فصل: تفسير الآيات (104- 105):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (104- 105):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}
قوله: {رَاعِنَا} أي: راقبنا، واحفظنا، وصيغة المفاعلة تدل على أن معنى {رَاعِنَا}: ارعنا ونرعاك، واحفظنا ونحفظك، وارقبنا ونرقبك، ويجوز أن يكون من: أرعنا سمعك، أي: فرغه لكلامنا، وجه النهي عن ذلك أن هذا اللفظ كان بلسان اليهود سباً، قيل إنه في لغتهم بمعنى اسمع لا سمعت؛ وقيل غير ذلك، فلما سمعوا المسلمين يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم راعنا؛طلباً منه أن يراعيهم من المراعاة، اغتنموا الفرصة، وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مظهرين أنهم يريدون المعنى العربي، مبطنين أنهم يقصدون السبّ الذي هو: معنى هذا اللفظ في لغتهم وفي ذلك دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ المحتملة للسبّ، والنقص، وإن لم يقصد المتكلم بها ذلك المعنى المفيد للشتم؛ سداً للذريعة ودفعاً للوسيلة، وقطعاً لمادة المفسدة، والتطرق إليه، ثم أمرهم الله بأن يخاطبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم بما لا يحتمل النقص، ولا يصلح للتعريض، فقال: {وَقُولُواْ انظرنا} أي: أقبل علينا، وانظر إلينا، فهو، من باب الحذف، والايصال، كما قال الشاعر:
ظَاهِراتُ الْجَمَال والحَسُنِ يَنْظُر ** نَ كَمَا يَنْظُر الأرَاكَ الظِّباءُ

أي: إلى الأراك. وقيل: معناه: انتظرنا وتأنّ بنا، ومنه قول الشاعر:
فإنكما إن تنظراني ساعةً ** من الدهر تنفعني لَدَى أمِّ جُنْدبَ

وقرأ الأعمش: {انظرنا} بقطع الهمزة، وكسر الظاء، بمعنى أخرنا وأمهلنا، حتى نفهم عنك، ومنه قول الشاعر:
أبا هندٍ فلا تعجل علينا ** وأنظرنا نخبرِّك اليقينا

وقرأ الحسن: {راعنا} بالتنوين، وقال: الراعن من القول السخريِّ. منه. انتهى. وأمرهم بعد هذا النهي، والأمر بأمر آخر وهو قوله: {واسمعوا} أي: اسمعوا ما أمرتم به ونهيتم عنه، ومعناه: أطيعوا الله في ترك خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك اللفظ، وخاطبوه ما أمرتم به، ويحتمل أن يكون معناه: اسمعوا ما يخاطبكم به الرسول من الشرع، حتى يحصل لكم المطلوب بدون طلب للمراعاة، ثم توعد اليهود بقوله: {وللكافرين عَذَابٌ أَلِيمٌ} ويحتمل أن يكون وعيداً شاملاً لجنس الكفرة. قال ابن جرير: والصواب من القول عندنا في ذلك أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {راعنا} لأنها كلمة كرهها الله أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقولوا للعنب الكرم، ولكن قولوا الحَبَلَة، ولا تقولوا عبدي، ولكن قولوا فتاي» وما أشبه ذلك.
وقوله: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} الآية، فيه بيان شدة عداوة الكفار للمسلمين حيث لا يودّون إنزال الخير عليهم من الله سبحانه.
ثم ردّ الله سبحانه ذلك عليهم، فقال: {والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء} الآية. وقوله: {أَن يُنَزّلَ} في محل نصب على المفعولية، و{من} في قوله: {مّنْ خَيْرٍ} زائدة، قاله النحاس، وفي الكشاف أن {من} في قوله: {مّنْ أَهْلِ الكتاب} بيانية، وفي قوله: {مّنْ خَيْرٍ} مزيدة لاستغراق الخير، وفي قوله: {مّن رَّبّكُمْ} لابتداء الغاية، وقد قيل بأن الخير الوحي. وقيل غير ذلك، والظاهر أنهم لا يودّون أن ينزل على المسلمين أيّ خير كان، فهو لا يختص بنوع معين، كما يفيده وقوع هذه النكرة في سياق النفي، وتأكيد العموم بدخول {من} المزيدة عليها، وإن كان بعض أنواع الخير أعظم من بعض، فذلك لا يوجب التخصيص. والرحمة قيل: هي القرآن. وقيل النبوّة. وقيل: جنس الرحمة من غير تعيين كما يفيد ذلك الإضافة إلى ضميره تعالى: {والله ذُو الفضل العظيم} أي: صاحب الفضل العظيم، فكيف لا تودون أن يختص برحمته من يشاء من عباده.
وقد أخرج سعيد بن منصور في سننه، وأحمد في الزهد، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود؛ أن رجلاً أتاه، فقال: اعهد إلىَّ، فقال: إذا سمعت الله يقول: فأوعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شرّ ينهي عنه.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل، عن ابن عباس قال: {راعنا} بلسان اليهود: السبّ القبيح، وكان اليهود يقولون ذلك لرسول الله سرّاً، فلما سمعوا أصحابه يقولون ذلك أعلنوا بها، فكانوا يقولون ذلك، ويضحكون، فيما بينهم، فأنزل الله الآية.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل، عنه أنه قال المؤمنون بعد هذه الآية: من سمعتموه يقولها، فاضربوا عنقه. فانتهت اليهود بعد ذلك.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن السدي قال: كان رجلان من اليهود: مالك بن الصيف، ورفاعة بن زيد، إذا لقيا النبيّ صلى الله عليه وسلم قالا له، وهما يكلمانه: راعنا سمعك، واسمع غير مسمع، فظنّ المسلمون أن هذا شيء كان أهل الكتاب يعظمون به أنبياءهم، فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي صخر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين، فقالوا: ارعنا سمعك، فأعظم الله رسوله أن يقال له ذلك، وأمرهم أن يقولوا: {انظرنا} ليعزروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوقروه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو نعيم، عن قتادة: أن اليهود كانت تقول ذلك استهزاءً، فكره الله للمؤمنين أن يقولوا كقولهم، وأخرج ابن حاتم، عن مجاهد قال: الرحمة القرآن والإسلام.

.تفسير الآيات (106- 107):

{مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)}
النسخ في كلام العرب على وجهين: أحدهما: النقل، كنقل كتاب من آخر، وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخاً، أعنى من اللوح المحفوظ، فلا مدخل لهذا المعنى في هذه الآية، ومنه: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] أي نأمر بنسخه. الوجه الثاني: الإبطال، والإزالة. وهو المقصود هنا. وهذا الوجه الثاني ينقسم إلى قسمين عند أهل اللغة. أحدهما: إبطال الشيء، وزواله، وإقامة آخر مقامه، ومنه نسخت الشمس الظل: إذا أذهبته، وحلت محله، وهو: معنى قوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ} وفي صحيح مسلم: «لم تكن نبوّة قط إلا تناسخت» أي: تحوّلت من حال إلى حال. والثاني إزالة الشيء دون أن يقوم مقامه آخر كقولهم: نسخت الريح الأثر، ومن هذا المعنى {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان} [الحج: 52] أي: يزيله.
وروي عن أبي عبيد أن هذا قد كان يقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تنزل عليه السورة، فترفع، فلا تتلى، ولا تكتب. ومنه ما روي عن أُبيّ، وعائشة، أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول. قال ابن فارس: النسخ نسخ الكتاب، والنسخ أن تزيل أمراً كان من قبل يعمل به، ثم تنسخه بحادث غيره، كالآية تنزل بأمر، ثم تنسخ بأخرى، وكل شيء خلف شيئاً، فقد انتسخه، يقال نسخت الشمس الظل، والشيب الشباب، وتناسخ الورثة أن يموت ورثة بعد ورثة، وأصل الميراث قائم، وكذا تناسخ الأزمنة والقرون.
وقال ابن جرير: {مَا نَنسَخْ} ما ننقل من حكم آية إلى غيره، فنبدله، ونغيره، وذلك أن نحوّل الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق والمنع، والإباحة، فأما الأخبار، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخة أخرى، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله إلى غيره وسواء نسخ حكمها، أو خطها، إذ هي في كلتي حالتيها منسوخة. انتهى.
وقد جعل علماء الأصول مباحث النسخ من جملة مقاصد ذلك الفن، فلا نطول بذكره، بل نحيل من أراد الاستشفاء عليه.
وقد اتفق أهل الإسلام على ثبوته سلفاً، وخلفاً، ولم يخالف في ذلك أحد إلا من لا يعتدَّ بخلافه ولا يؤبه لقوله.
وقد اشتهر عن اليهود، أقمأهم الله إنكاره، وهم محجوجون بما في التوراة أن الله قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة: إني قد جعلت كل دابة مأكلاً لك، ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم، فلا تأكلوه، ثم وقد حرّم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى بني اسرائيل كثيراً من الحيوان، وثبت في التوراة أن آدم كان يزوّج الأخ من الأخت، وقد حرّم الله ذلك على موسى عليه السلام، وعلى غيره.
وثبت فيها أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ابنه، ثم قال الله له لا تذبحه، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم، ونحو هذا كثير في التوراة الموجودة بأيديهم.
وقوله: {أَوْ نُنسِهَا} قرأ أبو عمرو، وابن كثير بفتح النون، والسين، والهمز، وبه قرأ عمر، وابن عباس، وعطاء، ومجاهد وأبيّ بن كعب، وعبيد بن عمير والنخعي، وابن محيصن، ومعنى هذه القراءة نؤخرها عن النسخ، من قولهم: نسأت هذا الأمر: إذا أخرته. قال ابن فارس: ويقولون: نسأ الله في أجلك، وأنسأ الله أجلك.
وقد انتسأ القوم: إذا تأخروا، وتباعدوا، ونسأتهم أنا: أخرتهم. وقيل: معناه نؤخر نسخ لفظها؛ أي نتركه في أم الكتاب، فلا يكون. وقيل: نذهبها عنكم حتى لا تقرأ، ولا تذكر، وقرأ الباقون {نُنسِهَا} بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك، أي: نتركها، فلا نبدلها، ولا ننسخها، ومنه قوله تعالى: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] أي تركوا عبادته، فتركهم في العذاب. واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم، وحكى الأزهري أن معناه: نأمر بتركها يقال: أنسيته الشيء، أي أمرته بتركه، ونسيته تركته، ومنه قول الشاعر:
إن عليّ عُقْبة أقْضِيها ** لستُ بناسِيها ولا مُنْسِيها

أي: ولا آمر بتركها.
وقال الزجاج: إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك، لا يقال: أنسى بمعنى ترك؛ قال: وما روى عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {أَوْ نُنسِهَا} قال: نتركها لا نبدلها، فلا يصح، والذي عليه أكثر أهل اللغة، والنظر أن معنى: {أَوْ نُنسِهَا} نبح لكم تركها، من نسي إذا ترك، ثم تعديه. ومعنى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} نأت بما هو: أنفع للناس منها في العاجل والآجل، أو في أحدهما، أو بما هو مماثل لها من غير زيادة، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ، فقد يكون الناسخ أخفّ، فيكون أنفع لهم في العاجل، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر، فيكون أنفع لهم في الآجل، وقد يستويان، فتحصل المماثلة.
وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} يفيد أن النسخ من مقدوراته، وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية، وهكذا قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} أي: له التصرف في السموات والأرض بالإيجاد، والاختراع، ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته، فهو أعلم بمصالح عباده، وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها، وشرعها لهم.
وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال، والأزمنة، والأشخاص، وهذا صنع من لا وليّ لهم غيره، ولا نصير سواه، فعليهم أن يتلقوه بالقبول، والامتثال، والتعظيم، والإجلال.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، والحاكم في الكنى، وابن عدي، وابن عساكر، عن ابن عباس، قال: كان مما ينزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل، وينساه بالنهار، فأنزل الله: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وفي إسناده الحجاج الرَّقِّي ينظر فيه.
وأخرج الطبراني، عن ابن عمر، قال: «قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانا يقرآن بها، فقاما يقرآن ذات ليلة يصليان، فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنها مما نسخ، أو نسي، فالهوا عنها» وفي إسناده سليمان بن أرقم، وهو ضعيف.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس، في قوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ ننسأها} يقول: ما نبدل من آية، أو نتركها لا نبدلها: {نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه أنه قال: ننسأها نؤخرها.
وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود في قوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ} قال: نثبت خطها ونبدل حكمها: {أَوْ ننساها} قال: نؤخرها.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} يقول فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر، فيها نهي.
وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف، وأبو ذرّ الهروى في فضائله، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف؛ أن رجلاً كانت معه سورة، فقام من الليل: فقام بها، فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأ بها، فلم يقدر عليها، وقام آخر، فلم يقدر عليها، فأصبحوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا عنده، فأخبروه، فقال: «إنها نسخت البارحة» وقد روى نحوه عنه من وجه آخر.
وقد ثبت في البخاري، وغيره عن أنس، أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة: «أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضى عنا، وأرضانا» ثم نسخ، وهكذا ثبت في مسلم، وغيره عن أبي موسى قال: كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول، والشدّة ببراءة، فأنسيتُها، غير أني حفظت منها: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوفه إلا التراب» وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات، أوّلها {سَبَّحَ للَّهِ مَا في السموات} [الحديد: 1، الحشر: 1، الصف: 1] فأنسيناها، غير أني حفظت منها: «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة» وقد روى مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة، ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق، وأحمد، وابن حبان، عن عمر.

.تفسير الآيات (108- 110):

{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}
{أَمْ} هذه هي المنقطعة التي بمعنى بل، أي: بل تريدون، وفي هذا توبيخ، وتقريع، والكاف في قوله: {كَمَا سُئِلَ} في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، أي: سؤالاً مثل ما سئل موسى من قبل، حيث سألوه أن يريهم الله جهرة، وسألوا محمداً صلى الله عليه وسلم: أن يأتي بالله، والملائكة قبيلاً. وقوله: {سَوَآء} هو الوسط من كل شيء قاله أبو عبيدة، ومنه قوله تعالى: {فِى سَوَاء الجحيم} [الصافات: 55] ومنه قول حسان يرثي النبيّ صلى الله عليه وسلم:
يَا وَيْحَ أصْحابِ النَّبيّ وَرهْطِه ** بَعْد المُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ

وقال الفراء: السواء: القصد، أي: ذهب عن قصد الطريق، وسمته أي: طريق طاعة الله. وقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب} فيه إخبار المسلمين بحرص اليهود على فتنتهم، وردّهم عن الإسلام، والتشكيك عليهم في دينهم. وقوله: {لَوْ يَرُدُّونَكُم} في محل نصب على أنه مفعول للفعل المذكور. وقوله: {مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} يحتمل أن يتعلق بقوله: {ودّ} أي: ودّوا ذلك من عند أنفسهم، ويحتمل أن يتعلق بقوله: {حَسَدًا} أي: حسداً ناشئاً من عند أنفسهم، وهو: علة لقوله: {ودّ}. والعفو: ترك المؤاخذة بالذنب. والصفح: إزالة أثره من النفس، صفحت عن فلان: إذا أعرضت عن ذنبه، وقد ضربت عنه صفحاً: إذا أعرضت عنه، وفيه الترغيب في ذلك، والإرشاد إليه، وقد نسخ ذلك بالأمر بالقتال، قاله أبو عبيدة.
وقوله: {حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} هو غاية ما أمر الله سبحانه به من العفو والصفح أي: افعلوا ذلك إلى أن يأتي إليكم الأمر من الله سبحانه في شأنهم بما يختاره ويشاؤه، وما قد قضى به في سابق علمه، وهو: قتل من قتل منهم، وإجلاء من أجلى، وضرب الجزية على من ضربت عليه، وإسلام من أسلم. وقوله: {وأقيموا الصلاة} حثّ من الله سبحانه لهم على الاشتغال بما ينفعهم ويعود عليهم بالمصلحة، من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة. وتقديم الخير الذي يثابون عليه حتى يمكن الله لهم، وينصرهم على المخالفين لهم.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، أنه قال: قال رافع بن حُريَمْلة، ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ائتنا بكتاب يَنزَّل علينا من السماء نقرؤه، أو فجِّر لنا أنهاراً نتَّبعك، ونصدقك، فأنزل الله في ذلك: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ} الى قوله: {سَوَاء السبيل} وكان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشدّ اليهود حسداً للعرب، إذ خصهم الله برسوله، وكانا جاهديْن في ردّ الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما: {وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن السدي؛ قال: سألت العرب محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرةً، فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: قال رجل: لو كانت كفَّاراتنا كفَّارات بني إسرائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أعطاكم الله خيرٌ، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه، وكفَّارتَها، فإن كفَّرها كانت له خزاياً في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة.
وقد أعطاكم الله خيراً من ذلك قال: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء: 10] الآية، والصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، فأنزل الله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ}»
الآية.
وأخرج ابن جرير، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: سألت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، فقال: «نعم، وهو: لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم» فأبوا ورجعوا، فأنزل الله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ} أن يريهم الله جهرة.
وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية في قوله: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان} قال: يتبدل الشدّة بالرخاء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل} قال: عدل عن السبيل.
وأخرج أبو داود، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل عن كعب بن مالك، قال: كان اليهود، والمشركون من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه أشدّ الأذى، فأمر الله بالصبر على ذلك، والعفو عنهم، وأنزل الله: {وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب} وفي الصحيحين، وغيرهما عن أسامة بن زيد، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يعفون عن المشركين، وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً} [آل عمران: 186] وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم} الآية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأوّل في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش.
وأخرج ابن جرير، عن الربيع بن أنس في قوله: {مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} قال: من قبل أنفسهم: {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق} يقول: إن محمداً رسول الله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة، نحوه وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: {فاعفوا واصفحوا} وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} [الأنعام: 106] ونحو هذا في العفو عن المشركين قال: نسخ ذلك كله بقوله: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} [التوبة: 29] الآية، وقوله: {اقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5].
وأخرج ابن جرير، عن السدي نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {وَمَا تُقَدّمُواْ لأنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ} يعنى من الأعمال من الخير في الدنيا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله: {تَجِدُوهُ عِندَ الله} قال: تجدوا ثوابه.