فصل: تفسير الآيات (33- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (33- 40):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)}
قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ} الآية هذا جواب شبهة أخرى لمنكري النبوّة، فإنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم ملكاً من السماء يشهد على صدقه في ادّعاء النبوّة فقال: {هل ينظرون} في تصديق نبوّتك {إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة} شاهدين بذلك. ويحتمل أن يقال: إنهم لما طعنوا في القرآن بأنه أساطير الأوّلين أو عدهم الله بقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة} لقبض أرواحهم {أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ} أي: عذابه في الدنيا المستأصل لهم، أو المراد بأمر الله القيامة. وقرأ الأعمش، وابن وثاب، وحمزة، والكسائي، وخلف {إلا أن يأتيهم الملائكة} بالياء التحتية وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية. والمراد بكونهم {ينظرون} أي: ينتظرون إتيان الملائكة أو إتيان أمر الله على التفسير الآخر أنهم قد فعلوا فعل من وجب عليه العذاب، وصار منتظراً له، وليس المراد أنهم ينتظرون ذلك حقيقة، فإنهم لا يؤمنون بذلك ولا يصدّقونه {كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: مثل فعل هؤلاء من الإصرار على الكفر والتكذيب والاستهزاء فعل الذين خلوا من قبلهم من طوائف الكفار، فأتاهم أمر الله فهلكوا {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله} بتدميرهم بالعذاب، فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بما ارتكبوه من القبائح. وفيه أن ظلمهم مقصور عليهم باعتبار ما إليه يئول.
وجملة {فَأَصَابَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} معطوفة على {فعل الذين من قبلهم} وما بينهما اعتراض. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم سيئات ما عملوا وما ظلمهم الله، والمعنى: فأصابهم جزاء سيئات أعمالهم، أو جزاء أعمالهم السيئة {وَحَاقَ بِهِم} أي: نزل بهم على وجه الإحاطة {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} أي: العذاب الذي كانوا به يستهزئون، أو عقاب استهزائهم.
{وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ} هذا نوع آخر من كفرهم الذي حكاه الله عنهم. والمراد بالذين أشركوا هنا. أهل مكة {لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَئ} أي: لو شاء عدم عبادتنا لشيء غيره ما عبدنا ذلك {نَّحْنُ وَلا ءابَاؤُنَا} الذين كانوا على ما نحن عليه الآن من دين الكفر والشرك بالله. قال الزجاج: إنهم قالوا هذا على جهة الاستهزاء، ولو قالوه عن اعتقاد لكانوا مؤمنين.
وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة الأنعام {وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْء} من السوائب والبحائر ونحوهما، ومقصودهم بهذا القول المعلق بالمشيئة: الطعن في الرسالة، أي: لو كان ما قاله الرسول حقاً من المنع من عبادة غير الله، والمنع من تحريم ما لم يحرّمه الله حاكياً ذلك عن الله لم يقع منا ما يخالف ما أراده منا فإنه قد شاء ذلك، وما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن، فلما وقع منا العبادة لغيره وتحريم ما لم يحرمه كان ذلك دليلاً على أن ذلك هو المطابق لمراده والموافق لمشيئته، مع أنهم في الحقيقة لا يعترفون بذلك ولا يقرّون به لكنهم قصدوا ما ذكرنا من الطعن على الرسل {كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} من طوائف الكفر، فإنهم أشركوا بالله وحرّموا ما لم يحرّمه، وجادلوا رسله بالباطل واستهزءوا بهم، ثم قال: {فَهَلْ عَلَى الرسل} الذين يرسلهم الله إلى عباده بما شرعه لهم من شرائعه التي رأسها توحيده، وترك الشرك به {إِلاَّ البلاغ} إلى من أرسلوا إليهم بما أمروا بتبليغه بلاغاً واضحاً يفهمه المرسل إليهم ولا يلتبس عليهم.
ثم إنه سبحانه أكد هذا، وزاده إيضاحاً فقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} كما بعثنا في هؤلاء لإقامة الحجة عليهم {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] و(أن) في قوله: {أَنِ اعبدوا الله} إما مصدرية أي: بعثنا بأن اعبدوا الله، أو مفسرة؛ لأن في البعث معنى القول: {واجتنبوا الطاغوت} أي: اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان، والكاهن، والصنم، وكل من دعا إلى الضلال. {فَمِنْهُمْ} أي: من هذه الأمم التي بعث الله إليها رسله {مَّنْ هَدَى الله} أي: أرشده إلى دينه وتوحيده وعبادته واجتناب الطاغوت {وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة} أي: وجبت وثبتت، لإصراره على الكفر والعناد. قال الزجاج: أعلم الله أنه بعث الرسل بالأمر بالعبادة، وهو من وراء الإضلال والهداية. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {فَرِيقًا هدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} [الأعراف: 30]. وفي هذه الآية التصريح بأن الله أمر جميع عباده بعبادته، واجتناب الشيطان، وكل ما يدعو إلى الضلال، وأنهم بعد ذلك فريقان: فمنهم من هدى، ومنهم من حقت عليه الضلالة، فكان في ذلك دليل على أن أمر الله سبحانه لا يستلزم موافقة إرادته فإنه يأمر الكل بالإيمان، ولا يريد الهداية إلاّ للبعض، إذ لو أرادها للكل لم يكفر أحد، وهذا معنى ما حكيناه عن الزجاج هنا. {فَسِيرُواْ في الأرض} سير معتبرين {فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} من الأمم السابقة عند مشاهدتكم لآثارهم كعاد وثمود، أي: كيف صار آخر أمرهم إلى خراب الديار بعد هلاك الأبدان.
بالعذاب ثم خصص الخطاب برسوله صلى الله عليه وسلم مؤكداً لما تقدّم فقال: {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ} أي: تطلب بجهدك ذلك {فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ} قرأ ابن مسعود وأهل الكوفة: {لا يهدي} بفتح حرف المضارعة على أنه فعل مستقبل مسند إلى الله سبحانه، أي: فإن الله لا يرشد من أضله، و{من} في موضع نصب على المفعولية.
وقرأ الباقون {لا يهدي} بضم حرف المضارعة على أنه مبني للمجهول، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم على معنى أنه لا يهديه هادٍ كائناً من كان. و{من} في موضع رفع على أنها نائب الفاعل المحذوف، فتكون هذه الآية على هذه القراءة كقوله في الآية الأخرى {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186]. والعائد على القراءتين محذوف، أي: من يضله.
وروى أبو عبيد عن الفراء على القراءة الأولى أن معنى {لاَّ يَهِدِّى} لا يهتدي كقوله تعالى: {أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يهدى} [يونس: 35]. بمعنى يهتدي. قال أبو عبيد: ولا نعلم أحداً روى هذا غير الفراء، وليس بمتهم فيما يحكيه. قال النحاس: حكي عن محمد بن يزيد المبرد، كأن معنى {لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ} من علم ذلك منه، وسبق له عنده {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} ينصرونهم على الهداية لمن أضله الله، أو ينصرونهم بدفع العذاب عنهم.
ثم ذكر عناد قريش وإنكارهم للبعث فقال: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم} مصدر في موضع الحال أي: جاهدين {لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} من عباده، زعموا أن الله سبحانه عاجز عن بعث الأموات، فردّ الله عليهم ذلك بقوله: {بلى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا} هذا إثبات لما بعد النفي، أي: بلى يبعثهم، و{وعدا} مصدر مؤكد لما دلّ عليه {بلى} وهو يبعثهم لأن البعث وعد من الله وعد عباده به. والتقدير: وعد البعث وعداً عليه حقاً لا خلف فيه، و{حقاً} صفة ل {وعد} وكذا {عليه} فإنه صفة ل {وعدا} أي: كائناً عليه، أو نصب حقاً على المصدرية: أي حق حقاً {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أن ذلك يسير عليه سبحانه غير عسير.
وقوله: {لِيُبَيّنَ لَهُمُ} أي: ليظهر لهم، وهو غاية لما دلّ عليه {بلى} من البعث، والضمير في {لَهُمْ} راجع إلى من يموت، والموصول في قوله: {الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} في محل نصب على أنه مفعول ليبين، أي: الأمر الذي وقع الخلاف بينهم فيه، وبيانه إذ ذاك يكون بما جاءتهم به الرسل، ونزلت عليهم فيه كتب الله. وقيل: إن {ليبين} متعلق بقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا} أي: بعثنا في كل أمة رسولاً ليبين وهو بعيد {وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ} بالله سبحانه، وأنكروا البعث {أَنَّهُمْ كَانُواْ كاذبين} في جدالهم وإنكارهم البعث بقولهم: {لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ}.
وجملة {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَئ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} مستأنفة لبيان كيفية الإبداء والإعادة بعد بيان سهولة البعث عليه سبحانه. قال الزجاج: أعلمهم بسهولة خلق الأشياء عليه فأخبر أنه متى أراد الشيء كان، وهذا كقوله: {وَإِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
[البقرة: 117]. وقرأ ابن عامر، والكسائي {فيكون} بالنصب عطفاً على {أن نقول}. قال الزجاج: يجوز أن يكون نصباً غلى جواب {كن}. وقرأ الباقون بالرفع على معنى: فهو يكون. قال ابن الأنباري: أوقع لفظ الشيء على المعلوم عند الله تعالى قبل الخلق، لأنه بمنزلة ما قد وجد وشوهد.
وقال الزجاج: إن معنى {لشيء} لأجل شيء فجعل اللام سببية. وقيل: هي لام التبليع، كما في قولك: قلت له قم فقام، و{إِنَّمَا قَوْلُنَا} مبتدأ و{أَنْ نَّقُولَ لَهُ كُنْ} خبره، وهذا الكلام من باب التمثيل على معنى: أنه لا يمتنع عليه شيء، وأن وجوده عند إرادته كوجود المأمورية عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع، وليس هناك قول ولا مقول له، ولا أمر، ولا مأمور حتى يقال: إنه يلزم منه أحد محالين، إما خطاب المعدوم، أو تحصيل لحاصل.
وقد مضى تفسير ذلك في سورة البقرة مستوفى.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة} قال: بالموت، وقال في آية أخرى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملئكة} [الأنفال: 50]، وهو ملك الموت، وله رسل {أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ} وذاكم يوم القيامة.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ} قال: من يضله الله لا يهديه أحد.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به: والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا وكذا، فقال له المشرك: إنك لتزعم أنك تبعث من بعد الموت، فأقسم بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت، فأنزل الله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} الآية.
وأخرج ابن العقيلي، وابن مردويه عن عليّ في قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} قال: نزلت فيّ.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر عن أبي هريرة، قال: «قال الله تعالى: سبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يسبني، وكذبني ولم يكن ينبغي له أن يكذبني، أما تكذيبه إياي، فقال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} وقلت: {بلى وعداً عليه حقاً} وأما سبه إياي، فقال: {إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73]، وقلت: {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد} [سورة الإخلاص 1- 4]» هكذا ذكره أبو هريرة موقوفاً وهو في الصحيحين مرفوعاً بلفظ آخر.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {لِيُبَيّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} يقول: للناس عامة.

.تفسير الآيات (41- 50):

{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)}
قد تقدّم تحقيق معنى الهجرة في سورة النساء، وهي ترك الأهل والأوطان، ومعنى {هاجروا في الله} في شأن الله سبحانه وفي رضاه. وقيل: {فِى الله} في دين الله. وقيل: في بمعنى اللام أي: لله {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} أي: عذبوا وأهينوا، فإن أهل مكة عذبوا جماعة من المسلمين حتى قالوا ما أرادوا منهم، فلما تركوهم هاجروا.
وقد اختلف في سبب نزول الآية، فقيل: نزلت في صهيب وبلال وخباب وعمار. واعترض بأن السورة مكية، وذلك يخالف قوله: {والذين هاجروا}.
وأجيب بأنه يمكن أن تكون هذه الآية من جملة الآيات المدنية في هذه السورة كما قدّمنا في عنوانها، وقيل: نزلت في أبي جندل بن سهيل، وقيل: نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لما ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة.
{لَنُبَوّئَنَّهُمْ في الدنيا حَسَنَة} اختلف في معنى هذا على أقوال. فقيل: المراد: نزولهم المدينة، قاله ابن عباس، والحسن، والشعبي، وقتادة. وقيل: المراد: الرزق الحسن، قاله مجاهد. وقيل: النصر على عدّوهم قاله الضحاك. وقيل: ما استولوا عليه من فتوح البلاد، وصار لهم فيها من الولايات. وقيل: ما بقي لهم فيها من الثناء، وصار لأولادهم من الشرف. ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور. ومعنى {لَنُبَوّئَنَّهُمْ في الدنيا حَسَنَة} لنبوئنهم مباءة حسنة، أو تبوئة حسنة، فحسنة صفة مصدر محذوف {وَلأَجْرُ الآخرة} أي: جزاء أعمالهم في الآخرة {أَكْبَرَ} من أن يعلمه أحد من خلق الله قبل أن يشاهده، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان: 20]. {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي: لو كان هؤلاء الظلمة يعلمون ذلك. وقيل: إن الضمير في {يعلمون} راجع إلى المؤمنين، أي: لو رأوا ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه أكبر من حسنة الدنيا.
{الذين صَبَرُواْ} الموصول في محل نصب على المدح، أو الرفع على تقدير مبتدأ، أو هو بدل من الموصول الأوّل، أو من الضمير في {لنبؤئنهم} {وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: على ربهم خاصة يتوكلون في جميع أمورهم معرضين عما سواه، والجملة معطوفة على الصلة أو في محل نصب على الحال.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ}. قرأ حفص عن عاصم {نوحي} بالنون، وقرأ الباقون {يوحي} بالياء التحتية، وهذه الآية ردّ على قريش حيث زعموا أن الله سبحانه أجلّ من أن يرسل رسولاً من البشر، فردّ الله عليهم بأن هذه عادته وسنّته أن لا يرسل إلاّ رجالاً من البشر يوحي إليهم. وزعم أبو عليّ الجبائي أن معنى الآية أن الله سبحانه لم يرسل إلى الأنبياء بوحيه إلاّ من هو على صورة الرجال من الملائكة.
ويردّ عليه بأن جبريل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صور مختلفة. ولما كان كفار مكة مقرّين بأن اليهود والنصارى هم أهل لعلم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل، صرف الخطاب إليهم، وأمرهم أن يرجعوا إلى أهل الكتاب، فقال: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} أي: فاسألوا أيها المشركون مؤمن أهل الكتاب إن كنتم لا تعلمون، فإنهم سيخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشراً، أو اسألوا أهل الكتاب من غير تقييد بمؤمنيهم كما يفيده الظاهر، فإنهم كانوا يعترفون بذلك ولا يكتمونه. وقيل: المعنى: فاسألوا أهل القرآن.
و{بالبينات والزبر} يتعلق ب {أرسلنا} فيكون داخلاً في حكم الاستثناء مع {رجالاً} وأنكر الفراء ذلك، وقال: إن صفة ما قبل {إلاّ} لا تتأخر إلا ما بعدها، لأن المستثنى عنه هو مجموع ما قبل: {إلاّ} مع صلته، كما لو قيل: ما أرسلنا إلاّ رجالاً بالبينات، فلما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه، امتنع إدخال الاستثناء عليه. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلاّ رجالاً. وقيل: يتعلق بمحذوف دلّ عليه المذكور، أي: أرسلناهم بالبينات والزبر، ويكون جواباً عن سؤال مقدّر كأنه قيل: لماذا أرسلهم؟ فقال: أرسلناهم بالبينات والزبر. وقيل: متعلق ب {تعلمون} على أنه مفعوله. والباء زائدة، أي: إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر؛ وقيل: متعلق ب {رجالاً} أي: رجالاً متلبسين بالبينات والزبر. وقيل: ب {نوحى} أي: نوحي إليهم بالبينات والزبر. وقيل: منصوب بتقدير أعني، والباء زائدة، وأهل الذكر هم أهل الكتاب كما تقدّم.
وقال الزجاج: اسألوا كل من يذكر بعلم، والبينات: الحجج والبراهين، والزبر: الكتب.
وقد تقدّم الكلام على هذا في آل عمران {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر} أي القرآن. ثم بين الغاية المطلوبة من الإنزال، فقال: {لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ} جميعاً {مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} في هذا الذكر من الأحكام الشرعية، والوعد والوعيد {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي: إرادة أن يتأملوا ويعملوا أفكارهم فيتعظوا.
{أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات} يحتمل أن تكون {السيئات} صفة مصدر محذوف أي: مكروا المكرات السيئات، وأن تكون مفعولة للفعل المذكور على تضمينه معنى العمل، أي: عملوا السيئات، أو صفة لمفعول مقدّر، أي: أفأمن الماكرون العقوبات السيئات. أو على حذف حرف الجرّ، أي: مكروا بالسيئات {أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض} هو مفعول {أمن} أو بدل من مفعوله على القول بأن مفعوله محذوف، وأن السيئات صفة للمحذوف، والاستفهام للتقريع والتوبيخ. ومكر السيئات وسعيهم في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاء أصحابه على وجه الخفية، واحتيالهم في إبطال الإسلام، وكيد أهله {أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ} كما خسف بقارون.
يقال: خسف المكان يخسف خسوفاً، ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسوفاً أي: غاب به فيها، ومنه قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} [القصص: 81] وخسف هو في الأرض، وخسف به {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} به في حال غفلتهم عنه كما فعل بقوم لوط وغيرهم. وقيل: يريد يوم بدر، فإنهم أهلكوا ذلك اليوم، ولم يكن في حسبانهم.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ في تَقَلُّبِهِمْ}.
ذكر المفسرون فيه وجوهاً، فقيل: المراد: في أسفارهم ومتاجرهم، فإنه سبحانه قادر على أن يهلكهم في السفر كما يهلكهم في الحضر، وهم لا يفوتونه بسبب ضربهم في الأرض، وبعدهم عن الأوطان. وقيل: المراد: في حال تقلبهم في قضاء أوطارهم بوجود الحيل. فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم. وقيل: في حال تقلبهم في الليل على فرشهم. وقيل: في حال إقبالهم وإدبارهم، وذهابهم ومجيئهم بالليل والنهار. والقلب بالمعنى الأوّل مأخوذ من قوله: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ في البلاد} [آل عمران: 196]. وبالمعنى الثاني مأخوذ من قوله: {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} [التوبة: 48]. {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} أي: بفائتين ولا ممتنعين.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} أي: حال تخوّف وتوقع للبلايا بأن يكونوا متوقعين للعذاب، حذرين منه غير غافلين عنه، فهو خلاف ما تقدم من قوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} وقيل: معنى {على تَخَوُّفٍ} على تنقص. قال ابن الأعرابي: أي على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى أهلكهم. قال الواحدي: قال عامة المفسرين: {على تخوّف} قال: تنقص، إما بقتل أو بموت، يعني: بنقص من أطرافهم ونواحيهم يأخذهم الأول فالأوّل حتى يأتي الأخذ على جميعهم. قال: والتخوّف: التنقص، يقال: هو يتخوف المال، أي: يتنقصه، ويأخذ من أطرافه، انتهى. يقال: تخوّفه الدهر وتخونه بالفاء والنون: تنقصه، قال ذو الرّمة:
لا بل هو الشوق من دار تخوّفها ** مرا سحاب ومرا بارح ترب

وقال لبيد:
تخوّفها نزولي وارتحالي ** أي تنقص لحمها وشحمها

قال الهيثم بن عديّ: التخوّف بالفاء: التنقص. لغة لأزد شنودة. وأنشد:
تخوف عدوهم مالي وأهدي ** سلاسل في الحلوق لها صليل

وقيل: {على تخوّف} على عجل، قاله الليث بن سعد، وقيل: على تقريع بما قدّموه من ذنوبهم، روي ذلك عن ابن عباس، وقيل: {على تخوّف} أن يعاقب ويتجاوز، قاله قتادة: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ} لا يعاجل، بل يمهل رأفة بكم ورحمة لكم مع استحقاقهم للعقوبة.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَئ} لما خوّف سبحانه الماكرين بما خوّف، أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي ومكانهما، والاستفهام في {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} للإنكار، و{ما} مبهمة مفسرة بقوله: {من شيء} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويحيى بن وثاب، والأعمش {تروا} بالمثناة الفوقية، على أنه خطاب لجميع الناس، وقرأ الباقون بالتحتية بإرجاع الضمير إلى {الذين مكروا السيئات} وقرأ أبو عمرو ويعقوب: {تتفيؤا ظلاله} بالمثناة الفوقية.
وقرأ الباقون بالتحتية، واختارها أبو عبيد، أي يميل من جانب إلى جانب، ويكون أوّل النهار على حال ويتقلص، ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى. قال الأزهري: تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، فالتفيؤ لا يكون إلاّ بالعشيّ، وما انصرف عنه الشمس والقمر، والذي يكون بالغداة هو الظلّ.
وقال ثعلب: أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظلّ. ومعنى {مِن شَئ} من شيء له ظلّ، وهي الأجسام، فهو عام أريد به الخاص. و{ظلاله} جمع ظلّ، وهو مضاف إلى مفرد لأنه واحد يراد به الكثرة.
{عَنِ اليمين والشمآئل} أي: عن جهة أيمانها وشمائلها، أي: عن جانبي كل واحد منها. قال الفراء: وحد اليمين؛ لأنه أراد واحداً من ذوات الأظلال، وجمع الشمائل؛ لأنه أراد كلها، لأن ما خلق الله لفظه مفرد ومعناه جمع.
وقال الواحدي: وحد اليمين والمراد به الجميع إيجازاً في اللفظ كقوله: {وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45]، ودلت الشمائل على أن المراد به الجمع. وقيل: إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع، عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1]، و{خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7]، وقيل: المراد باليمين: النقطة التي هي مشرق الشمس، وأنها واحدة. والشمائل: عبارة عن الانحراف في فلك الإظلال بعد وقوعها على الأرض، وهي كثيرة. وإنما عبر عن المشرق باليمين؛ لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه، ومنه تظهر الحركة القوية.
{سُجَّدًا لِلَّهِ} منتصب على الحال، أي: حال كون الظلال سجداً لله. قال الزجاج: يعني: أن هذه الأشياء مجبولة على الطاعة، وقال أيضاً: سجود الجسم: انقياده وما يرى من أثر الصنعة {وَهُمْ داخرون} في محل نصب على الحال، أي: خاضعون صاغرون، والدخور: الصغار والذلّ، يقال: دخر الرجل، فهو داخر، وأدخره الله. قال الشاعر:
فلم يبق إلا داخر في مخيس ** ومنجحر في غير أرضك في حجر

ومخيس: اسم سجن كان بالعراق {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض مَن دَابَّةٍ} أي: له وحده يخضع وينقاد، لا لغيره ما في السموات جميعاً، {وما في الأرض من دابة} تدبّ على الأرض. والمراد به كل دابة. قال الأخفش: هو كقولك ما أتاني من رجل مثله، وما أتاني من الرجال مثله.
وقد دخل في عموم ما في السموات وما في الأرض جميع الأشياء الموجودة فيهما، وإنما خصّ الدابة بالذكر، لأنه قد علم من قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَئ} انقياد الجمادات، وعطف الملائكة على ما قبلهم، تشريفاً لهم، وتعظيماً لدخولهم في المعطوف عليه {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} أي: والحال أنهم لا يستكبرون عن عبادة ربهم، والمراد: الملائكة.
ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة. وفي هذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله. ويجوز أن تكون حالاً من فاعل {يسجد} و{ما} عطف عليه، أي: يسجد لله ما في السموات وما في الأرض، والملائكة، وهم جميعاً لا يستكبرون عن السجود.
{يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ} هذه الجملة في محل نصب على الحال، أي: حال كونهم يخافون ربهم من فوقهم. أو جملة مستأنفة لبيان نفي استكبارهم، ومن آثار الخوف عدم الاستكبار، و{من فوقهم} متعلق ب {يخافون} على حذف مضاف، أي: يخافون عذاب ربهم من فوقهم، أو يكون حالاً من الربّ، أي: يخافون ربهم حال كونه من فوقهم. وقيل: معنى {يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ} يخافون الملائكة، فيكون على حذف المضاف، أي يخافون ملائكة ربهم كائنين من فوقهم. وهو تكلف لا حاجة إليه، وإنما اقتضى مثل هذه التأويلات البعيدة المحاماة على مذاهب قد رسخت في الأذهان، وتقرّرت في القلوب. قيل: وهذه المخافة هي مخافة الإجلال، واختاره الزجاج فقال: {يخافون رَبَّهُمْ} خوف مجلين. ويدلّ على صحة هذا المعنى قوله: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]. وقوله إخباراً عن فرعون {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون} [الأعراف: 127]. {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي: ما يؤمرون به من طاعة الله يعني: الملائكة، أو جميع من تقدّم ذكره، وحمل هذه الجمل على الملائكة أولى؛ لأن في مخلوقات الله من يستكبر عن عبادته، ولا يخافه ولا يفعل ما يؤمر به، كالكفار والعصاة الذين لا يتصفون بهذه الصفات وإبليس وجنوده.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {والذين هاجروا في الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} قال: هم قوم من أهل مكة هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ظلمهم.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن داود بن أبي هند قال: نزلت هذه الآية في أبي جندل بن سهيل.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {والذين هاجروا في الله} الآية قال: هؤلاء أصحاب محمد، ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم، حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة، ثم بوّأهم الله المدينة بعد ذلك، فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين {وَلأَجْرُ الأخرة أَكْبَرُ} قال: أي والله لما يصيبهم الله من جنته ونعمته أكبر {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن الشعبي في قوله: {فِى الدنيا حَسَنَةً} قال: المدينة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: لنرزقنهم في الدنيا رزقاً حسناً.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: «لما بعث الله محمداً رسولاً أنكرت العرب ذلك، فأنزل الله: {مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ}».
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه في قوله: {فاسألوا أَهْلَ الذكر} الآية، يعني: مشركي قريش، أن محمداً رسول الله في التوراة والإنجيل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: نزلت في عبد الله بن سلام ونفر من أهل التوراة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {بالبينات} قال: الآيات. {والزبر} قال: الكتب.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات} قال: نمروذ بن كنعان وقومه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: أي الشرك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك، قال: تكذيبهم الرسل، وإعمالهم بالمعاصي.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ في تَقَلُّبِهِمْ} قال: في اختلافهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه {فِى تَقَلُّبِهِمْ} قال: إن شئت أخذته في سفره {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} يقول: على أثر موت صاحبه.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً {على تَخَوُّفٍ} قال: تنقص من أعمالهم.
وأخرج ابن جرير عن عمر أنه سألهم عن هذه الآية {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} فقالوا: ما نرى إلاّ أنه عند تنقص ما يردّده من الآيات. فقال: عمر ما أرى إلا أنه على ما ينقصون من معاصي الله، فخرج رجل ممن كان عند عمر فلقي أعرابياً، فقال يا فلان: ما فعل ربك؟ قال: قد تخيفته، يعني انتقصته، فرجع إلى عمر فأخبره، فقال: قد رأيته ذلك.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} قال: يأخذهم بنقص بعضهم بعضاً.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يتفيؤ} قال: يتميل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {وَهُمْ داخرون} قال: صاغرون.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ} الآية قال: لم يدع شيئاً من خلقه إلاّ عبده له طائعاً أو كارهاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية، قال: يسجد من في السموات طوعاً، ومن في الأرض طوعاً وكرهاً.