فصل: تفسير الآيات (58- 66):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (58- 66):

{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)}
قوله: {وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ} أي: جاءوا إلى مصر من أرض كنعان ليمتاروا لما أصابهم القحط {فَدَخَلُواْ} على يوسف {فَعَرَفَهُمْ} لأنه فارقهم رجالاً {وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} لأنهم فارقوه صبياً يباع بالدراهم في أيدي السيارة بعد أن أخرجوه من الجبّ، ودخلوا عليه الآن وهو رجل عليه أبهة الملك، ورونق الرئاسة، وعنده الخدم والحشم. وقيل: إنهم أنكروه لكونه كان في تلك الحال على هيئة ملك مصر، ولبس تاجه وتطوّق بطوقه.
وقيل: كانوا بعيداً منه فلم يعرفوه، وقيل غير ذلك.
{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} المراد به هنا أنه أعطاهم ما طلبوه من الميرة، وما يصلحون به سفرهم من العدّة التي يحتاجها المسافر. يقال: جهزت القوم تجهيزاً إذا تكلفت لهم جهازاً للسفر. قال الأزهري: القراء كلهم على فتح الجيم، والكسر لغة جيدة. {قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ} قيل: لابد من كلام ينشأ عنه طلبه لهم بأن يأتوه بأخ لهم من أبيهم، فروي أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم: ما أنتم وما شأنكم فإني أنكركم؟ فقالوا: نحن قوم من أهل الشام جئنا نمتار ولنا أب شيخ صديق نبيّ من الأنبياء اسمه يعقوب. قال: كم أنتم؟ قالوا: عشرة، وقد كنا اثني عشر، فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك، وكان أحبنا إلى أبينا، وقد سكن بعده إلى أخ له أصغر منه هو باقٍ لديه، يتسلى به، فقال لهم حينئذٍ: {ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ} يعني: أخاه بنيامين الذي تقدّم ذكره، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه، فوعدوه بذلك، فطلب منهم أن يتركوا أحدهم رهينة عنده حتى يأتوه بالأخ الذي طلبه، فاقترعوا فأصابت القرعة شمعون فخلفوه عنده، ثم قال لهم: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل} أي: أتممه، وجاء بصيغة الاستقبال مع كونه قال لهم هذه المقالة بعد تجهيزهم للدلالة على أن ذلك عادته المستمرّة، ثم أخبرهم بما يزيدهم وثوقاً به وتصديقاً لقوله، فقال: {وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} أي: والحال أني خير المنزلين لمن نزل بي كما فعلته بكم من حسن الضيافة، وحسن الإنزال. قال الزجاج: قال يوسف: {وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم.
ثم توعدهم إذا لم يأتوه به فقال: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ} أي: فلا أبيعكم شيئاً فيما بعد، وأما في الحال فقد أوفاهم كيلهم، ومعنى لا تقربون: لا تدخلون بلادي فضلاً عن أن أحسن إليكم وقيل: معناه: لا أنزلكم عندي كما أنزلتكم هذه المرّة، ولم يرد أنهم لا يقربون بلاده، و{تقربون} مجزوم إما على أن {لا} ناهية أو على أنها نافية، وهو معطوف على محل الجزاء داخل في حكمه كأنه قال: فإن لم تأتوني تحرموا ولا تقربوا.
فلما سمعوا منه ذلك وعدوه بما طلبه منهم، قالوا {سنراود عَنْهُ أَبَاهُ} أي: سنطلبه منه، ونجتهد في ذلك بما نقدر عليه. وقيل: معنى المراودة هنا: المخادعة منهم لأبيهم والاحتيال عليه حتى ينتزعوه منه {وَإِنَّا لفاعلون} هذه المراودة غير مقصرين فيها. وقيل: معناه وإنا لقادرون على ذلك، لا نتعانى به ولا نتعاظمه.
{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجعلوا بضاعتهم في رِحَالِهِمْ}. قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم من رواية شعبة وابن عامر {لفتيته} واختار هذه القراءة أبو حاتم والنحاس وغيرهما. وقرأ سائر الكوفيين. {لفتيانه} وأختار هذه القراءة أبو عبيد، وفي مصحف عبد الله بن مسعود كالقراءة الآخرة. قال النحاس: لفتيانه مخالف للسواد الأعظم، ولا يترك السواد المجمع عليه لهذا الإسناد المنقطع وأيضاً فإن فتية أشبه من فتيان، لأن فتية عند العرب لأقل العدد، وأمر القليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه، والجملة مستأنفة جواب سؤال، كأنه قيل: فما قال يوسف بعد وعدهم له بذلك، فأجيب بأنه قال لفتيته. قال الزجاج: الفتية والفتيان في هذا الموضع: المماليك.
وقال الثعلبي: هما لغتان جيدتان، مثل الصبيان والصبية. والمراد بالبضاعة هنا هي التي وصلوا بها من بلادهم ليشتروا بها الطعام، وكانت نعالاً وأدماً، فعل يوسف عليه السلام ذلك تفضلاً عليهم. وقيل: فعل ذلك ليرجعوا إليه مرة أخرى لعلمه أنهم لا يقبلون الطعام إلا بثمن. قاله الفراء. وقيل: فعل ذلك ليستعينوا بها على الرجوع إليه لشراء الطعام. وقيل: إنه استقبح أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن الطعام.
ثم علل يوسف عليه السلام ما أمر به من جعل البضاعة في رحالهم بقوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ} فجعل علة جعل البضاعة في الرحال هي معرفتهم لها إذا انقلبوا إلى أهلهم، وذلك لأنهم لا يعلمون بردّ البضاعة إليهم إلاّ عند تفريغ الأوعية التي جعلوا فيها الطعام، وهم لا يفرغونها إلاّ عند الوصول إلى أهلهم، ثم علل معرفتهم للبضاعة المردودة إليهم، المجعولة في رحالهم بقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فإنهم إذا عرفوا ذلك وعلموا أنهم أخذوا الطعام بلا ثمن، وأن ما دفعوه عوضاً عنه قد رجع إليهم، وتفضل به من وصلوا إليه عليهم، نشطوا إلى العود إليه، ولاسيما مع ما هم فيه من الجدب الشديد، والحاجة إلى الطعام وعدم وجوده لديهم، فإن ذلك من أعظم ما يدعوهم إلى الرجوع، وبهذا يظهر أن يوسف عليه السلام لم يردّ البضاعة إليهم إلاّ لهذا المقصد، وهو رجوعهم إليه، فلا يتمّ تعليل ردّها بغير ذلك، والرحال: جمع رحل، والمراد به هنا: ما يستصحبه الرجل معه من الأثاث.
قال الواحدي: الرحل كل شيء معدّ للرحيل من وعاء للمتاع، ومركب للبعير، ومجلس ورسن انتهى. والمراد هنا: الأوعية التي يجعلون فيها ما يمتارونه من الطعام. قال ابن الأنباري: يقال للوعاء: رحل، وللبيت: رحل.
{فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكيل} أرادوا بهذا ما تقدّم من قول يوسف لهم: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى} أي: منع منا الكيل في المستقبل، وفيه دلالة على أن الامتيار مرة بعد مرة معهود فيما بينهم وبينه، ولعلهم قالوا له بهذه المقالة قبل أن يفتحوا متاعهم ويعلموا بردّ بضاعتهم كما يفيد ذلك قوله فيما بعد: {وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم} إلى آخره، ثم ذكروا له ما أمرهم به يوسف، فقالوا: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا} يعنون بنيامين، و{نَكْتَلْ} جواب الأمر، أي: نكتل بسبب إرساله معنا ما نريده من الطعام. قرأ أهل الحرمين، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: {نكتل} بالنون، وقرأ سائر الكوفيون بالياء التحتية، واختار أبو عبيد القراءة الأولى. قال: ليكونون كلهم داخلين فيمن يكتال، وزعم أنه إذا كان بالياء كان للأخ وحده، أي: يكتال أخونا بنيامين، واعترضه النحاس مما حاصله: أن إسناد الكيل إلى الأخ لا ينافي كونه للجميع، والمعنى: يكتال بنيامين لنا جميعاً. قال الزجاج: أي إن أرسلته اكتلنا وإلاّ منعنا الكيل {وَإِنَّا لَهُ} أي: لأخيهم بنيامين {لحافظون} من أن يصيبه سوء أو مكروه.
وجملة: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ} مستأنفة جواب سؤال مقدّر كما تقدّم في نظائر ذلك في مواضع كثيرة، والمعنى: أنه لا يأمنهم على بنيامين إلاّ كما أمنهم على أخيه يوسف، وقد قالوا له في يوسف: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} كما قالوا هنا: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} ثم خانوه في يوسف فهو إن أمنهم في بنيامين خاف أن يخونوه فيه كما خانوه في يوسف {فالله خَيْرٌ حافظا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين} لعل هنا إضمار والتقدير فتوكل يعقوب على الله ودفعه إليهم، وقال: {فالله خير حفظاً}. قرأ أهل المدينة {حفظاً} وهو منتصب على التمييز. وهي قراءة أبي عمرو، وعاصم، وابن عامر، وقرأ سائر الكوفيين: {حافظاً} وهو منتصب على الحال.
وقال الزجاج: على البيان يعني: التمييز، ومعنى الآية: أن حفظ الله إياه خير من حفظهم له، لما وكل يعقوب حفظه إلى الله سبحانه حفظه وأرجعه إليه، ولما قال في يوسف: {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب} وقع له من الامتحان ما وقع.
{وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم} أي: أوعية الطعام أو ما هو أعمّ من ذلك مما يطلق عليه لفظ المتاع سواء كان الذي فيه طعاماً أو غير طعام {وَجَدُواْ بضاعتهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} أي: البضاعة التي حملوها إلى مصر ليمتاروا بها، وقد تقدّم بيانها.
وجملة: {قَالُواْ يأَبَانَا} مستأنفة كما تقدّم {مَا نَبْغِى} {ما} استفهامية والمعنى: أي شيء نطلب من هذا الملك بعد أن صنع معنا ما صنع من الإحسان بردّ البضاعة والإكرام عند القدوم إليه، وتوفير ما أردناه من الميرة؟ ويكون الاستفهام للإنكار، وجملة: {هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا} مقرّرة لما دلّ عليه الاستفهام من الإنكار لطلب شيء مع كونها قد ردّت إليهم. وقيل: إن {ما} في {ما نبغي} نافية، أي: ما نبغي في القول، وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وإكرامه لنا، ثم برهنوا على ما لقوه من التزيد في وصف الملك بقولهم: {هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا} فإن من تفضل عليهم بردّ ذلك حقيق بالثناء عليه منهم، مستحق لما وصفوه به.
ومعنى {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا}. نجلب إليهم الميرة وهي الطعام، والمائر الذي يأتي بالطعام. وقرأ السلمي بضم النون، وهو معطوف على مقدر يدلّ عليه السياق، والتقدير: هذه بضاعتنا ردّت إلينا فنحن نستعين بها على الرجوع ونمير أهلنا. {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} بنيامين مما تخافه عليه {وَنَزْدَادُ} بسبب إرساله معنا {كَيْلَ بَعِيرٍ} أي: حمل بعير زائد على ما جئنا به هذه المرة، لأنه كان يكال لكل رجل وقر بعير، ومعنى {ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ} أن زيادة كيل بعير لأخينا يسهل على الملك، ولا يمتنع علينا من زيادته له لكونه يسيراً لا يتعاظمه ولا يضايقنا فيه. وقيل إن المعنى: ذلك المكيل لأجلنا قليل نريد أن ينضاف إليه حمل بعير لأخينا. واختار الزجاج الأوّل. وقيل: إن هذا من كلام يعقوب جواباً على ما قاله أولاده، {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} يعني: إن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لأجله بالولد، وهو ضعيف؛ لأن جواب يعقوب هو {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله} أي: حتى تعطوني ما أثق به، وأركن إليه من جهة الله سبحانه، وهو الحلف به، واللام في {لَتَأْتُنَّنِى بِهِ} جواب القسم؛ لأن معنى {حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله}: حتى تحلفوا بالله لتأتنني به أي: لتردنّ بنيامين إليّ.
والاستثناء بقوله: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} هو من أعمّ العام؛ لأن {لَتَأْتُنَّنِى بِهِ} وإن كان كلاماً مثبتاً فهو في معنى النفي، فكأنه قال: لا تمنعون من إتياني به في حال من الأحوال لعلة من العلل إلاّ لعلة الإحاطة بكم، والإحاطة مأخوذة من إحاطة العدو، ومن أحاط به العدوّ فقد غلب أو هلك. فأخذ يعقوب عليهم العهد بأن يأتوه ببنيامين إلاّ أن تغلبوا عليه أو تهلكوا دونه، فيكون ذلك عذراً لكم عندي {فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} أي: أعطوه ما طلبه منهم من اليمين {قَالَ الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي: قال يعقوب: الله على ما قلناه من طلبي الموثق منكم وإعطائكم لي ما طلبته منكم مطلع رقيب لا يخفى عليه منه خافية، فهو المعاقب لمن خاس في عهده، وفجر في الحلف به، أو موكول إليه القيام بما شهد عليه منا.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: إن إخوة يوسف لما دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون، جاء بصواع الملك الذي كان يشرب فيه، فوضعه على يده فجعل ينقره ويطنّ، وينقره ويطنّ، فقال: إن هذا الجام ليخبرني عنكم خبراً، هل كان لكم أخ من أبيكم يقال له: يوسف؟ وكان أبوه يحبه دونكم، وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في الجبّ، وأخبرتم أباكم أن الذئب أكله، وجئتم على قميصه بدم كذب؟ قال: فجعل بعضهم ينظر إلى بعض ويعجبون.
وأخرج أبو الشيخ عن وهيب قال: لما جعل يوسف ينقر الصواع ويخبرهم، قام إليه بعض إخوته فقال: أنشدك بالله أن لا تكشف لنا عورة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ} قال: يعني بنيامين، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} قال: خير من يضيف بمصر.
وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: {لفتيانه} أي: لغلمانه {اجعلوا بضاعتهم} أي: أوراقهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {مَا نَبْغِى هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا} يقولون: ما نبغي وراء هذا {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} أي: حمل بعير.
وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} قال: حمل حمار، قال: وهي لغة. قال أبو عبيد: يعني هذا أن الحمار يقال له: في بعض اللغات بعير.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} قال: تهلكوا جميعاً. وفي قوله: {فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} قال: عهدهم.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} قال إلاّ أن تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك.

.تفسير الآيات (67- 76):

{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)}
لما تجهز أولاد يعقوب للمسير إلى مصر خاف عليهم أبوهم أن تصيبهم العين؛ لكونهم كانوا ذوي جمال ظاهر، وثياب حسنة مع كونهم أولاد رجل واحد، فنهاهم أن يدخلوا مجتمعين من باب واحد، لأن في ذلك مظنة لإصابة الأعين لهم، وأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، ولم يكتف بقوله: {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ} عن قوله: {وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ} لأنهم لو دخلوا من بابين مثلاً كانوا قد امتثلوا النهي عن الدخول من باب واحد، ولكنه لما كان في الدخول من بابين مثلاً نوع اجتماع يخشى معه أن تصيبهم العين، أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرّقة، قيل: وكانت أبواب مصر أربعة.
وقد أنكر بعض المعتزلة كأبي هاشم، والبلخي، أن للعين تأثيراً، وقالا: لا يمتنع أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به كانت المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف معلقاً به. وليس هذا بمستنكر من هذين وأتباعهما، فقد صار دفع أدلة الكتاب والسنّة بمجرد الاستبعادات العقلية دأبهم وديدنهم، وأيّ مانع من إصابة العين بتقدير الله سبحانه لذلك؟
وقد وردت الأحاديث الصحيحة بأن العين حقّ، وأصيب بها جماعة في عصر النبوّة، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأعجب من إنكار هؤلاء لما وردت به نصوص هذه الشريعة ما يقع من بعضهم من الإزراء على من يعمل بالدليل المخالف لمجرد الاستبعاد العقلي والتنطع في العبارات كالزمخشري في تفسيره، فإنه في كثير من المواطن لا يقف على دفع دليل الشرع بالاستبعاد الذي يدّعيه على العقل حتى يضمّ إلى ذلك الوقاحة في العبارة على وجه يوقع المقصرين في الأقوال الباطلة، والمذاهب الزائفة، وبالجملة فقول هؤلاء مدفوع بالأدلة المتكاثرة وإجماع من يعتدّ به من هذه الأمة سلفاً وخلفاً، وبما هو مشاهد في الوجود، فكم من شخص من هذا النوع الإنساني وغيره من أنواع الحيوان هلك بهذا السبب.
وقد اختلف العلماء فيمن عرف بالإصابة بالعين، فقال قوم: يمنع من الاتصال بالناس دفعاً لضرره بحبس أو غيره من لزوم بيته. وقيل: ينفي، وأبعد من قال إنه يقتل، إلاّ إذا كان يتعمد ذلك، وتتوقف إصابته على اختياره وقصده ولم ينزجر عن ذلك، فإنه إذا قتل كان له حكم القاتل.
ثم قال يعقوب لأولاده {وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَئ} أي: لا أدفع عنكم ضرراً ولا أجلب إليكم نفعاً بتدبيري هذا، بل ما قضاه الله عليكم فهو واقع لا محالة. قال الزجاج وابن الأنباري: لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم مع الاجتماع لكان تفرّقهم كاجتماعهم.
وقال آخرون: ما كان يغني عنهم يعقوب شيئاً قط، حيث أصابهم ما أصابهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم، ثم صرح يعقوب بأنه لا حكم إلا لله سبحانه فقال: {إِنِ الحكم إِلاَّ لله} لا لغيره ولا يشاركه فيه مشارك في ذلك {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في كل إيراد وإصدار لا على غيره أي: اعتمدت ووثقت {وَعَلَيْهِ} لا على غيره {فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} على العموم، ويدخل فيه أولاده دخولاً أوّلياً.
{وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} أي: من الأبواب المتفرقة ولم يجتمعوا داخلين من باب واحد. وجواب لما {مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ} ذلك الدخول {مِنَ الله} أي: من جهته {مِن شَئ} من الأشياء مما قدّره الله عليهم لأن الحذر لا يدفع القدر، والاستثناء بقوله: {إِلاَّ حَاجَةً في نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} منقطع، والمعنى: ولكن حاجة كانت في نفس يعقوب، وهي شفقته عليهم، ومحبته لسلامتهم، قضاها يعقوب، أي: أظهرها لهم، ووصاهم بها غير معتقد أن للتدبير الذي دبره لهم تأثيراً في دفع ما قضاه الله عليهم. وقيل: إنه خطر ببال يعقوب أن الملك إذا رآهم مجتمعين مع ما يظهر فيهم من كمال الخلقة، وسيما الشجاعة أوقع بهم حسداً وحقداً أو خوفاً منهم، فأمرهم بالتفرّق لهذه العلة.
وقد اختار هذا النحاس وقال: لا معنى للعين ها هنا. وفيه أن هذا لو كان هو السبب لأمرهم بالتفرّق، ولم يخصّ النهي عن ذلك بالاجتماع عند الدخول من باب واحد؛ لأن هذا الحسد أو الخوف يحصل باجتماعهم داخل المدينة، كما يحصل باجتماعهم عند الدخول من باب واحد. وقيل: إن الفاعل في {قضاها} ضمير يعود إلى الدخول لا إلى يعقوب. والمعنى: ما كان الدخول يغني عنهم من جهة الله شيئاً، ولكنه قضى ذلك الدخول حاجة في نفس يعقوب لوقوعه حسب إرادته {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ} أي: وإن يعقوب لصاحب علم لأجل تعليم الله إياه بما أوحاه الله من أن الحذر لا يدفع القدر، وأن ما قضاه الله سبحانه فهو كائن لا محالة. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} بذلك كما ينبغي. وقيل: لا يعلمون أن الحذر مندوب إليه، وإن كان لا يغني من القدر شيئاً، والسياق يدفعه. وقيل: المراد بأكثر الناس المشركون.
{وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ أوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} أي: ضمّ إليه أخاه بنيامين، قيل: إنه أمر بإنزال كل اثنين في منزل فبقي أخوه منفرداً فضمه إليه و{قَالَ إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ} يوسف، قال له ذلك سرّاً، من دون أن يطلع عليه إخوته {فَلاَ تَبْتَئِسْ} أي: فلا تحزن {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: إخوتك من الأعمال الماضية التي عملوها؛ وقيل: إنه لم يخبره بأنه يوسف، بل قال له: إني أخوك مكان أخيك يوسف فلا تحزن بما كنت تلقاه منهم من الجفاء حسداً وبغياً.
وقيل: إنه أخبره بما سيدبره معهم من جعل السقاية في رحله. فقال: لا أبالي، وقيل: إنه لما أخبر يوسف أخاه بنيامين بأنه أخوه قال: لا تردّني إليهم، فقال قد علمت اغتمام أبينا يعقوب، فإذا حبستك عندي ازداد غمه، فأتى بنيامين فقال له يوسف: لا يمكن حبسك عندي إلاّ بأن أنسبك إلى ما لا يجمل بك، فقال: لا أبالي، فدس الصاع في رحله، وهو المراد بالسقاية وأصلها المشربة التي يشرب بها جعلت صاعاً يكال به. وقيل: كان تسقى بها الدوابّ ويكال بها الحبّ، وقيل: كانت من فضة. وقيل: كانت من ذهب، وقيل غير ذلك.
وقد تقدم تفسير الجهاز والرحل، والمعنى: أنه جعل السقاية التي هو الصواع في رحل أخيه الذي هو الوعاء الذي يجعل فيه ما يشتريه من الطعام من مصر {ثُمَّ} بعد ذلك {أَذَّنَ مُؤَذّنٌ} أي: نادى منادٍ قائلاً {أَيَّتُهَا العير} قال الزجاج: معناه يا أصحاب العير، وكل ما امتير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير. وقيل: هي قافلة الحمير.
وقال أبو عبيدة: العير الإبل المرحولة المركوبة {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} نسبة السرق إليهم على حقيقتها؛ لأن المنادي غير عالم بما دبره يوسف. وقيل: إن المعنى إن حالكم حال السارقين كون الصواع صار لديكم من غير رضا من الملك.
{قَالُواْ} أي: إخوة يوسف {وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ} أي حال كونهم مقبلين على من نادى منهم المنادي من أصحاب الملك {مَّاذَا تَفْقِدُونَ} أي: ما الذي فقدتموه؟ يقال: فقدت الشيء: إذا عدمته بضياع أونحوه، فكأنهم قالوا ماذا ضاع عليكم؟ وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة {قَالُواْ} في جوابهم {نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك}. قرأ يحيى بن يعمر {صواغ} بالغين المعجمة، وقرأ أبو رجاء {صُوع} بضم الصاد المهملة وسكون الواو بعدها عين مهملة. وقرأ أبيّ {صياع}. وقرأ أبو جعفر: {صاع} وبها قرأ أبو هريرة، وقرأ الجمهور: {صواع} بالصاد والعين المهملتين، قال الزجاج: الصواع: هو الصاع بعينه، وهو يذكر ويؤنث، وهو السقاية، ومنه قول الشاعر:
نشرب الخمر بالصواع جهارا

{وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} أي قالوا: ولمن جاء بالصواع من جهة نفسه حمل بعير. والبعير: الجمل، وفي لغة بعض العرب أنه الحمار، والمراد بالحمل ها هنا: ما يحمله البعير من الطعام، ثم قال المنادي {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} أي: بحمل البعير الذي جعل لمن جاء بالصواع قبل التفتيش للأوعية، والزعيم هو الكفيل، ولعل القائل: {نفقد صواع الملك} هو المنادي، وإنما نسب القول إلى الجماعة لكونه واحداً منهم، ثم رجع الكلام إلى نسبة القول إلى المنادي وحده، لأنه القائل بالحقيقة.
{قَالُواْ تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ في الأرض} التاء بدل من واو القسم عند الجمهور. وقيل: من الباء، وقيل: أصل بنفسها، ولا تدخل إلاّ على هذا الاسم الشريف دون سائر أسمائه سبحانه، وقد دخلت نادراً على الرب، وعلى الرحمن، والكلام على هذا مستوفي في علم الإعراب، وجعلوا المقسم عليه هو علم يوسف وأصحابه بنزاهة جانبهم، وطهارة ذيلهم، عن التلوّث بقذر الفساد في الأرض، الذي من أعظم أنواعه السرقة. لأنهم قد شاهدوا منهم في قدومهم عليه المرّة الأولى، وهذه المرّة من التعفف والزهد عما هو دون السرقة، بمراحل ما يستفاد منه العلم الجازم بأنهم ليسوا بمن يتجارأ على هذا النوع العظيم من أنواع الفساد، ولو لم يكن من ذلك إلاّ ردّهم لبضاعتهم التي وجدوها في رحالهم، والمراد بالأرض هنا: أرض مصر. ثم أكدوا هذه الجملة التي أقسموا بالله عليها بقولهم: {وَمَا كُنَّا سارقين} لزيادة التبرّي مما قذفوهم به والتنزه عن هذه النقيصة الخسيسة والرذيلة الشنعاء.
{قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كاذبين} هذه الجملة مستأنفة كما تقدّم غير مرّة في نظائرها. والقائلون: هم أصحاب يوسف، أو المنادي منهم وحده كما مرّ، والضمير في {جزاؤه} للصواع على حذف مضاف أي: فما جزاء سرقة الصواع عندكم، أو الضمير للسارق، أي: فما جزاء سارق الصواع عندكم {إِن كُنتُمْ كاذبين} فيما تدّعونه لأنفسكم من البراءة عن السرقة، وذلك بأن يوجد الصواع معكم، فأجاب أخوة يوسف وقالوا: {جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} أي: جزاء سرقة الصواع، أو جزاء سارق الصواع. وجزاؤه مبتدأ، والجملة الشرطية: وهي {من وجد في رحله فهو جزاؤه} خبر المبتدأ، على إقامة الظاهر مقام المضمر فيها، والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو، فيكون الضمير الثاني عائداً إلى المبتدأ، والأوّل إلى {من} ويجوز أن يكون خبر المبتدأ: و{من وجد في رحله} والتقدير: جزاء السرقة للصواع أخذ من وجد في رحله، وتكون جملة {فهو جزاؤه} لتأكيد الجملة الأولى، وتقريرها. قال الزجاج: وقوله: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} زيادة في البيان أي: جزاؤه أخذ السارق فهو جزاؤه لا غير. قال المفسرون: وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترقّ سنة، فلذلك استفتوهم في جزائه {كذلك نَجْزِى الظالمين} أي: مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الظالمين لغيرهم من الناس بسرقة أمتعتهم، وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها إذا كانت من كلام إخوة يوسف، ويجوز أن تكون من كلام أصحاب يوسف، أي: كذلك نحن نجزي الظالمين بالرق. ثم لما ذكروا جزاء السارق أرادوا أن يفتشوا أمتعتهم حتى يتبين الأمر، فأقبل يوسف على ذلك، فبدأ بتفتيش {أوعيتهم} أي: أوعية الإخوة العشرة {قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ} أي: قبل تفتيشه لوعاء أخيه بنيامين دفعاً للتهمة ورفعاً لما دبره من الحيلة {ثُمَّ استخرجها} أي: السقاية أو الصواع؛ لأنه يذكر ويؤنث {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} أي: مثل ذلك الكيد العجيب كدنا ليوسف يعني: علمناه إياه أوحيناه إليه، والكيد مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة، ونهايته إلقاء المخدوع من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل إلى دفعه، وهو محمول في حق الله سبحانه على النهاية لا على البداية، قال القتيبي: معنى {كدنا} دبرنا، وقال ابن الأنباري: أردنا.
وفي الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعاً ثابتاً.
{مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ في دِينِ الملك} أي: ما كان يوسف ليأخذ أخاه بنيامين في دين الملك، أي: ملك مصر، وفي شريعته التي كان عليها، بل كان دينه وقضاؤه أن يضرب السارق ويغرم ضعف ما سرقه دون الاستعباد سنة، كما هو دين يعقوب وشريعته، وحاصله أن يوسف ما كان يتمكن من إجراء حكم يعقوب على أخيه مع كونه مخالفاً لدين الملك وشريعته لولا ما كاد الله له ودبره وأراده حتى وجد السبيل إليه، وهو ما أجراه على ألسن إخوته من قولهم: إن جزاء السارق الاسترقاق، فكان قولهم هذا هو بمشيئة الله وتدبيره، وهو معنى قوله: {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أي: إلا حال مشيئته وإذنه بذلك وإرادته له، وهذه الجملة: أعني {ما كان ليأخذ أخاه} إلخ، تعليل لما صنعه الله من الكيد ليوسف، أو تفسير له {نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء} بضروب العلوم والمعارف والعطايا والكرامات كما رفعنا درجة يوسف بذلك {وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ} ممن رفعه الله بالعلم {عَلِيمٌ} أرفع رتبة منهم وأعلى درجة لا يبلغون مداه، ولا يرتقون شأوه. وقيل: معنى ذلك أن فوق كل أهل العلم عليم وهو الله سبحانه.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَقَالَ يا بَنِى لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ} قال: رهب يعقوب عليهم العين.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن محمد بن كعب قال: خشي عليهم العين.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن النخعي في قوله: {وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ} قال: أحب يعقوب أن يلقى يوسف أخاه في خلوة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {إِلاَّ حَاجَةً في نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} قال: خيفة العين على بنيه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ} قال: إنه لعامل بما علم، ومن لا يعمل لا يكون عالماً.
وأخرج هؤلاء عنه في قوله: {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} قال: ضمه إليه، وفي قوله: {فَلاَ تَبْتَئِسْ} قال: لا تحزن ولا تيأس، وفي قوله: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} قال: قضى حاجتهم، وكال لهم طعامهم، وفي قوله: {جَعَلَ السقاية} قال: هو إناء الملك الذي يشرب منه {فِى رَحْلِ أَخِيهِ} قال: في متاع أخيه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف عن ابن عباس في قوله: {جَعَلَ السقاية} قال: هو الصواع، وكل شيء يشرب منه فهو صواع.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن جرير، ابن أبي حاتم عن ابن زيد نحوه أيضاً.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {أَيَّتُهَا العير} قال: كانت العير حميراً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} قال: حمل حمار طعام، وهي لغة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} يقول: كفيل.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والضحاك مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس في قوله: {مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ في الارض} يقول: ما جئنا لنعصي في الأرض.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: {فَمَا جَزَاؤُهُ} قال: عرفوا الحكم في حكمهم فقالوا: من وجد في رحله فهو جزاؤه. وكان الحكم عند الأنبياء يعقوب وبنيه أن يؤخذ السارق بسرقته عبداً يسترقّ.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ} قال: ذكر لنا أنه كان كلما فتح متاع رجل استغفر تأثماً مما صنع حتى بقي متاع الغلام قال: ما أظن أن هذا أخذ شيئاً. قالوا: بلى فاستبره.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} قال: كذلك صنعنا ليوسف {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ في دِينِ الملك} يقول: في سلطان الملك. قال: كان في دين ملكهم أنه من سرق أخذت منه السرقة ومثلها معها من ماله فيعطيه المسروق.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ في دِينِ الملك} يقول: في سلطان الملك.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} قال: إلا بعلة كادها الله ليوسف فاعتلّ بها.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه في قوله: {نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء} قال: يوسف وإخوته أوتوا علماً فرفعنا يوسف في العلم فوقهم درجة.
وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: كنا عند ابن عباس فحدث بحديث، فقال رجل عنده: {وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} فقال ابن عباس: بئس ما قلت. الله العليم الخبير، وهو فوق كل عالم.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب قال: سأل رجل علياً عن مسألة، فقال فيها، فقال الرجل ليس هكذا ولكن كذا وكذا، قال عليّ: أصبت وأخطأت {وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ}.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن عكرمة في قوله: {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قال: علم الله فوق كل عالم.