فصل: تفسير الآيات (109- 111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (109- 111):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}
قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} هذا رد على من قال: {لَوْلا أُنزِلَ عليه مَلَكٌ} [الأنعام: 8] أي: لم نبعث من الأنبياء إلى من قبلهم إلا رجالاً لا ملائكة. فكيف ينكرون إرسالنا إياك؟ وتدل الآية على أن الله سبحانه لم يبعث نبياً من النساء ولا من الجنّ، وهذا يردّ على من قال: إن في النساء أربع نبيات: حواء، وآسية، وأم موسى، ومريم.
وقد كان بعثة الأنبياء من الرجال دون النساء أمراً معروفاً عند العرب، حتى قال قيس بن عاصم في سجاح المتنبئة:
أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها ** وأصبحت أنبياء الله ذكرانا

فلعنة الله والأقوام كلهم ** على سجاح ومن باللوم أغرانا

{نُّوحِى إِلَيْهِمْ} كما نوحي إليك {مّنْ أَهْلِ القرى} أي: المدائن دون أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على البدو، ولكون أهل الأمصار أتم عقلاً وأكمل حلماً وأجلّ فضلاً {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني: المشركين المنكرين لنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم أي: أفلم يسر المشركون هؤلاء فينظروا إلى مصارع الأمم الماضية فيعتبروا بهم حتى ينزعوا عما هم فيه من التكذيب {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ اتقوا} أي: لدار الساعة الآخرة، أو لحالة الآخرة على حذف الموصوف.
وقال الفراء: إن الدار هي الآخرة، وأضيف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ كيوم الجمعة، وصلاة الأولى، ومسجد الجامع، والكلام في ذلك مبين في كتب الإعراب، والمراد بهذه الدار: الجنة، أي: هي خير للمتقين من دار الدنيا. وقرئ: {وللدار الآخرة}. وقرأ نافع وعاصم ويعقوب {أفلا تعقلون} بالتاء الفوقية على الخطاب. وقرأ الباقون بالتحتية.
{حتى إِذَا استيئس الرسل} هذه الغاية المحذوف دلّ عليه الكلام، وتقديره: {وما أرسلنا من قبلك} يا محمد إلاّ رجالاً، ولم نعاجل أممهم الذين لم يؤمنوا بما جاءوا بالعقوبة {حتى إِذَا استيئس} من النصر بعقوبة قومهم، أو {حتى إذ استيأس الرسل} من إيمان قومهم لانهماكهم في الكفر {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ}. قرأ ابن عباس، وابن مسعود، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو جعفر بن القعقاع، والحسن، وقتادة، وأبو رجاء العطاردي، وعاصم وحمزة والكسائي، ويحيى بن وثاب، والأعمش وخلف {كذبوا} بالتخفيف أي: ظنّ القوم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب ولم يصدقوا. وقيل: المعنى ظنّ القوم أن الرسل قد كذبوا فيما ادعوا من نصرهم، وقيل: المعنى وظنّ الرسل أنها قد كذبتهم أنفسهم حين حدّثتهم بأنهم ينصرون عليهم، أو كذبهم رجاؤهم للنصر، وقرأ الباقون {كذبوا} بالتشديد، والمعنى عليها واضح أي: ظنّ الرسل بأن قومهم قد كذبوهم فيما وعدوهم به من العذاب، ويجوز في هذا أن يكون فاعل ظنّ القوم المرسل إليهم على معنى أنهم ظنوا أن الرسل قد كذبوا فيما جاءوا به من الوعد والوعيد.
وقرأ مجاهد وحميد {قد كذبوا} بفتح الكاف والذال مخففتين على معنى: وظنّ قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا؛ وقد قيل: إن الظنّ في هذه الآية بمعنى اليقين؛ لأن الرسل قد تيقنوا أن قومهم كذبوهم، وليس ذلك مجرد ظنّ منهم. والذي ينبغي أن يفسر الظنّ باليقين في مثل هذه الصورة يفسر بمعناه الأصلي فيما يحصل فيه مجرد ظنّ فقط من الصور السابقة.
{جَاءهُمْ نَصْرُنَا} أي: فجاء الرسل نصر الله سبحانه فجأة، أو جاء قوم الرسل الذين كذبوهم نصر الله لرسله بإيقاع العذاب على المكذبين {فنجي مَّن نَّشَاء}. قرأ عاصم: {فنجي} بنون واحدة. وقرأ الباقون {فننجي} بنونين. واختار أبو عبيدة القراءة الأولى؛ لأنها في مصحف عثمان كذلك. وقرأ ابن محيصن {فنجا} على البناء للفاعل، فتكون من على القراءة الأولى في محل رفع على أنها فاعل، والذين نجاهم الله هم الرسل ومن آمن معهم، وهلك المكذبون {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين} عند نزوله بهم، وفيه بيان من يشاء الله نجاته من العذاب وهم من عدا هؤلاء المجرمين.
{لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ} أي: قصص الرسل ومن بعثوا إليه من الأمم، أو في قصص يوسف وإخوته وأبيه {عِبْرَةٌ لاّوْلِى الألباب} والعبرة: الفكرة والبصيرة المخلصة من الجهل والحيرة، وقيل: هي نوع من الاعتبار، وهي العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول. وأولوا الألباب: هم ذوو العقول السليمة الذين يعتبرون بعقولهم فيدرون ما فيه مصالح دينهم، وإنما كان هذا القصص عبرة لما اشتمل عليه من الإخبارات المطابقة للواقع مع بعد المدّة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الرسل الذين قص حديثهم، ومنهم يوسف وإخوته وأبوه مع كونه لم يطلع على أخبارهم ولا اتصل بأحبارهم {مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى} أي: ما كان هذا المقصوص الذي يدلّ عليه ذكر القصص وهو القرآن المشتمل على ذلك حديثاً يفترى {ولكن تَصْدِيقَ الذين بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: ما قبله من الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور. وقرئ برفع {تصديق} على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو تصديق وتفصيل كل شيء من الشرائع المجملة المحتاجة إلى تفصيلها؛ لأن الله سبحانه لم يفرّط في الكتاب من شيء. وقيل: تفصيل كل شيء من قصة يوسف مع إخوته وأبيه. قيل: وليس المراد به ما يقتضيه من العموم، بل المراد به الأصول والقوانين وما يئول إليها {وهدى} في الدنيا يهتدي به كل من أراد الله هدايته {وَرَحْمَةً} في الآخرة يرحم الله بها عباده العاملين بما فيه شرط الإيمان الصحيح، ولهذا قال: {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: يصدّقون به وبما تضمنه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وشرائعه وقدره، وأما من عداهم فلا ينتفع به ولا يهتدي بما اشتمل عليه من الهدى، فلا يستحق ما يستحقونه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} قال: أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: ما نعلم أن الله أرسل رسولاً قط إلاّ من أهل القرى، لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل العمود.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} قال: كيف عذب الله قوم نوح وقوم لوط، وقوم صالح، والأمم التي عذب الله؟
وأخرج البخاري وغيره من طريق عروة؛ أنه سأل عائشة عن قول الله سبحانه: {حتى إِذَا استيئس الرسل وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} قال: قلت أكذبوا أم كذبوا؟ يعني: على هذه الكلمة مخففة أم مشددة، فقالت: بل كذبوا تعني بالتشديد. قلت: والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن، قالت: أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك، فقلت: لعلها، وظنوا أنهم قد كذبوا مخففة، قالت: معاذ الله لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها، قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عليهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن عبد الله بن أبي مليكة: أن ابن عباس قرأها عليه {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} مخففة، يقول: أخلفوا.
وقال ابن عباس: كانوا بشراً، وتلا {حتى يَقُولَ الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله} [البقرة: 214] قال ابن أبي مليكة: وأخبرني عروة عن عائشة أنها خالفت ذلك وأبته، وقالت: ما وعد الله رسوله من شيء إلاّ علم أنه سيكون قبل أن يموت، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذبوهم، وكانت تقرؤها مثقلة.
وأخرج ابن مردويه من طريق عروة عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} مخففة.
وأخرج أبو عبيد، وسعيد بن منصور، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {قد كذبوا} مخففة. قال: يئس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم، وظنّ قومهم أن الرسل قد كذبوهم بما جاءوا به {جَاءهُمْ نَصْرُنَا} قال: جاء الرسل نصرنا.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ عن تميم بن حذلهم قال: قرأت على ابن مسعود القرآن فلم يأخذ عليّ إلاّ حرفين: {كُلٌّ أَتَوْهُ داخرين} [النمل: 87] فقال: أتوه مخففة، وقرأت عليه {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} فقال: {كذبوا} مخففة. قال: استيأس الرسل من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم، وظنّ قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا.
وأخرج ابن مردويه من طريق أبي الأحوص عنه قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة يوسف {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} خفيفة. وللسلف في هذا كلام يرجع إلى ما ذكرناه من الخلاف عن الصحابة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {درجات مَّن نَّشَاء} قال: فننجي الرسل ومن نشاء {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين} وذلك أن الله بعث الرسل يدعون قومهم، فأخبروهم أن من أطاع الله نجا ومن عصاه عذب وغوى.
وأخرج أبو الشيخ عنه قال: {جَاءهُمْ نَصْرُنَا} العذاب.
وأخرج أبو الشيخ عن السدّي {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا} قال: عذابه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ} قال: يوسف وإخوته.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ {عِبْرَةٌ لأَوْلِى الألباب} قال: معروفة لذوي العقول.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن قتادة {مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى} قال: الفرية: الكذب. {ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} قال: القرآن يصدّق الكتب التي كانت قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والزبور، ويصدّق ذلك كله، ويشهد عليه أن جميعه حق من عند الله {وَتَفْصِيلَ كُلّ شَئ} فصل الله بين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته.

.سورة الرعد:

قد وقع الخلاف هل هي مكية أو مدنية؛ فروى النحاس في ناسخه عن ابن عباس أنها نزلت بمكة.
وروى أبو الشيخ وابن مردويه عنه أنها نزلت بالمدينة.
وممن ذهب إلى أنها مكية سعيد بن جبير والحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد.
وممن ذهب إلى أنها نزلت بالمدينة ابن الزبير والكلبي ومقاتل.
وقول ثالث أنها مدنية إلا آيتين منها، فإنهما نزلتا بمكة، وهما قوله تعالى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال}، وقيل قوله: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة}.
وقد روي هذا عن ابن عباس أيضا وقتادة.
وقد أخرج ابن أبي شيبة والمروزي في الجنائز عن جابر بن زيد قال: كان يستحب إذا حضر الميت أن يقرأ عنده سورة الرعد، فإن ذلك يخفف عن الميت، وإنه أهون لقبضه، وأيسر لشأنه.

.تفسير الآيات (1- 4):

{المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)}
قوله: {المر} قد تقدّم الكلام في هذه الحروف الواقعة في أوائل السور بما يغني عن الإعادة، وهو اسم للسورة مرفوع المحل على أنه خبر مبتدأ محذوف. أو على أنه مبتدأ خبره ما بعده، والتقدير على الأول: هذه السورة اسمها هذا، والإشارة بقوله: {تِلْكَ} إلى آيات هذه السورة، والمراد بالكتاب: السورة أي: تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة الشأن، ويكون قوله: {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق} مراداً به القرآن كله، أي: هو الحق البالغ في اتصافه بهذه الصفة، أو تكون الإشارة بقوله: {تِلْكَ} إلى آيات القرآن جميعه على أن المراد بالكتاب جميع القرآن. ويكون قوله: {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق} جملة مبينة لكون هذا المنزل هو الحق. قال الفراء: {والذي} رفع بالاستئناف وخبره {الحق} قال: وإن شئت جعلت {الذي} خفضَا نعتاً للكتاب، وإن كانت فيه الواو كما في قوله:
إلى الملكَ القرمِ وابن الهمامِ

ويجوز أن يكون محل {والذي أنزل إليك} الجرّ على تقدير: وآيات الذي أنزل إليك، فيكون الحق على هذا خبراً لمبتدأ محذوف {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} بهذا الحق الذي أنزله الله عليك. قال الزجاج: لما ذكر أنهم لا يؤمنون ذكر الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق فقال: {الله الذي رَفَعَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ} والعمد: الأساطين جمع عماد أي: قائمات بغير عمد تعتمد عليه، وقيل لها عمد ولكن لا نراه. قال الزجاج: العمد: قدرته التي يمسك بها السموات، وهي غير مرئية لنا، وقرئ: {عمد} على أنه جمع عمود يعمد به، أي: يسند إليه. قال النابغة:
وخبر الجنّ إني قد أذنت لهم ** يبنون تدمر بالصفاح والعمد

وجملة {ترونها} مستأنفة استشهاد على رؤيتهم لها كذلك. وقيل: هي صفة لعمد، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: رفع السموات ترونها بغير عمد، ولا ملجئ إلى مثل هذا التكلف {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أي: استولى عليه بالحفظ والتدبير، أو استوى أمره، أو أقبل على خلق العرش، وقد تقدّم الكلام على هذا مستوفى، والاستواء على العرش صفة لله سبحانه بلا كيف كما هو مقرّر في موضعه من علم الكلام: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} أي: ذللهما لما يراد منهما من منافع الخلق، ومصالح العباد {كُلٌّ يَجْرِى لأجل مُّسَمًّى} أي كلّ من الشمس والقمر يجري إلى وقت معلوم: وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي تكوّر عندها الشمس ويخسف القمر، وتنكدر النجوم وتنتثر، وقيل: المراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما التي تنتهيان إليها لا يجاوزنها، وهي سنة للشمس، وشهر للقمر {يُدَبّرُ الأمر} أي: يصرّفه على ما يريد، وهو أمر ملكوته وربوبيته {يُفَصّلُ الآيات} أي: يبينها، وهي الآيات الدالة على كمال قدرته وربوبيته، ومنها ما تقدّم من رفع السماء بغير عمد، وتسخير الشمس والقمر وجريهما لأجل مسمى، والجملتان في محل نصب على الحال أو خبر إن لقوله: {الله الذي رَفَعَ} على أن الموصول صفة للمبتدأ، والمراد من هذا تنبيه العباد أن من قدر على هذه الأشياء فهو قادر على البعث والإعادة، ولذا قال: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ} أي: لعلكم عند مشاهدة هذه الآيات توقنون بذلك لا تشكون فيه، ولا تمترون في صدقه.
ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض} قال الفراء: بسطها طولاً وعرضاً.
وقال الأصمّ: إن المدّ: هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه، وهذا المدّ الظاهر للبصر لا ينافي كريتها في نفسها لتباعد أطرافها {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} أي: جبالاً ثوابت، واحدها راسية لأن الأرض ترسو بها، أي: تثبت. والإرساء: الثبوت. قال عنترة:
فصرت عارفة لذلك حرّة ** ترسو إذا نفس الجبانِ تطلع

وقال جميل:
أُحبها والذي أرسى قواعِده ** حتى إذا ظَهرت آياتُه بطنا

{وأنهارا} أي: مياهاً جارية في الأرض فيها منافع الخلق، أو المراد جعل فيها مجاري الماء {وَمِن كُلّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين} من كل الثمرات متعلق بالفعل الذي بعده، أي: جعل فيها من كل الثمرات {زوجين اثنين} الزوج يطلق على الاثنين، وعلى الواحد المزاوج لآخر، والمراد هنا بالزوج الواحد، ولهذا أكد الزوجين بالاثنين لدفع توهم أنه أريد بالزوج هنا الاثنين، وقد تقدّم تحقيق هذا مستوفي، أي: جعل كل نوع من أنواع ثمرات الدنيا صنفين، إما في اللونية: كالبياض والسواد ونحوهما، أو في الطعمية كالحلو والحامض ونحوهما، أو في القدر كالصغر والكبر، أو في الكيفية كالحر والبرد.
قال الفراء: يعني بالزوجين هنا: الذكر والأنثى. والأول أولى {يغشى الليل النهار} أي: يلبسه مكانه، فيصير أسود مظلماً بعدما كان أبيض منيراً، شبه إزالة نور الهدى بالظلمة بتغطية الأشياء الحسية بالأغطية التي تسترها، وقد سبق تفسير هذه في الأعراف {إِنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: فيما ذكر من مدّ الأرض وإثباتها بالجبال، وما جعله الله فيها من الثمرات المتزاوجة. وتعاقب النور والظلمة آيات بينة للناظرين المتفكرين المعتبرين.
{وَفِى الأرض قِطَعٌ متجاورات} هذا كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع آخر من أنواع الآيات. قيل: وفي الكلام حذف، أي: قطع متجاورت، وغير متجاورات، كما في قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: وتقيكم البرد. قيل: والمتجاورات: المدن وما كان عامراً، وغير المتجاورات: الصحارى وما كان غير عامر، وقيل: المعنى: متجاورات متدانيات، ترابها واحد وماؤها واحد. وفيها زرع وجنات، ثم تتفاوت في الثمار فيكون البعض حلواً والبعض حامضاً، والبعض طيباً والبعض غير طيب، والبعض يصلح فيه نوع والبعض الآخر نوع آخر {وجنات مّنْ أعناب} والجنات: البساتين، قرأ الجمهور برفع {جنات} على تقدير: وفي الأرض جنات، فهو معطوف على قطع متجاورات، أو على تقدير: وبينها جنات.
وقرأ الحسن بالنصب على تقدير: وجعل فيها جنات، وذكر سبحانه الزرع بين الأعناب والنخيل؛ لأنه يكون في الخارج كثيراً كذلك، ومثله في قوله سبحانه: {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف: 32].
{صنوان وَغَيْرُ صنوان} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص {وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان} برفع هذه الأربع عطفاً على جنات، وقرأ الباقون بالجرّ عطفاً على أعناب. وقرأ مجاهد والسلمي بضم الصاد من صنوان. وقرأ الباقون بالكسر، وهما لغتان.
قال أبو عبيدة: صنوان: جمع صنو، وهو أن يكون الأصل واحداً، ثم يتفرع فيصير نخلاً، ثم يحمل، وهذا قول جميع أهل اللغة والتفسير. قال ابن الأعرابي: الصنو: المثل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «عم الرجل صنو أبيه»، فمعنى الآية على هذا: أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون. قال في الكشاف: والصنوان جمع صنو، وهي النخلة لها رأسان وأصلها واحد، وقيل: الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق. قال النحاس: وهو كذلك في اللغة، يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر: صنوان، والصنو: المثل، ولا فرق بين التثنية والجمع إلاّ بكسر النون في المثنى، وبما يقتضيه الإعراب في الجمع.
{يسقى بِمَاء واحد} قرأ عاصم وابن عامر: {يسقى} بالتحتية، أي: يسقى ذلك كله. وقرأ الباقون بالفوقية بإرجاع الضمير إلى جنات، واختاره أبو حاتم وأبو عبيد وأبو عمرو، قال أبو عمرو: التأنيث أحسن لقوله: {وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ في الأكل} ولم يقل: بعضه. وقرأ حمزة والكسائي {يفضل} بالتحتية كما في قوله: {يُدَبّرُ الأمر يُفَصّلُ الآيات} [الرعد: 2] وقرأ الباقون بالنون على تقدير: ونحن نفضل.
وفي هذا من الدلالة على بديع صنعه، وعظيم قدرته ما لا يخفى على من له عقل؛ فإن القطع المتجاورة والجنات المتلاصقة المشتملة على أنواع النبات مع كونها تسقى بماء واحد وتتفاضل في الثمرات في الأكل، فيكون طعم بعضها حلواً والآخر حامضاً، وهذا في غاية الجودة، وهذا ليس بجيد، وهذا فائق في حسنه، وهذا غير فائق مما يقطع من تفكر واعتبر ونظر نظر العقلاء أن السبب المقتضي لاختلافها ليس إلاّ قدرة الصانع الحكيم جلّ سلطانه وتعالى شأنه، لأن تأثير الاختلاف فيما يخرج منها ويحصل من ثمراتها لا يكون في نظر العقلاء إلاّ لسببين: إما اختلاف المكان الذي هو المنبت، أو اختلاف الماء الذي تسقى به، فإذا كان المكان متجاوراً، وقطع الأرض متلاصقة، والماء الذي تسقى به واحداً، لم يبق سبب للاختلاف في نظر العقل إلاّ تلك القدرة الباهرة والصنع العجيب، ولهذا قال الله سبحانه: {إِنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: يعلمون على قضية العقل وما يوجبه غير مهملين لما يقتضيه من التفكر في المخلوقات والاعتبار في العبر الموجودات.
وقد أخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {المر} قال: أنا الله أرى.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن مجاهد {المر} فواتح يفتتح بها كلامه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه في قوله: {تِلْكَ ءايات الكتاب} قال: التوراة والإنجيل {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق} قال: القرآن.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن قتادة نحو.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {رَفَعَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} قال: وما يدريك لعلها بعمد لا ترونها.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وأبو الشيخ عنه في الآية قال: يقول لها عمد ولكن لا ترونها يعني: الأعماد.
وأخرج ابن جرير عن إياس بن معاوية في الآية قال: السماء مقببة على الأرض مثل القبة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: السماء على أربعة أملاك، كل زاوية موكل بها ملك.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ في قوله: {لأَجَلٍ مُّسَمًّى} قال: الدنيا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {يُدَبّرُ الأمر} قال: يقضيه وحده.
وأخرج. ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال: الدنيا مسيرة خمسمائة عام، أربعمائة خراب، ومائة عمران، في أيدي المسلمين من ذلك مسيرة سنة.
وقد روي عن جماعة من السلف في ذلك تقديرات لم يأت عليها دليل يصح.
وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب قال: لما خلق الله الأرض قمصت. وقالت: أي ربّ، تجعل عليّ بني آدم يعملون عليّ الخطايا ويجعلون عليّ الخبث، فأرسل الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون، فكان إقرارها كاللحم ترجرج.
وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {يغشى الليل النهار} أي: يلبس الليل النهار.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبوالشيخ عن ابن عباس في قوله: {وَفِى الأرض قِطَعٌ متجاورات} قال: يريد الأرض الطيبة العذبة التي يخرج نباتها بإذن ربها، تجاورها السبخة القبيحة المالحة التي لا تخرج، وهما أرض واحدة، وماؤها شيء واحد، ملح أو عذب، ففضلت إحداهما على الأخرى.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: قرئ: {متجاورات} قريب بعضها من بعض.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: الأرض تنبت حلواً، والأرض تنبت حامضاً، وهي متجاورات تسقى بماء واحد.
وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن البراء بن عازب في قوله: {صنوان وَغَيْرُ صنوان} قال: الصنوان: ما كان أصله واحداً وهو متفرّق، {وغير صنوان} التي تنبت وحدها، وفي لفظ: صنوان: النخلة في النخلة ملتصقة، وغير صنوان: النخل المتفرق.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {صنوان} قال: مجتمع النخل في أصل واحد {وَغَيْرُ صنوان} قال: النخل المتفرّق.
وأخرج الترمذي وحسنه، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن أبي هريرة، عن النبي في قوله: {وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ في الأكل} قال: «الدقل، والفارسي، والحلو، والحامض».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: هذا حامض، وهذا حلو، وهذا دقل، وهذا فارسي.