فصل: تفسير الآيات (99- 101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (99- 101):

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}
قوله: {فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ} لعلّ في الكلام محذوفاً مقدّراً، وهو: فرحل يعقوب وأولاده وأهله إلى مصر، فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه، أي: ضمهما وأنزلهما عنده، قال المفسرون: المراد بالأبوين هنا يعقوب وزوجته خالة يوسف؛ لأن أمه قد كانت ماتت في ولادتها لأخيه بنيامين، كما تقدّم. وقيل: أحيا الله له أمه تحقيقاً للرؤيا حتى سجدت له {وَقَالَ ادخلوا مِصْرَ إِن شَاء الله آمنين} مما تكرهون، وقد كانوا فيما مضى يخافون ملوك مصر، ولا يدخلونها إلاّ بجواز منهم. قيل: والتقييد بالمشيئة عائد إلى الأمن، ولا مانع من عوده إلى الجميع؛ لأن دخولهم لا يكون إلا بمشيئة الله سبحانه، كما أنهم لا يكونون آمنين إلاّ بمشيئته. وقيل: إن التقييد بالمشيئة راجع إلى قوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى} وهو بعيد، وظاهر النظم القرآني: أن يوسف قال لهم هذه المقالة، أي: ادخلوا مصر قبل دخولهم، وقد قيل في توجيه ذلك: أنه تلقاهم إلى خارج مصر، فوقف منتظراً لهم في مكان أو خيمة، فدخلوا عليه ف {آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادخلوا مِصْرَ} فلما دخلوا مصر ودخلوا عليه دخولاً أخر في المكان الذي له بمصر {رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} أي: أجلسهما معه على السرير الذي يجلس عليه كما هو عادة الملوك.
{وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا} أي: الأبوان والأخوة، والمعنى: أنهم خرّوا ليوسف سجداً، وكان ذلك جائزاً في شريعتهم منزلاً منزلة التحية. وقيل: لم يكن ذلك سجوداً بل هو مجرد إيماء، وكانت تلك تحيتهم، وهو يخالف معنى: وخرّوا له سجداً، فإن الخرور في اللغة المقيد بالسجود لا يكون إلاّ بوضع الوجه على الأرض. وقيل: الضمير في قوله: {له} راجع إلى الله سبحانه، أي: وخرّوا لله سجداً، وهو بعيد جداً. وقيل: إن الضمير ليوسف، واللام للتعليل أي: وخرّوا لأجله سجداً، وفيه أيضاً بعد؛ وقال يوسف: {يأَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رؤياى} يعني: التي تقدّم ذكرها {مِن قَبْلُ} أي: من قبل هذا الوقت {قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا} بوقوع تأويلها على ما دلت عليه {وَقَدْ أَحْسَنَ بَى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السجن} الأصل أن يتعدّى فعل الإحسان بإلى، وقد يتعدّى بالباء كما في قوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا} [الإسراء: 23]، وقيل: إنه ضمن أحسن معنى لطف أي: لطف بي محسناً، ولم يذكر إخراجه من الجبّ، لأن في ذكره نوع تثريب للإخوة، وقد قال: لا تثريب عليكم.
وقد تقدّم سبب سجنه ومدّة بقائه فيه، وقد قيل: إن وجه عدم ذكر إخراجه من الجبّ أن المنة كانت في إخراجه من السجن أكبر من المنة في إخراجه من الجبّ، وفيه نظر، {وَجَاء بِكُمْ مّنَ البدو} أي: البادية، وهي أرض كنعان بالشام، وكانوا أهل مواش وبرية، وقيل: إن الله لم يبعث نبياً من البادية، وأن المكان الذي كان فيه يعقوب يقال له: بدا، وإياه عني جميل بقوله:
وأنت الذي حببت شعباً إلى بدا ** إليّ وأوطاني بلاد سواهما

وفيه نظر، {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى} أي: أفسد بيننا وحمل بعضنا على بعض، يقال: نزغه: إذا نخسه، فأصله من نخس الدابة ليقوى مشيها. وأحال يوسف ذنب إخوته على الشيطان تكرماً منه وتأدّباً {إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء} اللطيف: الرفيق، قال الأزهري: اللطيف من أسماء الله تعالى معناه: الرفيق بعباده، يقال: لطف فلان بفلان يلطف: إذا رفق به، وقال عمرو بن أبي عمرو: اللطيف: الذي يوصل إليك أربك في لطف. قال الخطابي: اللطيف هو البرّ بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون. وقيل: اللطيف: العالم بدقائق الأمور. ومعنى {لما يشاء}: لأجل ما يشاء حتى يجيء على وجه الصواب {إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم} أي: العليم بالأمور، الحكيم في أفعاله.
ولما أتم الله نعمته على يوسف عليه السلام بما أخلصه منه من المحن العظيمة، وبما خوّله من الملك، وعلمه من العلم، تاقت نفسه إلى الخير الأخروي الدائم الذي لا ينقطع، فقال: {رَبّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الملك} {من} للتبعيض، أي: بعض الملك، لأنه لم يؤت كل الملك، إنما أوتي ملكاً خاصاً، وهو ملك مصر في زمن خاص {وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} أي: بعضها، لأنه لم يؤت جميع علم التأويل، سواء أريد به مطلق العلم والفهم، أو مجرد تأويل الرؤيا. وقيل: {من} للجنس، كما في قوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30]. وقيل: زائدة أي: آتيتني الملك وعلمتني تأويل الأحاديث {فَاطِرَ السموات والأرض} منتصب على أنه صفة لربّ، لكونه منادى مضافاً، ويجوز أن يكون انتصابه على أنه منادى بحرف مقدّر، أي: يا فاطر، والفاطر: الخالق والمنشئ والمخترع والمبدع {أنت وليى} أي: ناصري ومتولي أموري {فِى الدنيا والآخرة} تتولانى فيهما {تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} أي: توفني على الإسلام لا يفارقني حتى أموت، وألحقني بالصالحين من النبيين من آبائي وغيرهم فأظفر بثوابهم منك ودرجاتهم عندك. وقيل: إنه لما دعا بهذا الدعاء توفاه الله عزّ وجلّ. وقيل: كان عمره عند أن ألقي في الجبّ سبع عشرة سنة، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة إلى قدوم أبيه يعقوب عليه، ثم عاش بعد اجتماع شملهم حتى كمل عمره المقدار الذي سيأتي وتوفاه الله. قيل: لم يتمنّ الموت أحد غير يوسف لا نبيّ ولا غيره.
وذهب الجمهور إلى أنه لم يتمنّ الموت بهذا الدعاء، وإنما دعا ربه أن يتوفاه على الإسلام، ويلحقه بالصالحين من عباده عند حضور أجله.
وقد أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة قال: دخل يعقوب مصر في ملك يوسف وهو ابن مائة وثلاثين سنة، وعاش في ملكه ثلاثين سنة، ومات يوسف وهو ابن مائة وعشرين سنة. قال أبو هريرة: وبلغني أنه كان عمر إبراهيم خليل الله مائة وخمساً وتسعين سنة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {آوى إليه أبويه} قال: أبوه وأمه ضمهما.
وأخرجا عن وهب قال: أبوه وخالته، وكانت توفيت أمّ يوسف في نفاس أخيه بنيامين.
وأخرج أبو الشيخ نحوه عن سفيان بن عيينة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} قال: السرير.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عدي بن حاتم في قوله: {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا} قال: كانت تحية من كان قبلكم فأعطاكم الله السلام مكانها.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة نحوه، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن زيد قال: ذلك سجود تشرفة كما سجدت الملائكة تشرفة لآدم، وليس سجود عبادة.
وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله: {إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء} قال: لطيف ليوسف، وصنع له حين أخرجه من السجن، وجاء بأهله من البدو، ونزع من قلبه نزغ الشيطان وتحريشه على إخوته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ما سأل نبيّ الوفاة غير يوسف.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عنه قال: اشتاق إلى لقاء الله، وأحب أن يلحق به وبآبائه، فدعا الله أن يتوفاه، وأن يلحقه بهم.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله: {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} قال: يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: يعني أهل الجنة.

.تفسير الآيات (102- 108):

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)}
الخطاب بقوله: {ذلك} لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبره {مِنْ أَنبَاء الغيب} و{نُوحِيهِ إِلَيْكَ} خبر ثان. قال الزجاج: ويجوز أن يكون ذلك بمعنى: الذي، ونوحيه إليك خبره أي: الذي من أنباء الغيب نوحيه إليك. والمعنى: الإخبار من الله تعالى لرسوله الله صلى الله عليه وسلم بأن هذا الذي قصه عليه من أمر يوسف وإخوته من الأخبار التي كانت غائبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوحاه الله إليه وأعلمه به، ولم يكن عنده قبل الوحي شيء من ذلك، وفيه تعريض بكفار قريش، لأنهم كانوا مكذبين له صلى الله عليه وسلم بما جاء به جحوداً وعناداً وحسداً، مع كونهم يعلمون حقيقة الحال {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} لدي إخوة يوسف {إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ} إجماع الأمر: العزم عليه، أي: وما كنت لدى إخوة يوسف إذ عزموا جميعاً على إلقائه في الجبّ وهم في تلك الحالة {يَمْكُرُونَ} به، أي: بيوسف في هذا الفعل الذي فعلوه به، ويبغونه الغوائل، وقيل: الضمير ليعقوب، أي: يمكرون بيعقوب حين جاءوه بقميص يوسف ملطخاً بالدم، وقالوا: أكله الذئب.
وإذا لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لديهم عند أن فعلوا ذلك، انتفى علمه بذلك مشاهدة، ولم يكن بين قوم لهم علم بأحوال الأمم السالفة، ولا خالطهم ولا خالطوه، فانتفى علمه بذلك بطريق الرواية عن الغير، فلم يبق لعلمه بذلك طريق إلاّ مجردّ الوحي من الله سبحانه، فهذا يستلزم الإيمان بما جاء به، فلما لم يؤمن بذلك من عاصره من الكفار، قال الله سبحانه ذاكراً لهذا {وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} أي: وما أكثر الناس المعاصرين لك يا محمد، أو أكثر الناس على العموم، ولو حرصت على هدايتهم وبالغت في ذلك بمؤمنين بالله لتصميمهم على الكفر الذي هو دين آبائهم، يقال: حرص يحرص مثل ضرب يضرب، وفي لغة ضعيفة حرص يحرص مثل حمد يحمد، والحرص: طلب الشيء باجتهاد. قال الزجاج: ومعناه: وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على أن تهديهم؛ لأنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. قال ابن الأنباري: إن قريشاً واليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف وإخوته فشرحهما شرحاً شافياً، وهو يأمل أن يكون ذلك سبباً لإسلامهم، فخالفوا ظنه، وحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فعزاه الله بقوله: {وَمَا أَكْثَرُ الناس} الآية.
{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي: على القرآن وما تتلوه عليهم منه، أو على الإيمان، وحرصك على وقوعه منهم أو على ما تحدّثهم به من هذا الحديث {من أجر} من مال يعطونك إياه، ويجعلونه لك كما يفعله أحبارهم {إِنْ هُوَ} أي: القرآن، أو الحديث الذي حدثهم به {إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين} أي: ما هو إلاّ ذكر للعالمين كافة لا يختص بهم وحدهم.
{وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ في السموات والأرض} قال الخليل وسيبويه: والأكثرون إن {كأين} أصلها: أي دخل عليها كاف التشبيه، لكنه انمحى عن الحرفين المعنى الإفرادي، وصار المجموع كاسم واحد بمعنى (كم) الخبرية، والأكثر إدخال {من} في مميزه، وهو تمييز عن الكاف لا عن أي كما في مثلك رجلاً.
وقد مرّ الكلام على هذا مستوفى في آل عمران. والمعنى: كم من آية تدلهم على توحيد الله كائنة في السموات من كونها منصوبة بغير عمد، مزينة بالكواكب النيرة السيارة والثوابت، وفي الأرض من جبالها وقفارها وبحارها ونباتها وحيواناتها تدلهم على توحيد الله سبحانه، وأنه الخالق لذلك، الرزاق له، المحيي والمميت، ولكن أكثر الناس يمرّون على هذه الآيات غير متأملين لها، ولا مفكرين فيها، ولا ملتفتين إلى ما تدل عليه من وجود خالقها، وأنه المتفرد بالألوهية مع كونهم مشاهدين لها {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} وإن نظروا إليها بأعيانهم فقد أعرضوا عما هو الثمرة للنظر بالحدقة، وهي التفكر والاعتبار والاستدلال. وقرأ عكرمة وعمرو بن فايد برفع {الأرض} على أنه مبتدأ، وخبره {يمرّون عليها}. وقرأ السدّي بنصب {الأرض} بتقدير فعل. وقرأ ابن مسعود: {يمشون عليها}
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله} أي: وما يصدّق ويقرّ أكثر الناس بالله من كونه الخالق الرزاق المحيي المميت {إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} بالله يعبدون معه غيره، كما كانت تفعله الجاهلية، فإنهم مقرّون بالله سبحانه، وبأنه الخالق لهم {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87]. {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] لكنهم كانوا يثبتون له شركاء فيعبدونهم ليقرّبوهم إلى الله {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله} [الزمر: 3] ومثل هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله المعتقدون في الأموات بأنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلاّ الله سبحانه كما يفعله كثير من عبّاد القبور، ولا ينافي هذا ما قيل من أن الآية نزلت في قوم مخصوصين، فالاعتبار بما يدل عليه اللفظ لا بما يفيده السبب من الاختصاص بمن كان سبباً لنزول الحكم.
{أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ الله} الاستفهام للإنكار، والغاشية ما يغشاهم ويغمرهم من العذاب كقوله تعالى: {يَوْمَ يغشاهم العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55] وقيل: هي الساعة، وقيل: هي الصواعق والقوارع، ولا مانع من للحمل على العموم {أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} أي: فجأة، وانتصاب بغتة على الحال. قال المبرد: جاء عن العرب حال بعد نكرة، وهو قولهم: وقع أمر بغتة، يقال: بغتهم الأمر بغتاً وبغتة: إذا فاجأهم {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بإتيانه، ويجوز انتصاب بغتة على أنها صفة مصدر محذوف.
{قُلْ هذه سَبِيلِى} أي: قل يا محمد للمشركين: هذه الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها سبيلي، أي: طريقتي وسنّتي، فاسم الإشارة مبتدأ وخبره سبيلي، وفسر ذلك بقوله: {ادعوا إلى الله على بَصِيرَةٍ} أي: على حجة واضحة، والبصيرة: المعرفة التي يتميز بها الحق من الباطل، والجملة في محل نصب على الحال {أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى} واهتدى بهديي.
وقال الفراء: والمعنى ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو. وفي هذا دليل على أن كل متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حق عليه أن يقتدي به في الدعاء إلى الله، أي: الدعاء إلى الإيمان به وتوحيده، والعمل بما شرعه لعباده {وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين} أي: وقل يا محمد لهم: سبحان الله وما أنا من المشركين بالله الذين يتخذون من دونه أنداداً. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله: {ادعوا إِلَى الله} ثم ابتدأ، فقال: {على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى}.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} قال: هم بنو يعقوب إذ يمكرون بيوسف.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن قتادة في الآية يقول: وما كنت لديهم وهم يلقونه في غيابة الجب، وهم يمكرون بيوسف.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك {وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ} قال: كم من آية في السماء يعني: شمسها وقمرها ونجومها وسحابها، وفي الأرض ما فيها من الخلق والأنهار والجبال والمدائن والقصور.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} قال: سلهم من خلقهم، ومن خلق السموات والأرض، فسيقولون الله، فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن عطاء في قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} قال: كانوا يعلمون أن الله ربهم وهو خالقهم وهو رازقهم، وكانوا مع ذلك يشركون.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن الضحاك في الآية قال: كانوا يشركون به في تلبيتهم يقولون: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك.
وأخرج أبو الشيخ عن الحسن في الآية قال: ذلك المنافق يعمل بالرياء وهو مشرك بعمله.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ الله} قال: وقيعة تغشاهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {هذه سَبِيلِى} قل: هذه دعوتي.
وأخرج أبو الشيخ عنه {قُلْ هذه سَبِيلِى} قال: صلاتي.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد في الآية قال: أمري ومشيئتي ومنهاجي، وأخرجا عن قتادة في قوله: {على بَصِيرَةٍ} أي: على هدى {أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى}.