فصل: تفسير الآيات (40- 43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (40- 43):

{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)}
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} {ما} زائدة وأصله: وإن نرك {بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ} من العذاب كما وعدناهم بذلك بقولنا: {لَّهُمْ عَذَابٌ في الحياة الدنيا} وبقولنا: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} والمراد أريناك بعض ما نعدهم قبل موتك، أو توفيناك قبل إراءتك لذلك {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} أي: فليس عليك إلاّ تبليغ أحكام الرسالة، ولا يلزمك حصول الإجابة منهم لما بلغته إليهم {وَعَلَيْنَا الحساب} أي: محاسبتهم بأعمالهم ومجازاتهم عليها، وليس ذلك عليك. وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم وإخبار له أنه قد فعل ما أمره الله به، وليس عليه غيره، وأن من لم يجب دعوته، ويصدّق نبوّته فالله سبحانه محاسبه على ما اجترم واجترأ عليه من ذلك.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} يعني أهل مكة، والاستفهام للإنكار، أي: أولم ينظروا {أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أي: نأتي أرض الكفر كمكة ننقصها من أطرافها بالفتوح على المسلمين منها شيئاً فشيئاً. قال الزجاج: أعلم الله أن بيان ما وعد المشركين من قهرهم قد ظهر، يقول: أولم يروا أنا فتحنا على المسلمين من الأرض ما قد تبين لهم، فكيف لا يعتبرون؟ وقيل: إن معنى الآية: موت العلماء والصلحاء. قال القشيري: وعلى هذا فالأطراف الأشراف.
وقد قال ابن الأعرابي: الطرف الرجل الكريم. قال القرطبي: وهذا القول بعيد؛ لأن مقصود الآية: أنا أريناهم النقصان في أمرهم ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز إلاّ أن يحمل على موت أحبار اليهود والنصارى. وقيل: المراد من الآية خراب الأرض المعمورة حتى يكون العمران في ناحية منها. وقيل: المراد بالآية هلاك من هلك من الأمم. وقيل: المراد نقص ثمرات الأرض. وقيل: المراد جور ولاتها حتى تنقص.
{والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ} أي: يحكم ما يشاء في خلقه، فيرفع هذا ويضع هذا، ويحيي وهذا ويميت هذا، ويغني هذا، ويفقر هذا، وقد حكم بعزّة الإسلام وعلوّه على الأديان. وجملة {لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ} في محل نصب على الحال. وقيل: معترضة. والمعقب: الذي يكرّ على الشيء فيبطله، وحقيقته الذي يقفيه بالردّ والإبطال. قال الفراء: معناه لا رادّ لحكمه، قال: والمعقب الذي يتبع الشيء فيستدركه، ولا يستدرك أحد عليه، والمراد من الآية أنه لا يتعقب أحد حكم الله سبحانه بنقص ولا تغيير. {وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته على السرعة {وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا} أي: قد مكر الكفار الذين من قبل كفار مكة بمن أرسله الله إليهم من الرسل؛ فكادوهم وكفروا بهم، وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم حيث أخبره أن هذا ديدن الكفار من قديم الزمان مع رسل الله سبحانه، ثم أخبره بأن مكرهم هذا كالعدم، وأن المكر كله لله، فقال: {فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا} لا اعتداد بمكر غيره، ثم فسر سبحانه هذا المكر الثابت له دون غيره، فقال: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} من خير وشرّ فيجازيها على ذلك.
ومن علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها كان المكر كله له؛ لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون.
وقال الواحدي: إن مكر الماكرين مخلوق فلا يضرّ إلاّ بإرادته. وقيل: المعنى فللّه جزاء مكر الماكرين {وَسَيَعْلَمْ الكافر لِمَنْ عُقْبَى الدار}. قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو {الكافر} بالإفراد، وقرأ الباقون {الكفار} بالجمع، أي: سيعلم جنس الكافر لمن العاقبة المحمودة من الفريقين في دار الدنيا، أو في الدار الآخرة، أو فيهما. وقيل المراد بالكافر، أبو جهل.
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً} أي: يقول المشركون أو جميع الكفار: لست يا محمد مرسلاً إلى الناس من الله، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم، فقال: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فهو يعلم صحة رسالتي، وصدق دعواتي، ويعلم كذبكم {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أي: علم جنس الكتاب كالتوراة والإنجيل، فإن أهلهما العالمين بهما يعلمون صحة رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر بذلك من أسلم منهم كعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداري ونحوهم، وقد كان المشركون من العرب يسألون أهل الكتاب ويرجعون إليهم، فأرشدهم الله سبحانه في هذه الآية إلى أن أهل الكتاب يعلمون ذلك. وقيل: المراد بالكتاب القرآن، ومن عنده علم منه هم المسلمون. وقيل: المراد من عنده علم اللوح المحفوظ، وهو الله سبحانه، واختار هذا الزجاج وقال: لأن الأشبه أن الله لا يستشهد على خلقه بغيره.
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قال: «ذهاب العلماء».
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، ونعيم بن حماد في الفتن، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قال: موت علمائها وفقهائها وذهاب خيار أهلها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية قال: موت العلماء.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: أولم يروا أنا نفتح لمحمد الأرض بعد الأرض.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه من طريق أخرى عنه نحوه.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال: يعني أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان ينتقص له ما حوله من الأرضين ينظرون إلى ذلك فلا يعتبرون.
وقال الله في سورة الأنبياء: {نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغالبون} [الأنبياء: 44]. بل نبي الله وأصحابه هم الغالبون.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: نقصان أهلها وبركتها.
وأخرج ابن المنذر عنه قال: إنما ننقص الأنفس والثمرات وأما الأرض فلا تنقص.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: أولم يروا إلى القرية تخرب حتى يكون العمران في ناحية منها.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد {والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ} ليس أحد يتعقب حكمه فيردّه كما يتعقب أهل الدنيا بعضهم حكم بعض فيرده.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقف من اليمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجدني في الإنجيل؟ قال: لا، فأنزل الله: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}» يقول عبد الله بن سلام.
وأخرج ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير عن جندب قال: جاء عبد الله بن سلام حتى أخذ بعضاضتي باب المسجد، ثم قال: أنشدكم بالله أتعلمون أني الذي أنزلت فيّ: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}؟ قالوا: اللهم نعم.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه من طريق أخرى عنه نحوه.
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} قال: هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في الآية قال: كان قوم من أهل الكتاب يشهدون بالحق ويعرفونه، منهم عبد الله بن سلام، والجارود، وتميم الداري، وسلمان الفارسي.
وأخرج أبو يعلى، وابن جرير، وابن مردويه، وابن عديّ بسندٍ ضعيف عن ابن عمر، أن النبيّ قرأ: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} قال: «ومن عند الله علم الكتاب».
وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، أنه كان يقرأ: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} يقول: ومن عند الله علم الكتاب.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في ناسخه عن سعيد بن جبير أنه سئل عن قوله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أهو عبد الله بن سلام؟ قال: كيف؟ وهذه السورة مكية..
وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال: ما نزل في عبد الله بن سلام شيء من القرآن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} قال: جبريل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: هو الله.

.سورة إبراهيم:

اثنتان وخمسون آية.
وقيل: إحدى وخمسون.
وهي مكية، كما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، وأخرجه ابن مردويه أيضا عن الزبير، وحكاه القرطبي عن الحسن وعكرمة وجابر بن زيد وقتادة إلا آيتين منها، وقيل: إلا ثلاث آيات نزلت في الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي قوله: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا} إلى قوله: {فإن مصيركم إلى النار}.
وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس قال: هي مكية سوى آيتين منها نزلتا بالمدينة، وهي: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا} الآيتين نزلتا في قتلى بدر من المشركين.

.تفسير الآيات (1- 5):

{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)}
قوله: {الر} قد تقدم الكلام في أمثال هذا، وبيان قول من قال إنه غير متشابه، وهو إما مبتدأ خبره كتاب، أو خبر مبتدأ محذوف، ويكون {كِتَابٌ} خبراً لمحذوف مقدّر، أو خبراً ثانياً لهذا المبتدأ، أو يكون {الر} مسروداً على نمط التعديد فلا محلّ له، و{أنزلناه إِلَيْكَ} صفة لكتاب: أي أنزلنا الكتاب إليك يا محمد، ومعنى {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} لتخرجهم من ظلمات الكفر والجهل والضلالة إلى نور الإيمان والعلم والهداية. جعل الكفر بمنزلة الظلمات، والإيمان بمنزلة النور على طريق الاستعارة، واللام في {لتخرج} للغرض والغاية، والتعريف في الناس للجنس، والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم يخرج بالكتاب المشتمل على ما شرعه الله لهم من الشرائع مما كانوا فيه من الظلمات إلى ما صاروا إليه من النور. وقيل: إن الظلمة مستعارة للبدعة، والنور مستعار للسنّة. وقيل: من الشك إلى اليقين. ولا مانع من إرادة جميع هذه الأمور، والباء في {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} متعلقة ب {تخرج} وأسند الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الداعي والهادي والمنذر. قال الزجاج: بما أذن لك من تعليمهم ودعائهم إلى الإيمان {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} هو بدل من {إلى النور} بتكرير العامل كما يقع مثله كثيراً، أي: لتخرج الناس من الظلمات إلى صراط العزيز الحميد، وهو طريقة الله الواضحة التي شرعها لعباده، وأمرهم بالمصير إليها والدخول فيها، ويجوز أن يكون مستأنفاً بتقدير سؤال، كأنه قيل: ما هذا النور الذي أخرجهم إليه؟ فقيل: صراط العزيز الحميد، والعزيز هو القادر الغالب، والحميد هو الكامل في استحقاق الحمد.
{الله الذي لَهُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} قرأ نافع وابن عامر بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الله المتصف بملك ما في السموات وما في الأرض، وقرأ الجمهور بالجرّ على أنه عطف بيان لكونه من الأعلام الغالبة، فلا يصح وصف ما قبله به؛ لأن العلم لا يوصف به. وقيل: يجوز أن يوصف به من حيث المعنى.
وقال أبو عمر: إن قراءة الجرّ محمولة على التقديم والتأخير، والتقدير: إلى صراط الله العزيز الحميد. وكان يعقوب إذا وقف على {الحميد} رفع، وإذا وصل خفض. قال ابن الأنباري: من خفض وقف على وما في الأرض. ثم توعد من لا يعترف بربوبيته فقال: {وَوَيْلٌ للكافرين مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} قد تقدم بيان معنى الويل، وأصله النصب. كسائر المصادر، ثم رفع للدلالة على الثبات. قال الزجاج: هي كلمة تقال للعذاب والهلكة، فدعا سبحانه وتعالى بذلك على من لم يخرج من الكفار بهداية رسول الله صلى الله عليه وسلم له بما أنزله الله عليه من العذاب الشديد الذي صاروا فيه.
ثم وصف هؤلاء الكفار بقوله: {الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا} أي: يؤثرونها لمحبتهم لها {على الآخرة} الدائمة والنعيم الأبدي. وقيل: إن الموصول في موضع رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: هم الذين. وقيل: الموصول مبتدأ وخبره أولئك، وجملة {وَيَصُدُّونَ} وكذلك {ويبغون} معطوفتان على {يستحبون} ومعنى الصدّ {عن سبيل الله} صرف الناس عنه ومنعهم منه، وسبيل الله دينه الذي شرعه لعباده {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي: يطلبون لها زيغاً وميلاً لموافقة أهوائهم وقضاء حاجاتهم وأغراضهم، والعوج بكسر العين في المعاني وبفتح العين في الأعيان، وقد سبق تحقيقه. والأصل: يبغون لها. فحذف الحرف وأوصل الفعل إلى الضمير، واجتماع هذه الخصال نهاية الضلال، ولهذا وصف ضلالهم بالبعد عن الحق فقال: {أُوْلَئِكَ في ضلال بَعِيدٍ} والإشارة إلى الموصوفين بتلك الصفات القبيحة والبعد وإن كان من صفة الضال لكنه يجوز وصف الضلال به مجازاً لقصد المبالغة.
ثم لمّا منّ على المكلفين بإنزال الكتاب وإرسال الرسل ذكر من كمال تلك النعمة أن ذلك المرسل بلسان قومه فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} أي: متلبساً بلسانهم، متكلماً بلغتهم؛ لأنه إذا كان كذلك فهم عنه المرسل إليهم ما يقوله لهم وسهل عليهم ذلك بخلاف ما لو كان بلسان غيرهم فإنهم لا يدرون ما يقول، ولا يفهمون ما يخاطبهم به، حتى يتعلموا ذلك اللسان دهراً طويلاً، ومع ذلك فلابد أن يصعب عليهم فهم ذلك بعض صعوبة؛ ولهذا علل سبحانه ما امتن به على العباد بقوله: {لِيُبَيّنَ لَهُمُ} أي: ليوضح لهم ما أمرهم الله به من الشريعة التي شرعها لهم ووحد اللسان لأن المراد بها اللغة.
وقد قيل: في هذه الآية إشكال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس جميعاً، بل إلى الجنّ والإنس ولغاتهم متباينة وألسنتهم مختلفة.
وأجيب بأنه وإن كان صلى الله عليه وسلم مرسلاً إلى الثقلين كما مرّ لكن لما كان قومه العرب، وكانوا أخصّ به وأقرب إليه كان إرساله بلسانهم أولى من إرساله بلسان غيرهم، وهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم، ويوضحونه حتى يصير فإهماً له كفهمهم إياه، ولو نزل القرآن بجميع لغات من أرسل إليهم، وبينه رسول الله لكل قوم بلسانهم لكان ذلك مظنة للاختلاف وفتحاً لباب التنازع؛ لأن كل أمة قد تدّعي من المعاني في لسانها ما لا يعرفه غيرها، وربما كان ذلك أيضاً مفضياً إلى التحريف والتصحيف بسبب الدعاوي الباطلة التي يقع فيها المتعصبون.
وجملة {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء} مستأنفة أي: يضلّ من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته.
قال الفراء: إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر فإن لم يكن النسق مشاكلاً للأوّل فالرفع على الاستئناف هو الوجه، فيكون معنى هذه الآية: وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبين لهم تلك الشرائع باللغة التي ألفوها وفهموها، ومع ذلك فإن المضلّ والهادي هو، الله عزّ وجلّ، والبيان لا يوجب حصول الهداية إلاّ إذا جعله الله سبحانه واسطة وسبباً، وتقديم الإضلال على الهداية لأنه متقدّم عليها، إذ هو إبقاء على الأصل، والهداية إنشاء ما لم يكن {وَهُوَ العزيز} الذي لا يغالبه مغالب {الحكيم} الذي يجري أفعاله على مقتضى الحكمة.
ثم لما بيّن أن المقصود من بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور أراد أن يبين أن الغرض من إرسال الأنبياء لم يكن إلاّ ذلك، وخصّ موسى بالذكر لأن أمته أكثر الأمم المتقدّمة على هذه الأمة المحمدية فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا} أي: متلبساً بها، والمراد بالآيات: المعجزات التي لموسى، ومعنى {أَنْ أَخْرِجْ} أي: أخرج، لأن الإرسال فيه معنى القول، ويجوز أن يكون التقدير بأن أخرج، والمراد بقومه بنو إسرائيل بعد ملك فرعون. {مِنَ الظلمات} من الكفر أو من الجهل الذي قالوا بسببه: {اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ} [الأعراف: 138]. {إِلَى النور} إلى الإيمان، أو إلى العلم {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} أي: بوقائعه. قال ابن السكيت: العرب تقول الأيام، في معنى الوقائع، يقال: فلان عالم بأيام العرب، أي: بوقائعها.
وقال الزجاج: أي ذكرهم بنعم الله عليهم وبنقم أيام الله التي انتقم فيها من قوم نوح وعاد وثمود، والمعنى: عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد {إِنَّ في ذَلِكَ} أي: في التذكير بأيام الله، أو في نفس أيام الله {لآيَاتٍ} لدلالات عظيمة دالة على التوحيد وكمال القدرة {لّكُلّ صَبَّارٍ} أي: كثير الصبر على المحن والمنح {شَكُورٍ} كثير الشكر للنعم التي أنعم الله بها عليه. وقيل: المراد بذلك كل مؤمن، وعبَّر عنه بالوصفين المذكورين؛ لأنهما ملاك الإيمان، وقدّم الصبار على الشكور؛ لكون الشكر عاقبة الصبر.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} قال: من الضلالة إلى الهدى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: {يَسْتَحِبُّونَ} قال: يختارون.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: إن الله فضل محمداً على أهل السماء وعلى الأنبياء، قيل: ما فضله على أهل السماء؟ قال: إن الله قال لأهل السماء: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إله مّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] وقال لمحمد: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}
[الفتح: 2]. فكتب له براءة من النار. قيل: فما فضله على الأنبياء؟ قال: إن الله يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وقال لمحمد: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} [سبأ: 28] فأرسله إلى الإنس والجنّ.
وأخرج ابن مردويه عن عثمان بن عفان {إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} قال: نزل القرآن بلسان قريش.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد وعطاء وعبيد بن عمير في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا} قال: بالآيات التسع الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا ويده والسنين ونقص من الثمرات.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور} قال: من الضلالة إلى الهدى.
وأخرج النسائي، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} قال: «بنعم الله وآلائه».
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر عن ابن عباس {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} قال: نعم الله.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} قال: وعظهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال: بوقائع الله في القرون الأولى.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {إِنَّ في ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} قال: نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر.