فصل: تفسير الآيات (19- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (19- 23):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)}
قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السموات والأرض بالحق} الرؤية هنا هي القلبية، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته، أو الخطاب لكلّ من يصلح له. وقرأ حمزة والكسائي {خالق السموات} ومعنى بالحقّ: بالوجه الصحيح الذي يحقّ أن يخلقها عليه ليستدلّ بها على كمال قدرته. ثم بيّن كمال قدرته سبحانه واستغناءه عن كل واحد من خلقه فقال: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} فيعدم الموجودين ويوجد المعدومين، ويهلك العصاة، ويأتي بمن يطيعه من خلقه، والمقام يحتمل أن يكون هذا الخلق الجديد من نوع الإنسان، ويحتمل أن يكون من نوع آخر {وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ} أي: بممتنع؛ لأنه سبحانه قادر على كل شيء، وفيه أن الله تعالى هو الحقيق بأن يرجى ثوابه ويخاف عقابه؛ فلذلك أتبعه بذكر أحوال الآخرة فقال: {وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا} أي: برزوا من قبورهم يوم القيامة، والبروز: الظهور، والبراز: المكان الواسع لظهوره، ومنه امرأة برزة، أي: تظهر للرجال، فمعنى {برزوا} ظهروا من قبورهم. وعبر بالماضي عن المستقبل تنبيهاً على تحقيق وقوعه كما هو مقرّر في علم المعاني، وإنما قال: {وبرزوا لله} مع كونه سبحانه عالماً بهم لا تخفى عليه خافية من أحوالهم برزوا أو لم يبرزوا؛ لأنهم كانوا يستترون عن العيون عند فعلهم للمعاصي ويظنون أن ذلك يخفى على الله تعالى، فالكلام خارج على ما يعتقدونه.
{فَقَالَ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا} أي قال: الأتباع الضعفاء للرؤساء الأقوياء المتكبرين لما هم فيه من الرياسة: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} أي: في الدنيا، فكذبنا الرسل وكفرنا بالله متابعة لكم. والتبع جمع تابع، أو مصدر وصف به للمبالغة، أو على تقدير: ذوي تبع. قال الزجاج: جمعهم في حشرهم فاجتمع التابع والمتبوع، فقال الضعفاء للذين استكبروا من أكابرهم عن عبادة الله: إنا كنا لكم تبعاً. جمع تابع، مثل خادم وخدم، وحارس وحرس، وراصد ورصد {فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا} أي: دافعون عنا {من عذاب الله من شيء} {من} الأولى للبيان، والثانية للتبعيض، أي: بعض الشيء الذي هو عذاب الله؛ يقال: أغنى عنه: إذا دفع عنه الأذى، وأغناه إذا أوصل إليه النفع.
{قَالُواْ لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ} أي: قال المستكبرون مجيبين عن قول المستضعفين، والجملة مستأنفة بتقدير سؤال كأنه قيل: كيف أجابوا؟ أي لو هدانا الله إلى الإيمان لهديناكم إليه. وقيل: لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها. وقيل: لو نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه. {سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا ما لَنَا مِن مَّحِيصٍ} أي: مستوٍ علينا الجزع والصبر، والهمزة و{أم} لتأكيد التسوية في قوله: {سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [البقرة: 6]. {مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} أي: من منجى ومهرب من العذاب، يقال: حاص فلان عن كذا، أي: فرّ وزاغ، يحيص حيصاً وحيوصاً وحيصاناً، والمعنى: ما لنا وجه نتباعد به عن النار، ويجوز أن يكون هذا من كلام الفريقين، وإن كان الظاهر أنه من كلام المستكبرين.
{وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِىَ الأمر} أي: قال للفريقين هذه المقالة، ومعنى {لما قضي الأمر}: لما دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار على ما يأتي بيانه في سورة مريم. {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} وهو وعده سبحانه بالبعث والحساب، ومجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته {وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} أي: وعدتكم وعداً باطلاً، بأنه لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار، فأخلفتكم ما وعدتكم به من ذلك. قال الفراء: وعد الحق هو من إضافة الشيء إلى نفسه كقولهم: مسجد الجامع.
وقال البصريون: وعدكم وعد اليوم الحق {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان} أي: تسلط عليكم بإظهار حجة على ما وعدتكم به وزينته لكم {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} أي: إلا مجرّد دعائي لكم إلى الغواية والضلال بلا حجة ولا برهان، ودعوته إياهم ليست من جنس السلطان حتى تستثنى منه، بل الاستثناء منقطع، أي: لكن دعوتكم فاستجبتم لي، أي: فسارعتم إلى إجابتي. وقيل: المراد بالسلطان هنا: القهر، أي: ما كان لي عليكم من قهر يضطركم إلى إجابتي. وقيل: هذا الاستثناء هو من باب: تحية بينهم ضرب وجيع. مبالغة في نفيه للسلطان عن نفسه كأنه قال: إنما يكون لي عليكم سلطان إذا كان مجرّد الدعاء من السلطان، وليس منه قطعاً.
{فَلاَ تَلُومُونِى} بما وقعتم فيه بسبب وعدي لكم بالباطل وإخلافي لهذا الموعد {وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} باستجابتكم لي بمجرّد الدعوة التي لا سلطان عليها ولا حجة، فإن من قبل المواعيد الباطلة والدعاوي الزائغة عن طريق الحق فعلى نفسه جنى، ولمارنه قطع، ولاسيما ودعوتي هذه الباطلة، وموعدي الفاسد وقعا معارضين لوعد الله لكم وعد الحق، ودعوته لكم إلى الدار السلام، مع قيام الحجة التي لا تخفى على عاقل، ولا تلتبس إلاّ على مخذول، وقريب من هذا من يقتدي بآراء الرجال المخالفة لما في كتاب الله سبحانه، ولما في سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ويؤثرها على ما فيهما، فإنه قد استجاب للباطل الذي لم تقع عليه حجة، ولا دلّ عليه برهان، وترك الحجة والبرهان خلف ظهره، كما يفعله كثير من المقتدين بالرجال المتنكبين طريق الحق بسوء اختيارهم، اللهم غفرا.
{مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ} يقال: صرخ فلان: إذا استغاث يصرخ صراخاً وصرخاً، واستصرخ بمعنى: صرخ، والمصرخ: المغيث، والمستصرخ: المستغيث. يقال: استصرخني فأصرخته، والصريخ: صوت المستصرخ، والصريخ أيضاً: الصارخ، وهو المغيث والمستغيث، وهو من أسماء الأضداد كما في الصحاح.
قال ابن الأعرابي: الصارخ: المستغيث، والمصرخ: المغيث، ومعنى الآية: ما أنا بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب، وما أنتم بمغيثي مما أنا فيه، وفيه إرشاد لهم إلى أن الشيطان في تلك الحالة مبتلى بما ابتلوا به من العذاب، محتاج إلى من يغيثه ويخلصه مما هو فيه، فكيف يطمعون في إغاثة من هو محتاج إلى من يغيثه؟ ومما ورد مورد هذه الأقوال من قول العرب قول أمية بن أبي الصلت:
فلا تجزعوا إني لكم غير مصرخ ** وليس لكم عندي غناء ولا نفر

و{مصرخيّ} بفتح الياء في قراءة الجمهور، وقرأ الأعمش وحمزة بكسر الياء على أصل التقاء الساكنين. قال الفراء: قراءة حمزة وهم منه، وقلّ من سلم عن خطأ.
وقال الزجاج: هي قراءة رديئة ولا وجه لها إلاّ وجه ضعيف يعني: ما ذكرناه من أنه كسرها على الأصل في التقاء الساكنين.
وقال قطرب: هذه لغة بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء، وأنشد الفراء فيما ورد على هذه القراءة قول الشاعر:
قلت لها يا تاء هل لك في ** قالت له ما أنت بالمرضي

{إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} لما كشف لهم القناع بأنه لا يغني عنهم من عذاب الله شيئاً، ولا ينصرهم بنوع من أنواع النصر، صرح لهم بأنه كافر بإشراكهم له مع الله في الرّبوبية، من قبل هذا الوقت الذي قال لهم الشيطان فيه هذه المقالة، وهو ما كان منهم في الدنيا من جعله شريكاً. ولقد قام لهم الشيطان في هذا اليوم مقاماً يقصم ظهورهم ويقطع قلوبهم، فأوضح لهم أولاً أن مواعيده التي كان يعدهم بها في الدنيا باطلة معارضة لوعد الحق من الله سبحانه وأنه أخلفهم ما وعدهم من تلك المواعيد ولم يف لهم بشيء منها، ثم أوضح لهم ثانياً بأنهم قبلوا قوله بما لا يوجب القبول، ولا يتفق على عقل عاقل لعدم الحجة التي لابد للعاقل منها في قبول قول غيره، ثم أوضح ثالثاً بأنه لم يكن منه إلاّ مجرّد الدعوة العاطلة عن البرهان، الخالية عن أيسر شيء مما يتمسك به العقلاء، ثم نعى عليهم رابعاً ما وقعوا فيه، ودفع لومهم له وأمرهم بأن يلوموا أنفسهم؛ لأنهم هم الذين قبلوا الباطل البحت، الذي لا يلتبس بطلانه على من له أدنى عقل، ثم أوضح لهم خامساً بأنه لا نصر عنده ولا إغاثة، ولا يستطيع لهم نفعاً، ولا يدفع عنهم ضرّاً، بل هو مثلهم في الوقوع في البلية والعجز عن الخلوص عن هذه المحنة، ثم صرح لهم سادساً بأنه قد كفر بما اعتقدوه فيه وأثبتوه له، فتضاعفت عليهم الحسرات وتوالت عليهم المصائب.
وإذا كان جملة {إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} من تتمة كلامه كما ذهب إليه البعض فهو نوع سابع من كلامه الذي خاطبهم به، فأثبت لهم الظلم، ثم ذكر ما هو جزاؤهم عليه من العذاب الأليم، لا على قول من قال: إنه ابتداء كلام من جهة الله سبحانه.
وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن {ما} مصدرية في {ما أشركتمون} وقيل: يجوز أن تكون موصولة على معنى {إني كفرت} بالذي أشركتمونيه وهو الله، عزّ وجلّ، ويكون هذا حكاية لكفره بالله عند أن أمره بالسجود لآدم.
{وَأُدْخِلَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} لما أخبر سبحانه بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة. وقرأ الجمهور {أدخل} على البناء للمفعول، وقرأ الحسن {وأدخل} على الاستقبال والبناء للفاعل، أي: وأنا أدخل الذين آمنوا، ثم ذكر سبحانه خلودهم في الجنات وعدم انقطاع نعيمهم، ثم ذكر أن ذلك بإذن ربهم، أي: بتوفيقه ولطفه وهدايته، هذا على قراءة الجمهور، وأما على قراءة الحسن فيكون {بإذن ربهم} متعلقاً بقوله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام} أي: تحية الملائكة في الجنة سلام بإذن ربهم، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة يونس.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} قال: بخلق آخر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {فقال الضعفاء} قال: الأتباع {لِلَّذِينَ استكبروا} قال: للقادة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم في قوله: {سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} قال زيد بن أسلم: جزعوا مائة سنة. وصبروا مائة سنة.
وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن كعب بن مالك يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {سَوَاء عَلَيْنَا} الآية قال: «يقول أهل النار: هلموا فلنصبر، فيصبرون خمسمائة عام، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا: هلموا فلنجزع، فبكوا خمسمائة عام، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا: {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص}» والظاهر أن هذه المراجعة كانت بينهم بعد دخولهم النار، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ في النار فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ النار * قَالَ الذين استكبروا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد} [غافر: 47- 48].
وأخرج ابن المبارك في الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، وابن عساكر عن عقبة بن عامر يرفعه، وذكر فيه حديث الشفاعة، ثم قال: «ويقول الكافر عند ذلك: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فمن يشفع لنا؟ ما هو إلاّ إبليس فهو الذي أضلنا، فيأتون إبليس فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم قم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا، فيقوم إبليس فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمها أحد قط، ثم يعظهم بجهنم، ويقول عند ذلك {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}».
الآية. وضعف السيوطي إسناده، ولعلّ سبب ذلك كون في إسناده رشدين ابن سعد عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن دجين الحجزي، عن عقبة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن قال: إذا كان يوم القيامة قام إبليس خطيباً على منبر من نار فقال: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ} إلى قوله: {وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ} قال: بناصريّ {إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} قال: بطاعتكم إياي في الدنيا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن الشعبي في هذه الآية قال: خطيبان يقومان يوم القيامة: إبليس، وعيسى، فأما إبليس فيقوم في حزبه فيقول: هذا القول يعني: المذكور في الآية، وأما عيسى فيقول: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117].
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ} قال: ما أنا بنافعكم، وما أنتم بنافعيّ {إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} قال شركه: عبادته.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر عن قتادة {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} قال: ما أنا بمغيثكم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام} قال: الملائكة يسلمون عليهم في الجنة.

.تفسير الآيات (24- 27):

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)}
لما ذكر سبحانه مثل أعمال الكفار، وأنها كرماد اشتدّت به الريح، ثم ذكر نعيم المؤمنين، وما جازاهم الله به من إدخالهم الجنة خالدين فيها، وتحية الملائكة لهم ذكر تعالى ها هنا مثلاً للكلمة الطيبة، وهي كلمة الإسلام، أي: لا إله إلاّ الله، أو ما هو أعمّ من ذلك من كلمات الخير، وذكر مثلاً للكلمة الخبيثة، وهي كلمة الشرك، أو ما هو أعم من ذلك من كلمات الشرّ، فقال مخاطباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو مخاطباً لمن يصلح للخطاب: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً} أي: اختار مثلاً وضعه في موضعه اللائق به، وانتصاب {مثلاً} على أنه مفعول ضرب، و{كلمة} بدل منه، ويجوز أن تنتصب الكلمة على أنها عطف بيان ل {مثلاً} ويجوز أن تنتصب الكلمة بفعل مقدّر، أي: جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، وحكم بأنها مثلها، ومحل {كشجرة} النصب على أنها صفة لكلمة، أو الرفع على تقدير مبتدأ، أي: هي كشجرة، ويجوز أن تكون {كلمة} أوّل مفعولي {ضرب} وأخرت عن المفعول الثاني، وهو {مثلاً} لئلا تبعد عن صفتها، والأوّل أولى، و{كلمة} وما بعدها تفسير للمثل، ثم وصف الشجرة بقوله: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} أي: راسخ آمن من الانقلاع بسبب تمكنها من الأرض بعروقها {فِى السماء} أي: أعلاها ذاهب إلى جهة السماء مرتفع في الهواء.
ثم وصفها سبحانه بأنها {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} كل وقت {بِإِذْنِ رَبّهَا} بإرادته ومشيئته، قيل: وهي النخلة. وقيل غيرها. وقيل: والمراد بكونها {تؤتي أكلها كل حين} أي: كل ساعة من الساعات من ليل أو نهار في جميع الأوقات من غير فرق بين شتاء وصيف. وقيل: المراد في أوقات مختلفة من غير تعيين؛ وقيل: كل غدوة وعشية، وقيل: كل شهر. وقيل: كل ستة أشهر. قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة غير متناقضة؛ لأن الحين عند جميع أهل اللغة إلاّ من شذّ منهم بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره، وأنشد الأصمعي قول النابغة:
تطلقه حيناً وحيناً تراجع

قال النحاس: وهذا يبين لك أن الحين بمعنى الوقت.
وقد ورد الحين في بعض المواضع يراد به: أكثر كقوله: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر} [الإنسان: 1].
وقد تقدّم بيان أقوال العلماء في الحين في سورة البقرة في قوله: {وَلَكُمْ في الأرض مُسْتَقَرٌّ ومتاع إلى حِينٍ} [البقرة: 36].
وقال الزجاج: الحين: الوقت طال أم قصر. {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتفكرون أحوال المبدأ والمعاد. وبدائع صنعه سبحانه الدالة على وجوده ووحدانيته، وفي ضرب الأمثال زيادة تذكير وتفهيم وتصوير للمعاني. {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} قد تقدّم تفسيرها. وقيل: هي الكافر نفسه، والكلمة الطيبة: المؤمن نفسه.
{كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} أي: كمثل شجرة خبيثة، قيل: هي شجرة الحنظل. وقيل: هي شجرة الثوم. وقيل: الكمأة؛ وقيل: الطحلبة. وقيل: هي الكشوث بالضم وآخره مثلثة، وهي شجرة لا ورق لها ولا عروق في الأرض. قال الشاعر:
وهي كشوث فلا أصل ولا ثمر

وقرئ: {ومثلاً كلمة} بالنصب عطفاً على كلمة طيبة {اجتثت مِن فَوْقِ الأرض} أي: استؤصلت واقتلعت من أصلها، ومنه قول الشاعر:
هو الجلاء الذي يجتث أصلكم

قال المؤرج: أخذت جثتها وهي نفسها، والجثة: شخص الإنسان، يقال: جثَّه: قلعه، واجتثه: اقتلعه. ومعنى {من فوق الأرض}: أنه ليس لها أصل راسخ، وعروق متمكنة من الأرض {ما لَهَا مِن قَرَارٍ} أي: من استقرار على الأرض. وقيل: من: ثبات على الأرض، كما أن الكافر وكلمته لا حجة له ولا ثبات فيه، ولا خير يأتي منه أصلاً، ولا يصعد له قول طيب ولا عمل طيب.
{يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت} أي: بالحجة الواضحة، وهي الكلمة الطيبة المتقدّم ذكرها، وقد ثبت في الصحيح أنها كلمة الشهادة شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله وذلك إذا قعد المؤمن في قبره. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فذلك قوله تعالى: {يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت}» وقيل: معنى تثبيت الله لهم: هو أن يدوموا على القول الثابت، ومنه قول عبد الله بن رواحة:
يثبت الله ما آتاك من حسن ** تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا

ومعنى {في الحياة الدنيا} أنهم يستمرّون على القول الثابت في الحياة الدنيا. قال جماعة: المراد بالحياة الدنيا في هذه الآية: القبر؛ لأن الموتى في الدنيا حتى يبعثوا. ومعنى {وَفِي الآخرة} وقت الحساب. وقيل: المراد بالحياة الدنيا: وقت المساءلة في القبر، وفي الآخرة: وقت المساءلة يوم القيامة: والمراد: أنهم إذا سئلوا عن معتقدهم ودينهم أوضحوا ذلك بالقول الثابت من دون تلعثم ولا تردّد ولا جهل، كما يقول: من لم يوفق: لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا تليت {وَيُضِلُّ الله الظالمين} أي: يضلهم عن حجتهم التي هي القول الثابت فلا يقدرون على التكلم بها في قبورهم، ولا عند الحساب، كما أضلهم عن اتباع الحق في الدنيا. قيل: والمراد بالظالمين هنا: الكفرة. وقيل: كل من ظلم نفسه ولو بمجرد الإعراض عن البينات الواضحة، فإنه لا يثبت في مواقف الفتن، ولا يهتدي إلى الحق. ثم ذكر سبحانه أنه يفعل ما يشاء من التثبيت والخذلان لا رادّ لحكمه، ولا يسأل عما يفعل. قال الفراء: أي لا تنكر له قدرة ولا يسأل عما يفعل، والإظهار في محل الإضمار في الموضعين لتربية المهابة كما قيل: والله أعلم.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً} قال: شهادة أن لا إله إلاّ الله {كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ} وهو المؤمن {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} يقول: لا إله إلاّ الله ثابت في قلب المؤمن {وَفَرْعُهَا في السماء} يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء.
{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} وهي الشرك {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} يعني: الكافر {اجتثت مِن فَوْقِ الأرض لَهَا مِن قَرَارٍ} يقول: الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان، ولا يقبل الله مع الشرك عملاً.
وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين ومن بعدهم.
وأخرج الترمذي، والنسائي، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع من بسر فقال: {مَثَلُ كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ} حتى بلغ: {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا} قال: «هي النخلة» {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} حتى بلغ: {ما لها مِن قَرَارٍ} قال: «هي الحنظلة».
وروي موقوفاً على أنس، قال الترمذي: الموقوف أصح.
وأخرج أحمد وابن مردويه. قال السيوطي بسند جيد عن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ} قال: «هي التي لا ينقص ورقها قال: هي النخلة».
وأخرج البخاري وغيره من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: «إن شجرة من الشجر، لا يطرح ورقها مثل المؤمن» قال: فوقع الناس في شجر البوادي. ووقع في قلبي أنها النخلة، فاستحييت حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة» وفي لفظ للبخاري قال: «أخبروني عن شجرة كالرجل المسلم لا يتحاتّ ورقها وتؤتي أكلها كل حين» فذكر نحوه. وفي لفظ لابن جرير وابن مردويه من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تدرون ما الشجرة الطيبة؟»، «ثم قال: هي النخلة» وروي نحو هذا عن جماعة من الصحابة والتابعين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا} قال: كل ساعة بالليل والنهار والشتاء والصيف، وذلك مثل المؤمن يطيع ربه بالليل والنهار والشتاء والصيف.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال: يكون أخضر ثم يكون أصفر.
وأخرج عنه أيضاً في قوله: {كُلَّ حِينٍ} قال: جذاذ النخل.
وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً: {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} قال: تطعم في كل ستة أشهر.
وأخرج أبو عبيد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً قال: الحين هنا: سنة.
وأخرج البيهقي عنه أيضاً قال: الحين: قد يكون غدوة وعشية.
وقد روي عن جماعة من السلف في هذا أقوال كثيرة.
وأخرج البخاري، ومسلم، وأهل السنن، وغيرهم عن البراء بن عازب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله سبحانه: {يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت في الحياة الدنيا وَفِى الآخرة}».
وأخرج ابن أبي شيبة، والبيهقي عن البراء بن عازب في قوله: {يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ} الآية قال: التثبيت في الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر فقالا: من ربك؟ فقال: ربي الله، قال: وما دينك؟ قال: ديني الإسلام. قال: ومن نبيك؟ قال نبيي محمد صلى الله عليه وسلم. فذلك التثبيت في الحياة الدنيا.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس نحوه.
وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه عن أبي سعيد في الآية قال: في الآخرة القبر.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ} الآية. قال: «هذا في القبر».
وأخرج البيهقي من حديثها نحوه.
وأخرج البزار عنها أيضاً قالت:«قلت: يا رسول الله، تبتلى هذه الأمة في قبورها، فكيف بي وأنا امرأة ضعيفة؟ قال: {يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ}» الآية وقد وردت أحاديث كثيرة في سؤال الملائكة للميت في قبره، وفي جوابه عليهم وفي عذاب القبر وفتنته، وليس هذا موضع بسطها، وهي معروفة.