فصل: تفسير الآيات (12- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (12- 18):

{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)}
لما خوّف سبحانه عباده بإنزال مالاً مرد له أتبعه بأمور ترجى من بعض الوجوه، ويخاف من بعضها، وهي البرق، والسحاب، والرعد، والصاعقة، وقد مر في أول البقرة تفسير هذه الألفاظ وأسبابها.
وقد اختلف في وجه انتصاب {خَوْفًا وَطَمَعًا} فقيل: على المصدرية، أي: لتخافوا ولتطمعوا طمعاً، وقيل: على العلة بتقدير إرادة الخوف والطمع، لئلا يختلف فاعل الفعل المعلل وفاعل المفعول له، أو على الحالية من البرق، أو من المخاطبين بتقدير ذوي خوف. وقيل غير ذلك مما لا حاجة إليه. قيل: والمراد بالخوف هو الحاصل من الصواعق، وبالطمع هو الحاصل في المطر، وقال الزجاج: الخوف للمسافر لما يتأذى به من المطر، والطمع للحاضر. لأنه إذا رأى البرق طمع في المطر، الذي هو سبب الخصب {وَيُنْشِئ السحاب الثقال} التعريف للجنس، والواحدة سحابة، والثقال: جمع ثقيلة، والمراد أن الله سبحانه يجعل السحاب التي ينشئها ثقالاً بما يجعله فيها من الماء.
{وَيُسَبّحُ الرعد بِحَمْدِهِ} أي: يسبح الرعد نفسه بحمد الله أي: متلبساً بحمده، وليس هذا بمستبعد، ولا مانع من أن ينطقه الله بذلك {وَإِن مّن شَئ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44]. وأما على تفسير الرعد بملك من الملائكة فلا استبعاد في ذلك، ويكون ذكره على الإفراد مع ذكر الملائكة بعده لمزيد خصوصية له، وعناية به، وقيل: المراد: ويسبح سامعو الرعد، أي يقولون: سبحان الله والحمدلله {والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ} أي: ويسبح الملائكة من خيفة الله سبحانه. وقيل: من خيفة الرعد.
وقد ذكر جماعة من المفسرين أن هؤلاء الملائكة هم أعوان الرعد. وأن الله سبحانه جعل له أعواناً {وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء} من خلقه فيهلكه، وسياق هذه الأمور هنا للغرض الذي سيقت له الآيات التي قبلها، وهي الدلالة على كمال قدرته {وَهُمْ يجادلون في الله} الضمير راجع إلى الكفار، المخاطبين في قوله: {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق} أي: وهؤلاء الكفرة مع هذه الآيات التي أراهم الله يجادلون في شأن الله سبحانه فينكرون البعث تارة، ويستعجلون العذاب أخرى، ويكذبون الرسل ويعصون الله، وهذه الجملة في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون مستأنفة.
{وَهُوَ شَدِيدُ المحال} قال ابن الأعرابي: المحال المكر، والمكر من الله: التدبير بالحق.
وقال النحاس: المكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر.
وقال الأزهري: المحال: القوة والشدة، والميم أصلية، وما حلت فلاناً محالاً أينا أشد.
وقال أبو عبيد: المحال: العقوبة والمكروه. قال الزجاج: يقال ما حلته محالاً: إذا قاويته حتى يتبين أيكما أشد، والمحْلُ في اللغة: الشدة.
وقال ابن قتيبة: أي شديد الكيد، وأصله من الحيلة جعل الميم كميم المكان، وأصله من الكون، ثم يقال: تمكنت.
قال الأزهري: غلط ابن قتيبة أن الميم فيه زائدة، بل هي أصلية. وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية، مثل مهاد وملاك ومراسي وغير ذلك من الحروف. وقرأ الأعرج: {وهو شديد المحال} بفتح الميم.
وقد فسرت هذه القراءة بالحول.
وللصحابة والتابعين في تفسير المحال هنا أقوال ثمانية: الأول: العداوة. الثاني الحول. الثالث الأخذ. الرابع: الحقد. الخامس: القوة. السادس: الغضب. السابع: الهلاك. الثامن: الحيلة. {لَهُ دَعْوَةُ الحق} إضافة الدعوة إلى الحق للملابسة، أي: الدعوة الملابسة للحق المختصة به التي لا مدخل للباطل فيها بوجه من الوجوه، كما يقال: كلمة الحق، والمعنى أنها دعوة مجابة واقعة في موقعها، لا كدعوة من دونه. وقيل: الحق هو الله سبحانه، والمعنى: أن لله سبحانه دعوة المدعو الحق، وهو الذي يسمع فيجيب، وقيل: المراد بدعوة الحق ها هنا: كلمة التوحيد والإخلاص، والمعنى: لله من خلقه أن يوحدوه ويخلصوا له. وقيل: دعوة الحق دعاؤه سبحانه عند الخوف فإنه لا يدعى فيه سواه كما قال تعالى: {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]. وقيل: الدعوة: العبادة، فإن عبادة الله هي الحق والصدق: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَئ} أي: والآلهة الذين يدعونهم- يعني الكفار- من دون الله- عزّ وجلّ- لا يستجيبون لهم بشيء مما يطلبونه منهم كائناً ما كان إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد فإنه لا يجيبه؛ لأنه جماد لا يشعر بحاجته إليه، ولا يدري أنه طلب منه أن يبلغ فاه. ولهذا قال: {وَمَا هُوَ} أي: الماء {بِبَالِغِهِ} أي: ببالغ فيه. قال الزجاج: إلاّ كما يستجاب للذي يبسط كفيه إلى الماء يدعو الماء إلى فيه، والماء لا يستجيب، أعلم الله سبحانه أن دعاءهم الأصنام كدعاء العطشان إلى الماء يدعوه إلى بلوغ فمه، وما الماء ببالغه. وقيل: المعنى: أنه كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه فلا يحصل في كفه شيء منه.
وقد ضربت العرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلاً بالقبض على الماء كما قال الشاعر:
فأصبحت مما كان بيني وبينها ** من الود مثل القابض الماء باليد

وقال الآخر:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ** على الماء خانته فروج الأصابع

وقال الفراء: إن المراد بالماء هنا ماء البئر، لأنها معدن للماء، وأنه شبهه بمن مد يده إلى البئر بغير رشاء، ضرب الله سبحانه هذا مثلاً لمن يدعو غيره من الأصنام. {وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ في ضلال} أي: يضل عنهم ذلك الدعاء فلا يجدون منه شيئاً، ولا ينفعهم بوجه من الوجوه، بل هو ضائع ذاهب.
{وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن في السموات والأرض * طَوْعًا وَكَرْهًا} إن كان المراد بالسجود معناه الحقيقي، وهو وضع الجبهة على الأرض للتعظيم مع الخضوع والتذلل، فذلك ظاهر في المؤمنين والملائكة ومسلمي الجن، وأما في الكفار فلا يصح تأويل السجود بهذا في حقهم، فلابد أن يحمل السجود المذكور في الآية على معنى: حق لله السجود ووجب، حتى يُناول السجود بالفعل وغيره، أو يفسر للسجود بالانقياد.
لأن الكفار وإن لم يسجدوا لله سبحانه فهم منقادون لأمره، وحكمه فيهم بالصحة والمرض والحياة والموت والفقر والغنى. ويدل على إرادة هذا المعنى قوله: {طَوْعًا وَكَرْهًا} فإن الكفار ينقادون كرهاً كما ينقاد المؤمنون طوعاً، وهما منتصبان على المصدرية، أي: انقياد طوع وانقياد كره، أو على الحال، أي: طائعين وكارهين، وقال الفراء: الآية خاصة بالمؤمنين فإنهم يسجدون طوعاً، وبعض الكفار يسجدون إكراهاً وخوفاً كالمنافقين، فالآية محمولة على هؤلاء. وقيل: الآية في المؤمنين، فمنهم من سجد طوعاً لا يثقل عليه السجود، ومنهم من يثقل عليه لأن التزام التكليف مشقة ولكنهم يتحملون المشقة إيماناً بالله وإخلاصاً له.
{وظلالهم بالغدو والآصال} وظلالهم: جمع ظل، والمراد به: ظل الإنسان الذي يتبعه، جعل ساجداً بسجوده حيث صار لازماً له لا ينفك عنه. قال الزجاج، وابن الأنباري: ولا يبعد أن يخلق الله للظلال أفهاماً تسجد بها لله سبحانه، كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيحه، فظل المؤمن يسجد لله طوعاً. وظل الكافر يسجد لله كرهاً. وخص الغدو والآصال بالذاكر، لأنه يزداد ظهور الظلال فيهما، وهما ظرف للسجود المقدر، أي: ويسجد ظلالهم في هذين الوقتين، وقد تقدّم تفسير الغدوّ والآصال في الأعراف، وفي معنى هذه الآية قوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَئ يَتَفَيَّأُ ظلاله عَنِ اليمين والشمآئل سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخرون} [النحل: 48] وجاء بمن في {من في السموات والأرض} تغليباً للعقلاء على غيرهم، ولكون سجود غيرهم تبعاً لسجودهم، ومما يؤيد حمل السجود على الانقياد ما يفيده تقديم {لله} على الفعل من الاختصاص، فإن سجود الكفار لأصنامهم معلوم، ولا ينقادون لهم كانقيادهم لله في الأمور التي يقرّون على أنفسهم بأنها من الله، كالخلق والحياة والموت، ونحو ذلك.
{قُلْ مَن رَّبُّ السموات والأرض} أمر الله سبحانه رسوله أن يسأل الكفار: من رب السموات والأرض؟ ثم لما كانوا يقرّون بذلك ويعترفون به كما حكاه الله سبحانه في قوله: {ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} [الزخرف: 9]. وقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب، فقال: {قُلِ الله} فكأنه حكى جوابهم وما يعتقدونه، لأنهم ربما تلعثموا في الجواب حذراً مما يلزمهم، ثم أمره بأن يلزمهم الحجة ويبكتهم فقال: {قُلْ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} والاستفهام للإنكار، أي: إذا كان رب السموات والأرض هو الله كما تقرون بذلك وتعترفون به كما حكاه سبحانه عنكم بقوله: {قُلْ مَن رَّبُّ * السموات * السبع وَرَبُّ العرش العظيم * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 86- 87] فما بالكم اتخذتم لأنفسكم من دونه أولياء عاجزين {لاَ يَمْلِكُونَ لانْفُسِهِمْ نَفْعًا} ينفعونها به {وَلاَ ضَرّا} يضرون به غيرهم أو يدفعونه عن أنفسهم، فكيف ترجون منهم النفع والضر وهم لا يملكونهما لأنفسهم، والجملة في محل نصب على الحال، ثم ضرب الله سبحانه لهم مثلاً وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم. فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير} أي: هل يستوي الأعمى في دينه وهو الكافر، والبصير فيه وهو الموحد، فإن الأول جاهل لما يجب عليه وما يلزمه، والثاني عالم بذلك. قرأ ابن محيصن، وأبو بكر، والأعمش، وحمزة، والكسائي {أم هل يستوي الظلمات والنور} بالتحتية. وقرأ الباقون بالفوقية. واختار القراءة الثانية أبو عبيد، والمراد بالظلمات: الكفر، وبالنور: الإيمان، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي: كيف يكونان مستويين وبينهما من التفاوت ما بين الأعمى والبصير، وما بين الظلمات والنور؟ ووحد النور وجمع الظلمات، لأن طريق الحق واحدة لا تختلف، وطرائق الباطل كثيرة غير منحصرة.
{أَمْ جَعَلُواْ لله شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} {أم} هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة، أي: بل أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، والاستفهام لإنكار الوقوع. قال ابن الأنباري: معناه أجعلوا لله شركاء خلقوا مثل ما خلق الله فتشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم، أي: ليس الأمر على هذا حتى يشتبه الأمر عليهم، بل إذا فكروا بعقولهم وجدوا الله هو المنفرد بالخلق، وسائر الشركاء لا يخلقون شيئاً، وجملة: {خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} في محل نصب صفة لشركاء، والمعنى: أنهم لم يجعلوا لله شركاء متصفين بأنهم خلقوا كخلقه {فَتَشَابَهَ} بهذا السبب {الخلق عَلَيْهِمْ} حتى يستحقوا بذلك العبادة منهم، بل إنما جعلوا له شركاء الأصنام ونحوها، وهي بمعزل عن أن تكون كذلك، ثم أمره الله سبحانه بأن يوضح لهم الحق ويرشدهم إلى الصواب فقال: {قُلِ الله خالق كُلّ شَئ} كائناً ما كان ليس لغيره في ذلك مشاركة بوجه من الوجوه. قال الزجاج: والمعنى: أنه خالق كل شيء مما يصح أن يكون مخلوقاً، ألا ترى أنه تعالى شيء وهو غير مخلوق {وَهُوَ الواحد} أي: المتفرّد بالربوبية {القهار} لما عداه، فكل ما عداه مربوب مقهور مغلوب.
ثم ضرب سبحانه مثلاً آخر للحق وذويه، وللباطل ومنتحليه فقال: {أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء} أي: من جهتها، والتنكير للتكثير أو للنوعية {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} جمع وادٍ، وهو كل منفرج بين جبلين أو نحوهما. قال أبو علي الفارسي: لا نعلم فاعلاً جمع على أفعلة إلاّ هذا، وكأنه حمل على فعيل فجمع على أفعلة مثل جريب وأجربة.
كما أن فعيلاً حمل على فاعل، فجمع على أفعال مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف، كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر. قال: وفي قوله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} توسع أي: سال ماؤها، قال: ومعنى {بِقَدَرِهَا} بقدر مائها، لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها. قال الواحدي: والقدر مبلغ الشيء، والمعنى: بقدرها من الماء، فإن صغر الوادي قلّ الماء وإن اتسع كثر، وقال في الكشاف: {بقدرها} بمقدارها الذي يعرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضارّ. قال ابن الأنباري: شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر، إذ نفع نزول القرآن يعمّ كعموم نفع نزول المطر، وشبه الأودية بالقلوب: إذ الأودية يستكنّ فيها الماء كما يستكنّ القرآن والإيمان في قلوب المؤمنين.
{فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا} الزبد: هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل، ويقال له: الغثاء والرغوة، والرابي: العالي المرتفع فوق الماء. قال الزجاج: هو الطافي فوق الماء، وقال غيره: هو الزائد بسبب انتفاخه، من ربا يربو إذا زاد. والمراد من هذا تشبيه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحلّ ويعلق بجنبات الوادي وتدفعه الرياح. فكذلك يذهب الكفر ويضمحلّ.
وقد تمّ المثل الأولّ، ثم شرح سبحانه في ذكر المثل الثاني فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النار} {من} لابتداء الغاية، أي: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء، أو للتبعيض، بمعنى: وبعضه زبد مثله، والضمير للناس، أضمر مع عدم سبق الذكر لظهوره. هذا على قراءة {يوقدون} بالتحتية، وبها قرأ حميد وابن محيصن، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص. وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب، واختار القراءة الأولى أبو عبيد. والمعنى: ومما توقدون عليه في النار فيذوب من الأجسام المنطرقة الذائبة.
{ابتغاء حِلْيَةٍ} أي: لطلب اتخاذ حلية تتزينون بها وتتجملون كالذهب والفضة {أَوْ متاع} أي: أو طلب متاع تتمتعون به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والصفر والنحاس والرصاص {زَبَدٌ مّثْلُهُ} المراد بالزبد هنا الخبث، فإنه يعلو فوق ما أذيب من تلك الأجسام كما يعلو الزبد على الماء فالضمير في {مثله} يعود إلى {زبداً رابياً} وارتفاع {زبد} على الابتداء وخبره {مما يوقدون} {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} أي: مثل ذلك الضرب البديع يضرب الله مثل الحق ومثل الباطل، ثم شرع في تقسيم المثل فقال: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاء} يقال: جفأ الوادي بالهمز جفاء: إذا رمى بالقذر والزبد. قال الفراء: الجفاء الرمي. يقال: جفأ الوادي غثاء جفاء: إذا رمى به، والجفاء بمنزلة الغثاء. وكذا قال أبو عمرو بن العلاء، وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ: {جفالاً}. قال أبو عبيدة: يقال: أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها. وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته، قال أبو حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة، لأنه كان يأكل الفأر.
واعلم أن وجه المماثلة بين الزبدين في الزبد الذي يحمله السيل والزبد الذي يعلو الأجسام المنطرقة، أن تراب الأرض لما خالط الماء وحمله معه صار زبداً رابياً فوقه. وكذلك ما يوقد عليه في النار حتى يذوب من الأجسام المنطرقة، فإن أصله من المعادن التي تنبت في الأرض فيخالطها التراب، فإذا أذبيت صار ذلك التراب الذي خالطها خبثاً مرتفعاً فوقها.
{وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس} منهما وهو الماء الصافي، والذائب الخالص من الخبث {فَيَمْكُثُ في الأرض} أي: يثبت فيها. أما الماء فإنه يسلك في عروق الأرض فتنتفع الناس به، وأما ما أذيب من تلك الأجسام فإنه يصاغ حلية وأمتعة. وهذان مثلان ضربهما الله سبحانه للحق والباطل، يقول: إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن الله سبحانه سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء ويضمحلّ وكخبث هذه الأجسام فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه، فهذا مثل الباطل؛ وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعي فيمكث في الأرض، كذلك الصفو من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصاً لا شوب فيه، وهو مثل الحق. قال الزجاج: فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شيء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر لأنها كلها تبقى منتفعاً بها، ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به.
وقد حكينا عن ابن الأنباري فيما تقدّم أنه شبه نزول القرآن إلى آخر ما ذكرناه فجعل ذلك مثلاً ضربه الله للقرآن. {كذلك يَضْرِبُ الله الامثال} أي: مثل ذلك الضرب العجيب يضرب الله الأمثال في كل باب لكمال العناية بعباده واللطف بهم، وهذا تأكيد لقوله: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل}.
ثم بين سبحانه من ضرب له مثل الحق ومثل الباطل من عباده، فقال: فيمن ضرب له مثل الحق {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ} أي: أجابوا دعوته إذ دعاهم إلى توحيده وتصديق أنبيائه والعمل بشرائعه، و{الحسنى} صفة موصوف محذوف، أي: المثوبة الحسنى وهي الجنة، وقال سبحانه فيمن ضرب له مثل الباطل {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ} لدعوته إلى ما دعاهم إليه، والموصول مبتدأ وخبره الجملة الشرطية، وهي {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا في الأرض جَمِيعاً} من أصناف الأموال التي يتملكها العباد ويجمعونها بحيث لا يخرج عن ملكهم منها شيء {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} أي: مثل ما في الأرض جميعاً كائناً معه ومنضماً إليه {لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} أي: بمجموع ما ذكر وهو ما في الأرض ومثله. والمعنى: ليخلصوا به مما هم فيه من العذاب الكبير والهول العظيم، ثم بين الله سبحانه ما أعدّه لهم فقال: {أولئك} يعني: الذين لم يستجيبوا {لَهُمْ سُوء الحساب} قال الزجاج: لأن كفرهم أحبط أعمالهم، وقال غيره: سوء الحساب المناقشة فيه؛ وقيل: هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي: مرجعهم إليها {وَبِئْسَ المهاد} أي: المستقرّ الذي يستقرون فيه.
والمخصوص بالذم محذوف.
وقد أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفًا وَطَمَعًا} قال: خوفاً للمسافر يخاف أذاه ومشقته، وطمعاً للمقيم يطمع في رزق الله ويرجو بركة المطر ومنفعته.
وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: خوفاً لأهل البحر وطمعاً لأهل البر.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال: الخوف ما يخاف من الصواعق، والطمع: الغيث.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والخرائطي في مكارم الأخلاق، والبيهقي في سنّنه من طرق عن عليّ بن أبي طالب قال: البرق: مخاريق من نار بأيدي ملائكة السحاب يزجرون به السحاب.
وروي عن جماعة من السلف ما يوافق هذا ويخالفه، ولعلنا قد قدّمنا في سورة البقرة شيئاً من ذلك.
وأخرج أحمد عن شيخ من بني غفار قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله ينشئ السحاب فتنطق أحسن النطق وتضحك أحسن الضحك» قيل: والمراد بنطقها الرعد، وبضحكها البرق.
وقد ثبت عند أحمد، والترمذي، والنسائي في اليوم والليلة، والحاكم في مستدركه من حديث ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال: «اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك».
وأخرج العقيلي وضعفه، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينشئ الله السحاب ثم ينزل فيه الماء، فلا شيء أحسن من ضحكه، ولا شيء أحسن من نطقه، ومنطقه الرعد وضحكه البرق».
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله: أن خزيمة بن ثابت، وليس بالأنصاري، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن منشأ السحاب فقال: «إن ملكاً موكلاً يلمّ القاصية ويلحم الدانية، في يده مخراق، فإذا رفع برقت وإذا زجر رعدت، وإذا ضرب صعقت».
وأخرج أحمد، والترمذي وصححه. والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهنّ عرفنا أنك نبيّ واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال: {الله على ما نقول وكيل} [يوسف: 66]، قال هاتوا، قالوا: أخبرنا عن علامة النبيّ؟ قال: «تنام عيناه ولا ينام قلبه»، قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر؟ قال: «يلتقي الماءان، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت» قالوا: أخبرنا عمّا حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: «كان يشتكي عرق النساء، فلم يجد شيئاً يلائمه إلاّ ألبان كذا وكذا: يعني: الإبل، فحرم لحومها» قالوا: صدقت، قالوا أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: «ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله»، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: «صوته»، قالوا: صدقت إنما بقيت واحدة، وهي التي نتابعك إن أخبرتنا، إنه ليس من نبيّ إلاّ له ملك يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال: «جبريل» قالوا: جبريل ذاك ينزل بالخراب والقتال والعذاب عدوّنا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان فأنزل الله: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] إلى آخر الآية.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي الدنيا في المطر، وابن جرير عن ابن عباس أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحان الذي سبحت له، وقال: إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه.
وقد روي نحو هذا عنه من طرق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن الرعد صوت الملك، وكذا أخرج نحوه أبو الشيخ عن ابن عمر.
وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس قال: الرعد ملك اسمه الرعد، وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتدّ زجره احتك السحاب واضطرم من خوفه، فتخرج الصواعق من بينه، وأخرج ابن أبي حاتم، والخرائطي، وأبو الشيخ في العظمة عن أبي عمران الجوني قال: إن بحوراً من نار دون العرش يكون منها الصواعق.
وأخرج أبو الشيخ عن السدّي قال: الصواعق نار.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس {وَهُوَ شَدِيدُ المحال} قال: شديد القوّة.
وأخرج ابن جرير عن علي قال: شديد الأخذ.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عنه في قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الحق} قال: التوحيد: لا إله إلاّ الله.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الأسماء والصفات من طرق عن ابن عباس في قوله: {دَعْوَةُ الحق} قال: شهادة أن لا إله إلاّ الله.
وأخرج ابن جرير عن علي في قوله: {إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ إِلَى الماء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} قال: كان الرجل العطشان يمدّ يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال: هذا مثل المشرك الذي عبد مع الله غيره، فمثله كمثل الرجل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد وهو يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه.
وأخرج أبو الشيخ عنه في قوله: {هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير} قال: المؤمن والكافر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه أيضاً في قوله: {أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء} الآية قال: هذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها، فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله، وهو قوله: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاء} وهو الشك {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ في الأرض} وهو اليقين، وكما يجعل الحليّ في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك.
وأخرج هؤلاء عنه أيضاً: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} قال: الصغير قدر صغره، والكبير قدر كبره.