فصل: تفسير الآيات (18- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 24):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)}
قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} أي: لا أحد أظلم منهم لأنفسهم؛ لأنهم افتروا على الله كذباً بقولهم لأصنامهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وقولهم: الملائكة بنات الله، وأضافوا كلامه سبحانه إلى غيره، واللفظ وإن كان لا يقتضي إلا نفي وجود من هو أظلم منهم كما يفيده الاستفهام الإنكاري، فالمقام يفيد نفي المساوي لهم في الظلم. فالمعنى على هذا: لا أحد مثلهم في الظلم فضلاً عن أن يوجد من هو أظلم منهم، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الموصوفين بالظلم المتبالغ، وهو مبتدأ، وخبره {يعرضون على ربهم} فيحاسبهم على أعمالهم، أو المراد بعرضهم: عرض أعمالهم {وَيَقُولُ الأشهاد هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ} الأشهاد: هم الملائكة الحفظة، وقيل: المرسلون. وقيل: الملائكة والمرسلون والعلماء الذين بلغوا ما أمرهم الله بإبلاغه، وقيل جميع الخلائق. والمعنى: أنه يقول هؤلاء الأشهاد عند العرض: هؤلاء المعرضون أو المعروضة أعمالهم الذين كذبوا على ربهم بما نسبوه إليه ولم يصرّحوا بما كذبوا به، كأنه كان أمراً معلوماً عند أهل ذلك الموقف. قوله: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} هذا من تمام كلام الأشهاد أي: يقولون هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ويقولون: ألا لعنة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالافتراء، ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه، قاله بعدما قال الأشهاد {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم}. والأشهاد جمع شهيد، ورجحه أبو عليّ بكثرة ورود شهيد في القرآن كقوله: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً} [النساء: 41]، وقيل: هو جمع شاهد كأصحاب وصاحب، والفائدة في قول الأشهاد بهذه المقالة المبالغة في فضيحة الكفار، والتقريع لهم على رؤوس الأشهاد.
ثم وصف هؤلاء الظالمين الذين لعنوا بأنهم {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي: يمنعون من قدروا على منعه عن دين الله والدخول فيه {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي: يصفونها بالاعوجاج تنفيراً للناس عنها، أو يبغون أهلها أن يكونوا معوجين بالخروج عنها إلى الكفر، يقال بغيتك شرّاً: أي طلبته لك والحال أنهم {بالآخرة هُمْ كافرون} أي: يصفونها بالعوج، والحال أنهم بالآخرة غير مصدّقين، فكيف يصدّون الناس عن طريق الحق، وهم على الباطل البحت؟ وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به، حتى كأن كفر غيرهم غير معتدّ به بالنسبة إلى عظيم كفرهم {أولئك} الموصوفون بتلك الصفات {لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ في الأرض} أي: ما كانوا يعجزون الله في الدنيا إن أراد عقوبتهم {وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} يدفعون عنهم ما يريده الله سبحانه من عقوبتهم، وإنزال بأسه بهم، وجملة {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} مستأنفة لبيان أن تأخير العذاب والتراخي عن تعجيله لهم، ليكون عذاباً مضاعفاً.
وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويزيد ويعقوب {يضعف} مشدّداً {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} أي: أفرطوا في إعراضهم عن الحق، وبغضهم له، حتى كأنهم لا يقدرون على السمع ولا يقدرون على الإبصار، لفرط تعاميهم عن الصواب. ويجوز أن يراد بقوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله، ولا ينفعهم ذلك، فما كان هؤلاء الأولياء يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، فكيف ينفعونهم فيجلبون لهم نفعاً أو يدفعون عنهم ضرراً، ويجوز أن تكون {ما} هي المدية. والمعنى: أنه يضاعف لهم العذاب مدّة استطاعتهم السمع والبصر. قال الفراء: ما كانوا يستطيعون السمع، لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ.
وقال الزجاج: لبغضهم النبي صلى الله عليه وسلم. وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفهموا عنه. قال النحاس: هذا معروف في كلام العرب، يقال: فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان: إذا كان ثقيلاً عليه {أولئك} المتصفون بتلك الصفات {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} بعبادة غير الله. والمعنى: اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله، فكان خسرانهم في تجارتهم أعظم خسران {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي: ذهب وضاع ما كانوا يفترون من الآلهة التي يدّعون أنها تشفع لهم، ولم يبق بأيديهم إلا الخسران.
قوله: {لاَ جَرَمَ} قال الخليل وسيبويه: {لا جرم} بمعنى حق فهي عندهما بمنزلة كلمة واحدة، وبه قال الفراء.
وروي عن الخليل والفراء أنها: بمنزلة قولك: لابد ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً.
وقال الزجاج: إن جرم بمعنى كسب: أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وفاعل كسب مضمر، وأنّ منصوبة بجزم. قال الأزهري: وهذا من أحسن ما نقل في هذه اللغة.
وقال الكسائي: معنى لا جرم: لا صدّ ولا منع عن أنهم في الآخرة هم الأخسرون.
وقال جماعة من النحويين: إن معنى لا جرم لا قطع قاطع {أَنَّهُمْ في الآخرة هُمُ الأخسرون} قالوا: والجرم: القطع، وقد جرم النخل واجترمه: أي قطعه، وفي هذه الآية بيان أنهم في الخسران قد بلغوا إلى حدّ يتقاصر عنه غيرهم، ولا يبلغ إليه، وهذه الآيات مقرّرة لما سبق من نفي المماثلة بين من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها، وبين من كان على بينة من ربه {إِنَّ الذين ءامَنُواْ} أي: صدقوا بكل ما يجب التصديق به من كون القرآن من عند الله، وغير ذلك من خصال الإيمان {وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ} أي: أنابوا إليه، وقيل: خشعوا. وقيل: خضعوا. قيل: وأصل الإخبات: الاستواء في الخبث: وهو الأرض المستوية الواسعة فيناسب معنى الخشوع والاطمئنان. قال الفراء: إلى ربهم، ولربهم واحد {أولئك} الموصوفون بتلك الصفات الصالحة {أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون}.
قوله: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} ضرب للفريقين مثلاً وهو تشبيه فريق الكافرين بالأعمى والأصمّ، وتشبيه فريق المؤمنين بالبصير والسميع، على أن كل فريق شبه بشيئين، أو شبه بمن جمع بين الشيئين، فالكافر شبه بمن جمع بين العمى والصمم، والمؤمن شبّه بمن جمع بين السمع والبصر، وعلى هذا تكون الواو في {والأصمّ} وفي {والسميع} لعطف الصفة على الصفة، كما في قول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام

والاستفهام في قوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} للإنكار: يعني الفريقين، وهذه الجملة مقرّرة لما تقدّم من قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} وانتصاب مثلاً على التمييز من فاعل يستويان: أي هل يستويان حالاً وصفة {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} في عدم استوائهما، وفيما بينهما من التفاوت الظاهر الذي لا يخفى على من له تذكر، وعنده تفكر وتأمل، والهمزة لإنكار عدم التذكر واستبعاد صدوره عن المخاطبين.
وقد أخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ} قال: الكافر والمنافق {أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ على رَبّهِمْ} فيسألهم عن أعمالهم {وَيَقُولُ الأشهاد} الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا {هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ} شهدوا به عليهم يوم القيامة.
وأخرج ابن جرير، عن مجاهد، قال: «الأشهاد: الملائكة».
وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة، نحوه، وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يدني المؤمن حتى يضع كنفه ويستره من الناس ويقرّره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: ربّ أعرف، حتى إذا قرّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطي كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين}».
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ، في قوله: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} قال: هو محمد يعني سبيل الله، صدّت قريش عنه الناس.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك، في قوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} يعني: يرجون بمكة غير الإسلام ديناً.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ في الأرض} الآية قال: أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فإنه قال: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} وأما في الآخرة فإنه قال: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * خاشعة} [القلم: 42، 43].
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} قال: ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا خيراً فينتفعوا به، ولا يبصروا خيراً فيأخذوا به.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {*أخبتوا} قال: خافوا.
وأخرج ابن جرير، عنه، قال: الإخبات: الإنابة.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وأبو الشيخ، قال الإخبات: الخشوع والتواضع.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد، قال: اطمأنوا.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم} قال: الكافر {والبصير والسميع} قال: المؤمن.

.تفسير الآيات (25- 34):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)}
لما أورد سبحانه على الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم أنواع الدلائل التي هي أوضح من الشمس، أكد ذلك بذكر القصص على طريقة التفنن في الكلام، ونقله من أسلوب إلى أسلوب لتكون الموعظة أظهر والحجة أبين، والقبول أتمّ، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} قرأ ابن كثيرة، وأبو عمرو، والكسائي بفتح الهمزة على تقدير حرف الجر: أي أرسلناه بأنى: أي أرسلناه متلبساً بذلك الكلام، وهو أني لكم نذير مبين. وقرأ الباقون بالكسر على إرادة القول: أي قائلاً إني لكم، والواو في {ولقد} للابتداء، واللام هي الموطئة للقسم، واقتصر على النذارة دون البشارة، لأن دعوته كانت لمجرد الإنذار، أو لكونهم لم يعملوا بما بشرهم به، وجملة {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} بدل من إني لكم نذير مبين: أي أرسلناه بأن لا تعبدوا إلا الله، أو تكون أن مفسرة متعلقة بأرسلنا، أو بنذير، أو بمبين، وجملة: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} تعليلية. والمعنى: نهيتكم عن عبادة غير الله لأني أخاف عليكم، وفيها تحقيق لمعنى الإنذار، واليوم الأليم: هو يوم القيامة، أو يوم الطوفان؛ ووصفه بالأليم من باب الإسناد المجازي مبالغة.
ثم ذكر ما أجاب به قومه عليه، وهذا الجواب يتضمن الطعن منهم في نبوّته من ثلاث جهات، فقال: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قومِهِ} والملأ: الأشراف، كما تقدم غير مرة، ووصفهم بالكفر ذماً لهم، وفيه دليل على أن بعض أشراف قومه لم يكونوا كفرة {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} هذه الجهة الأولى من جهات طعنهم في نبوّته: أي: نحن وأنت مشتركون في البشرية، فلم يكن لك علينا مزية تستحق بها النبوّة دوننا، والجهة الثانية: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} ولم يتبعك أحد من الأشراف، فليس لك مزية علينا باتباع هؤلاء الأراذل لك. والأراذل: جمع أرذل، وأرذل جمع رذل، مثل: أكالب وأكلب وكلب. وقيل: الأراذل جمع الأرذل، كالأساود جمع أسود، وهم: السفلة. قال النحاس: الأراذل: الفقراء والذين لا حسب لهم، والحسب: الصناعات. قال الزجاج: نسبوهم إلى الحياكة، ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة.
وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: السفلة هو الذي يصلح الدنيا بدينه، قيل له: فمن سفلة السفلة؟ قال: الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه. والظاهر من كلام أهل اللغة: أن السفلة هو الذي يدخل في الحرف الدنية، والرؤية في الموضعين إن كانت القلبية ف {بشرا} في الأوّل، و{اتبعك} في الثاني هما المفعول الثاني، وإن كانت البصرية فهما منتصبان على الحال، وانتصاب {بادي الرأي} على الظرفية، والعامل فيه {اتبعك}.
والمعنى: في ظاهر الرأي من غير تعمق، يقال بدا يبدو: إذا ظهر. قال الأزهري: معناه فيما يبدو لنا من الرأي. والوجه الثالث: من جهات قدحهم في نبوّته {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} خاطبوه في الوجهين الأولين، منفرداً وفي هذا الوجه خاطبوه مع متبعيه أي: ما نرى لك ولمن اتبعك من الأراذل علينا من فضل يتميزون به، وتستحقون ما تدّعونه، ثم أضربوا عن الثلاثة المطاعن، وانتقلوا إلى ظنهم المجرّد عن البرهان الذي لا مستند له إلا مجرد العصبية، والحسد، واستبقاء ما هم فيه من الرياسة الدنيوية، فقالوا: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين} فيما تدّعونه، ويجوز أن يكون هذا خطاباً للأراذل وحدهم، والأوّل: أولى؛ لأن الكلام مع نوح لا معهم إلا بطريق التبعية له.
ثم ذكر سبحانه ما أجاب به نوح عليهم، فقال: {قَالَ يَاقَوْمٌ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} أي: أخبروني إن كنت على برهان من ربي في النبوّة يدل على صحتها ويوجب عليكم قبولها، مع كون ما جعلتموه قادحاً ليس بقادح في الحقيقة، فإن المساواة في صفة البشرية لا تمنع المفارقة في صفة النبوّة، واتباع الأراذل كما تزعمون ليس مما يمنع من النبوّة، فإنهم مثلكم في البشرية والعقل والفهم، فاتباعهم لي حجة عليكم لا لكم، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} هي: النبوّة، وقيل: الرحمة: المعجزة، والبينة: النبوّة. قيل: ويجوز أن تكون الرحمة هي: البينة نفسها، والأولى تفسير الرحمة بغير ما فسرت البينة، والإفراد في {فَعُمّيَتْ} على إرادة كل واحدة منهما، أو على إرادة البينة، لأنها هي التي تظهر لمن تفكر، وتخفى على من لم يتفكر، ومعنى عميت: خفيت؛ وقيل: الرحمة هي على الخلق، وقيل: هي الهداية إلى معرفة البرهان، وقيل: الإيمان، يقال عميت عن كذا، وعمي عليّ كذا: إذا لم أفهمه. قيل وهو من باب القلب، لأن البينة أو الرحمة لا تعمى وإنما يعمى عنها فهو كقولهم: أدخلت القلنسوة رأسي. وقرأ الأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص {فعميت} بضم العين وتشديد الميم على البناء للمفعول: أي فعماها الله عليكم، وفي قراءة أبيّ {فعماها عليكم} والاستفهام في {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} للإنكار: أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها، والحال أنكم {لها كارهون} والمعنى: أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة نبوّتي إلا أنها خافية عليكم أيمكنننا أن نضطركم إلى العلم بها، والحال أنكم لها كارهون غير متدبرين فيها، فإن ذلك لا يقدر عليه إلا الله عزّ وجلّ.
وحكى الكسائي والفراء إسكان الميم الأولى في {أنلزمكموها} تخفيفاً كما في قول الشاعر:
فاليوم أشرب غير مستحقب ** إثماً من الله ولا واغل

فإن إسكان الباء في أشرب للتخفيف.
وقد قرأ أبو عمرو كذلك.
قوله: {وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله} فيه التصريح منه عليه السلام بأنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالاً حتى يكون بذلك محلاً للتهمة، ويكون لقول الكافرين مجال بأنه إنما ادّعى ما ادعى طلباً للدنيا، والضمير في عليه راجع إلى ما قاله لهم، فيما قبل هذا. وقوله: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ} كالجواب عما يفهم من قولهم {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} من التلميح منهم إلى إبعاد الأراذل عنه. وقيل: إنهم سألوه طردهم تصريحاً لا تلميحاً، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ} أي: لا أطردهم، فإنهم ملاقون يوم القيامة ربهم فهو يجازيهم على إيمانهم لأنهم طلبوا ما عنده سبحانه، وكأنه قال هذا على وجه الإعظام لهم، ويحتمل أنه قاله خوفاً من مخاصمتهم له عند ربهم بسبب طرده لهم؛ ثم بين لهم ما هم عليه في هذه المطالب التي طلبوها منه، والعلل التي اعتلوا بها عن إجابته فقال: {ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} كل ما ينبغي أن يعلم، ومن ذلك استرذالهم للذين اتبعوه وسؤالهم له أن يطردهم. ثم أكد عدم جواز طردهم بقوله: {وياقوم مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ} أي: من يمنعني من عذاب الله وانتقامه إن طردتهم؟ فإن طردهم بسبب سبقهم إلى الإيمان والإجابة إلى الدعوة التي أرسل الله رسوله لأجلها ظلم عظيم، لا يقع من أنبياء الله المؤيدين بالعصمة، ولو وقع ذلك منهم فرضاً وتقديراً لكان فيه من الظلم مالا يكون لو فعله غيرهم من سائر الناس. وقوله: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} معطوف على مقدّر؛ كأنه قيل: أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل بما ذكر، أفلا تذكرون من أحوالهم ما ينبغي تذكره، وتتفكرون فيه، حتى تعرفوا ما أنتم عليه من الخطأ، وما هم عليه من الصواب.
قوله: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله} بين لهم أنه كما لا يطلب منهم شيئاً من أموالهم على تبليغ الرسالة، كذلك لا يدّعي أن عنده خزائن الله حتى يستدلوا بعدمها على كذبه، كما قالوا: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} والمراد بخزائن الله: خزائن رزقه {وَلا أَعْلَمُ الغيب} أي: ولا أدّعي أني أعلم بغيب الله، بل لم أقل لكم إلا أني نذير مبين، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم {وَلا أَقُولُ} لكم {إِنّى مَلَكٌ} تقولوا ما نراك إلا بشراً مثلنا.
وقد استدلّ بهذا من قال: إن الملائكة أفضل من الأنبياء، والأدلة في هذه المسألة مختلفة، وليس لطالب الحق إلى تحقيقها حاجة، فليست مما كلفنا الله بعلمه {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ} أي: تحتقر، والازدراء مأخوذ من أزرى عليه: إذا عابه، وزري عليه: إذا احتقره، وأنشد الفراء:
يباعده الصديق وتزدريه ** خليلته وينهره الصغير

والمعنى: إني لا أقول لهؤلاء المتبعين لي المؤمنين بالله الذين تعيبونهم وتحتقرونهم {لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا} بل قد آتاهم الخير العظيم بالإيمان به واتباع نبيه؛ فهو مجازيهم بالجزاء العظيم في الآخرة، ورافعهم في الدنيا إلى أعلى محل، ولا يضرّهم احتقاركم لهم شيئاً {الله أَعْلَمُ بِمَا في أَنفُسِهِمْ} من الإيمان به، والإخلاص له، فمجازيهم على ذلك، ليس لي ولا لكم من أمرهم شيء {إِنّى إِذًا لَّمِنَ الظالمين} لهم إن فعلت ما تريدونه بهم، أو من الظالمين لأنفسهم إن فعلت ذلك بهم، ثم جاوبوه بغير ما تقدّم من كلامهم وكلامه عجزاً عن القيام بالحجة، وقصوراً عن رتبة المناظرة، وانقطاعاً عن المباراة بقولهم: {يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أي: خاصمتنا بأنواع الخصام، ودفعتنا بكل حجة لها مدخل في المقام، ولم يبق لنا في هذا الباب مجال، فقد ضاقت علينا المسالك، وانسدّت أبواب الحيل {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب الذي تخوّفنا منه، وتخافه علينا {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} فيما تقوله لنا، فأجاب بأن ذلك ليس إليه وإنما هو بمشيئة الله وإرادته، و{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء} فإن قضت مشيئته وحكمته بتعجيله عجله لكم، وإن قضت مشيئته وحكمته بتأخيره أخره {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بفائتين عما أراده الله بكم بهرب أو مدافعة.
{وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} الذي أبذله لكم، وأستكثر منه قياماً مني بحق النصيحة لله بإبلاغ رسالته، ولكم بإيضاح الحق وبيان بطلان ما أنتم عليه {إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} وجواب هذا الشرط محذوف، والتقدير: إن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي، كما يدل عليه ما قبله: {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} أي: إن كان الله يريد إغواءكم، فلا ينفعكم النصح مني، فكان جواب هذا الشرط محذوفاً كالأوّل، وتقديره ما ذكرنا، وهذا التقدير إنما هو على مذهب من يمنع من تقدّم الجزاء على الشرط، وأما على مذهب من يجيزه، فجزاء الشرط الأوّل، {ولا ينفعكم نصحي} وجزاء الشرط الثاني الجملة الشرطية الأولى وجزاؤها. قال ابن جرير: معنى {يغويكم} يهلككم بعذابه، وظاهر لغة العرب أن الإغواء: الإضلال؛ فمعنى الآية: لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يضلكم عن سبيل الرشاد، ويخذلكم عن طريق الحق.
وحكى عن طيّ: أصبح فلان غاوياً: أي مريضاً، وليس هذا المعنى هو المراد في الآية.
وقد ورد الإغواء بمعنى الإهلاك، ومنه: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} [مريم: 59] وهو غير ما في هذه الآية {هُوَ رَبُّكُمْ} فإليه الإغواء وإليه الهداية {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى} قال: فيما ظهر لنا.
وأخرج أبو الشيخ، عن عطاء، مثله.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} قال: قد عرفتها وعرفت بها أمره، وأنه لا إله إلا هو، {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِه} قال: الإسلام الهدى والإيمان، والحكم والنبوّة.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} قال: أما والله لو استطاع نبيّ الله لألزمها قومه، ولكنه لم يستطع ذلك ولم يمكنه.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ: {أنلزمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون}.
وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية، قال في قراءة أبيّ: {أنلزمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن أبيّ بن كعب، أنه قرأ: {أنلزمكموها من شطر قلوبنا}.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ} قال: قالوا له: يا نوح، إن أحببت أن نتبعك فاطردهم، وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأرض سواء، وفي قوله: {إِنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ} قال: فيسألهم عن أعمالهم {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله} التي لا يفنيها شيء، فأكون إنما دعوتكم لتتبعوني عليها، لا أعطيكم بملكه لي عليها {وَلا أَعْلَمُ الغيب} لا أقول: اتبعوني على علمي بالغيب {وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ} نزلت من السماء برسالة، ما أنا إلا بشر مثلكم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ}. قال: حقرتموهم.
وأخرج أبو الشيخ، عن السدي، في قوله: {لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا} قال: يعني: إيماناً.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} قال: تكذيباً بالعذاب، وأنه باطل.