا لكم، وقيل معناه: ثم امضوا إليّ ولا تؤخرون، قال النحاس: هذا قول صحيح في اللغة، ومنه قضى الميت: مضى، وحكى الفراء عن بعض القراء أنه قرأ: {ثم أفضوا} بالفاء وقطع الهمزة، أي توجهوا، وفي هذا الكلام من نوح عليه السلام ما يدلّ على وثوقه بنصر ربه، وعدم مبالاته بما يتوعده به قومه.
ثم بيّن لهم أن كل ما أتى به إليهم من الإعذار والإنذار، وتبليغ الشريعة عن الله، ليس هو لطمع دنيويّ، ولا لغرض خسيس، فقال: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} أي: إن أعرضتم عن العمل بنصحي لكم، وتذكيري إياكم، فما سألتكم في مقابلة ذلك من أجر تؤدّونه إليّ حتى تتهموني فيما جئت به، والفاء في {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والفاء في {فَمَا سَأَلْتُكُمْ} جزائية {إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله} أي: ما ثوابي في النصح والتذكير إلا عليه سبحانه، فهو يثيبني آمنتم أو توليتم.
قرأ أهل المدينة، وأبو عمر، وابن عامر، وحفص، بتحريك الياء من {أجري} وقرأ الباقون بالسكون {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} المنقادين لحكم الله الذين يجعلون أعمالهم خالصة لله سبحانه، لا يأخذون عليها أجراً ولا يطمعون في عاجل.
قوله: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ في الفلك} أي: استمروا على تكذيبه أصرّوا على ذلك، وليس المراد أنهم أحدثوا تكذيبه بعد أن لم يكن، والمراد بمن معه: من قد أجابه وصار على دينه، والخلائف جمع خليفة، والمعنى: أنه سبحانه جعلهم خلفاء يسكنون الأرض التي كانت للمهلكين بالغرق، ويخلفونهم فيها {وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} من الكفار المعاندين لنوح، الذين لم يؤمنوا به أغرقهم الله بالطوفان {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} فيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهديد للمشركين، وتهويل عليهم.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ} أي: من بعد نوح {رُسُلاً} كهود وصالح، وإبراهيم ولوط، وشعيب {فَجَاءوهُم بالبينات} أي: بالمعجزات وبما أرسلهم الله به من الشرائع التي شرعها الله لقوم كل نبيّ {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي: فما أحدثوا الإيمان بل استمرّوا على الكفر وأصرّوا عليه، والمعنى: أنه ما صح ولا استقام لقوم من أولئك الأقوام الذين أرسل الله إليهم رسله أن يؤمنوا في وقت من الأوقات {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} أي: من قبل تكذيبهم الواقع منهم عند مجيء الرسل إليهم، والمعنى: أن كل قوم من العالم لم يؤمنوا عند أن أرسل الله إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم على الخصوص بما كانوا مكذبين به من قبل مجيئه إليهم؛ لأنهم كانوا غير مؤمنين، بل مكذبين بالدين، ولو كانوا مؤمنين لم يبعث إليهم رسولاً، وهذا مبنيّ على أن الضمير في {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} وفي: {بِمَا كَذَّبُواْ} راجع إلى القوم المذكورين في قوله: {إلى قَوْمِهِمْ} وقيل: ضمير {كذبوا} راجع إلى قوم نوح: أي فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح من قبل أن يأتي هؤلاء الأقوام الذين جاءوا من بعدهم {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} وقيل: إن الباء في {بما كذبوا به من قبل} للسببية، أي فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بسبب ما اعتادوه من تكذيب الحق من قبل مجيئهم، وفيه نظر. وقيل المعنى: بما كذبوا به من قبل: أي في عالم الذرّ فإن فيهم من كذب بقلبه، وإن آمنوا ظاهراً. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل: إنه لقوم بأعيانهم {كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين} أي: مثل ذلك الطبع العظيم نطبع على قلوب المتجاوزين للحدّ المعهود في الكفر، وقد تقدّم تفسير هذا في غير موضع.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن الأعرج، في قوله: {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ} يقول: فأحكموا أمركم، وادعوا شركاءكم.
وأخرج أيضاً عن الحسن في الآية أي: فليجمعوا أمرهم معكم.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} قال: لا يكبر عليكم أمركم {ثُمَّ اقضوا} ما أنتم قاضون.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {ثُمَّ اقضوا} قال: انهضوا {إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} يقول: ولا تؤخرون.