فصل: تفسير الآيات (45- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (45- 49):

{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)}
معنى: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ} دعاه، والمراد: أراد دعاءه، بدليل الفاء في: {فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى} وعطف الشيء على نفسه غير سائغ، فلابد من التقدير المذكور، ومعنى قوله: {إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى} أنه من الأهل الذين وعدتني بتنجيتهم بقولك: وأهلك. فإن قيل: كيف طلب نوح عليه السلام إنجاز ما وعده الله بقوله: {وَأَهْلَكَ} وهو المستثنى منه، وترك ما يفيده الاستثناء، وهو: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول}؟ فيجاب بأنه لم يعلم إذ ذاك أنه ممن سبق عليه القول، فإنه كان يظنه من المؤمنين {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق} الذي لا خلف فيه، وهذا منه {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} أي: أتقن المتقنين لما يكون به الحكم، فلا يتطرق إلى حكمك نقض، وقيل: أراد ب {أحكم الحاكمين} أعلمهم وأعدلهم: أي: أنت أكثر علماً وعدلاً من ذوي الحكم. وقيل: إن الحاكم بمعنى: ذي الحكمة كدارع.
ثم أجاب الله سبحانه عن نوح ببيان أن ابنه غير داخل في عموم الأهل، وأنه خارج بقيد الاستثناء فقال: {يا نُوحٍ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الذين آمنوا بك، وتابعوك، وإن كان من أهلك باعتبار القرابة؛ ثم صرح بالعلة الموجبة لخروجه من عموم الأهل المبينة له بأن المراد بالقرابة قرابة الدين، لا قرابة النسب، وحده، فقال: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} قرأ الجمهور: {عمل} على لفظ المصدر. وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والكسائي، ويعقوب، {عمل} على لفظ الفعل؛ ومعنى القراءة الأولى المبالغة في ذمه، كأنه جعل نفس العمل، وأصله ذو عمل غير صالح ثم حذف المضاف وجعل نفس العمل، كذا قال الزجاج وغيره. ومعنى القراءة الثانية ظاهر: أي إنه عمل عملاً غير صالح، وهو: كفره وتركه لمتابعة أبيه؛ ثم نهاه عن مثل هذا السؤال، فقال: {فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} لما بين له بطلان ما اعتقده من كونه من أهله، فرّع على ذلك النهي عن السؤال، وهو وإن كان نهياً عاماً بحيث يشمل كل سؤال، لا يعلم صاحبه أن حصول مطلوبه منه صواب، فهو يدخل تحته سؤاله هذا دخولاً أوّلياً، وفيه عدم جواز الدعاء بما لا يعلم الإنسان مطابقته للشرع، وسمى دعاءه سؤالاً لتضمنه معنى السؤال {إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} أي: أحذرك أن تكون من الجاهلين، كقوله: {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً} [النور: 17] وقيل: المعنى: أرفعك أن تكون من الجاهلين. قال ابن العربي: وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحاً عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء العاملين.
ثم لما علم نوح بأن سؤاله لم يطابق الواقع، وأن دعاءه ناشئ عن وهم كان يتوهمه، بادر إلى الاعتراف بالخطأ، وطلب المغفرة والرحمة، فقال: {رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ} أي: أعوذ بك أن أطلب منك ما لا علم لي بصحته وجوازه، {وإلا تَغْفِرْ لِى} ذنب ما دعوت به على غير علم مني {وَتَرْحَمْنِى} برحمتك التي وسعت كل شيء، فتقبل توبتي {أَكُن مّنَ الخاسرين} في أعمالي، فلا أربح فيها.
القائل: هو الله، أو الملائكة {قِيلَ يانوح اهبط} أي: انزل من السفينة إلى الأرض، أو من الجبل إلى المنخفض من الأرض، فقد بلعت الأرض ماءها، وجفت {بسلام مّنَّا} أي: بسلامة وأمن، وقيل: بتحية {وبركات} أي: نعم ثابتة، مشتق من بروك الجمل، وهو ثبوته، ومنه البركة لثبوت الماء فيها، وفي هذا الخطاب له دليل على قبول توبته ومغفرة زلته {وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ} أي: ناشئة ممن معك، وهم المتشعبون من ذرية من كان معه في السفينة. وقيل: أراد من في السفينة، فإنهم أمم مختلفة، وأنواع من الحيوانات متباينة. قيل: أراد الله سبحانه بهؤلاء الأمم الذين كانوا معه من صار مؤمناً من ذريتهم، وأراد بقوله: {وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} من صار كافراً من ذريتهم إلى يوم القيامة، وارتفاع أمم في قوله: {وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ} على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي: ومنهم أمم. وقيل: على تقدير: ويكون أمم.
وقال الأخفش: هو كما تقول: كلمت زيداً وعمرو جالس، وأجاز الفراء في غير القراءة {وأمماً سنمتعهم}: أي: ونمتع أمماً، ومعنى الآية: وأمم سنمتعهم في الدنيا بما فيها من المتاع، ونعطيهم منها ما يعيشون به، ثم يمسهم منا في الآخرة عذاب أليم. وقيل: يمسهم إما في الدنيا أو في الآخرة.
والإشارة بقوله: {تِلْكَ} إلى قصة نوح، وهي مبتدأ والجمل بعده أخبار {مِنْ أَنبَاء الغيب} من جنس أنباء الغيب، والأنباء جمع نبأ وهو الخبر، أي من أخبار الغيب التي مرّت بك في هذه السورة، والضمير في {نُوحِيهَا إِلَيْكَ} راجع إلى القصة، والمجيء بالمضارع لاستحضار الصورة {مَا كُنتُ} يا محمد {تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ} يعلمها {قَوْمِكَ} بل هي مجهولة عندكم من قبل الوحي، أو من قبل هذا الوقت {فاصبر} على ما تلاقيه من كفار زمانك، والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها {إِنَّ العاقبة} المحمودة في الدنيا والآخرة {لّلْمُتَّقِينَ} لله المؤمنين بما جاءت به رسله، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبشير له بأن الظفر للمتقين في عاقبة الأمر، ولا اعتبار بمباديه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن، قال: نادى نوح ربه فقال: ربّ إن ابني من أهلي، وإنك قد وعدتني أن تنجي لي أهلي، وإن ابني من أهلي.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن عساكر، عن ابن عباس، قال: ما بغت امرأة نبيّ قط. وقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} يقول: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، قال: إن نساء الأنبياء لا يزنين، وكان يقرؤها {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} يقول: مسألتك إياي يا نوح عمل غير صالح لا أرضاه لك.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} قال: بين الله لنوح أنه ليس بابنه.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن زيد، في قوله: {يانوح اهبط بسلام مّنَّا} قال: أهبطوا والله عنهم راض.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن محمد بن كعب القرظي، قال: دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة. ودخل في ذلك العذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك {وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ} يعني: ممن لم يولد، أوجب الله لهم البركات لما سبق لهم في علم الله من السعادة {وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ} يعني: متاع الحياة الدنيا {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} لما سبق لهم في علم الله من الشقاوة.
وأخرج أبو الشيخ قال: ثم رجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الغيب نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ} يعني: العرب {مّن قَبْلِ هذا} القرآن.

.تفسير الآيات (50- 60):

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)}
قوله: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} معطوف على {ولقد وأرسلنا نوحاً}: أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم: أي: واحداً منهم، وهوداً عطف بيان، وقوم عاد كانوا عبدة أوثان، وقد تقدّم مثل هذا في الأعراف. وقيل: هم عاد الأولى وعاد الأخرى، فهؤلاء هم عاد الأولى، وعاد الأخرى هم: شداد ولقمان وقومهما المذكورون في قوله: {إِرَمَ ذَاتِ العماد} [الفجر: 7]، وأصل عاد، اسم رجل، ثم صار اسماً للقبيلة كتميم وبكر، ونحوهما {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} قرئ: {غيره} بالجرّ على اللفظ. وبالرفع على محل من إله، وقرئ بالنصب على الاستثناء {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} أي: ما أنتم باتخاذ إله غير الله إلا كاذبون على الله عزّ وجلّ، ثم خاطبهم فقال: {لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أي: لا أطلب منكم أجراً على ما أبلغه إليكم، وأنصحكم به من الإرشاد إلى عبادة الله وحده، وأنه لا إله لكم سواه، فالضمير راجع إلى مضمون هذا الكلام.
وقد تقدّم معنى هذا في قصة نوح {إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الذي فَطَرَنِى} أي: ما أجري الذي أطلب إلا من الذي فطرني: أي: خلقني فهو الذي يثيبني على ذلك {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أن أجر الناصحين إنما هو من ربّ العالمين. قيل: إنما قال فيما تقدّم في قصة نوح: مالاً، وهنا قال: أجراً لذكر الخزائن بعده في قصة نوح، ولفظ المال بها أليق، ثم أرشدهم إلى الاستغفار والتوبة. والمعنى: اطلبوا مغفرته لما سلف من ذنوبكم، ثم توسلوا إليه بالتوبة.
وقد تقدّم زيادة بيان لمثل هذا في قصة نوح، ثم رغبهم في الإيمان بالخير العاجل، فقال: {يُرْسِلِ السماء} أي: المطر {عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً} أي: كثير الدرور، وهو منصوب على الحال، درّت السماء تدرّ، وتدرّ، فهي: مدرار، وكان قوم هود أهل بساتين، وزرع، وعمارة، وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} معطوف على يرسل: أي: شدّة مضافة إلى شدّتكم، أو خصباً إلى خصبكم، أو عزّاً إلى عزّكم. قال الزجاج: المعنى يزدكم قوّة في النعم {وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} أي: لا تعرضوا عما أدعوكم إليه، وتقيموا على الكفر مصرّين عليه، والإجرام: الآثام كما تقدّم.
ثم أجابه قومه بما يدلّ على فرط جهالتهم، وعظيم غباوتهم، فقالوا {ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ} أي: بحجة واضحة نعمل عليها، ونؤمن لك بها غير معترفين بما جاءهم به من حجج الله وبراهينه، عناداً وبعداً عن الحق {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا} التي نعبدها من دون الله، ومعنى: {عَن قَوْلِكَ} صادرين عن قولك، فالظرف في محل نصب على الحال {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي: بمصدّقين في شيء مما جئت به {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء} أي: ما نقول إلا أنه أصابك بعض آلهتنا التي تعيبها، وتسفه رأينا في عبادتها بسوء بجنون، حتى نشأ عن جنونك ما تقوله لنا، وتكرره علينا من التنفير عنها، يقال عراه الأمر واعتراه: إذا ألمّ به، فأجابهم بما يدلّ على عدم مبالاته بهم، وعلى وثوقه بربه وتوكله عليه، وأنهم لا يقدرون على شيء مما يريده الكفار به، بل الله سبحانه هو الضارّ النافع فقال: {إِنِى أُشْهِدُ الله واشهدوا} أنتم {إِنّى بَرِئ مّمَّا تُشْرِكُونَ} به {مِن دُونِهِ} أي: من إشراككم من دون الله من غير أن ينزل به سلطاناً {فَكِيدُونِى جَمِيعًا} أنتم وآلهتكم إن كانت كما تزعمون من أنها تقدر على الإضرار بي، وأنها اعترتني بسوء {ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} أي: لا تمهلوني، بل عاجلوني واصنعوا ما بدا لكم؛ وفي هذا من إظهار عدم المبالاة بهم وبأصنامهم التي يعبدونها ما يصكّ مسامعهم، ويوضح عجزهم، وعدم قدرتهم على شيء.
{إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبّى وَرَبّكُمْ} فهو: يعصمني من كيدكم، وإن بلغتم في تطلب وجوه الإضرار بي كل مبلغ، فمن توكل على الله كفاه. ثم لما بين لهم توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته، وصفه بما يوجب التوكل عليه والتفويض إليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم، وأنه مالك للجميع، وأن ناصية كل دابة من دوابّ الأرض بيده، وفي قبضته وتحت قهره، وهو تمثيل لغاية التسخير ونهاية التذليل، وكانوا إذا أسروا الأسير وأرادوا إطلاقه، والمنّ عليه جزوا ناصيته، فجعلوا ذلك علامة لقهره. قال الفراء: معنى آخذ بناصيتها: مالكها والقادر عليها، وقال القتيبي: قاهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته. والناصية: قصاص الشعر من مقدّم الرأس؛ ثم علل ما تقدّم بقوله: {إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ} أي: هو على الحق والعدل، فلا يكاد يسلطكم عليّ {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: تتولوا فحذفت إحدى التاءين، والمعنى: فإن تستمروا على الإعراض عن الإجابة والتصميم على ما أنتم عليه من الكفر {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} ليس عليّ إلا ذلك، وقد لزمتكم الحجة {وَيَسْتَخْلِفُ رَبّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ} جملة مستأنفة لتقرير الوعيد بالهلاك، أي يستخلف في دياركم وأموالكم قوماً آخرين، ويجوز أن يكون عطفاً على {فقد أبلغتكم}.
وروى حفص عن عاصم أنه قرأ: {ويستخلف} بالجزم حملاً على موضع فقد أبلغتكم {وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} أي: بتوليكم، ولا تقدرون على كثير من الضرر ولا حقير {إِنَّ رَبّى على كُلّ شَئ حَفِيظٌ} أي رقيب مهيمن عليه يحفظه من كل شيء، قيل: و{على} بمعنى اللام، فيكون المعنى: لكل شيء حفيظ، فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء.
{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} أي: عذابنا الذي هو إهلاك عاد {نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ} من قومه {بِرَحْمَةٍ مّنَّا} أي: برحمة عظيمة كائنة منا؛ لأنه لا ينجو أحد إلا برحمة الله، وقيل هي الإيمان {مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي: شديد، قيل: وهو السموم التي كانت تدخل أنوفهم {وَتِلْكَ عَاد} مبتدأ وخبر، وأنث الإشارة اعتباراً بالقبيلة. قال الكسائي: إن من العرب من لا يصرف عاد ويجعله أسماء للقبيلة {جَحَدُواْ بآيات رَبّهِمْ} أي: كفروا بها، وكذبوها وأنكروا المعجزات {وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} أي: هوداً وحده؛ لأنه لم يكن في عصره رسول سواه، وإنما جمع هنا؛ لأنّ من كذب رسولاً فقد كذب جميع الرسل. وقيل: إنهم عصوا هوداً ومن كان قبله من الرسل، أو كانوا بحيث لو بعث الله إليهم رسلاً متعدّدين لكذبوهم {واتبعوا أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} الجبار: المتكبر، والعنيد: الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له. قال أبو عبيدة: العنيد العنود والعاند والمعاند، وهو المعارض بالخلاف منه، ومنه قيل للعرق الذي يتفجر بالدم، عاند. قال الراجز:
إني كبير لا أطيق العندا

{وَأُتْبِعُواْ في هذه الدنيا لَعْنَةً} أي: ألحقوها، وهي: الإبعاد من الرحمة والطرد من الخير، والمعنى: أنها لازمة لهم لا تفارقهم ما داموا في الدنيا وأتبعوها {يَوْمُ القيامة} فلعنوا هنالك كما لعنوا في الدنيا {أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ} أي: بربهم.
وقال الفراء: كفروا نعمة ربهم، يقال: كفرته وكفرت به: مثل: شكرته وشكرت له {أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} أي: لا زالوا مبعدين من رحمة الله، والبعد: الهلاك، والبعد: التباعد من الخير، يقال: بعد يبعد بعداً: إذا تأخر وتباعد، وبعد يبعد بعداً: إذا هلك، ومنه قول الشاعر:
لا يبعدن قومي الذين هم ** سم العداة وآفة الجزر

وقال النابغة:
فلا تبعدن إنّ المنية منهل ** وكل امرئ يوماً به الحال زائل

ومنه قول الشاعر:
ما كان ينفعني مقال نسائهم ** وقتلت دون رجالهم لا تبعد

وقد تقدّم أن العرب تستعمله في الدعاء بالهلاك.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة {إِلاَّ عَلَى الذي فَطَرَنِى} أي: خلقني.
وأخرج ابن عساكر، عن الضحاك، قال: أمسك الله عن عاد القطر ثلاث سنين، فقال لهم هود {استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً} فأبوا إلا تمادياً.
وأخرج أبو الشيخ، عن هارون التيمي، في قوله: {يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً} قال: المطر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} قال: شدّة إلى شدّتكم.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عكرمة، في قوله: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} قال: ولد الولد.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، في قوله: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء} قال: أصابتك بالجنون.
وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن سعيد قال: ما من أحد يخاف لصاً عادياً، أو سبعاً ضارياً، أو شيطاناً مارداً فيتلو هذه الآية إلا صرفه الله عنه.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن مجاهد {إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ} قال: الحق.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك، في قوله: {عَذَابٍ غَلِيظٍ} قال: شديد.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} قال: المشرك.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، قال: العنيد المشاقّ.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ، في قوله: {وَأُتْبِعُواْ في هذه الدنيا لَعْنَةً} قال: لم يبعث نبيّ بعد عاد إلا لعنت على لسانه.
وأخرج ابن المنذر، عن قتادة، في الآية قال: تتابعت عليهم لعنتان من الله: لعنة في الدنيا، ولعنة في الآخرة.