فصل: تفسير الآيات (87- 88):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (87- 88):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}
الكتاب: التوراة، والتقفية: الإتباع، والإرداف، مأخوذة من القفا، وهو مؤخر العنق، تقول: استقفيته: إذا جئت من خلفه، ومنه سميت قافية الشعر؛ لأنها تتلو سائر الكلام. والمراد: أن الله سبحانه أرسل على أثره رسلاً جعلهم تابعين له، وهم أنبياء بني إسرائيل المبعوثون من بعده. و{البينات} الأدلة التي ذكرها الله في آل عمران، والمائدة. والتأييد: التقوية. وقرأ مجاهد وابن محيصن: {آيدناه} بالمدّ، وهما لغتان. وروح القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة: أي: الروح المقدّسة. والقدس: الطهارة، والمقدّس: المطهر، وقيل: هو: جبريل أيد الله به عيسى، ومنه قول حسان:
وَجِبرِيل أمِينُ الله فينا ** وَرَوحُ القُدسِ لَيْس بِه خَفَاءُ

قال النحاس: وسمي جبريل روحاً، وأضيف إلى القدس؛ لأنه كان بتكوين الله له من غير ولادة. وقيل: القدس، هو الله عز وجل، وروحه: جبريل، وقيل المراد بروح القدس: الاسم الذي كان عيسى يحيى به الموتى، وقيل المراد به الإنجيل. وقيل: المراد به الروح المنفوخ فيه، أيده الله به لما فيه من القوّة. وقوله: {بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم} أي: بما لا يوافقها، ويلائمها، وأصل الهوى: الميل إلى الشيء. قال الجوهري: وسمي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه إلى النار. وبخهم الله سبحانه بهذا الكلام المعنون بهمزة التوبيخ فقال: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ} منكم {بِمَا لاَ} يوافق ما تهوونه استكبرتم عن إجابته، احتقاراً للرسل، واستبعاداً للرسالة. والفاء في قوله: {أفكلما} للعطف على مقدّر، أي: آتيناكم يا بني إسرائيل من الأنبياء ما آتيناكم، أفكلما جاءكم رسول. وفريقاً منصوب بالفعل الذي بعده، والفاء للتفصيل، ومن الفريق المكذبين عيسى ومحمد، ومن الفريق المقتولين يحيى وزكريا. والغُلف جمع أغلف، المراد به هنا: الذي عليه غشاوة تمنع من وصول الكلام إليه، ومنه: غلفت السيف، أي: جعلت له غلافاً. قال في الكشاف: هو: مستعار من الأغلف الذي لم يختن كقوله: {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] وقيل إن الغلف جمع غلاف مثل حمار وحمر: أي: قلوبنا أوعية للعلم، فما بالها لا تفهم عنك، وقد وعينا علماً كثيراً، فردّ الله عليهم ما قالوه فقال: {بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} وأصل اللعن في كلام العرب الطرد، والإبعاد، ومنه قول الشماخ:
ذَعَرْتُ به القَطا وَنَفَيْتُ عنه ** مَقامَ الذِّئِب كالرجل اللّعين

أي: كالرجل المطرود. والمعنى: أبعدهم الله من رحمته، و{قَلِيلاً} نعت لمصدر محذوف، أي: إيماناً قليلاً {مَّا يُؤْمِنُونَ} و{ما} زائدة، وصف إيمانهم بالقلة؛ لأنهم الذين قصّ الله علينا من عنادهم، وعجرفتهم، وشدّة لجاجهم، وبعدهم عن إجابة الرسل ما قصه، ومن جملة ذلك: أنهم يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض.
وقال معمر: المعنى لا يؤمنون إلا قليلاً مما في أيديهم، ويكفرون بأكثره، وعلى هذا يكون {قليلاً} منصوباً بنزع الخافض.
وقال الواقدي: معناه لا يؤمنون قليلاً، ولا كثيراً. قال الكسائي: تقول العرب مررنا بأرض قلَّ ما تنبت الكراث، والبصل، أي: لا تنبت شيئاً.
وقد أخرج ابن عساكر عن ابن عباس في قوله: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب} يعني به التوراة جملة، واحدة مفصلة محكمة {وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل} يعني رسولاً يدعى أشمويل بن بابل، ورسولاً يدعى منشابيل، ورسولاً يدعي شعياء، ورسولاً يدعى حزقيل، ورسولاً يدعى أرمياء، وهو الخضر، ورسولاً يدعى داود، وهو أبو سليمان، ورسولاً يدعى المسيح عيسى ابن مريم، فهؤلاء الرسل ابتعثهم الله، وانتخبهم من الأمة بعد موسى، فأخذنا عليهم ميثاقاً غليظاً أن يؤدوا إلى أمتهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وصفة أمته.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} قال: هي الآيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير، وإبراء الأسقام. والخبر بكثير من الغيوب، وما ورد عليهم من التوراة، والإنجيل الذي أحدث الله إليه.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {وأيدناه} قال: قوّيناه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: روح من القدس الاسم الذي كان عيسى يحيى به الموتى.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: القدس: الله تعالى.
وأخرج عن الربيع بن أنس مثله.
وأخرج عن ابن عباس قال: القدس الطهر.
وأخرج عن السدّي قال: القدس البركة.
وأخرج عن إسماعيل بن أبي خالد أن روح القدس جبريل.
وأخرج عن ابن مسعود مثله.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «روح القدس جبريل» وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم أيد حسان بروح القدس».
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {فَرِيقاً} قال: طائفة.
وأخرج عن ابن عباس قال: إنما سمي القلب لتقلبه.
وأخرج الطبراني في الأوسط عنه أنه كان يقرأ: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} مثقلة أي: كيف نتعلم، وقلوبنا غلف للحكمة أي: أوعية للحكمة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} مملوءة علماً لا تحتاج إلى علم محمد، ولا غيره.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} قال: في غطاء.
وروى ابن إسحاق، وابن جرير عنه أنه قال: {في أكِنَّةٍ} [فصلت: 5].
وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: هي القلوب المطبوع عليها.
وأخرج وكيع عن عكرمة، وابن جرير، عن مجاهد نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة قال: هي التي لا تفقه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص، وابن جرير عن حذيفة قال: القلوب أربعة: قلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح، فذلك قلب المنافق، وقلب أجرد فيه مثل السراج، فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه إيمان، ونفاق، فمثل الإيمان كمثل شجرة يمدّها ماء طيب، ومثل المنافق كمثل قرحة يمدّها القيح، والدم.
وأخرج أحمد بسند جيد، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد، فقلب المؤمن سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف، فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس، فقلب المنافق عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح، فقلب فيه إيمان، ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدّها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدّها القيح، فأيّ المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه».
وأخرج ابن أبي حاتم عن سلمان الفارسي مثله سواء موقوفاً.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} قال: لا يؤمن منهم إلا قليل.

.تفسير الآيات (89- 92):

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}
{وَلَمَّا جَاءهُمُ} يعني اليهود {كِتَابٌ} يعني القرآن، و{مُّصَدّقٌ} وصف له، وهو في مصحف أبي منصور، ونصبه على الحال، وإن كان صاحبها نكرة، فقد تخصصت بوصفها بقوله: {مِنْ عِندِ الله} وتصديقه لما معهم من التوراة، والإنجيل أنه يخبرهم بما فيهما، ويصدقه، ولا يخالفه، والاستفتاح: الاستنصار، أي: كانوا من قبل يطلبون من الله النصر على أعدائهم، بالنبيّ المنعوت في آخر الزمان الذي يجدون صفته عندهم في التوراة، وقيل الاستفتاح هنا بمعنى الفتح، أي: يخبرونهم بأنه سيبعث، ويعرّفونهم بذلك. وجواب {لما} في قوله: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كتاب} قيل هو: قوله: {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ} وما بعده، وقيل هو محذوف، أي: كذبوا، أو نحوه، كذا قال الأخفش، والزجاج.
وقال المبرّد: إن جواب {لما} الأولى هو قوله: {كَفَرُواْ} وأعيدت {لما} الثانية لطول الكلام، واللام في الكافرين للجنس. ويجوز أن تكون للعهد، ويكون هذا من وضع الظاهر موضع المضمر. والأوّل أظهر.
و(ما) في قوله: {بِئْسَمَا} موصولة، أو موصوفة، أي: بئس الشيء، أو شيئاً {اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ} قاله سيبويه.
وقال الأخفش (ما) في موضع نصب على التمييز كقولك: بئس رجلاً زيد.
وقال الفراء: بئسما بجملته شيء واحد رُكب كحبذا.
وقال الكسائي: (ما)، و{اشتروا} بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، والتقدير: بئس اشتراؤهم أن يكفروا. وقوله: {أَن يَكْفُرُواْ} في موضع رفع على الابتداء عند سيبويه، وخبره ما قبله.
وقال الفراء، والكسائي: إن شئت كان في موضع خفض بدلاً من الهاء في به، أي: اشتروا أنفسهم بأن يكفروا، وقال في الكشاف: إن (ما) نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس، بمعنى شيئاً اشتروا به أنفسهم، والمخصوص بالذم أن يكفروا، واشتروا بمعنى باعوا. وقوله: {بَغِيّاً} أي: حسداً. قال الأصمعي: البغي مأخوذ من قولهم قد بغى الجرح: إذا فسد، وقيل أصله الطلب، ولذلك سميت الزانية بغياً. وهو علة لقوله: {اشتروا} وقوله: {أَن يُنَزِّلَ} علة لقوله: {بَغِيّاً} أي: لأن ينزل. والمعنى: أنهم باعوا أنفسهم بهذا الثمن البخس حسداً، ومنافسة {أَن يُنَزّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وابن محيصن: {أن ينزل} بالتخفيف. {فباءوا} أي: رجعوا، وصاروا أحقاء {بِغَضَبٍ على غَضَبٍ} وقد تقدّم معنى باءوا، ومعنى الغضب. قيل الغضب، الأول: لعبادتهم العجل، والثاني لكفرهم بمحمد. وقيل: كفرهم بعيسى، ثم كفرهم بمحمد. وقيل كفرهم بمحمد، ثم البغي عليه وقيل غير ذلك. والمهين مأخوذ من الهوان، قيل وهو: ما اقتضى الخلود في النار.
وقوله: {بِمَا أنزَلَ الله} هو: القرآن، وقيل كل كتاب، أي: صدّقوا بالقرآن، أو صدّقوا بما أنزل الله من الكتب {قَالُواْ نُؤْمِنُ} أي: نصدّق {بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} أي: التوراة.
وقوله: {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ} قال الفراء: بما سواه.
وقال أبو عبيدة: بما بعده. قال الجوهري: وراء بمعنى خلف، وقد يكون بمعنى قدّام، وهي من الأضداد. ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ} [الكهف: 79] أي: قدّامهم، وهذه الجملة، أعني {ويكفرون} في محل النصب على الحال، أي: قالوا نؤمن بما أنزل علينا حال كونهم كافرين بما وراءه، مع كون هذا الذي هو وراء ما يؤمنون به هو الحق. وقوله: {مُصَدّقاً} حال مؤكدة، وهذه أحوال متداخلة أعني قوله: {وَيَكْفُرونَ} وقوله: {وَهُوَ الحق} وقوله: {مُصَدّقاً} ثم اعترض الله سبحانه عليهم، لما قالوا نؤمن بما أنزل علينا، بهذه الجملة المتشملة على الاستفهام المفيد للتوبيخ، أي: إن كنتم تؤمنون بما أنزل عليكم، فكيف تقتلون الأنبياء، وقد نهيتم عن قتلهم، فيما أنزل عليكم؟ وهذا الخطاب، وإن كان مع الحاضرين من اليهود، فالمراد به أسلافهم، ولكنهم لما كانوا يرضون بأفعال سلفهم كانوا مثلهم. واللام في قوله: {وَلَقَدْ} جواب لقسم مقدّر. والبينات يجوز أن يراد بها التوراة، أو التسع الآيات المشار إليها بقوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات بَيّنَاتٍ} [الإسراء: 101] ويجوز أن يراد الجميع، ثم عبدتم العجل بعد النظر في تلك البينات حال كونكم ظالمين بهذه العبادة الصادرة منكم، عناداً بعد قيام الحجة عليكم.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة في قوله: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كتاب مّنْ عِندِ الله مُصَدّقٌ لما معهم} قال: هو القرآن {مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} من التوراة، والإنجيل.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو نعيم، والبيهقي كلاهما في الدلائل من طريق عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري؛ قال: حدّثني أشياخ منا قالوا: لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا؛ لأن معنا يهود، وكانوا أهل كتاب، وكنا أصحاب وَثَن، وكانوا إذا بلغهم منا ما يكرهون قالوا: إن نبياً ليبعث الآن قد أظلّ زمانه نتبعه، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبعناه، وكفروا به، ففينا والله، وفيهم أنزل الله: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من الصحابة قالوا: كانت العرب تمرّ باليهود، فيؤذونهم، وكانوا يجدون محمداً في التوراة، فيسألون الله أن يبعثه نبياً، فيقاتلون معه العرب، فلما جاء محمد كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل.
وقد روى نحو هذا، عن ابن عباس من غير وجه بألفاظ مختلفة، ومعانيها متقاربة.
وروى عن غيره من السلف نحو ذلك.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ} قال: هم: اليهود كفروا بما أنزل الله، وبمحمد صلى الله عليه وسلم بغياً، وحسداً للعرب {فَبَاءو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ} قال: غضب الله عليهم مرتين بكفرهم بالإنجيل، وبعيسى، وبكفرهم بالقرآن، وبمحمد.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {بَغْيًا أَن يُنَزّلَ الله} أي: أن الله جعله من غيرهم {فَبَاءو بِغَضَبٍ} بكفرهم بهذا النبي {على غَضَبٍ} كان عليهم بما صنعوه من التوراة.
وأخرج ابن جرير، عن عكرمة نحوه.
وأخرج أيضاً عن مجاهد معناه.
وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية في قوله: {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ} قال: بما بعده.
وأخرج ابن جرير عن السدي قال: بما وراءه: أي القرآن.

.تفسير الآيات (93- 96):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}
قد تقدّم تفسير أخذ الميثاق، ورفع الطور. والأمر بالسماع معناه: الطاعة والقبول، وليس المراد مجرد الإدراك بحاسة السمع، ومنه قولهم: «سمع الله لمن حمده» أي: قبل وأجاب، ومنه قول الشاعر:
دعوت الله حتى خفت أن لا ** يكون الله يسمع ما أقول

أي يقبل، وقولهم في الجواب {سَمِعْنَا} هو: على بابه، وفي معناه؛ أي: سمعنا قولك بحاسة السمع، وعصيناك، أي: لا نقبل ما تأمرنا به، ويجوز أن يكونوا أرادوا بقولهم: {سمعنا} ما هو معهود من تلاعبهم، واستعمالهم المغالطة في مخاطبة أنبيائهم، وذلك بأن يحملوا قوله تعالى: {*اسمعوا} على معناه الحقيقي أي: السماع بالحاسة، ثم أجابوا بقولهم: {سَمِعْنَا} أي: أدركنا ذلك بأسماعنا، عملاً بموجب ما تأمر به، ولكنهم لما كانوا يعلمون أن هذا غير مراد لله عزّ وجلّ، بل مراده بالأمر سماع الأمر بالطاعة والقبول لم يقتصروا على هذه المغالطة بل ضموا إلى ذلك ما هو الجواب عندهم فقالوا: {وَعَصَيْنَا}. وفي قوله: {واشربوا} تشبيه بليغ، أي: جعلت قلوبهم لتمكن حب العجل منها كأنها تشربه، ومثله قول زهير:
فصحوتُ عنها بعد حُبٍّ داخل ** والحبُّ يشُرْبِهُ فؤادك داء

وإنما عبر عن حبّ العجل بالشرب دون الأكل؛ لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعام يجاوزها، ولا يتغلغل فيها، والباء في قوله: {بِكُفْرِهِمْ} سببية: أي: كان ذلك بسبب كفرهم عقوبة لهم، وخذلاناً. وقوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم} أي: إيمانكم الذي زعمتم أنكم تؤمنون بما أنزل عليكم، وتكفرون بما وراءه، فإن هذا الصنع، وهو قولكم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} في جواب ما أمرتم به في كتابكم، وأخذ عليكم الميثاق به مناد عليكم بأبلغ نداء بخلاق ما زعمتم، وكذلك ما وقع منكم من عبادة العجل، ونزول حبه من قلوبكم منزلة الشراب هو من أعظم ما يدل على أنكم كاذبون في قولكم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] لا صادقون، فإن زعمتم أن كتابكم الذي آمنتم به أمركم بهذا، فبئسما يأمركم به إيمانكم بكتابكم، وفي هذا من التهكم بهم ما لا يخفى.
وقوله: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الأخرة} هو ردٌّ عليهم لما ادّعوا أنهم يدخلون الجنة، ولا يشاركهم في دخولها غيرهم، وإلزام لهم بما يتبين به أنهم كاذبون في تلك الدعوى، وأنها صادرة منهم لا عن برهان، و{خَالِصَةٌ} منصوب على الحال، ويكون خبر كان هو عند الله، أو يكون خبر كان هو خالصة، ومعنى الخلوص أنه لا يشاركهم فيها غيرهم، إذا كانت اللام في قوله: {مّن دُونِ الناس} للجنس، أو لا يشاركهم فيها المسلمون، إن كانت اللام للعهد.
وهذا أرجح لقولهم في الآية الأخرى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وإنما أمرهم بتمني الموت؛ لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة، ولما كان ذلك منهم مجرد دعوى أحجموا، ولهذا قال سبحانه: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا}
و(ما) في قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} موصولة، والعائد محذوف، أي بما قدّمته من الذنوب التي يكون فاعلها غير آمن من العذاب، بل غير طامع في دخول الجنة، فضلاً عن كونه قاطعاً بها، فضلاً عن كونها خالصة له مختصة به، وقيل إن الله سبحانه صرفهم عن التمني؛ ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم. والمراد بالتمني هنا هو اللفظ بما يدل عليه، لا مجرد خطوره بالقلب، وميل النفس إليه، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجة، ومواطن الخصومة، ومواقف التحدي. وفي تركهم للتمني أو صرفهم عنه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم قد كانوا يسلكون من التعجرف، والتجرؤ على الله، وعلى أنبيائه بالدعاوى الباطلة، في غير موطن ما قد حكاه عنهم التنزيل، فلم يتركوا عادتهم هنا إلا لما قد تقرّر عندهم من أنهم إذا فعلوا ذلك التمني نزل بهم الموت، إما لأمر قد علموه، أو للصرفة من الله عز وجل.
وقد يقال: ثبت النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت، فكيف أمره الله أن يأمرهم بما هو منهيّ عنه في شريعته؟ ويجاب بأن المراد هنا: إلزامهم الحجة، وإقامة البرهان على بطلان دعواهم. وقوله: {والله عَلِيمٌ بالظالمين} تهديد لهم، وتسجيل عليهم بأنهم كذلك.
واللام في قوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ} جواب قسم محذوف، وتنكير حياة للتحقير، أي: أنهم أحرص الناس على أحقر حياة، وأقلّ لبث في الدنيا، فكيف بحياة كثيرة، ولبث متطاول؟ وقال في الكشاف: إنه أراد بالتنكير حياة مخصوصة، وهي: الحياة المتطاولة، وتبعه في ذلك الرازي في تفسيره. وقوله: {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} قيل: هو: كلام مستأنف، والتقدير: ومن الذين أشركوا ناس {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} وقيل إنه معطوف على الناس أي: أحرص الناس، وأحرص من الذين أشركوا، وعلى هذا يكون قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} راجعاً إلى اليهود بياناً لزيادة حرصهم على الحياة، ووجه ذكر {الذين أشركوا} بعد ذكر {الناس} مع كونهم داخلين فيهم الدلالة على مزيد حرص المشركين من العرب، ومن شابههم من غيرهم. فمن كان أحرص منهم، وهم: اليهود كان بالغاً في الحرص إلى غاية لا يقادر قدرها. وإنما بلغوا في الحرص إلى هذا الحدّ الفاضل على حرص المشركين؛ لأنهم يعلمون بما يحلّ بهم من العذاب في الآخرة، بخلاف المشركين من العرب، ونحوهم، فإنهم لا يقرّون بذلك، وكان حرصهم على الحياة دون حرص اليهود.
والأول، وإن كان فيه خروج من الكلام في اليهود إلى غيرهم من مشركي العرب لكنه أرجح؛ لعدم استلزامه للتكليف، ولا ضير في استطراد ذكر حرص المشركين بعد ذكر حرص اليهود.
وقال الرازي: إن الثاني أرجح ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم، وفي إظهار كذبهم في قولهم: إن الدار الآخرة لنا لا لغيرنا. انتهى. ويجاب عنه بأن هذا الذي جعله مرجحاً قد أفاده قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على الحياة} ولا يستلزم استئناف الكلام في المشركين، أن لا يكونوا من جملة الناس، وخص الألف بالذكر؛ لأن العرب كانت تذكر ذلك عند إرادة المبالغة. وأصل سنة: سنهة، وقيل: سنوة.
واختلف في الضمير في قوله: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} فقيل: هو: راجع إلى أحدهم، والتقدير: وما أحدهم بمزحزحه من العذاب أن يعمر، وعلى هذا يكون قوله: {أَن يُعَمَّرَ} فاعلاً لمزحزحه. وقيل: هو: لما دل عليه يعمر من مصدره، أي: وما التعمير بمزحزحه، ويكون قوله: {أن يعمر} بدلاً منه.
وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: هو: عماد. وقيل: هو: ضمير الشأن. وقيل: {ما} هي الحجازية، والضمير اسمها، وما بعده خبرها، والأوّل أرجح، وكذلك الثاني، والثالث ضعيف جداً؛ لأن العماد لا يكون إلا بين شيئين، ولهذا يسمونه ضمير الفصل، والرابع فيه: أن ضمير الشأن يفسر بجملة سالمة عن حرف جرّ كما حكاه ابن عطية عن النحاة. والزحزحة: التنحية، يقال: زحزحته، فتزحزح: أي نحيته فتنحى، وتباعد، ومنه قول ذي الرمة:
يا قَابِضَ الرُّوح عَنْ جِسْم عصىَ زَمناً ** وغافر الذنب زَحْزِحْني عَن النَّارِ

والبصير: العالم بالشيء الخبير به، ومنه قولهم: فلان بصير بكذا: أي خبير به، ومنه قول الشاعر:
فإِنْ تَسألُوني بِالنِّساءِ فَإننِي ** بَصيرٌ بأدْواءِ النِّساءِ طِبيبُ

وقد أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {وَأُشْرِبُواْ في قُلُوبِهِمُ العجل} قال: أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم.
وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية، أن اليهود لما قالوا: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 111]، نزل قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الاخرة} الآية.
وأخرج ابن جرير، مثله عن قتادة.
وأخرج البيهقي، في الدلائل عن ابن عباس، أن قوله: {خَالِصَةً مّن دُونِ الناس} يعني المؤمنين: {فَتَمَنَّوُاْ الموت} فقال لهم رسول الله: «إن كنتم في مقالتكم صادقين، فقولوا: اللهم أمتنا، فوالذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلا غصّ بريقه، فمات مكانه».
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {فَتَمَنَّوُاْ الموت} أي: ادعوا بالموت على أيّ الفريقين أكذب، فأبوا ذلك، ولو تمنوه يوم قال ذلك ما بقي على الأرض يهوديّ إلا مات.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر وأبو نعيم عنه قال: «لو تمنى اليهود الموت لماتوا».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه نحوه.
وأخرج البخاري، وغيره من حديثه مرفوعاً: «لو أن اليهود تمنوا لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار».
وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عنه في قوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة} قال اليهود: {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} قال: وذلك أن المشركين لا يرجون بعثاً بعد الموت، فهو يحب طول الحياة، وأن اليهودي قد عرف ماله من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} قال: بمنحيه.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم عنه في قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: هو قول الأعاجم إذا عطس أحدهم: (ده هزار رسال) يعني عش ألف سنة.