فصل: تفسير الآيات (106- 111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (106- 111):

{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)}
قوله: {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمانه} قد اختلف أهل العلم في إعرابه، فذهب الأكثرون على أنه بدل إما من {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله} وما بينهما اعتراض، والمعنى: إنما يفتري الكذب من كفر، واستثنى منهم المكره، فلا يدخل تحت حكم الافتراء. ثم قال: {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي: اعتقده وطابت به نفسه واطمأن إليه {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} وإما من المبتدأ الذي هو {أولئك} أو من الخبر الذي هو {الكاذبون}.
وذهب الزجاج إلى الأوّل.
وقال الأخفش: إن {من} مبتدأ وخبره محذوف اكتفي منه بخبر {من} الثانية، كقولك: من يأتنا منكنّ نكرمه. وقيل: هو أي: {من} في {من كفر} منصوب على الذمّ؛ وقيل: إن من شرطية والجواب محذوف لأن جواب {من شرح} دالّ عليه، وهو كقول الأخفش، وإنما خالفه في إطلاق لفظ الشرط على من والجواب على خبرها، فكأنه قيل على هذا من كفر بالله فعليهم غضب إلاّ من أكره، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب، وإنما صح استثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر لأنه ظهر منه بعد الإيمان ما لا يظهر إلاّ من الكافر لولا الإكراه.
قال القرطبي: أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر. وحكي عن محمد بن الحسن أنه إذا أظهر الكفر، كان مرتداً في الظاهر، وفيما بينه وبين الله على الإسلام، وتبين منه امرأته، ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلماً، وهذا القول مردود على قائله، مدفوع بالكتاب والسنّة.
وذهب الحسن البصري، والأوزاعي، والشافعي، وسحنون إلى أن هذه الرخصة المذكورة في هذه الآية إنما جاءت في القول. وأما في الفعل فلا رخصة، مثل أن يكره على السجود لغير الله، ويدفعه ظاهر الآية، فإنها عامة فيمن أكره من غير فرق بين القول والفعل، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية على القول، وخصوص السبب، لا اعتبار به مع عموم اللفظ كما تقرر في علم الأصول.
وجملة {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} في محل نصب على الحال من المستثنى، أي: إلا من كفر بإكراه، والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته، وليس بعد هذا الوعيد العظيم، وهو الجمع للمرتدين، بين غضب الله وعظيم عذابه.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى الكفر بعد الإيمان، أو إلى الوعيد بالغضب والعذاب، والباء في {بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا} للسببية، أي: ذلك بسبب تأثيرهم للحياة الدنيا {على الآخرة وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين} معطوف على {أَنَّهُمْ استحبوا} أي: ذلك بأنهم استحبوا، وبأن الله لا يهدي القوم الكافرين إلى الإيمان به.
ثم وصفهم بقوله: {أولئك} أي: الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة {الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم} فلم يفهموا المواعظ ولا سمعوها، ولا أبصروا الآيات التي يستدل بها على الحق.
وقد سبق تحقيق الطبع في أوّل البقرة، ثم أثبت لهم صفة نقص غير الصفة المتقدّمة، فقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الغافلون} عما يراد بهم، وضمير الفصل يفيد أنهم متناهون في الغفلة، إذ لا غفلة أعظم من غفلتهم هذه.
{لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ في الآخرة هُمُ الخاسرون} أي: الكاملون في الخسران، البالغون إلى غاية منه ليس فوقها غاية، وقد تقدّم تحقيق الكلام في معنى {لاَ جَرَمَ} في مواضع، منها ما هو في هذه السورة.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا} من دار الكفر إلى دار الإسلام، وخبر {أن} محذوف، والتقدير: لغفور رحيم، وإنما حذف لدلالة خبر {إن ربك} المتأخرة عليه. وقيل: الخبر هو {للذين هاجروا} أي: إن ربك لهم بالولاية والنصرة لا عليهم، وفيه بعد. وقيل: إن خبرها هو قوله: {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} و{إن ربك} الثانية تأكيد للأولى. قال في الكشاف: {ثم} ها هنا للدلالة على تباعد حال هؤلاء، يعني: الذين نزلت الآية فيهم عن حال أولئك، وهم عمار وأصحابه، ويدل على ذلك ما روي أنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح، وسيأتي بيان ذلك {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} أي: فتنهم الكفار بتعذيبهم لهم ليرجعوا في الكفر، وقرئ: {فتنوا} على البناء للفاعل، أي: الذين فتنوا المؤمنين وعذبوهم على الإسلام {ثُمَّ جاهدوا} في سبيل الله {وصبروا} على ما أصابهم من الكفار، وعلى ما يلقونه من مشاق التكليف {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: كثير الغفران والرحمة لهم.
ومعنى الآية على قراءة من قرأ: {فتنوا} على البناء للفاعل واضح ظاهر، أي: إن ربك لهؤلاء الكفار الذين فتنوا من أسلم وعذبوهم، ثم جاهدوا وصبروا لغفور رحيم. وأما على قراءة البناء للمفعول وهي قراءة الجمهور، فالمعنى: أن هؤلاء المفتونين الذين تكلموا بكلمة الكفر مكرهين وصدورهم غير منشرحة للكفر إذا صلحت أعمالهم وجاهدوا في الله وصبروا على المكاره لغفور لهم، رحيم بهم. وأما إذا كان سبب الآية هذه هو عبد الله بن أبي سرح الذي ارتدّ عن الإسلام ثم رجع بعد ذلك إلى الإسلام، فالمعنى: أن هذا المفتون في دينه بالردّة إذا أسلم وجاهد وصبر، فالله غفور له، رحيم به. والضمير في {بعدها} يرجع إلى الفتنة، أو إلى المهاجرة والجهاد والصبر، أو إلى الجميع.
{يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا} قال الزجاج: {يوم تأتي} منتصب بقوله: {رحيم} أو بإضمار اذكر، أو ذكرهم، أو أنذرهم، وقد استشكل إضافة ضمير النفس إلى النفس، ولابد من التغاير بين المضاف والمضاف إليه.
وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى: جملة بدن الإنسان، وبالنفس الثانية: الذات، فكأن قيل: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته، لا يهمه غيرها. ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها، فهو مجادل ومخاصم عن نفسه، لا يتفرّغ لغيرها يوم القيامة.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه: «تفرّقوا عني، فمن كانت به قوّة فليتأخر إلى آخر الليل، ومن لم تكن به قوّة فليذهب في أوّل الليل، فإذا سمعتم بي قد استقرّت بي الأرض فألحقوا بي»، فأصبح بلال المؤذن، وخباب، وعمار، وجارية من قريش كانت أسلمت، فأخذهم المشركون وأبو جهل، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى، فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس، ثم يلبسونها إياه، فإذا ألبسوها إياه، قال: أحد أحد، وأما خباب، فجعلوا يجرّونه في الشوك، وأما عمار، فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، وأما الجارية فوتد لها أبو جهل أربع أوتاد، ثم مدّها فأدخل الحربة في قبلها حتى قتلها، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم، واشتدّ على عمار الذي كان تكلم به. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت؟ أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا»؟ قال لا، فأنزل الله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان}.
وأخرج عبد الرزاق، وابن سعد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي، وابن عساكر من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، فتركوه، فلما أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما وراءك؟» قال: شرّ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: «كيف تجد قلبك»؟ قال: مطمئناً بالإيمان. قال: «إن عادوا فعد» فنزلت: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} قال: ذاك عمار بن ياسر {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} عبد الله بن أبي سرح.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن عساكر عن أبي مالك في قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} قال: نزلت في عمار بن ياسر، وفي الباب روايات مصرّحة بأنها نزلت في عمار ابن ياسر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال: نزلت هذه الآية {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} في عياش بن أبي ربيعة.
وأخرج ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: في سورة النحل {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ثم نسخ واستثنى من ذلك فقال: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} الآية قال: وهو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزله الشيطان، فلحق بالكفار. فأمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم فتح مكة، فاستجار له عثمان بن عفان، فأجاره النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن مثله.
وأخرج ابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} فيمن كان يفتن من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن مردويه عنه قال: كان قوم من أهل مكة قد أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فنزلت فيهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا} الآية، فكتبوا إليهم بذلك: إنّ الله قد جعل لكم مخرجاً فأخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم، فنجا من نجا، وقتل من قتل.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن: أن عيوناً لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين، فأتوه بهما، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أني رسول الله؟ فأهوى إلى أذنيه فقال: إنّي أصمّ، فأمر به فقتل.
وقال للآخر: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فأرسله فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: «أما صاحبك، فمضى على إيمانه، وأما أنت فأخذت بالرخصة» وهو مرسل.

.تفسير الآيات (112- 119):

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)}
قوله: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً} قد قدّمنا أن ضرب مضمن معنى جعل، حتى تكون {قرية} المفعول الأوّل و{مثلاً} المفعول الثاني، وإنما تأخرت {قرية} لئلا يقع الفصل بينها وبين صفاتها. وقدّمنا أيضاً أنه يجوز أن يكون {ضرب} على بابه غير مضمن، ويكون {مثلاً} مفعوله الأوّل وقرية بدلاً منه.
وقد اختلف المفسرون هل المراد بهذه القرية قرية معينة، أو المراد قرية غير معينة؟ بل كل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة؟ فذهب الأكثر إلى الأول وصرحوا بأنها مكة، وذلك لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اللّهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف»، فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام، والثاني: أرجح، لأن تنكير قرية يفيد ذلك، ومكة تدخل في هذا العموم البدليّ دخولاً أوّلياً. وأيضاً يكون الوعيد أبلغ، والمثل أكمل، وغير مكة مثلها. وعلى فرض إرادتها، ففي المثل إنذار لغيرها من مثل عاقبتها.
ثم وصف القرية بأنها {كَانَتْ ءامِنَةً} غير خائفة {مُّطْمَئِنَّةً} غير منزعجة، أي: لا يخاف أهلها ولا ينزعجون {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا} أي: ما يرتزق به أهلها {رَغَدًا} واسعاً {مّن كُلّ مَكَانٍ} من الأمكنة التي يجلب ما فيها إليها {فَكَفَرَتْ} أي: كفر أهلها {بِأَنْعُمِ الله} التي أنعم بها عليهم، والأنعم: جمع نعمة كالأشدّ جمع شدّة. وقيل: جمع نعمى مثل بؤسى وأبؤس. وهذا الكفر منهم هو كفرهم بالله سبحانه وتكذيب رسله {فَأَذَاقَهَا الله} أي: أذاق أهلها {لِبَاسَ الجوع والخوف} سمي ذلك لباساً لأنه يظهر به عليهم من الهزال، وشحوبة اللون، وسوء الحال، ما هو كاللباس، فاستعير له اسمه، وأوقع عليه الإذاقة، وأصلها الذوق بالفم. ثم استعيرت لمطلق الاتصال مع إنبائها بشدّة الإصابة لما فيها من اجتماع الإدراكين: إدراك اللمس، والذوق.
روي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي- إمام اللغة والأدب- هل يذاق اللباس؟ فقال له ابن الأعرابي: لا بأس أيها النسناس، هب أن محمداً ما كان نبياً أما كان عربياً؟ كأنه طعن في الآية بأن المناسب أن يقال: فكساها الله لباس الجوع، أو فأذاقها الله طعم الجوع، فرد عليه ابن الأعرابي.
وقد أجاب علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة، وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف، لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس، ثم ذكر الوصف ملائماً للمستعار له، وهو الجوع والخوف؛ لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة، فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه غيره، فكانت الاستعارة مجرّدة. ولو قال: فكساها كانت مرشحة. قيل: وترشيح الاستعارة، وإن كان مستحسناً من جهة المبالغة، إلاّ أن للتجريد ترجيحاً من حيث أنه روعي جانب المستعار له، فازداد الكلام وضوحاً.
وقيل: إن أصل الذوق بالفم، ثم قد يستعار، فيوضع موضع التعرف والاختبار. ومن ذلك قول الشاعر:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها ** وسيق إلينا عذبها وعذابها

وقرأ حفص بن غياث ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو عمرو فيما روى عنه عبد الوارث بنصب الخوف عطفاً على لباس، وقرأ الباقون بالضم عطفاً على الجوع، قال الفراء: كل الصفات أجريت على القرية إلاّ قوله: {يَصْنَعُونَ} تنبيهاً على أن المراد في الحقيقة أهلها.
{وَلَقَدْ جَاءهُمْ} يعني: أهل مكة {رَسُولٌ مّنْهُمْ} من جنسهم يعرفونه ويعرفون نسبه، فأمرهم بما فيه نفعهم ونهاهم عما فيه ضرهم {فَكَذَّبُوهُ} فيما جاء به {فَأَخَذَهُمُ العذاب} النازل بهم من الله سبحانه، والحال أنهم في حال أخذ العذاب لهم {ظالمون} لأنفسهم بإيقاعها في العذاب الأبديّ، ولغيرهم بالإضرار بهم وصدّهم عن سبيل الله، وهذا الكلام من تمام المثل المضروب. وقيل: إن المراد بالعذاب هنا هو الجوع الذي أصابهم، وقيل: القتل يوم بدر.
ثم لما وعظهم الله سبحانه بما ذكروه من حال أهل القرية المذكورة، أمرهم أن يأكلوا مما رزقهم الله من الغنائم ونحوها، وجاء بالفاء للإشعار بأن ذلك متسبب عن ترك الكفر. والمعنى: أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر، فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة، واتركوا الخبائث وهو الميتة والدم {واشكروا نِعْمَتَ الله} التي أنعم بها عليكم واعرفوا حقها {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ولا تعبدون غيره، أو إن صحّ زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة التي زعمتم عبادة الله تعالى. وقيل: إن الفاء في {فكلوا} داخلة على الأمر بالشكر، وإنما أدخلت على الأمر بالأكل، لأن الأكل ذريعة إلى الشكر.
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} كرّر سبحانه ذكر هذه المحرمات في البقرة والمائدة والأنعام، وفي هذه السورة قطعاً للأعذار، وإزالة للشبهة، ثم ذكر الرخصة في تناول شيء مما ذكر فقال: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقد تقدّم الكلام على جميع ما هو مذكور هنا مستوفى. ثم زيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه المحرمات كالبحيرة والسائبة، وفي النقصان عنها كتحليل الميتة والدّم، فقال: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب} قال الكسائي، والزجاج: {ما} هنا مصدرية. وانتصاب الكذب ب {لا تقولوا} أي: لا تقولوا الكذب لأجل وصف ألسنتكم، ومعناه: لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة، ويجوز أن تكون {ما} موصولة، والكذب منتصب ب {تصف} أي: لا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه {هذا حلال وهذا حَرَامٌ} فحذف لفظة فيه لكونه معلوماً، فيكون قوله: {هذا حلال وهذا حرام} بدلاً من الكذب، ويجوز أن يكون في الكلام حذف بتقدير القول: أي ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم، فتقول: هذا حلال وهذا حرام، أو قائلة: هذا حلال وهذا حرام، ويجوز أن ينتصب الكذب أيضاً ب {تصف} وتكون {ما} مصدرية، أي: لا تقولوا: هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب.
وقرئ: {الكذب} بضم الكاف والذال والباء على أنه نعت للألسنة، وقرأ الحسن بفتح الكاف وكسر الذال والباء نعتاً ل {ما}. وقيل: على البدل من {ما} أي: ولا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام، واللام في {لّتَفْتَرُواْ على الله الكذب} هي لام العاقبة، لا لام العرض، أي: فيتعقب ذلك افتراؤكم على الله الكذب بالتحليل والتحريم، وإسناد ذلك إليه من غير أن يكون منه {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} أي افتراء كان {لاَ يُفْلِحُونَ} بنوع من أنواع الفلاح، وهو الفوز بالمطلوب، وارتفاع {متاع قَلِيلٌ} على أنه خبر مبتدأ محذوف. قال الزجاج: أي متاعهم متاع قليل، أو هو مبتدأ خبره محذوف، أي: لهم متاع قليل {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يردّون إليه في الآخرة.
ثم خصّ محرمات اليهود بالذكر فقال: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا} أي: حرمنا عليهم خاصة دون غيرهم {مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} بقولنا: {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146]، الآية، و{مِن قَبْلُ} متعلق ب {قصصنا} أو ب {حرمنا} {وَمَا ظلمناهم} بذلك التحريم، بل جزيناهم ببغيهم {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث فعلوا أسباب ذلك فحرّمنا عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم.
ثم بيّن سبحانه أن الافتراء على الله سبحانه ومخالفة أمره لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة فقال: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بجهالة} أي: متلبسين بجهالة، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة النساء {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ} أي: من بعد عملهم للسوء، وفيه تأكيد، فإن {ثم} قد دلت على البعدية، فأكدها بزيادة ذكر البعدية {وَأَصْلَحُواْ} أعمالهم التي كان فيها فساد بالسوء الذي عملوه، ثم كرّر ذلك تأكيداً وتقريراً فقال: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي: من بعد التوبة {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} كثير الغفران، واسع الرحمة.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً} قال: يعني مكة.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية في الآية مثله. وزاد فقال: ألا ترى أنه قال: {وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ}.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: القرية التي قال الله {كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} هي يثرب.
قلت: ولا أدري أي دليل دله على هذا التعيين، ولا أيّ قرينة قامت له على ذلك، ومتى كفرت دار الهجرة ومسكن الأنصار بأنعم الله، وأيّ وقت أذاقها الله لباس الجوع والخوف، وهي التي تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد كما صحّ ذلك عن الصادق المصدوق. وصحّ عنه أيضاً أنه قال: «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون».
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب} الآية، قال: في البحيرة والسائبة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال: قرأت هذه الآية في سورة النحل {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حلال وهذا حَرَامٌ} إلى آخر الآية، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا. قلت: صدق رحمه الله، فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتياً من أفتى بخلاف ما في كتاب الله أو في سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما يقع كثيراً من المؤثرين للرأي المقدّمين له على الرواية، أو الجاهلين لعلم الكتاب والسنّة كالمقلدة، وإنهم لحقيقون بأن يحال بينهم وبين فتاويهم ويمنعوا من جهالاتهم، فإنهم أفتوا بغير علم من الله ولا هدى ولا كتاب منير، فضلوا وأضلوا، فهم ومن يستفتيهم كما قال القائل:
كبهيمة عمياء قاد زمامها ** أعمى على عوج الطريق الجائر

وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: عسى رجل أن يقول: إن الله أمر بكذا، أو نهى عن كذا، فيقول الله عزّ وجلّ له: كذبت. أو يقول: إن الله حرّم كذا أو أحلّ كذا، فيقول الله له: كذبت.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} قال: في سورة الأنعام.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة مثله، وقال: حيث يقول: {وَعَلَى الذين هَادُواْ} إلى قوله: {وِإِنَّا لصادقون} [الأنعام: 146].